نقص وغلاء.. احتمالات الموت جوعا تتصاعد في غزة
تاريخ النشر: 7th, December 2023 GMT
غزة- بعد 3 ساعات قضاها "أبو جمال" -وهو مدرس متقاعد- في السوق الشعبي بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، عاد إلى أسرته خاوي اليدين، إلا من بضع حبات بندورة وبصل.
وأبو جمال ليس من سكان مدينة رفح، بل نزح إليها مع زوجته وأطفاله الأربعة، ويقيمون برفقة والديه وأشقائه الثلاثة وأسرهم في مركز إيواء بمدرسة حكومية، بعدما عجز عن إيجاد متسع لهم في مركز إيواء تابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
وتكتظ هذه المدينة الواقعة أقصى جنوب القطاع على الحدود مع مصر، بأكثر من 600 ألف نازح، رفعوا تعدادها إلى 900 ألف، وتُرجح الأونروا أن يرتفع العدد إلى أكثر من مليون، في ظل موجات النزوح الواسعة من سكان مدينة خان يونس التي تتعرض لهجوم إسرائيلي عنيف.
ولا تقدم مراكز الإيواء في المدارس الحكومية مساعدات إغاثية مثل الأونروا. ويقول أبو جمال -للجزيرة نت- "معي أموال ولا توجد بضائع بالسوق التي تتناقص بها السلع والمحاصيل الزراعية ساعة بعد ساعة، جراء استمرار إغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، الذي تسيطر عليه إسرائيل".
الغزيون يعانون من أجل توفير موادهم الأساسية في ظل أسواق خالية من البضائع وأسعار خيالية (الجزيرة) ندرة وغلاءوانعكس إغلاق هذا المعبر منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على مناحي الحياة كافة، واضطرت غالبية المحال التجارية إلى إغلاق أبوابها، بعدما فرغت تماما من السلع والبضائع.
أوقد أبو جمال النار في القليل من الحطب وأوراق كتب مستخدمة بجوار الفصل الدراسي الذي يقيم به في مدرسة القدس الثانوية وسط مدينة رفح، وأعد طبقا من "البندورة المقلية" لأسرته، وقال "اليوم وجدنا البندورة وربنا أعلم إذا سنجدها غدا أم لا".
وارتفعت أسعار الخضار والمحاصيل الزراعية بشكل هائل، لندرتها في الأسواق وتعذّر وصول المزارعين إلى أراضيهم المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي. وتمثل تلك المناطق الواقعة شرق مدينة رفح وباقي مدن القطاع "السلة الغذائية" للسكان.
وللسبب ذاته، ولعدم توفر أعلاف الحيوانات، يضطر أصحاب مزارع ماشية إلى ذبح العجول والأبقار وهي صغيرة وبأوزان قليلة، تجنبا لنفوقها، غير أن غالبية الغزيين لا يقوون على أسعارها الباهظة. ويعلق أبو جمال "هل ننفق المال على اللحمة، ونحن لا نعلم إلى متى تستمر الأزمة؟".
واقع حال أبو جمال وأسرته ينسحب على الغالبية من بين 2.3 مليون فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير، تقول الأونروا إن مليونا و900 ألف منهم أصبحوا نازحين، وجميعهم بحاجة إلى الدعم الإنساني.
وبحسب المستشار الإعلامي للوكالة الأممية عدنان أبو حسنة، فإن "ما يدخل من مساعدات إلى غزة هو نقطة في بحر الاحتياجات الإنسانية، سواء ما قبل الهدنة المؤقتة أو بعدها".
وقال رئيس "لجنة الطوارئ الصحية" في رفح مروان الهمص -للجزيرة نت- إن سوء التغذية الصحية للأطفال والرضع يزيد من حالات الإصابة بالأنيميا وفقر الدم، وينذر بتفشي الأمراض والأوبئة، خاصة في مراكز الإيواء المكتظة.
