د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

في إطار التحولات السريعة التي يشهدها العالم، بدأت الدول في توثيق علاقاتها مع بعضها البعض والارتقاء بهذه العلاقات إلى المستوى الإستراتيجي.. وفي السطور التالية، سنسعى لتسليط الضوء على أهمية الشراكات الإستراتيجية، وكنموذج سنتناول علاقة سلطنة عمان بجمهورية الصين الشعبية؛ في محاولة لاستكشاف كيف يمكن للسلطنة تعزيز وتوثيق العلاقات مع الصين والارتقاء بها إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية.

بداية.. لا بُد من القول إنَّ المقصود بالعلاقة الإستراتيجية بين دولتين أنها درجة متقدمة من التعاون والتكامل في مختلف الأبعاد: الاقتصادية والسياسية والأمنية، والعمل وفق إطار تعاون واضح المعالم ووفق خطة عمل متفق عليها في المديين المتوسط والطويل. كما تشمل الشراكة الإستراتيجية ترتيبات وتفاهمات للاستثمار، وإدارة وتقاسم عوائد مشاريع مشتركة تعود بالنفع على الطرفين أصحاب العلاقة. وهنا وجب التنويه إلى أن الشراكة الإستراتيجية لا تعني توحيد المواقف السياسية والأمنية والاقتصادية؛ فهناك تمايز بين المصالح العليا لكل طرف، وإنما تعني زيادة المساحات المشتركة بين الطرفين. ولا يخفى أنَّ وجود مثل هذه الشراكة بين دولتين يُوفر أرضية مؤسسية لزيادة التعاون والاستجابة للمتغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية لضمان تحقيق مكاسب مشتركة لأطراف الشراكة. ولضمان نجاح هذه الشراكة، من المهم فهم الشريك الإستراتيجي من الداخل من حيث ثقافته وتاريخه وأدوار الحكومة وشركات القطاع الخاص ومواقفه السياسية ومصالحه الاقتصادية وملفاته الأمنية؛ الأمر الذي لن يتأتى دون دراسة دقيقة تنفذها مراكز دراسات متخصصة، وهي مسألة ضرورية للغاية ندعو لها دائمًا.

وعندما نتحدَّث عن مسوغات ومبررات الشراكة الإستراتيجية للسلطنة مع الصين، فإنَّ أهم هذه المسوغات يرجع إلى أن الصين تحتل المرتبة الثانية بين أكبر اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني في العام 2021 ما يقرب من 7.94 تريليون دولار أمريكي، وهي أكبر مُصدِّر للسلع والبضائع المصنعة في العالم، وثاني أكبر مستورد للموارد الأولية، لاسيما النفط والغاز، كما تعد الصين أكبر سوق للتجارة الإلكترونية بمبيعات بلغت واحد تريليون دولار أمريكي في العام ٢٠٢١م، وهي تمتلك أكبر احتياطيات للعملة الصعبة تقدر بثلاثة تريليونات دولار أمريكي، وقد حققت أسرع معدل نمو في الثلاثة عقود المنصرمة بمتوسط نمو سنوي يتخطى 10%. فضلا عن ارتكاز الصين على كتلة سكانية عملاقة؛ إذ يصل سكان الصين إلى 1.4  مليار نسمة.

أمَّا على مستوى التبادل التجاري مع دول الخليج العربي، فقد وصل حجم هذا التبادل إلى أكثر من 200 مليار دولار أمريكي، ارتكزت هذه التبادلات من الجانب الصيني على استيراد النفط من دول الخليج. إذ تعد الصين ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم، وقد أسهمت سلطنة عُمان والسعودية والإمارات والكويت بما يعادل 32.5% من إجمالي واردات الصين من النفط الخام، كما أسهمت دولة قطر بحوالي 20% من إجمالي واردات الصين من الغاز الطبيعي من المسال. أما دول الخليج، فإنها تستورد من الصين البضائع والمنتجات الصينية، لاسيما الآلات والإلكترونيات والملابس.

وفيما يتعلق بالاستثمارات بين الطرفين الخليجي والصيني، فقد بلغت الاستثمار الصينية في الخليج ما يقارب الـ10.2 تريليون دولار أمريكي وهي تتركز إلى جانب سلطنة في دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة قطر.

