كما توقعت فى مقالى الخميس الماضى (سيناريوهات هدنة الخوف)، ضربت إسرائيل عرض الحائط بكافة المواثيق الدولية، فما إن انتهت الهدنة المؤقتة حتى سارعت بحرب شرسة على غزة، وهدمت عشرات المنازل فوق رؤوس أصحابها وسكانها الأبرياء.
لقد ساهمت الهدنة كما قلت فى تعميق جراح قادة إسرائيل والمؤيدين لاستمرار الحرب وتوسيع دائرة الإبادة؛ لإجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة والرحيل إلى أقرب الجيران؛ وبالتالى لم يكن أمام «نتنياهو» سوى الغدر لإرضاء المتطرفين وامتصاص غضب الشارع على تحرير بعض الرهائن والمحتجزين بشروط وإملاءات «حماس»، وسقوط نحو 420 قتيلاً من جيش يفكر الآن فى إنقاذ ماء وجهه بإغراق كل أنفاق غزة بمياه البحر بحثاً عن قادة المقاومة.
ومع ازدياد قلق واشنطن، وخوف البيت الأبيض من تكرار ما حدث للجيش الأمريكى فى الفالوجا والصومال وأفغانستان، ومع انتشار بكتيريا غامضة فى صفوف الجيش الإسرائيلى بعد سقوطه فى وحل غزة، ومع تآكل الدعم الشعبى والجماهيرى لحكومة الليكود، ونفاد صبر المجتمع الإسرائيلى، جاءت الهجمات العشوائية، وضربات اليأس والهزيمة براً وجواً وبحراً مستهدفة البنية التحتية والمدنيين، بطريقة تشبه إلى حد كبير بطل الملاكمة قبيل سقوطه أرضا مغشيا عليه بالضربة القاضية من منافسه فوق الحلبة، وتسديده لضربات عشوائية فى الهواء؛ ليعلن بعدها الحكم هزيمته.
وعلى الصعيد الدولى، انقلب السحر على الساحر، وكشفت الهدنة عن أكاذيب إسرائيل، وزيف ادعاءاتها بأنها تدافع عن شعبها والحضارة الغربية، عندما شاهد العالم كله، المعاملة الحسنة والإنسانية التى لقيها الأسرى المحتجزون لدى فصائل المقاومة.
واندلعت مظاهرات الغضب والاحتجاج، تشيد بعظمة الإسلام والمسلمين، وتضحيات وصمود الفلسطينيين تحت الصواريخ والقنابل والأحزمة النارية، وكسبت حماس ولأول مرة تعاطف العالم مع القضية العربية وعودتها مرة أخرى إلى صدارة المشهد الدولى.
وعربياً، أظهرت مصر «العين الحمراء» ضد أى محاولة تهجير قسرى إلى سيناء، والشىء نفسه فعله قادة الأردن وقطر والسعودية وبقية الدول العربية، وغيرها من ردود أفعال؛ كانت دافعاً لاستئناف حكومة الاحتلال حربها القذرة، للضغط على حماس شعبياً؛ ولتعلية سقف التفاوض على ما تبقى من أسرى عسكريين ومحتجزين مدنيين يسببون إحراجاً قوياً وصداعاً شديداً لحكومة باتت على وشك تقديم استقالتها خلال الأيام المقبلة.
أعتقد أن كل هذه الأحداث ستعقبها هدنة أخرى وشيكة باتت فى الأفق، قد يقبلها «نتنياهو» مجبراً تحت الضغط حتى لا تسقط حكومته، وتدخل المنطقة مرحلة أخرى جديدة تضطر فيها إسرائيل إلى قبول حل الدولتين، وعندها يضيع حلم إسرائيل ويسقط المشروع الصهيوأمريكى الإبراهيمى فى الشرق الأوسط، وتسقط معه كل محاولات تهجير أهل غزة واجتثاث بيوتهم؛ لفتح قناة بن جوريون التى خططت إسرائيل وأوروبا وأمريكا لها عام 1963؛ لضرب قناة السويس وعرقلة مشروع الطريق والحزام الصينى وإضعاف الاقتصاد المصرى والعربى.