ارتفاع معدلات الإصابة بفقر الدم لدى الأطفال في مراكز الإيواء جراء سوء التغذية (الجزيرة) وجبة واحدة يومياولا تجد العشرينية هديل بدوي الحليب لمولودها، الذي وضعته في مستشفى المعمداني قبل ساعات قليلة من اضطرارها للنزوح من مركز إيواء بحي الزيتون جنوب شرقي مدينة غزة إلى مركز إيواء غرب مدينة رفح جنوبا.
وهديل (20 عاما) أم لطفلة لا تتجاوز العامين، وضعت مولودها "مصعب" الذي لم تقيد اسمه بعد بالسجلات الرسمية، لظروف الحرب وتعطل الدوائر الحكومية، تقول -للجزيرة نت- إنها تعاني من أجل إرضاع مولودها، ولا تمتلك المال لشراء الحليب المفقود أساسا من الصيدليات والمحال التجارية.
وتقتات الأم الشابة على وجبة طعام واحدة من المساعدات اليومية التي تقدمها إدارة مركز الإيواء للنازحين، وتوضح أنها "غير كافية وغير صحية" ولا تناسبها كامرأة ولدت حديثا.
وتقرّ الأونروا إنها توزع ما وصفه أبو حسنة بـ"الفتات" على جميع سكان قطاع غزة، إثر قرارها بتوزيع الدقيق على كل السكان من مواطنين ولاجئين، استجابة للحاجة الماسة لهذه المادة الأساسية التي لا تتوفر إلا للأونروا من خلال شاحنات المساعدات الواردة عبر معبر رفح البري مع مصر.
ويقدر متوسط عدد شاحنات المساعدات يوميا بنحو 55 شاحنة، تمثل بحسب بيانات أونروا الرسمية نحو 5% فقط من احتياجات القطاع.
ووجدت الأونروا نفسها مسؤولة عن جميع السكان في القطاع، بعدما كانت تتحمل المسؤولية عن نحو 70% من الغزيين الذين تصفهم باللاجئين، والذين ينحدرون من عائلات لاجئة من مدن وبلدات في فلسطين التاريخية إبان النكبة عام 1948.
وقال موظف في مركز إيواء تابع للأونروا، مفضلا عدم كشف هويته، إن المساعدات الإغاثية المقدمة للنازحين في المراكز تراجعت على نحو ملحوظ، ولا تفي باحتياجات المعيشة اليومية، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال الذين يمثلون النسبة الأكبر من النازحين.
وأفادت هديل بأنها تلقت، الثلاثاء، علبة واحدة صغيرة من الفول المدمس، وزجاجة مياه، وقطعة بسكويت، لا تكفيها حتى اليوم التالي، وتؤثر على نفسها من أجل إشباع طفلتها، في حين تشعر بقلق كبير على حياة طفلها الرضيع.
الموت جوعاوجدد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تحذيره المتكرر من "كارثة إنسانية وشيكة" في القطاع. وقال في بيان يعقّب فيه على تجدد القتال عقب انهيار مباحثات تجديد الهدنة المؤقتة، إن ذلك "سيزيد حدة أزمة الجوع الكارثية".
وقالت المديرة التنفيذية للبرنامج سيندي ماكين "إن إمدادات الغذاء والمياه معدومة عمليا في غزة، ولا يصل إلا جزء صغير مما هو مطلوب عبر الحدود، ومع اقتراب فصل الشتاء، والملاجئ غير الآمنة والمكتظة، ونقص المياه النظيفة، يواجه المدنيون احتمالا مباشرا للموت جوعا".
"ولا توجد طريقة لتلبية احتياجات الجوع الحالية من خلال معبر حدودي واحد قيد التشغيل، والأمل الوحيد هو فتح ممر آمن آخر لوصول المساعدات الإنسانية لجلب الغذاء الضروري للحياة إلى غزة"، بحسب المسؤولة الأممية. وهو ما تؤكده منظمات محلية ودولية أخرى بالنسبة لمعبر رفح غير المهيأ لتوريد عدد أكبر من الشاحنات.
وصرح مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة -للجزيرة نت- بأن "وقف إدخال المساعدات أو اتباع سياسة التنقيط في إدخالها يعد أسلوبا وضيعا في الضغط على الشعب الفلسطيني والأطفال والنساء، عبر حرمانهم من الغذاء الدواء، ومن مستلزمات الحياة المهمة والأساسية، وبمثابة حكم جماعي بالإعدام".
ولإنقاذ القطاع من الانهيار التام ومن كارثة إنسانية محققة، طالب الثوابتة بإدخال 1000 شاحنة من المساعدات والإمدادات الحقيقية الفعلية بشكل يومي، كي تستجيب لأولويات واحتياجات السكان الفعلية، إضافة إلى مليون لتر من الوقود يوميا.
وبحسب الثوابتة، فإن هذه المساعدات باتت المصدر الوحيد لغالبية الغزيين، في ظل استمرار الاحتلال بإغلاق معبر كرم أبو سالم، وهو المعبر التجاري الوحيد الذي كانت تتدفق عبره يوميا أكثر من 500 شاحنة محملة بمختلف الأصناف من احتياجات القطاع الإنسانية والمعيشية.
ويقول مدير برنامج الأغذية العالمي في فلسطين، سامر عبد الجابر "إن قدرتنا على توفير الخبز أو نقل الغذاء إلى المحتاجين قد تدهورت بشدة، مما أدى إلى توقف الحياة في غزة، الناس يعانون من الجوع".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: مرکز إیواء للجزیرة نت مدینة رفح أبو جمال
إقرأ أيضاً:
كيف حالكم اليوم؟.. لا ردّ يأتي من غزّة
يرفع جواله يرسل إليهم رسالة: "كيف حالكم اليوم؟". لم يأته الردّ. تذكّر ابنهم المراهق وهو يجادله: "عمّو أليس الموت مكتوبا؟ وكأنّ الموت لن يدركنا إذا تركنا سكننا هذا!"، يردّ عليه: "صحيح. لكن الإنسان يسعى، يقوم بالذي يمكنه فعله، والباقي على الله". يقول المراهق: "عمّو، لا نريد النزوح مجددا. فلنمت هنا"، "وإخوتك؟! ألا تخشى عليهم؟! على الأقلّ فليحظوا بالقليل من الأمان، الجيش يقترب منكم".. "فقط الصغيرة تريد النزوح، هي أكثرنا خوفا، نحن اعتدنا. هي تريد اللعب، هناك أطفال أكثر، نحن هنا وحدنا"..
كانت هذه آخر محاورة بينه وبين الابن المراهق الذي يخرج ليحضر لهم الماء والخبز، وطائرات "كواد كابتر" فوق رأسه، ثم يعود ليشاهد شيئا من برامج رسوم الأنيميشن. كانوا قد جمّعوا العديد من الأفلام والمسلسلات لحضورها تسلية أثناء القصف على جهاز "لاب توب". تحبّ الصغيرة الكرتون، يصل صوت ضحكتها من خلال الهاتف وهي تجلس قبالة الجهاز وتمسك بيدها كوب الشاي الذي تحبّه، لديها غرام خاصّ بالشاي. يسيح قلبه إليهم وهم يحاولون استنقاذ ما أمكن من السكينة من أسنان الموت المحيط بهم. لعبهم، ضحكهم، خروجهم للتنزه ولقاء الآخرين إن أمكن، طعامهم الذي يصطنعوه من العدم. يملأ قلبه بالحزن لا بالفرح، صحيح أنّه يمنحه شيئا من الطمأنينة لأنّه يلحظ الرباط الإلهي على قلوبهم، ولكنه ينتظر بقلق بالغ أن تحيا هذه العائلة إلى ما بعد انتهاء الحرب، وأن تذوق فرحة انتهاء الحرب، وتعيش لحظة من أمل بأيّام قادمة أفضل.