وهكذا نستطيع القول نتيجة لكل ما تقدم أنَّ دول الخليج سعت لبناء شراكة إستراتيجية مع الصين، ففي العام 2014م وقعت دولة قطر شراكة إستراتيجية مع الصين، وقد بلغ حجم التجارة بينهما ٢٦ مليار دولار في عام ٢٠٢٢م. وفي العام ٢٠١٦م، وقعت المملكة العربية السعودية شراكة إستراتيجية مع الصين وبلغ حجم التجارة بينهما 108 مليارات دولار في عام ٢٠٢٢م، ، وفي العام ٢٠١٨م وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة هي الأخرى شراكة إستراتيجية مع الصين، وبلغ حجم التجارة بينهما ٩٩ مليار دولار في العام ٢٠٢٢م، كما أن الكويت وقعت في العام ٢٠١٨م مع الصين شراكة إستراتيجية وبلغ حجم التجارة بينهما ٩٩ مليار دولار في العام ٢٠٢٢م.

أمَّا فيما يتعلق بعلاقات السلطنة مع الصين، فنستطيع القول إنه وبالرغم من العلاقة الضاربة في عمق التاريخ بين الدولتين؛ إذ إنَّ التجار العمانيين كان لهم تواجد في الصين منذ أكثر من 1200 سنة، حيث يوجد في مدينة جوانزو نصب تذكاري للسفينة صحار التي زارت ميناء كانتون قبل أكثر من 1200 سنة ضمن أسطول تجاري ضخم، كذلك فإنَّ أول سفينة صينية وصلت إلى الشواطئ العمانية كانت قبل ٦٠٠ سنة.  وتم بناء نصب تذكاري للملاح الصيني "تشنغ خه" في مدينة صلالة الجميلة. كما أقام الجانبان علاقاتهما الدبلوماسية على مستوى السفراء منذ عام 1978،  إلا أن العلاقات ما بين الدولتين لا تزال دون مستوى الطموح إذا ما قيست بعلاقات الصين مع باقي دول الخليج العربي.

والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف للسلطنة أن تُعظِّم الاستفادة من هذا الإرث الحضاري والموقع الجغرافي المتميز للوصول في علاقاتها مع الصين إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الفعلية؛ بما يسهم في الاستفادة من التجربة الصينية في تنويع الاقتصاد العماني وزيادة الإنتاج وتنشيط التصنيع المحلي؟

وللإجابة عن السؤال أعلاه، لابد أولا أن نقول إنَّ حجم التبادل التجاري بين الصين وسلطنة عُمان قد بلغ ما يقرب من 40.45 مليار دولار أمريكي في العام ٢٠٢٢م، وأن سلطنة عمان تصدر معظم إنتاجها من النفط الخام إلى الصين منذ سنوات، وتعد سلطنة عُمان رابع أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي. وحقق التعاون الاقتصادي والتجاري فوائد كبيرة للبلدين. ولكن بالرغم من كل ذلك، فإنَّ الاستثمارات الصينية في السلطنة لا تزال ضعيفة ودون مستوى الطموح.

وهناك العديد من المسوغات التي تدعم التقارب الصيني العماني، نذكر منها ما يلي:

أولاً: رؤية "عُمان 2040" تنادي وترتكز على التنويع الاقتصادي وتوسيع القاعدة الإنتاجية، وهو ما نجحت الصين فيه بكفاءة؛ وبالتالي يُمثل درسا يمكن الاستفادة منه في هذا الشأن.

ثانياً: التغيرات الجيوسياسية في العالم، وتراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج؛ مما يفرض على دول الخليج ومنها عمان ضرورة البحث عن شركاء جدد لإيجاد توازنات جديدة في المنطقة.

ثالثا: الموقع الإستراتيجي لسلطنة عمان الذي يمثل همزة وصل للتجارة بين آسيا وأوروبا، ويمكن أن تكون السلطنة معه مركزا لانطلاق التجارة الصينية إلى العالم.

رابعا: تمثل السلطنة المصدر الأهم للطاقة، لاسيما النفط بالنسبة للصين.

خامساً: اعتبارات اقتصادية؛ حيث إنَّ السلطنة تمثل أرضية خصبة لمشاريع البنى الأساسية الكبرى الصينية، ومراكز التصنيع في السلطنة إلى العالم.

وفي محاولة لاستشراف مستقبل الشراكة ما بين عُمان والصين في عالم مضطرب، في إطار محاولة الصين كسر الأحادية القطبية بأسلوب ناعم (تغيير معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط)، واحتياجاتها المتزايدة من الطاقة؛ فإنَّ العلاقات العمانية-الصينية مُرشَّحة لمزيد من التطور والتعاون قد تصل حدَّ الشراكة الإستراتيجية الفعلية والاعتماد المتبادل بين الدولتين.