وحتى تأتى هذه الهدنة المرتقبة أدعو العرب لاستثمار حالة «التيه» التى يعيشها الإسرائيليون حالياً، للضغط على المجتمع الدولى وتفعيل مبادرة السلام العربية ورسم خارطة جديدة تستمد خطوطها من قمة القاهرة 2023 وقمة الرياض العربية الإسلامية، ومن هذا الرفض الدولى للممارسات الوحشية فى الأراضى الفلسطينية المغتصبة.
إن قنابل اليأس التى تحرق أرض فلسطين اليوم، لن تستمر، لأن إسرائيل وكما يقول الكاتب الصهيونى الشهير «آرى شبيت» تلفظ أنفاسها الأخيرة، كونها تواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معه سوى الاعتراف بحقوقه وإنهاء الاحتلال، وإنقاذ إسرائيل من النازيين الجدد الذين استباحوا فلسطين بزعم أنها أرض بلا شعب، ليكتشفوا أن الفلسطينيين متجذرون فى أرضهم، ينتفضون لحماية وطنهم، لا يبالون بالسجون والحصار والدمار والأسلاك الشائكة، ويحطمون الجدار العازل، ويصنعون من المستحيل صواريخ قاتلة.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: إسرائيل عرض الحائط المواثيق الدولية لاستمرار الحرب
إقرأ أيضاً:
إحياء شركة النصر ونهضة الصناعة الوطنية
تمثل الصناعة الوطنية ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة لأى دولة، وتمتلك القيادة السياسية للدولة المصرية وجود رؤية طموحة لإعادة توطين الصناعات المحلية، خاصة فى القطاعات ذات الأهمية الاستراتيجية، ومع اتجاه الدولة نحو دعم الإنتاج المحلى، تتضح أهمية تعزيز الصناعات الوطنية كوسيلة لخلق فرص عمل، تقليل الاعتماد على الواردات، ودعم مكانة مصر فى الأسواق العالمية، فالصناعة الوطنية بمثابة المحرك الأساسى لنمو الاقتصاد، وتأمين الاحتياجات الاستراتيجية لهذه الدولة، فضلا عن دور الصناعة فى خلق توازن اقتصادى مستدام وتقليل الاعتماد على التقلبات العالمية فى أسعار المنتجات المستوردة، لذلك فالصناعة ليست مجرد عملية إنتاجية مجردة، بل هى منظومة شاملة تساهم فى تحقيق التوازن الاقتصادى والاجتماعى، فالصناعات الوطنية تسهم فى زيادة الناتج المحلى الإجمالى، تدعم تحقيق الاكتفاء الذاتى، وتقلل من تأثير الأزمات الاقتصادية العالمية، التى فرضت على الجميع ضرورة التوقف عن الاعتماد المفرط على الواردات، خاصة فى القطاعات الحيوية، فباتت الصناعة المحلية هى الملاذ لتوفير حلول بديلة بتكلفة أقل وجودة تنافسية، وتساعد على تقليل فجوة العجز التجارى.
ولطالما كانت الصناعة الوطنية قلب الاقتصاد المصرى، وتاريخ مصر الصناعى ملىء بالشركات التى شكلت علامات مضيئة فى مسيرة التنمية، من بينها شركة «النصر للسيارات»، التى تأسست عام 1960 كجزء من رؤية طموحة لجعل مصر مركزاً إقليمياً لصناعة السيارات، ومع ذلك، توقفت عمليات الشركة لسنوات طويلة، ما أضعف القدرة الإنتاجية للقطاع، وزاد الاعتماد على استيراد السيارات، لذلك يُعد إحياؤها هو إحياء لقطاع صناعى كان قد تراجع لأسباب مختلفة.