الذين نحبّهم، ونعتاد عليهم، وندخل في تفاصيلهم اليومية، ونعرف طباع أطفالهم، ونحفظ كيف ترتسم الابتسامة على وجه كلّ واحد منهم، وكيف لكلّ منهم طريقته في التعبير عن خوفه المكتوم وصوته يتهدّج بذلك الخوف، وكيف لكلّ منهم صيغته الخاصة في بثّ أحزانه بعدما يفقد قليلا قدرته على سدّ باب الشكوى للخلق، ونكتشف بهم أنّ الحياة لم تزل قائمة في قلوبنا.. يصعب علينا تصوّر فقدهم
لم يأته الردّ. يقلب صفحات الفيسبوك، الذي نادرا ما يدخله، يجد صورة أحدهم، لم يتبيّن المكتوب، جلّل القلق على بصره، وبدا كأنّه فقد وعيه مع سقوط قلبه من صدره، مع أنّه لم يقرأ بعد النصّ المرفق مع الصورة.
الذين نحبّهم، ونعتاد عليهم، وندخل في تفاصيلهم اليومية، ونعرف طباع أطفالهم، ونحفظ كيف ترتسم الابتسامة على وجه كلّ واحد منهم، وكيف لكلّ منهم طريقته في التعبير عن خوفه المكتوم وصوته يتهدّج بذلك الخوف، وكيف لكلّ منهم صيغته الخاصة في بثّ أحزانه بعدما يفقد قليلا قدرته على سدّ باب الشكوى للخلق، ونكتشف بهم أنّ الحياة لم تزل قائمة في قلوبنا.. يصعب علينا تصوّر فقدهم، مع أنّه لا شيء يحيط بهم، ويتخلل لحظاتهم، إلا الموت، ولا صوت يثبت في سمائهم إلا صوت الطائرات بأنواعها، ولا صوت أعلى من حولهم من صوت القصف الذي يطمس كلّ صوت آخر، ولكنّك هكذا؛ دائما ما تتصرف حيال الذين تحبّهم وتعتادهم كأنّهم خالدون، وكأنّك حتما أسبق إلى الموت منهم، لكنّك لا يمكنك أن تتذاكى بهذا القدر من التغافل عن الواقع. كلّ محاولة للتغافل كانت سقطتها على صخرة الواقع قاسية، شديدة الوجع، وبقدر ما نعتقد أنّ الأيام تنسينا، فإنّنا نعود ونكتشف عمق الألم الذي خلّفته تلك السقطة، ذلك الألم الذي يبقى يفيض بصمت على مسامات تكوين الواحد منّا، يعيد تكوينه باستمرار وهو لا يدري إلا متأخرا إن تأمّل في نفسه، ولاحظ كم تغيّر.. وهكذا كان النصّ المرفق مع الصورة، الصخرة التي سقط عليها التغافل، كان النصّ نعيا للعائلة كلّها.
"كيف حالكم اليوم؟". عاد للنظر إلى رسالته. لم يأت الردّ، إلى الآن لم يأت الرد، ولن يأتيَ. يفزع المرء إلى إيمانه، أو إلى أمانيه، والأماني ضرب من التغافل كذلك، إذ كيف له أن يتقبّل الآن عجزه عن التواصل معهم، عن سؤاله لهم: "كيف حالكم اليوم؟"، فلعلّ حاله يبلغهم، ولعلّ كفّا ترفع إليهم الآن ما يجوس في قلبه، تبلّغ لهم أحزانه وشوقه وحبّه وإحساسه بالفقد مجسّدة ذلك لهم بنحو جميل، في صورة حسنة، وهكذا في ذلك العالم تصير هذه الأشياء ممكنة، والمعاني قابلة للتجسيد، للتبليغ الكامل، وبما يغني عن قولها.