وفي الختام.. يُمكننا القول إنَّ تحقيق المزيد من التقارب والتعاون والشراكة بين السلطنة والصين، يفرض علينا ضرورة دراسة السوق الصيني بشكل أعمق ومعرفة احتياجاته وما يُمكن تلبيته من قبل السلطنة، كذلك التعامل مع تحدي اللغة، ونذكر هنا ضرورة بدء تدريس اللغة الصينية في عُمان، كما هي الحال مع التجربة الإماراتية والسعودية في هذا الشأن، من أجل تحقيق مزيد من الفهم والتواصل مع الفئات المستهدفة في الجمهورية الصينية، ومن الأهمية وضع ترتيبات لإرسال أعداد مناسبة من الطلبة العمانيين لغرض الدراسة والتدريب في الصين، وكذلك ضرورة تسريع المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، لتحقيق مكاسب مشتركة، خاصة وأن دول المجلس أقرت الدخول في مفاوضات لإقامة منطقة تجارة حرة بين دول المجلس وجمهورية الصين الشعبية منذ ديسمبر عام 2003م، لكنها لم تتقدم بالوتيرة المناسبة. وتمثل القمَّة الأولى التي عُقدت في المملكة العربية السعودية في ديسمبر 2022، محطة مهمة في تطوير العلاقات.

واليوم نقول.. لقد باتت الظروف الجيوسياسية تدعم هذا التقارب، إيماناً بأن خارطة العالم تتغير على المستوى السياسي والاقتصادي عبر إقامة مشاريع اقتصادية ضخمة بين الطرفين وتحمل أبعادًا سياسية وأمنية واقتصادية. وعلاوة على ما تقدَّم، نعتقد أنه من الضروري العمل على الاستفادة من الاستثمارات الصينية في سلطنة عمان، لا سيما ما يتعلق منها بنقل التكنولوجيا والخبرة والمعرفة إلى الشركات العمانية؛ حيث تشير الوقائع إلى تحدٍّ كبير في نقل المعرفة والتكنولوجيا، وإمكانية استفادة الاقتصاد العماني من الاستثمارات الصينية في هذا الشأن.

وثمَّة آفاق واسعة من التعاون بين الصين والسلطنة تتطلب مواءمة التوجهات الإستراتيجية لرؤية "عُمان 2040"، والتي تنادي بمزيد من التعاون والاندماج الدولي، وتمكين القطاع الخاص، لإيجاد قواعد إنتاجية في مختلف القطاعات والتحول النوعي وتعزيز استخدام التكنولوجيا وسبر أغوار قطاعات التعدين والطاقة المتجددة، والتي تستطيع الصين مساعدة السلطنة فيها بكفاءة عالية.

وكما بدأنا، نختم بالقول، إننا في عالم متسارع التغيير، يفرض على السلطنة توظيف مكامن قوتها وعلاقاتها الدولية المتميزة مع دول العالم المختلفة والارتقاء بها لمستوى الشراكة الإستراتيجية لصناعة المستقبل المنشود؛ وبما يمكِّن من تعظيم الاستفادة وتوظيف الموارد الطبيعية والبشرية والموقع الجغرافي والإرث الحضاري والتاريخي، وبما ينعكس على رفع مستوى معيشة المواطن وتوليد فرص الأعمال وزيادة الدخول وتحقيق الاستدامة المالية.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أفريقيا ساحة تنافس عالمي متزايد على المعادن الإستراتيجية

تضاعف حجم سوق المعادن الإستراتيجية العالمي على مدى السنوات الماضية، ليصل عام 2022 إلى 320 مليار دولار، ومن المتوقع أن يزداد الطلب عليها بأكثر من الضعف بحلول عام 2030 ثم 4 أضعاف بحلول عام 2050، مع إيرادات سنوية تصل إلى 400 مليار دولار، وفق وكالة الطاقة الدولية.

وفي ظل هذا الطلب العالمي المتزايد، ارتفع أيضا حجم الاستثمار في تطوير هذه المعادن بنسبة 20% عام 2021، و30% عام 2022، مع هيمنة صينية واضحة تهدد الدول الغربية جيوسياسيا وأمنيا، وقد تنذر باحتدام المنافسة بينهما، خصوصا في ساحة القارة الأفريقية للبحث عن المعادن الإستراتيجية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2السلام البارد أو التصعيد العسكري.. إلى أين تسير علاقات مصر وإسرائيل؟list 2 of 2سوريا ولبنان.. من الجوار الصعب إلى التعاونend of list

ولتحديد مكانة أفريقيا في خضم هذا الصراع، نشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان "أفريقيا وسط ديناميكيات الصراع الدولي حول المعادن الإستراتيجية" ناقش خلالها الباحث مصطفى جالي مكانة أفريقيا في سوق المعادن الحرجة، وإستراتيجيات القوى المتصارعة وتفاعلاتها وأبعادها الجيوسياسية.

أفريقيا تزخر بنحو 30% من احتياطيات المعادن الحرجة في العالم (الأناضول) أفريقيا في سوق المعادن العالمية

تعرف المعادن الإستراتيجية (أو الحرجة) بوصفها مجموعة من المصادر الأساسية للطاقة والتحول الرقمي والأمن القومي، ويتم تقييم أهميتها من حيث طبيعتها الأساسية للصناعات التي تعتبرها الدولة إستراتيجية، ومنها الدفاع، والفضاء، والإلكترونيات، وتوليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وصناعة السيارات، وغيرها، بالإضافة إلى المخاطر التي تتعرض لها سلاسل التوريد.

وتزخر أفريقيا بنحو 30% من احتياطيات المعادن الحرجة في العالم، وتستأثر الكونغو الديمقراطية وحدها بحوالي 47% من احتياطي الكوبالت في العالم و15% من احتياطي العناصر الأرضية النادرة. أما جنوب أفريقيا فتحتفظ بـ80% من الكروم و85% من المنغنيز و80% من البلاتين، إلى جانب الغابون وزيمبابوي، بالإضافة إلى معادن أخرى مثل الليثيوم والنحاس والغرافيت موزعة على دول مثل مدغشقر وزامبيا وتنزانيا.

وتفسر هذه الإحصاءات سبب تصنيف أفريقيا كثالث أكبر وجهة للاستثمار في التعدين العالمي بعد أميركا اللاتينية وكندا، بالرغم من ميزانية الاستكشاف والاستثمارات الجديدة المنخفضة نسبيا، إذ استقبلت أفريقيا نحو 13.9% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مجال التعدين بين عامي 2018 و2022، بمبلغ تراكمي بلغ قدره 77 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر، وخصصت 4.7 مليارات منه للاستكشاف والتنقيب، وهو ما يساوي ثلث المبلغ المخصص للغرض ذاته في أميركا اللاتينية.

أفريقيا تأمل أن تستفيد من طفرة استخراج المعادن الحرجة لتعزيز دورها في سلاسل القيمة العالمية (الأناضول) ميدان مزدحم

وتدل الأرقام السابقة على أن أفريقيا لم تكن وجهة جذابة للغاية في مجال استخراج المعادن الحرجة، لكن مع تسارع التحول الطاقي والرقمي نمت حاجة العالم إلى المعادن الحرجة بشكل كبير، وتأمل أفريقيا أن تستفيد من هذه الطفرة لتعزيز دورها في سلاسل القيمة العالمية.

إعلان

ولطالما عُدّت كل من المملكة المتحدة وكندا وأستراليا "أبطالا" في قطاع المعادن الأفريقي، لكن هذه الدول تواجه منافسة متزايدة على الساحة الأفريقية من طرف لاعبين جدد.

ويمكن النظر إلى التاريخ في أفريقيا لمعرفة القوى الاستعمارية في مجال استخراج المعادن الحرجة، رغم تراجع مكانتها بعد الاستقلال، لكن شركات مثل "أنغلو أميركان" البريطانية و"فيرست كوانتوم" الكندية لا تزال تهيمنان على ما يقرب من ربع الإنتاج، وفق إحصائيات عام 2018.

وبينما تستفيد المملكة المتحدة من علاقاتها داخل الكومنولث ووجودها طويل الأمد في قطاع التعدين، وجد الاتحاد الأوروبي أن اعتماده على الصين يقوّض تحوله في مجال الطاقة الأوسع، وبدأ منذ عام 2022 في تعزيز شراكاته مع عدد من الدول الأفريقية عبر مبادرة "البوابة العالمية".