لذلك أعتبر إعادة تشغيل هذه الشركة العريقة ليست مجرد قرار اقتصادى، بل هو خطوة استراتيجية تعكس رؤية الدولة لدعم الإنتاج المحلى وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وتستهدف الدولة بهذه الخطوة إحياء الصناعة المصرية المتخصصة فى قطاع السيارات، الذى يحمل إمكانات هائلة للنمو، حيث تسعى الشركة فى مرحلتها الجديدة لتقديم منتجات تنافسية قادرة على جذب لمستهلك المحلى والخارجى، مما يعزز مكانة مصر فى السوق العالمى، فضلا عن قدرة الإنتاج المحلى على إتاحة فرصة لتوفير سيارات بمواصفات تلائم السوق المصرى، بعيداً عن التكاليف الإضافية المرتبطة بالاستيراد، علاوة على ذلك، سيقلل ذلك الضغط على العملة الصعبة، مما يعزز استقرار الاقتصاد.
وأعتقد أن عودة شركة النصر للسيارات هى أكثر من مجرد مشروع صناعى، إنها رمز لنهضة الصناعة الوطنية، وخطوة جادة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتى فى قطاع حيوى، بتطوير الصناعات المحلية، يمكن لمصر أن تحقق نمواً اقتصادياً مستداماً، وتثبت للعالم أنها قادرة على العودة بقوة إلى ساحات المنافسة الدولية، ومع إعادة تشغيل الشركة، تبرز فرصة لإنتاج سيارات مصرية بمعايير تنافسية، بما فى ذلك السيارات الكهربائية، التى تتماشى مع التوجه العالمى نحو الطاقة النظيفة، يعزز هذا المشروع ليس فقط مكانة مصر الصناعية، ولكنه أيضاً يدعم البيئة من خلال تقليل الانبعاثات الكربونية.
والحقيقة التى يجب وضعها فى الاعتبار عند صياغة الرؤية الخاصة بإدارة القطاعات المختلفة ومن بينها القطاع الصناعى، هى توفير فرص العمل للشباب، حيث تحتاج مصر إلى مليون فرصة عمل سنويا لاستيعاب الخريجين، لذلك فإعادة تشغيل المصانع الوطنية فرصة ذهبية لخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة. فمصانع السيارات، على سبيل المثال، تدعم سلاسل توريد طويلة تشمل قطاعات مثل المعادن، البلاستيك، الإلكترونيات، والخدمات اللوجستية، بالإضافة إلى فرص العمل، يدعم تنشيط الصناعة المحلية الاقتصاد المحلى من خلال تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة على المشاركة فى عمليات الإنتاج، مما يزيد من تدفق الأموال داخل السوق المصرى ويعزز النمو الاقتصادى مما يؤدى إلى تحسين الظروف المعيشية ودعم الاستقرار الاجتماعى.
فمن المؤكد أن الصناعة القوية تفتح آفاقاً واسعة أمام مصر لتصبح مركزاً إقليمياً للتصدير، متسلحة فى سبيل تحقيق هذا الهدف بعدد من المقومات من بينها الاستفادة من موقعها الجغرافى المميز واتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من الدول، فمصر تستطيع أن تكون بوابة للمنتجات الصناعية نحو الأسواق الإفريقية والعربية والأوروبية، فالصناعة الوطنية ليست خياراً، بل ضرورة لتحقيق مستقبل أفضل، يعكس طموحات المصريين ويعزز قدرتهم على بناء اقتصاد قوى ومستقل، فضلا عن هذا الاتجاه يساهم فى خفض الاعتماد الكبير على الواردات الذى يُعد من أبرز التحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى، حيث يؤدى إلى استنزاف العملة الأجنبية وزيادة العجز التجارى، لذلك تقدم الصناعة الوطنية بديلاً مستداماً، يمكّن من إنتاج المنتجات محلياً بجودة وأسعار تنافسية.
وختاما.. الصناعة ليست مجرد أداة لتحقيق الأرباح، بل هى وسيلة لتحقيق السيادة الاقتصادية، فعندما تعتمد الدولة على منتجاتها المحلية، تكون أقل تأثراً بالتقلبات الاقتصادية العالمية. كما أن دعم الصناعة الوطنية يساهم فى تعزيز الهوية الوطنية، ويعطى المصريين شعوراً بالفخر بمنتجات بلدهم.
ويُعد إحياء شركة النصر للسيارات ليس مجرد مشروع صناعى، بل هو رمز لإعادة بناء مستقبل الاقتصاد المصرى.