دائما ما كان القول أقصر من كلّ حقيقة تطوي عليها النفس. حتى لو كانوا في حال أحسن، في حال ليسوا فيه بحاجة إلى أن يعرفوا أخبار أهل هذه الأرض؛ أُحبُّ أن تصل إليهم أحوال قلبي، وأُحبُّ أن تصل إليّ أحوالهم، لكن الخشية دائما من أنّني غير جدير بذلك، وأبعد من أن تصلني أحوال أهل السماء، وأقلّ شأنا من أن تُرفع إليهم أحوال قلبي، حتّى لو غمروني بحبّ واهتمام والموت يحيط بهم، وهو حبّ لم أكن أبدا لأستحقه، ليس فقط لافتقادي الجدارة به، كيف يفهم الآخرون الإبادة؟! كيف للآخرين أن يفهموها وهم لا يملكون الإحاطة؛ الإحاطة بضحكة كلّ طفل؟ بدمعة كلّ طفل؟ بحقيقة اصطناع المعجزة لإسعاد كلّ طفل؟ بمعنى الأماني المدفونة في صدور أصحابها؟ بالحزن المتنوع على الناس قهرا ونارا وصمتا وصراخا وهم يتناقصون، والأب يبكي طفله الممزق بين ذراعيه؟ولكن أيضا لأنّ من يصل غيره بذلك الحبّ والموت محيط به، هو أعظم من كلّ أحد، وقلبه أغنى من كلّ قلب. هكذا قال لنفسه، وعاد ينظر إلى الرسالة التي لم يأته الردّ عليها.
كيف يفهم الآخرون الإبادة؟! كيف للآخرين أن يفهموها وهم لا يملكون الإحاطة؛ الإحاطة بضحكة كلّ طفل؟ بدمعة كلّ طفل؟ بحقيقة اصطناع المعجزة لإسعاد كلّ طفل؟ بمعنى الأماني المدفونة في صدور أصحابها؟ بالحزن المتنوع على الناس قهرا ونارا وصمتا وصراخا وهم يتناقصون، والأب يبكي طفله الممزق بين ذراعيه؟ كم من أمنية دفنت في صدر ممزق؟ وكيف طغت أمنية وقف الحرب على كلّ أمنية سبق لها وأن علت في النفوس الطموحة؟ النفوس التي تحسن الحياة كما تحسن الرضا.
من هذا الذي يمكنه أن يتخيّل صور النزوح كلّها، وأن يجمع قلبه للوعي بأشكال الموت كلّها، وأن يحصي كلّ لحظة جوع وعطش وقلق وخوف وكيف الشعور بها من كلّ واحد، وأن ينبث في النفوس المحزونة والمقهورة علما ومعرفة واطلاعا ليرتب أوجاعها في عقله وحقائق أوجاعها في نفسه؟ لا أحد. يفزع المرء إلى إيمانه، ويقول: "الله وحده الذي يحيط بذلك كلّه".
الإبادة هي أن تتناقص الردود على الرسائل التي تنبعث إليهم كلّ يوم: "كيف حالكم اليوم"، وحينما لا يأتي الرد، فوراء ذلك قصّة، قصّة خاصّة جدّا، كما وقعت لأصحابها، ووراء كلّ قصّة قصص على عدد أنفاس أصحابها، قصص لا تحصى، فمع أصغر جزء من الوقت تتقلّب على نفسّ كلّ واحد منهم المشاعر كلّها من تلك المتعلقة بمحاولة التشبث بالحياة، إلى الخوف والقلق والأماني غير الواثقة بالأيام القادمة. من يحصي ذلك؟ ومن يعرف حقيقة كلّ شيء أحصاه كما عاشه أصحابه؟! "الله وحده القادر على ذلك".
لم يأت الرد، وما يزال ينظر في رسالته إليهم: "كيف حالكم اليوم"؟ لم يفكر في نوع القنبلة التي سقطت عليهم. أخذ وقتا كي يصدّق أن ما كان يرفض توقّعه قد حصل. يستعيد في كلّ يوم ضحكات الأطفال وألعابهم ويومياتهم ورسائل محبتهم إليه. ينظر حوله، ويسأل: "كيف يمكن أن يمرّ هذا كلّه"؟ يتذكر كذلك أنّ هناك من لا يكتفي بالصمت، أو جلد الضحية، ولكنّه أيضا يقول: "لم يعان الفلسطينيون كثيرا بالنسبة لمعاناة غيرهم". سوف يبقى ينظر في رسالته، متغافلا عن الحقيقة بالأماني، لعلّ حبلا ما يهبط عليه من عالمهم السماوي فيصعد إليهم بالكثير مما كان يودّ قوله لهم.
x.com/sariorabi