واضح أنَّنا لا نتعلم من مآسينا، ونُكرِّر أخطاءنا مرارًا ثمَّ نتحسَّر على ما يؤول إليه حالنا، بل نُلدغ من نفس الجحر مرَّات ثمَّ نعود إليه غير عابئين. ما يفعله الاحتلال الصهيوني بالفلسطينيِّين في غزَّة والضفَّة الغربيَّة من قتل وتدمير هو عمليَّة إبادة جماعيَّة وتطهير عِرقي مكثَّفة أكثر ممَّا حدث قبل منتصف القرن الماضي تحت الانتداب البريطاني على فلسطين.
إنَّما الدرس الَّذي لَمْ نتعلمه هو المبالغة في قوَّة المقاومة، والتهليل لكُلِّ ردِّ فعلٍ بقدر إمكانيَّتها على دمويَّة الصهاينة غير المسبوقة. نعم، الاحتلال بجيشه العنصري ومستوطنيه الإرهابيِّين ليس بالقوَّة الَّتي يصوِّرونها، مهما امتلك من أسلحة نوويَّة وعتاد عسكري متطوِّر مدعوم من أميركا والغرب. لكن في النِّهاية ليست المقاومة جيشًا، وقدراتها محدودة مهما بلغت من تصنيع السِّلاح محليًّا. إنَّما هي تستمدُّ قوَّتها بالأساس من شباب فدائيِّين يؤمنون بحقِّهم في وطنهم على عكس جنود الاحتلال ومستوطنيه الَّذين يعرفون في خلفيَّة أذهانهم أنَّهم سارقون للأرض ويتصرفون كالمرتزقة. وبالتَّالي، لا يصحُّ التقليل من إجرام الاحتلال الصهيوني بالتهليل لإطلاق بضعة صواريخ بدائيَّة عَلَيْه أو مهاجمة آليَّة له وقتل وإصابة بضعة جنود. فالفلسطينيون تحت الاحتلال يعرفون وحشيَّة وهمجيَّة عدوهم، وهُمْ ليسوا بحاجة لحملات «توجيه معنوي» تبالغ في قدرات مقاومتهم.
مفهوم طبعًا أنَّه أمام حرق الأرض بما عَلَيْها وقتل عشرات الآلاف من النِّساء والأطفال يتعلَّق كُلُّ ذي ضمير وروح إنسانيَّة بقشَّة مقاومة من يقوم بكُلِّ ذلك الإرهاب. لكنَّ المبالغة في تصوير قدرات المقاومة إنَّما تخدم العدوَّ، الَّذي منذ بداية المجازر والمحارق يبيع للعالَم أنَّه يحارب «حركة حماس» الَّتي يُصنِّفها الغرب ـ وبعض العرب ـ إرهابيَّة. وذلك يُخفِّف بعض الضغط (الخفيف أصلًا) لارتكابه مجازر تفوق الفاشيَّة والنازيَّة. مع أنَّ المقاومة ليست فقط كتائب القسَّام وحماس، بل سرايا القدس وسرايا أبو علي وغيرها من شباب كافَّة الجماعات الفلسطينيَّة. نسينا درس أنَّه بعد حرب العقد بَيْنَ العراق وإيران بالغنا في قوَّة الجيش العراقي، وساعد إعلام الغرب المغرض في ذلك حتَّى كان ذلك تبريرًا (ولو مزيفًا) لتدمير العراق وغزوه واحتلاله وقتل وتشويه الملايين من أبنائه على يد الأميركيِّين والبريطانيِّين. كذلك الأمْرُ مع ليبيا، حين هلَّل البعض للتصريحات الناريَّة من قائدها الراحل حتَّى تكاتفَ الغرب كُلُّه ممثلًا في حلف النَّاتو على تدميرها وإشعال نيران الفتنة الَّتي ما زالت سارية فيها. نعم، من حقِّ المقاومة ومن حقِّ الفلسطينيِّين كُلِّهم الردُّ على مجازر الاحتلال الصهيوني المستمرَّة منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن. لكن في الوقت نَفْسِه ليس صحيحًا أن نقعَ في فخِّ المبالغة في الإنجاز كَيْ لا نصدمَ فيما بعد وننكشفَ على دمار كامل كما حدث للعراق وليبيا وغيرها.