وسارعت الولايات المتحدة بتوقيع مذكرات تفاهم بشأن دعم تطوير سلسلة قيمة في قطاع بطاريات السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى المبادرات المتعددة الأطراف مثل شراكات أمن المعادن ومبادرة حوكمة موارد الطاقة.

ويمكن تفسير حالة الاندفاع هذه بظهور ما يعرف بالجهات الفاعلة الناشئة، حيث تمكنت روسيا والصين والبرازيل والهند من ربط علاقات شراكة جديدة مع دول القارة الأفريقية بين عامي 2003 و2008، وذلك في إطار منافسة القوى الصناعية التقليدية على موارد القارة.

وفي إطار سعي بكين للتخفيف من مخاطر اضطراب سلاسل التوريد، سعت إلى توسيع وتعزيز شبكتها الواسعة من العلاقات الدبلوماسية لتعزيز التعاون في قطاع المعادن، ولا سيما مع الدول الأفريقية التي ترتبط معها بـ19 شراكة معدنية، تغطي مناطق في جميع أنحاء القارة، في إطار ما يسمى اتفاقيات "البنية التحتية مقابل الموارد".

ويمكن القول إن موسكو ونيودلهي بدأتا مبكرا في التوجه نحو أفريقيا، فقد أبرمت روسيا اتفاقيات ثنائية مع العديد من البلدان الأفريقية منذ عام 1999، بينما أبرمت الهند 9 شراكات مع دول تنتمي بالأساس إلى الكومنولث منذ عام 1997، ولم تتوقف مساعي توسيع تلك الشراكات حتى الآن.

ولا يمكن إغفال وجود كل من كوريا الجنوبية واليابان وإندونيسيا وتركيا والسعودية والإمارات، وهو ما يقود لاستنتاج أن اللاعبين أصبحوا كثرا، بما في ذلك الأفارقة منهم.

إعلان

وتبرز جنوب أفريقيا كأهم فاعل في إنتاج المعادن الأفريقية، ولديها عدد كبير من الشركات النشطة للغاية ويمكن مقارنتها في الحجم بأكبر المستثمرين على الأراضي الأفريقية.

ويعمل المغرب على تطوير إستراتيجية أفريقية طموحة من خلال شركات وطنية رائدة في قطاع التعدين، تمكن بعضها من الاستحواذ على شركة "سيمافو" الكندية عام 1997، وهي تدير نحو 15 منجما لإنتاج النحاس والزنك والرصاص والذهب والفضة والكوبالت وغيرها، في 8 دول أفريقية.

ساحة صراع دولي

يضيف عدم الاستقرار المتفشي في أفريقيا مزيدا من التعقيد في الصراع الجيوسياسي على المعادن الحرجة، خاصة مع وجود لاعبين مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وغيرها، وبالأخص عند وجود رئيس مثل دونالد ترامب يرغب في الاستحواذ على كندا وغرينلاند وإبرام صفقة معادن مع أوكرانيا.

ويمكن القول إن الولايات المتحدة بدأت تدرك الطبيعة الإستراتيجية للمعادن المنتجة في أفريقيا وأعلنت نيتها تعزيز وجودها في هذا القطاع. وقد حاول بعض الأفارقة استغلال هذه الزاوية، إذ عرضت الكونغو الديمقراطية على واشنطن إمكانية الوصول لمواردها مقابل تقديم المساعدة في تحقيق الأمن والاستقرار، كما أبدت الجزائر استعدادها لعقد شراكة توفر بموجبها الموارد المعدنية المطلوبة عالميا.

وتلعب الصين دورا مهما في دفع الولايات المتحدة إلى البحث عن الموارد الطبيعية، فقد بذلت بكين جهودا كبيرة على مدار سنوات لتطوير هيمنتها العالمية في استخراج المعادن الحيوية، وتعد اليوم أكبر منتج لـ29 معدنا حيويا. في الوقت الذي تضطر فيه واشنطن إلى استيراد كميات كبيرة، وتعتمد بنسبة 100% على الواردات في 14 معدنا في قائمة المعادن الحرجة، وأكثر من 75% في 10 معادن أخرى.

وتعد الصين اليوم أكبر لاعب في قطاع التعدين الأفريقي، باستثمارها نحو 10 مليارات دولار عام 2022 وحده، وذلك لاستيراد المعادن الأرضية النادرة من القارة، وهي أيضا أكبر مصفاة للنيكل والنحاس والليثيوم والكوبالت.

