«دبيب» آية السيابي .. إنصات لإيقاع الكون الصاخب
تاريخ النشر: 6th, December 2023 GMT
تتميز القاصة والروائية آية السيابي في كتابتها السردية باقتناص المعاناة الإنسانية والتقاط اللحظات الأشد حساسية وتأثيرا في حياة الكائن، لتشكل منها عالمها الإبداعي الخاص، الذي يتكئ على مواجع الإنسان وهواجسه وأسئلة الوجود الجارحة.
في مشاركتها في الملتقى الأدبي والفني السادس والعشرين، الذي أقيم مؤخرا في محافظة البريمي، قدمت آية السيابي نصا قصصيا بعنوان «دبيب»، وهو نص فارق ومغاير وعميق في فكرته والتقاطاته الواعية.
وإذا كان العنوان يمثل لدى النقاد العتبة الأولى أو المفتاح الأساس للولوج إلى بنية النص وفضاءاته الواسعة، فإن لفظة «دبيب» التي اختارتها القاصة عنوانا لنصها اللافت كفيلة بإيقاظ مشهد من الزحف واللهاث في المخيلة فور قراءتها، لاسيما إذا ما علمنا أن كلمة دبيب تعني في بعض دلالاتها اللغوية: «المشي البطيء، والزحف انسلالا». (1)
تبدأ القصة بما يشبه تقنية الاسترجاع، مستخدمة المفارقة الزمنية لتفتح أمام القارئ كوة صغيرة على أحداث جرت في الماضي، لتظل في ذهنة ويستعيدها في اللحظة الراهنة التي أرادها السارد في النص القصصي. في المشهد الافتتاحي من النص الذي جاء على لسان السارد نفسه، نراه يستذكر موقفا من طفولته البعيدة، معبرا عن كراهيته للنمل منذ بواكير أيامه، وفي المقابل يستعيد وصية والدته بالرأفة على النمل وسائر المخلوقات الضعيفة، وألا تأخذه القوة في ارتكاب أية ممارسات وحشية مؤذية تجاه الكائنات الضعيفة التي تتقاسم معه العيش على هذا الكوكب: «لا تؤذ الذرّ، واطلب من الله أن يمنحك ساقا بصيرة لا تهدم بناءً ولا تسحق روحا». النص في بعده الزمني ينطلق من لحظة استذكار حادة يستدعي فيها السارد تفاصيل حكاية غابرة، تمر وامضةً عبر مخيلته في ما يشبه أحداث فيلم سينمائي، فتتراءى له مواقفها وشخوصها، ليسافر النص بالقارئ وكأنه يعيش تلك الأحداث على أرض الواقع. إنها مجرد ذكريات عتيقة، ولكن النص يستدرجها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، كما جاء على لسان الراوي: «تتدفق الذكريات بيسر إلى الإنسان، بل تتربص به وتقتنص الفرص لتسلل إلى قلبه والنّيل من سكونه الهش».
وقد عملت القاصة آية السيابي على استنطاق السارد ببراعة متناهية، متجاوزة الكثير من التفاصيل الزائدة، وتختصر الزمن في تكثيف مدهش لسيرورة الحدث، حين تنقل المتلقي في المشهد الثاني إلى الراوي وهو في سن الفتوة مغادرا منزل أسرته، حيث تودعه أمه بالدعاء وتدس في جيبه علبة البسكويت المحببة له، التي تتكون أقراصها من حروف باللغة الإنجليزية، تلك الأقراص اللذيذة التي كانت تساعده على تعلم الحروف. وهكذا تبدأ الأحداث في الصعود وتبدأ خيوط النص بالبروز واحدا تلو الآخر، وتتشكل مسارات النص التي تدور حول دبيب النمل وآمال الأم وذاكرة البسكويت وهواجس الأحلام المؤجلة وأسئلة الرحيل والاغتراب.
القاصة لم تهمل عنصر المكان في القصة، إذ إن أهمية الفضاء المكاني تأتي «نظرا لما ينهض به من دور فاعل داخل القصة، ومدى اشتغاله بوصفه عنصرا بارزا لخلق دلالة النص، مسهما في إنتاج الدلالة، حيث هيمنته على مقاطع القصة». (2)
ولكن القاصة جعلت من المكان أفقا متخيلا مفتوحا، تماشيا مع النص الذي ينفتح على الفضاء الكوني الفسيح في دبيبه وسجاله مع عوامل البقاء والفناء والاغتراب. فثمة مكان للوداع، ومكان للتذكر، ومكان بعيد للوالدين اللذين رحلا في صمت ودون تلويحة وداع، ومكان للغريب الذي يستعيد كل تلك الوجوه والأمكنة الغائبة، وهو يقبع في المكان/ المنفى. ولكن المكان الواسع الذي تدور فيه أحداث القصة هو الذات المتحدثة، التي تستعيد كل تلك الوقائع عبر شاشة المخيلة.
لقد جعلت القاصة للمكان بعدا نفسيا أكثر منه واقعيا، وهذه إحدى أساليب السرد إذ « .. يتدرج المكان في كينونته من العالم المادي الواسع الممتد بفضاءاته المتباينة في المكان المفتوح/ اللامحدود، حتى يضيق من خلال عالم المكان المغلق/ المحدود، ويرجع ليمتد من خلال الفضاء النفسي السيكلوجي، ليكوّن عالما متمازجا من الصور والصراعات، وكأنه مزج غريب من عالم المادة المختزن على شكل صور وانفعالات غريبة توجهها مثيرات أغرب». (3)
وفي سياق هذا المزج بين الصور والصراعات التي تأخذ من نفس السارد مكانا لسيرورتها الدرامية، نجد السارد في طريقه من بيته إلى عالم الغربة والأحلام الوردية يأكل أقراص البسكويت التي أهدته إياها أمه، ولكنه يبقي القطعتين اللتين تحملان الحرفين الأولين من اسمي أمه وأبيه.. قلبه لا يطاوعه على قضمهما.. يحتفظ بهما كتميمتين مباركتين لمواجهة جيوش الغربة. وفي خضم هذا الغياب يتلقى السارد نبأ وفاة والديه، فيذهب ليلتمس قطعتي البسكويت اللتين تحملان الحرفين العزيزين، ليجدهما قد أصبحا هشيما أيضا، فقد التهمهما النمل.. النمل عدوه الأزلي منذ الطفولة. ها هو دبيب الزمن يقضي على والديه، ودبيب النمل يقضي على قرصي البسكويت العزيزين.
الملاحظ في النص أن الكاتبة لم تتوقف كثيرا عند حادثة موت الوالدين، ولم تورد الكثير من التفاصيل أو تتحدث كثيرا عن الألم الذي أصاب السارد. إن هذا أمر معروف بالضرورة، وليس بحاجة إلى مزيد من الحشور وعبارات الحزن التي لا تضيف إلى القيمة الفنية للنص، الذي هو في جوهره يجسد لحظة مشوشة يستعيد فيها السارد ذكريات قديمة تعبُر شريط مخيلته المنهكة والمثقلة بالحزن والغياب والخسارات والموت والفجائع. إن ثمة الكثير من الأشياء التي كانت تدور في ذهن الكاتبة وهي توثق تفاصيل هذا الحدث عبر نص قصصي موجز وخاطف. إنه ليس من الضرورة أن تقول كل شيء وتفصح عن كل ما يدور في مخيلتها عند كتابة النص. و«ليس مهما أن نعرف ما هي دلالات النص عند كاتبه، لأنها ليست ذات مسؤولية تحليلية، فالكاتب مبدع من حيث تناوله للغة وطرائق التلاعب بمؤشراتها الإبداعية، كما أننا لا نرى الكاتب هو مصدر النص ودلالته هنا، بل المتلقي هو المنشئ الذي يفكك طلاسم ومفردات اللغة التي صنعت هذا التكوين الأدبي من خلال الدوال». (4)
ويأتي المشهد الختامي للقصة كلوحة فنية تتداخل فيها الألوان والخطوط، لتتضح معالمها وتشف تفاصيلها وتتلاقى خيوطها في نسج عبقري للحبكة، حين تكشف لنا اللحظة التأملية الارتكازية لأحداث النص، إذ يظهر لنا السارد مطلا من نافذة غرفته في منفاه الاختياري، بعيدا عن وطنه، وهو يطل على شارع مكتظ بالضجيج ويشاهد «دبيب الحياة وصخب العالم». وتعود إلى مخيلته صورة «ذلك الفتى الذي وقف يودِّع أمه الحزينة أمام باب المنزل العتيق، هي تخفي دموعها ببسمة ثابتة، وهو يحمل حقيبة صغيرة تضم بعض حاجاته للسفر، ويحمل الكثير من الأحلام المؤجلة». ها هو يستلقي برأسه على المقعد آخذا نفسا عميقا كأنه زفرة مكلوم حزين، ويحتشد في رأسه «دبيب صاخب من الأفكار والمشاهد والذكريات، لا يقطعه سوى دبيب قطيع من النمل يعبر جدار الغرفة الساكنة»!
في هذه الموقعة الكونية الختامية يلتقي دبيب الحياة وضجيج الشارع، ودبيب المشاهد والأفكار والذكريات في المخيلة ودبيب خيط النمل زاحفا فوق جدار غرفة باذخة السكون، في مفارقة مدهشة تدمج بين الدبيب والسكون!
---------------------------
1 - مسعود، جبران، الرائد: معجم لغوي عصري، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1967م، ص 660.
2 - الشمري، د. شيمة بنت محمد، التعالي النصي في القصة القصيرة الخليجية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ص 313
3 - الفهدي، فوزية بنت سيف ـ المكان في القصة العمانية: الواقع والمتخيل، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط، الطبعة الأولى 2015م، ص 108
4 - حسن، د. فهد حسين، إيقاعات الذات: قراءة في السرد العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2002م، ص 17
حسن المطروشي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من
إقرأ أيضاً:
اشهار ديوان “دمع المُقَل” للشاعرة سماح الخصاونة في رابطة الكتاب الأردنيين / إربد
#سواليف
محمد الاصغر محاسنه / اربد .
نظمت #رابطة_الكتاب_الأردنيين فرع #إربد في مقرها حفل إشهار ديوان ” #دمع_المقل ” للشاعرة سماح علايا الخصاونة وسط حضور أعضاء الرابطة وجمع من الأدباء والشعراء والمحبين، حفل الاشهار الذي أدار مفرداته وباقتدار ولغة عالية الشاعر موسى النعواشي .
رئيس فرع الرابطة في إربد الشاعر أحمد طناش شطناوي تحدث عن رؤية الرابطة لتكوين أسرة من المبدعين ليكونوا أصدقاء الرابطة، وقال: لذا كنا اليوم ومعنا مبدعون من الشعراء والكتاب ممن ليسوا أعضاء فيها.
واستهلت الشاعرة حفل الإشهار بقصيدتها فاتحة الديوان “النعيمة أنت صلاتي”:
على أغصانِكِ الغيدِ
تباريحي وتغريدي
وشوق ليس يحكيه
هدير حمائم العيدِ
الدكتور محمود درابسة تحدث في دراسته النقدية عن بنية النص الشعري فنياً والتركيب الشعري لقصائد ديوان دمع المقل لسماح خصاونة، مركزاً على أن هذه التجربة الأولى للشاعرة كانت بمستوى نضج مرتفع، مقدماً بعض نصائحه لتحسين النص الشعري.
من جانبه تحدث الناقد لدكتور سلطان الخضور حول مفاهيم التصوف التي تضمنتها بعض قصائد الديوان، واستشهد ببعض النصوص التي قاربت الصوفية والمفاهيم الدينية.
أما الدكتور إبراهيم الطيار فعنون دراسته برباعية القيم والسمو المفاهيمي، واتبع منهجية تحليل النص للكشف عن المنطلق المبدئي والمرتكزات القيمية التي شملت أربعة مجالات: الروحية والدينية، قيم الانتماء، القيم الاجتماعية القيم الوجدانية والجمالية.
وختمت الشاعرة بقراءتها بعض قصائدهاالتي حملت عناوين: فلسطين الحبية، أبعد الأربعين، وقصيدة أقبل بقلبك.
ومن قصيدة فلسطين الحبيبة تقول:
على الشرفات في الليل الطويل
وقفت مناجياً طيف الخليل
ألملم من نجوم الليل عقداً
أرصّعه بأجمل مستحيل
ومن قصيدة أبعد الأربعين:
أبعد الأربعين بها تصابي
وقد زحف المشيب إلى الشبابِِ
فأقمرَ ليلهم من غير ليلٍ
وأُغلق بابهم من غير بابِ
ثم قرأت قصيدتها أقبل بقلبك وقالت في مطلعها:
امدد إليّ يداً أمدد إليك يدا
فما استقامت ذراعٌ فارقت عضدا
وما استقام وداد سُلّ من حنقٍ
وما استقامت قلوب جُرّعت كمدا
وفي نهاية الحفل وقعت الشاعرة ديوانها وأهدته لجميع الحاضرين حباً ووفاءً.