ومن الملاحظات سريعة على خِطابنا الإعلامي، حتَّى لأنْفُسنا، وما ننشره على الإنترنت، أتصوَّر أنَّه من المُهمِّ الانتباه إلى الوقوع في فخِّ بعض المصطلحات والتعبيرات الَّتي أطلقها الصهاينة منذ بداية موجة المجازر الحاليَّة. أوَّلًا، هي ليست حربًا، فلا جيوش في فلسطين المحتلَّة، إنَّما عصابات إرهابيَّة صهيونيَّة ومقاومة للمحتلِّ من شباب يعتمدون على القدرة الذَّاتية وسلاحهم فدائيَّتهم لوطنهم أوَّلًا وأخيرًا. ثانيًا أنَّ مَنْ يقاوم ليست حماس وحْدَها، بل فصائل المقاومة الفلسطينيَّة كُلُّها. ومن الخطأ تحميل فصيل واحد، كما يريد الاحتلال وداعموه في الغرب والشَّرق، مسؤوليَّة ما يجري كأنَّ الإرهاب الصهيوني يحتاج تبريرًا. ألَّا نصدقَ ما يأتي من العدوِّ، حتَّى لو أيَّده العالَم كُلُّه وإعلامه بكُلِّ اللغات بما فيها العربيَّة. فالاحتلال أكثر كذبًا وتلفيقًا ممَّا فعله توني بلير لتبرير غزو العراق واحتلاله من كذب صريح اكتشف البريطانيون والعالَم فيما بعد أنَّه خدعهم بحقارة. وكُلُّنا نعرف أنَّ السِّياسيين عادةً يكذبون، لكن في ظروف الإرهاب والمجازر لا يتوانون عن الصفاقة والفُجر في الكذب والتلفيق. ولْنتذكَّر أنَّ الصهاينة، وداعميهم، لا يَعدُّوننا بشرا، بل حيوانات كما قال أحد إرهابيِّيهم الكبار (وزير دفاع الاحتلال الصهيوني الحالي). وإن كان وصف الفلسطينيِّين في تصريحه، إلَّا أنَّ هذا هو موقفهم الحقيقي من كُلِّ العرب.
من المبالغات المضادَّة الَّتي نقبل بها، بل ونروِّجها أحيانًا قوَّة الاحتلال الصهيوني وتأثيره المبالغ فيه. ولْنتذكَّر أنَّ الصهاينة لا يحكمون العالَم وليسوا أكثر ذكاءً وتقدُّمًا، إنَّما هي «إشاعة مُحقِّقة لذاتها» تفيدهم وداعميهم وتفتُّ من عضد من يَعدُّونه عدوًّا يبلع تلك الفرية. عدوان الاحتلال ومجازره بحقِّ الفلسطينيِّين مستمرَّة من قَبل 7 أكتوبر، ومتواصلة وتزيد وستستمرُّ حتَّى مع الهُدن. فمن المُهمِّ ألَّا نبالغَ كَيْ لا نصدمَ كما حدَث مع العراق وليبيا وغيرها.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الاحتلال الصهیونی
إقرأ أيضاً:
استشهاد أسير فلسطيني داخل سجون العدو الصهيوني وسط تصاعد جرائم الاحتلال بحق الأسرى
يمانيون../
أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، اليوم الاثنين، استشهاد الأسير خالد محمود قاسم عبد الله (40 عاماً) من مخيم جنين، داخل سجن “مجدو” في 23 فبراير الماضي، في جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة الانتهاكات الصهيونية المستمرة بحق الأسرى الفلسطينيين.
وأكدت الهيئة أن الأسير عبد الله كان معتقلًا إداريًا منذ 9 نوفمبر 2023، دون محاكمة أو توجيه أي تهم، مشيرة إلى أنه لم يكن يعاني من أي مشكلات صحية قبل اعتقاله، ما يثير شكوكًا قوية حول تعرضه للتعذيب أو الإهمال الطبي المتعمد.
وذكرت الهيئة أن الشهيد عبد الله، وهو أب لأربعة أطفال، ينضم إلى قائمة الشهداء الذين ارتقوا داخل سجون العدو منذ بدء حرب الإبادة، حيث ارتفع العدد إلى 61 شهيدًا من الأسرى والمعتقلين الذين تم توثيق هوياتهم، بينهم 40 أسيرًا على الأقل من غزة.
وأوضحت أن هذا العدد هو الأعلى تاريخيًا، مما يجعل هذه المرحلة الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة منذ عام 1967، حيث ارتفع إجمالي شهداء الحركة الأسيرة إلى 298 شهيدًا منذ ذلك الحين، إضافة إلى العشرات من الأسرى من غزة الذين لا تزال سلطات الاحتلال تتكتم على مصيرهم ضمن سياسة الإخفاء القسري.
كما ارتفع عدد جثامين الأسرى المحتجزة لدى العدو إلى 70، بينهم 59 منذ بدء العدوان، في انتهاك صارخ لكل القوانين الدولية والإنسانية.