مقتل الصحفيين في حرب إسرائيل على غزة
تاريخ النشر: 6th, December 2023 GMT
كنت جالسة في شقتي في بيروت مساء يوم 13 أكتوبر عندما قرأت أن صحفيين تعرّضوا لهجوم صاروخي في جنوب لبنان. كان صديقي المقرب، عصام عبدالله، يعمل في المنطقة مصورا لوكالة «رويترز» لتغطية الاشتباكات الحدودية بين إسرائيل وحزب الله بعد بدء الحرب في غزة قبل أيام قليلة. اتصلت به على الفور، لأننا اتخذنا عادة منذ سنين، سواء كنا على الخطوط الأمامية في أوكرانيا أم في سوريا، أن يتصل أحدنا بالآخر في أي وقت تقع فيه كارثة.
لم يرد عصام على المكالمة. لا أستطيع أن أتذكر آخر مرة ذهبت فيها إحدى مكالماتي إلى بريده الصوتي. وفي غضون دقائق، ظهرت لقطات للهجوم عبر الهاتف المحمول على الإنترنت، حيث تظهر، في أحد مقاطع الفيديو، صحفية تعمل لدى وكالة فرانس برس وهي ترقد في بركة من الدماء، وتصرخ بأنها لا تستطيع الشعور بساقيها. لقد استمعت مرارًا وتكرارًا، محاولًا يائسًا العثور على صوت عصام وسط الفوضى.
رن جرس باب داري، فإذا باثنين من أصدقائي يبلغانني بخبر مقتل عصام، وأروني المزيد من اللقطات للآثار المروعة للهجوم. اجتاحتني موجة من الغثيان عندما شاهدت عمال الإنقاذ وهم يلفون عصام وساقه المقطوعة بملاءة بيضاء، وجسده متفحم بالكاد يمكن التعرف عليه.
وفي اليوم التالي، سافرت إلى مدينة (خيام)، مسقط رأس عصام في جنوب لبنان، مع مئات من المشيعين الآخرين لحضور جنازته، حيث دُفن رفاته في ظل أشجار الزيتون والرمان القديمة التي كان يحبها، وزينت عائلته قبره بالورود وكاميراته وعدساته المكسورة التي دُمرت في الغارة.
في آخر مرة كنت مع عصام، شربنا القهوة العربية على السطح وقلبنا أكوابنا عندما انتهينا، وتظاهرنا بقراءة حظوظ بعضنا البعض في بقايا الفناجين. وقال لي مازحا إنني سأصبح أول امرأة دكتاتورية عربية، فقلت له إنك ستكون أول صحفي أسجنه. لقد تبادلنا أحلامنا، فأنا أردت أن أدرس سلسلة الجوجيتسو، وأقرأ الكلاسيكيات وأتقاعد في البحر الأبيض المتوسط، بينما أراد هو القيام بمزيد من الرحلات البرية على دراجته النارية، وتبنّي المزيد من القطط وإنتاج أفلام مستقلة.
كصحفية، اعتدت على نقل المآسي التي يمر بها الآخرون، فلقد رأيت مقابر جماعية مليئة بالنساء والأطفال، ومشيت عبر مدن بأكملها تحولت إلى أنقاض، وسمعت صرخات الأشخاص الذين فقدوا كل شيء وكل شخص أحبوه في لحظة، وكنت أظن أن فداحة الفظائع التي شاهدت الآخرين يتحمّلونها ستسمح لي بتحمّل فظائعي بمنظور مشابه ما عندما يحين دوري.
لكن ذلك لم يحدث، فشعورك عندما تعيش في مأساة يختلف تماما عن شعورك عند مشاهدة الآخرين يعيشون مآسيهم، فهناك حدود لقدرة الإنسان على الشعور بألم الآخرين.
كان عصام واحدا فقط من بين أكثر من 60 صحفيا وعاملا في مجال الإعلام قتلوا، معظمهم بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية، منذ بدء الحرب بين إسرائيل وغزة الشهر الماضي. وتقول لجنة حماية الصحفيين إن هذا الصراع كان الأكثر دموية بالنسبة للعاملين في مجال الإعلام منذ أن بدأت اللجنة بالاحتفاظ بالسجلات قبل أكثر من ثلاثة عقود.
وفي اليوم الذي قُتل فيه عصام، قال جلعاد إردان، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، إن بلاده لا تستهدف الصحفيين أبدًا، على الرغم من اعترافه بأنه «في حالة الحرب، قد تحدث أشياء». لكن تحقيقا أوليا مستقلا أجرته منظمة مراسلون بلا حدود خلص إلى أن عصام والصحفيين الذين كانوا معه كانوا «مستهدفين بشكل واضح» في الهجوم الذي جاء من اتجاه إسرائيل. وكان هذا متسقًا مع روايات شهود عيان من صحفيين آخرين أصيبوا في الهجوم، والذين كانوا، مثل عصام، يرتدون ملابس واقية تشير بوضوح إلى أنهم صحفيون وكانوا على بعد أميال من القتال الفعلي.
وفي الأسابيع السبعة الماضية، خضعت إسرائيل لتدقيق متزايد من قبل جماعات حقوق الإنسان وحرية الإعلام بسبب الاشتباه في استهدافها للصحفيين، وهذا أمر ليس بالجديد، ففي عام 2019، وجد تقرير للجنة الأمم المتحدة «أسبابا معقولة» أنه خلال احتجاجات «مسيرة العودة الكبرى» في عام 2018، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على الصحفيين «مع العلم أنه يمكن التعرف عليهم بوضوح». وفي وقت سابق من هذا العام، قالت لجنة حماية الصحفيين إن مقتل الصحفيين في خط النار على يد الجيش الإسرائيلي كان جزءًا من «نمط مميت استمر لعقود من الزمن» ولم تتم محاسبة أي شخص عليه منذ أكثر من 22 عامًا.