إعلان

وفي إطار المنافسة الشديدة بينهما، أصبح البحث عن المعادن ضرورة بالغة الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة مع تلويح الصين بالمعادن بوصفها سلاحا لفرض قيود على تصدير مجموعة من المعادن الخام أو حتى حظر تصديرها.

وقد حاول الرئيس الأميركي السابق جو بايدن الاستثمار وتعميق الشراكات المعدنية عبر توقيع مذكرات التفاهم وبناء مصانع تكرير بطاريات النيكل، إلا أن حضور الولايات المتحدة لا يزال ضعيفا، مقارنة بسياسة "التوجه للخارج" التي تقودها الصين منذ العقد الأول من القرن الـ21.

ورغم إدراك العالم الغربي لخطورة سيطرة الصين على المعادن الأفريقية، فإن الدخول في المنافسة لا يعد أمرا سهلا، خاصة مع دخول روسيا إلى الساحة بتقديم خبراتها في مجال التعدين وخدمات أخرى، بما فيها الخدمات الأمنية التي يقدمها "فيلق أفريقيا" الذي يوفر لها نفوذا خاصة متفوقا على الصين والولايات المتحدة.

مليشيات وجماعات متمردة تسيطر على المناجم لتمويل أنشطتها (الفرنسية) فرص وتحديات أمام أفريقيا

وفي حين ترغب العديد من الحكومات الأفريقية في مشاركة غربية أكبر، فإنها لا تبدو في عجلة من أمرها للتخلي عن الصين وروسيا، إذ يتبين الحرص على زيادة المنافسة حتى تتاح الفرصة لعقد صفقات أفضل.

ويمكن تلخيص الفرص والتحديات أمام أفريقيا في نقطتين:

تستفيد القارة الأفريقية من الصراعات الجيوسياسية لتحفيز الطلب على معادنها الحيوية وزيادة عائدات التصدير، وجذب عائدات التصدير وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية وفرص الشغل، والسماح بمفاوضات متوازنة. تتمثل التحديات التي تواجه القارة في التفاوت العالمي بين المخزون والعائدات، فبينما تحتوي على نحو 30% من احتياطات المعادن الحرجة عالميا، تحصل على 10% فقط من الإيرادات الناتجة عنها، وذلك يعود لاعتمادها على التصدير الخام دون إضافة قيمة صناعية. ولعل زيادة شدة المنافسة المؤدية لارتفاع الأسعار يتسبب في توسع النزاعات، بسبب سيطرة جماعات متمردة ومليشيات على مناجم المعادن لتمويل أنشطتها. إعلان

ويمكن للصراع حول المعادن الحرجة في أفريقيا أن يمثل تجسيدا مصغرا للتوترات الجيوسياسية والاقتصادية المعاصرة، التي يحتفظ فيها اللاعبون الغربيون بنفوذهم من خلال خبراتهم واستثماراتهم، وتعيد الدول الناشئة رسم خريطة الشراكات العالمية. وفي خضم ذلك تواجه القارة الأفريقية تحدي تحويل "معضلة الموارد" إلى فرص هيكلية تؤدي لوضع أفريقيا في مكانة متقدمة بالاقتصاد العالمي.

[يمكنكم قراءة الورقة التحليلية كاملة عبر هذا الرابط]

مقالات مشابهة

  • كوارث منتظرة والتصعيد مفتوح على كل الاحتمالات معركة عض الأصابع بين ترامب والصين.. من يصرخ أولا؟
  • عمدة مونبلييه يحل بالداخلة في إطار تعزيز الشراكة الفرنسية المغربية ودعم مغربية الصحراء
  • منصة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي بين مصر والصين بتعاون الأكاديمية العربية بالإسكندرية وجامعة فودان الصينية
  • “النسر والتنين”.. لماذا تقلق إسرائيل من تدريبات مصر والصين الجوية؟
  • نيجيرفان بارزاني: نريد تعزيز علاقات الشراكة والتعاون بين أربيل وروما
  • أفريقيا ساحة تنافس عالمي متزايد على المعادن الإستراتيجية
  • الذهب ينتعش بدعم إقبال على الشراء رغم الآمال في اتفاق تجاري بين أمريكا والصين
  • وزير الكهرباء يبحث مع شركة ستيت جريد الصينية تعزيز الشراكة في الطاقة المتجددة
  • سفير الصين: زيادة حجم التبادل التجاري مع مصر لـ 17.4 مليار دولار
  • وزير الكهرباء يبحث مع مسؤولي ‏State Grid الصينية سبل تعزيز الشراكة