لجريدة عمان:
2025-01-31@23:50:16 GMT

«دبيب» آية السيابي .. إنصات لإيقاع الكون الصاخب

تاريخ النشر: 6th, December 2023 GMT

تتميز القاصة والروائية آية السيابي في كتابتها السردية باقتناص المعاناة الإنسانية والتقاط اللحظات الأشد حساسية وتأثيرا في حياة الكائن، لتشكل منها عالمها الإبداعي الخاص، الذي يتكئ على مواجع الإنسان وهواجسه وأسئلة الوجود الجارحة.

في مشاركتها في الملتقى الأدبي والفني السادس والعشرين، الذي أقيم مؤخرا في محافظة البريمي، قدمت آية السيابي نصا قصصيا بعنوان «دبيب»، وهو نص فارق ومغاير وعميق في فكرته والتقاطاته الواعية.

نص ينطلق من فكرة الدبيب بأبعادها الفلسفية وحمولاتها المعرفية، فمنذ الوهلة الأولى يأخذ المتلقي إلى عالم تتداخل فيه إيقاعات الكون بضجيجها الصاخب، عبر معزوفات الدبيب التي تبدأ بدبيب النمل، مرورا بدبيب الحياة والناس والشارع والأفكار التي تضطرب في رأس المرء، إلى دبيب الموت والعدم والفناء.

وإذا كان العنوان يمثل لدى النقاد العتبة الأولى أو المفتاح الأساس للولوج إلى بنية النص وفضاءاته الواسعة، فإن لفظة «دبيب» التي اختارتها القاصة عنوانا لنصها اللافت كفيلة بإيقاظ مشهد من الزحف واللهاث في المخيلة فور قراءتها، لاسيما إذا ما علمنا أن كلمة دبيب تعني في بعض دلالاتها اللغوية: «المشي البطيء، والزحف انسلالا». (1)

تبدأ القصة بما يشبه تقنية الاسترجاع، مستخدمة المفارقة الزمنية لتفتح أمام القارئ كوة صغيرة على أحداث جرت في الماضي، لتظل في ذهنة ويستعيدها في اللحظة الراهنة التي أرادها السارد في النص القصصي. في المشهد الافتتاحي من النص الذي جاء على لسان السارد نفسه، نراه يستذكر موقفا من طفولته البعيدة، معبرا عن كراهيته للنمل منذ بواكير أيامه، وفي المقابل يستعيد وصية والدته بالرأفة على النمل وسائر المخلوقات الضعيفة، وألا تأخذه القوة في ارتكاب أية ممارسات وحشية مؤذية تجاه الكائنات الضعيفة التي تتقاسم معه العيش على هذا الكوكب: «لا تؤذ الذرّ، واطلب من الله أن يمنحك ساقا بصيرة لا تهدم بناءً ولا تسحق روحا». النص في بعده الزمني ينطلق من لحظة استذكار حادة يستدعي فيها السارد تفاصيل حكاية غابرة، تمر وامضةً عبر مخيلته في ما يشبه أحداث فيلم سينمائي، فتتراءى له مواقفها وشخوصها، ليسافر النص بالقارئ وكأنه يعيش تلك الأحداث على أرض الواقع. إنها مجرد ذكريات عتيقة، ولكن النص يستدرجها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، كما جاء على لسان الراوي: «تتدفق الذكريات بيسر إلى الإنسان، بل تتربص به وتقتنص الفرص لتسلل إلى قلبه والنّيل من سكونه الهش».

وقد عملت القاصة آية السيابي على استنطاق السارد ببراعة متناهية، متجاوزة الكثير من التفاصيل الزائدة، وتختصر الزمن في تكثيف مدهش لسيرورة الحدث، حين تنقل المتلقي في المشهد الثاني إلى الراوي وهو في سن الفتوة مغادرا منزل أسرته، حيث تودعه أمه بالدعاء وتدس في جيبه علبة البسكويت المحببة له، التي تتكون أقراصها من حروف باللغة الإنجليزية، تلك الأقراص اللذيذة التي كانت تساعده على تعلم الحروف. وهكذا تبدأ الأحداث في الصعود وتبدأ خيوط النص بالبروز واحدا تلو الآخر، وتتشكل مسارات النص التي تدور حول دبيب النمل وآمال الأم وذاكرة البسكويت وهواجس الأحلام المؤجلة وأسئلة الرحيل والاغتراب.

القاصة لم تهمل عنصر المكان في القصة، إذ إن أهمية الفضاء المكاني تأتي «نظرا لما ينهض به من دور فاعل داخل القصة، ومدى اشتغاله بوصفه عنصرا بارزا لخلق دلالة النص، مسهما في إنتاج الدلالة، حيث هيمنته على مقاطع القصة». (2)

ولكن القاصة جعلت من المكان أفقا متخيلا مفتوحا، تماشيا مع النص الذي ينفتح على الفضاء الكوني الفسيح في دبيبه وسجاله مع عوامل البقاء والفناء والاغتراب. فثمة مكان للوداع، ومكان للتذكر، ومكان بعيد للوالدين اللذين رحلا في صمت ودون تلويحة وداع، ومكان للغريب الذي يستعيد كل تلك الوجوه والأمكنة الغائبة، وهو يقبع في المكان/ المنفى. ولكن المكان الواسع الذي تدور فيه أحداث القصة هو الذات المتحدثة، التي تستعيد كل تلك الوقائع عبر شاشة المخيلة.

لقد جعلت القاصة للمكان بعدا نفسيا أكثر منه واقعيا، وهذه إحدى أساليب السرد إذ « .. يتدرج المكان في كينونته من العالم المادي الواسع الممتد بفضاءاته المتباينة في المكان المفتوح/ اللامحدود، حتى يضيق من خلال عالم المكان المغلق/ المحدود، ويرجع ليمتد من خلال الفضاء النفسي السيكلوجي، ليكوّن عالما متمازجا من الصور والصراعات، وكأنه مزج غريب من عالم المادة المختزن على شكل صور وانفعالات غريبة توجهها مثيرات أغرب». (3)

وفي سياق هذا المزج بين الصور والصراعات التي تأخذ من نفس السارد مكانا لسيرورتها الدرامية، نجد السارد في طريقه من بيته إلى عالم الغربة والأحلام الوردية يأكل أقراص البسكويت التي أهدته إياها أمه، ولكنه يبقي القطعتين اللتين تحملان الحرفين الأولين من اسمي أمه وأبيه.. قلبه لا يطاوعه على قضمهما.. يحتفظ بهما كتميمتين مباركتين لمواجهة جيوش الغربة. وفي خضم هذا الغياب يتلقى السارد نبأ وفاة والديه، فيذهب ليلتمس قطعتي البسكويت اللتين تحملان الحرفين العزيزين، ليجدهما قد أصبحا هشيما أيضا، فقد التهمهما النمل.. النمل عدوه الأزلي منذ الطفولة. ها هو دبيب الزمن يقضي على والديه، ودبيب النمل يقضي على قرصي البسكويت العزيزين.

الملاحظ في النص أن الكاتبة لم تتوقف كثيرا عند حادثة موت الوالدين، ولم تورد الكثير من التفاصيل أو تتحدث كثيرا عن الألم الذي أصاب السارد. إن هذا أمر معروف بالضرورة، وليس بحاجة إلى مزيد من الحشور وعبارات الحزن التي لا تضيف إلى القيمة الفنية للنص، الذي هو في جوهره يجسد لحظة مشوشة يستعيد فيها السارد ذكريات قديمة تعبُر شريط مخيلته المنهكة والمثقلة بالحزن والغياب والخسارات والموت والفجائع. إن ثمة الكثير من الأشياء التي كانت تدور في ذهن الكاتبة وهي توثق تفاصيل هذا الحدث عبر نص قصصي موجز وخاطف. إنه ليس من الضرورة أن تقول كل شيء وتفصح عن كل ما يدور في مخيلتها عند كتابة النص. و«ليس مهما أن نعرف ما هي دلالات النص عند كاتبه، لأنها ليست ذات مسؤولية تحليلية، فالكاتب مبدع من حيث تناوله للغة وطرائق التلاعب بمؤشراتها الإبداعية، كما أننا لا نرى الكاتب هو مصدر النص ودلالته هنا، بل المتلقي هو المنشئ الذي يفكك طلاسم ومفردات اللغة التي صنعت هذا التكوين الأدبي من خلال الدوال». (4)

ويأتي المشهد الختامي للقصة كلوحة فنية تتداخل فيها الألوان والخطوط، لتتضح معالمها وتشف تفاصيلها وتتلاقى خيوطها في نسج عبقري للحبكة، حين تكشف لنا اللحظة التأملية الارتكازية لأحداث النص، إذ يظهر لنا السارد مطلا من نافذة غرفته في منفاه الاختياري، بعيدا عن وطنه، وهو يطل على شارع مكتظ بالضجيج ويشاهد «دبيب الحياة وصخب العالم». وتعود إلى مخيلته صورة «ذلك الفتى الذي وقف يودِّع أمه الحزينة أمام باب المنزل العتيق، هي تخفي دموعها ببسمة ثابتة، وهو يحمل حقيبة صغيرة تضم بعض حاجاته للسفر، ويحمل الكثير من الأحلام المؤجلة». ها هو يستلقي برأسه على المقعد آخذا نفسا عميقا كأنه زفرة مكلوم حزين، ويحتشد في رأسه «دبيب صاخب من الأفكار والمشاهد والذكريات، لا يقطعه سوى دبيب قطيع من النمل يعبر جدار الغرفة الساكنة»!

في هذه الموقعة الكونية الختامية يلتقي دبيب الحياة وضجيج الشارع، ودبيب المشاهد والأفكار والذكريات في المخيلة ودبيب خيط النمل زاحفا فوق جدار غرفة باذخة السكون، في مفارقة مدهشة تدمج بين الدبيب والسكون!

---------------------------

1 - مسعود، جبران، الرائد: معجم لغوي عصري، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1967م، ص 660.

2 - الشمري، د. شيمة بنت محمد، التعالي النصي في القصة القصيرة الخليجية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ص 313

3 - الفهدي، فوزية بنت سيف ـ المكان في القصة العمانية: الواقع والمتخيل، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط، الطبعة الأولى 2015م، ص 108

4 - حسن، د. فهد حسين، إيقاعات الذات: قراءة في السرد العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2002م، ص 17

حسن المطروشي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الکثیر من

إقرأ أيضاً:

معرض الكتاب يناقش رواية أحمد القرملاوي"الأحد عشر" .. صور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في إطار فعاليات الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، استضافت قاعة "فكر وإبداع"، ضمن محور "كاتب وكتاب"، ندوة ثقافية لمناقشة رواية "الأحد عشر"؛ للكاتب أحمد القرملاوي؛ شارك في المناقشة: محمد سمير ندا؛ ومنصورة عز الدين، وأدارها عمرو المعداوي.  

في البداية، أشاد  عمرو المعداوي بالكاتب وسرده، موضحًا أن الرواية تبدو كعمل هندسي منظم جدًا، وأن الكاتب دائمًا ما يقدم الجديد، معربًا عن سعادته بإدارة هذه الندوة.  

من جانبها، أوضحت الكاتبة منصورة عز الدين؛ أنها سعيدة بحضورها؛ ومناقشة الرواية، مضيفةً أنها دائمًا تُفاجأ بكتابات أحمد القرملاوي؛ وأن القرملاوي من الكتّاب الحاضرين بنصوصهم؛ وليس بحضورهم الشخصي، لأن النصوص هي الأساس، وأنه يترك البراح لنصه؛ كما أوضحت أنها وافقت على النقاش؛ قبل قراءة الرواية، لأنها تثق في أن الكاتب دائمًا ما يقدم الجديد، نظرًا لاهتمامه بالتراث الديني والأسطوري.  

وأضافت منصورة أن الرواية تداخلت فيها أجناس المسرح والرواية بجرأة كبيرة، لأن المسرح ليس مقروءًا بما يكفي؛ كما ذكرت أن الرواية تاريخية، ولكن ليست بالطريقة المعهودة، حيث تحتوي على نوع من الهجاء الساخر المتميز عن واقع المشهد الأدبي؛ وأن الرواية هي "قصة توراتية" بكل ما تحمله من معنى، وأن الكاتب رصد التنافس بين الأدباء والظواهر التي تضايقهم، واستطاع ربطها ببراعة؛ وأن الكاتب استخدم "التناص"؛ بنجاح في روايته، وتمكّن من جعل القارئ يرى الرواية من منظور مختلف؛ والرواية تتميز بأبعاد متعددة وأصوات مختلفة، بما في ذلك أصوات الهامش التي لم تُسمع من قبل؛ حيث إن عنوان الرواية يدل على "سيدنا يوسف"، الذي يُعد الشخصية المركزية في الرواية؛ رغم كونه شخصية مرجعية، وأن البطل الأساسي هو الذئب.  

وأوضحت أيضًا أن الكاتب نجح في اللعب بالمدلولات والقصة الأصلية، عندما قدّم وجهة نظر مضادة بجرأة كبيرة؛ وأكدت أن الذكاء في الرواية يتجلى في العلاقة بين المسرح والرواية، حيث استعان الكاتب بأجزاء من الكتابة المسرحية داخل النص الروائي؛ وأن الكاتب حرص على استخدام اللغة الفصحى، وأن الشخصيات كُتبت بإقناع وبراعة كبيرة؛ وأن المشهد الافتتاحي في الرواية يكاد يكون مشهدًا مسرحيًا رائعًا، رغم عدم رضا الكاتب عنه.  

من جهته، أوضح الكاتب محمد سمير ندا؛ أنه يتابع الكاتب منذ بداياته، مضيفًا أن القرملاوي يكتب بحرية ودون قيود، وهذه الرواية هي الأجرأ بين رواياته؛ وقال: " إن الرواية تطرح ما وراء الكلمة، وهناك نصًا خلف النص الظاهر في الرواية، حيث تتناول قصة أبناء يعقوب؛ كما أن اختيار الموضوع وجرأة الكاتب في تناول القصة الدينية والملحمية؛ هما ما يدفعان للتساؤل عن سبب كتابتها في هذا الوقت؛ كما أن الشق الواقعي في الرواية؛ لم يقدم أنموذجًا جيدًا أو إيجابيًا للواقع الثقافي".  

أما الكاتب أحمد القرملاوي، فقد رحب بالحضور، موضحًا أنه من الصعب على الكاتب أن يحدد مسبقًا توجيه الكتابة نحو موضوع معين؛ وأنه كان منشغلًا دائمًا بفكرة قصة سيدنا يوسف؛ والأفكار الموروثة عنه، مما دفعه لكتابة هذه الشخصيات لفهمها أكثر، مضيفًا أنه شعر أن الأبعاد النفسية التي حكمت "إخوة يعقوب" في تعاملهم مع أخيهم، هي ذاتها التي حكمت تكوين الشخصيات في الرواية؛ وأن إدخال الكتابة المسرحية في الرواية كان تجربة جديدة بالنسبة له، مشيرًا إلى أن الفكرة جاءت أثناء الكتابة، وخلقت طبقات من الصراع على مستوى الشخصيات والنصوص؛ كما أنه  أراد خلق تشابكات بين العالم المعاصر والعالم التاريخي والشخصيات التاريخية، واستشار بعض الأصدقاء قبل أن يستقر على دمج الكتابة المسرحية والروائية معًا.  

كما أوضح أنه أدرك الكتابة بالحس التاريخي والمعاصر، وأن معطيات النص فرضت نفسها على الشكل السردي؛  وأكد أن النص هو في جوهره رواية وليس مسرحية، لكنه استلهم قوانين السرد المسرحي، من حيث بناء الشخصيات والحوار؛ ولم يدّعِ أن روايته تتناول الوسط الثقافي، بل تضمنت فصولًا صغيرة عنه، لكنه ليس المحور الأساس، موضحًا أن الرواية تعكس إحدى طبقات الصراع، وتبرز ملامح الضعف البشري والتنافسية، مشيرًا إلى أن الحضارة الإنسانية قائمة على فكرة التنافسية؛ وقال أحمد القرملاوي:  "إن المسرح يُكتب ليُجسَّد على خشبته، بينما الرواية تقدّم الحياة بكل أشكالها؛ وأوضح أن روايته ليست نصًا تاريخيًا بالمعنى الكامل، بل نصًا فني فنيًا في المقام الأول، ومعالجته جاءت من خياله؛ وأكد أن مرجعيته الأخلاقية والفنية هي نفسه، وأنه يختار ما يناسب النص من السرد والشخصيات، وعلى القارئ أن يحكم على النص كما يشاء.

مقالات مشابهة

  • وحش الكون ومنى فاروق.. مشاهير واجهوا نفس الاتهامات| شاهد
  • معرض الكتاب يناقش رواية أحمد القرملاوي"الأحد عشر" .. صور
  • زراعة شمال سيناء تطلق حملة رش وقائي لحشرة النمل الأبيض
  • قرية آل ينفع.. بين عراقة المكان وجمال العمران وفنون العصر
  • «زراعة شمال سيناء» تطلق حملة لمكافحة النمل الأبيض في العريش
  • خروج عن النص!!
  • قضية وحش الكون: حكم بالسجن 3 سنوات واستئناف قادم
  • من حقها تستأنف.. ماذا بعد سجن وحش الكون 3 سنوات؟
  • بعد حبس منى فاروق.. مشاهير واجهوا نفس الاتهامات آخرهن وحش الكون
  • الفاضلي: شباب ليبيا ليسوا في المكان المناسب