في أبريل 2021، ذهبت إلى حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، مع طاقمي في قناة فايز نيوز لإعداد تقرير عن إخلاء عائلات فلسطينية قسرا من منازلها لإفساح المجال أمام المستوطنين الإسرائيليين، وقد حصد التقرير ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب، وأثارت غضب الحكومة الإسرائيلية.
وبعد مرور عام، عندما عدنا إلى إسرائيل لتغطية الاحتجاجات في المسجد الأقصى في القدس، مُنعت من الدخول في المطار «لأسباب أمنية». وعلى الرغم من مؤهلاتي الصحفية، فمن الواضح أن الحكومة الإسرائيلية اعتبرت أصلي الفلسطيني يشكل تهديدا أمنيا، ولذلك اضطررت إلى العمل عن بعد، بينما كان زملائي يقدمون تقاريرهم من الضفة الغربية المحتلة.
وقد أوضح عقيد إسرائيلي قام طاقمي بالتصوير معه أن طريقة تغطيتنا للأحداث لم تعجبه، وفي الطريق بينما كان يقلنا في سيارته، التقط المصور بالكاميرا اللحظة التي قال فيها العقيد للمسؤول الصحفي في الجيش الإسرائيلي باللغة العبرية: “يجب أن نظهر لهم بعض الإجراءات. ومع كل إطلاق النار، ربما يصابون برصاصة”.
وبعد حوالي أسبوعين، أصيبت شيرين أبو عقلة، مراسلة قناة الجزيرة الفلسطينية الأمريكية، برصاصة في رأسها أثناء قيامها بإعداد تقرير في الموقع نفسه الذي كان العقيد «يلقي نكتة» بشأنه. ومثل عصام، كانت شيرين بعيدة كل البعد عن أي قتال فعلي، وكانت ترتدي خوذة وسترة زرقاء تحمل علامة «صحافة» بأحرف بيضاء كبيرة.
نفى الجيش الإسرائيلي في البداية مسؤوليته عن مقتل شيرين، ولكن تحت ضغط متزايد وأدلة من وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، اعترف أخيرا بوجود «احتمال كبير» أن يكون جندي إسرائيلي قد قتلها، إلا أنّ إسرائيل رفضت توجيه التهم للجنود، مما جعل المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يقول بأنّ ذلك يعزز من «ثقافة الإفلات من العقاب» لدى الجيش الإسرائيلي.
التقيت شيرين في عام 2014 عندما كلفت بإنتاج تغطيتها للاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. حينها، كنت صحفية مبتدئة أشعر بالتوتر من العمل مع أسطورة مثلها، ولكن سرعان ما تخلصت من ذلك التوتر بسبب تواضعها. وقبل مغادرتها أهدتني خاتمًا من الفضة بتصميم مطرز باللون الأحمر مصنوع يدويا في القدس، فقد أرادت مني أن أحصل على قطعة من فلسطين أستطيع أن أحملها معي لأنني لم أذهب إلى هناك قط.
بعد مقتل شيرين، أرسلت لعصام تغريدة كنت قد نشرتها وانتشرت بسرعة. فأجاب برسالة صوتية مقتضبة لكنها مفعمة بالحيوية: «يا لمى، يا فخر العرب!».
وفي ظل هذا التوازن غير المعلن بين السخرية والصدق الذي ينشأ بين الأصدقاء المقربين، كنت أعلم أن هذه هي طريقته في قول شيئين معًا: «هل تريدين جائزة؟» و«استمري، فهذا هو العمل الذي يجب علينا جميعا القيام به».
عندما عدت إلى شقتي في الليلة التالية لجنازة عصام، أدركت أنني نسيت المفاتيح، فتناولت هاتفي بشكل غريزي للاتصال به، فقد كنت أنسى مفاتيحي كثيرًا لدرجة أنني أعطيته مفتاحا احتياطيا. وبينما كنت أتفحص هاتفي، استغرق الأمر مني لحظة لأدرك ما كنت أفعله.
وبينما كنت أنتظر عامل المفاتيح، قمت بتصفح الرسائل ووجدت تلك الرسالة الصوتية التي أعدت سماعها مرارًا وتكرارًا لأعيش خلالها تلك الثواني الأربع عندما كان لا يزال على قيد الحياة يتحدث معي.
لا أظن أنه ستكون هناك عدالة لعصام، لكنني أعلم أن العدالة بالنسبة له لم تكن شيئًا يمكن لأي شخص أن يمنحه أو ينزعه، بل كان شعورا بأنه واجب يومي عليه أن ينشره في العالم من خلال عمله.
ومع استمرار مقتل المزيد والمزيد من الصحفيين في هذه الحرب، ومعظمهم في غزة، آمل ألا يكون موتهم هباءً، وأن يطالب الناس بحمايتهم بأعلى صوت ممكن وأن يستمروا في تذكرهم. وهذا ما فعله عصام بنفسه، في آخر منشور له على إنستجرام كتبه عن شيرين.
أعلم أن الألم الناتج عن فقدان صديقي لا يقارن بالمأساة الذي يعيشها الناس في غزة كل يوم، فعائلات بأكملها لم يبق لديها أي ناجين، أما الذين نجوا فتفرغوا لجمع ما تبقى من أشلاء أحبائهم في أكياس بلاستيكية.
إن هذه المشاهد لم نكن لنعرفها لولا شجاعة الصحفيين. إنني، في كل صباح، أتحقق من حسابات هؤلاء الصحفيين على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة من نجا منهم تلك الليلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی
إقرأ أيضاً: