mohkh69@gmail.com
دار مساليت أو ولاية غرب دارفور وفق التقسيم الأخير للسودان. تسكنها قبيلة المساليت العريقة، ومعها قبائل أخرى، تتمايز في قبائل القِمِر والتاما والسنجار والفور والبرقو والداجو والبرنو والعرب على سبيل المثال لا الحصر. تتمازج كل تلك القبائل وتتزاوج، وتتصاهر متداخلةً في بعضها بعضا. حتى دخلت بعضها كبطنٍ أصيلٍ في النسيج الداخلي للمساليت.
وقد مرت دارمساليت في تاريخها الحديث بمنعطفاتٍ فارقة. إذ اجتاح الاستعمار الفرنسي إفريقيا من الغرب ومن الشمال الغربي. فاحتل تونس والجزائر والمغرب. ودلف على السنغال وساحل العاج وأفريقيا الوسطى في العمق، وتشاد التي قضى فيها على مملكة البرقو أوالودّاي الإسلامية العظيمة. ثم أرسل الفرنسيون رسلهم إلى سلطنة المساليت المتاخمة للتسليم أوالحرب. وكان يحكمها السلطان البطل محمد تاج الدين، الذي تجاهله التاريخ السوداني، فجهلت به أجيالٌ من أبناء السودان. رد عليهم السلطان بأنه لن يسلم بلده للعدو، وأنه سيحارب من أجله لآخر قطرةٍ من الدم.
وقعت المعركة الأولى في كرندينق سنة ١٩١٠م، بين الجيش الفرنسي الحديث، المدجج بآخر ما أنتجته مصانع أوربا من السلاح الفتاك، وجيش المساليت الذين يحملون السيوف والحراب والسفاريك وبعض البنادق القديمة، ويتسلحون بالإيمان والشجاعة وحب الوطن. فكانت المفاجأة الصادمة للعدو، هزيمةً نكراء مدويةً، ترجعت أصداؤها في أركان الدنيا كلها. وترنحت لها حكومة الجمهورية الفرنسية في باريس، ووثقتها دوائر الصحافة العالمية وقتها. فكانت فضيحةً مجلجلةً في حق فرنسا العظمى، أن تُهزم جيوشها المرعبة أمام قبيلةٍ مغمورةٍ في أحراش إفريقيا. وأن يقتل قائدها المظفر الكابتن مول.
أزمعت حكومة الجمهورية في نفس العام أكتوبر ١٩١٠م، الانتقام لهزيمتها وإنقاذ سمعتها السياسية، وهي على أعتاب الانتخابات. فعبّأت جيشاً جراراً حشدت فيه خيرة مقاتليها، لاسيما من المستعمرات. وانتدبت واحداً من أشرس قادتها، ومن رتبةٍ أرفع، هو الكولونيل فلقنشو، ليؤدب المساليت، ويجعلهم عبرةً لغيرهم. فتنادت دارمساليت قيادةً وقبائل. وأعدت ما استطاعت من عتاد مع ما غنمته من معركة كرندينق من ذخائر وأسلحة. فالتفت الزمان ليشهد واحدةً من أكبر المعارك، وأكثرها ضراوةً دماً. هناك على سهول دروتي الممتدة، حيث أبيد الجيش الفرنسي على آخره، وضع السلطان محمد تاج الدين وجنوده أرواحهم فداءً للوطن. وسالت الدماء غاسلةً الأرض. وارتفعت الأرواح مهراً له رخيص. وكان بين تلك الأرواح روح أعظم سلاطين أفريقيا قاطبة، السلطان البطل محمد تاج الدين، وقد صور ذلك الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري، في قصيدته الخالدة: (مقتل السلطان تاج الدين) ومنها:
وكان هنالك بحرالدين
وأشار إلينا تاج الدين
وأطل بعينيه كالحالم
في قلب السهل الممتدْ
ثم تنهدْ:
هذا زمن الشدة يا إخواني
هذا زمن الأحزانِ
سيموت كثير منا
وستشهد هذي الوديان
حزناً لم تشهده من قبل
ولا من بعد ...
واقتنع الفرنسيون بألا سبيل لدارمساليت بقوة السلاح. فكانت اتفاقية: قُلاني في سبتمبر ١٩١٩م، وتعني بلغة المساليت (لن تستطيع أخذه بالقوة). وبها أصبح لدارمساليت حق الاستقلال كدولةٍ مستقلةٍ، أوالانضمام للسودان، أوالانضمام لتشاد، فاختارت الانضمام للسودان طوعاً واختيارا. وبذلك أضافت إليه آلاف الكيلومترات من الأراضي الخصبة ظهرا، والمليئة بالثروات بطنا. هذا إلى كتلةٍ بشريةٍ ضخمةٍ ذات تنوعٍ ثقافيٍ ثر.
ولكن هل انتهت الأحزان في دارمساليت !!؟
كرندينق التي كانت تغتسل بدماء الشهداء من أبطال دار مساليت وشهدائها، أصبحت تسيل فيها الدماء هدراً، بقتل الأبرياء من العزّل والنساء والأطفال. وتغتصب فيها الأبكار، ويدفن فيها أحياءً أحفاد السلطان تاج الدين. شبابٌ في عمر الزهور ، في ظاهرةٍ شاذة، لم تشهدها البشرية حتى في عهود البرابرة من التتر والنازيين والصرب.
يحدث ذلك تحت سمع وبصر حكومة السودان منذ الديمقراطية الثالثة أواخر الثمانينيات. ثم بلغ القتل والتشريد والإذلال أوجه في عهد الإنقاذ في ٢٠٠٣م، وبتعتيم إعلاميٍ مقصود. ثم يتكرر ذلك مراتٍ ومرات. ولولا ثورة الميديا في السنوات الأخيرة لمضت جرائم دارمساليت كالعهد بسابقاتها. وهي فظائع ارتقت إلى أبشع توصيفات الجرائم الجنائية الدولية، من قتلٍ واغتصابٍ وتطهيرٍ عرقيٍ وتهجيرٍ وإبادةٍ جماعية. ويلاحظ أن الجرائم في دارمساليت تعود كل مرةٍ أكثر بشاعةً وضراوةً من سابقاتها. وهي تُرتكب بذات الأيدي والأدوات.
والآن، فإن العقل الذي صنع آلة القتل لإبادة أهل دارمساليت يعود بوسائل ناعمة، لا يُأبه لها، وهي أكثر خطراً من الجرائم المباشرة المرصودة بقوالب القانون وكاميرات الميديا. ومنها أدوات بث الشكوك والريب في النفوس. والتي توعز بالخيانة، وتنتهي بالكراهية والتآمر. فتباعد بين القريبين، وتفرق المتلاقين. نذكر منها : الحديث حول اتفاقية قُلاني سالفة الذكر بين سلطنة دارمساليت والفرنسيين، بما يوحي أن المساليت يعملون على الانفصال عن السودان. ثم ظهر في الوسائط الإعلامية والميديا علمٌ ذوثلاثة ألوانٍ على أنه علم (دولة دار مساليت) المرتقبة.
والسؤال هو:
من الذي صمم علم دار مساليت المزعوم هذا !؟.
ومن الذي نشره!؟.
يقيني أن البعض يستعمل هذا العلم بكل براءةٍ وجهل!! ... ولا عزاء لأولئك.
ولكنني أكثر إيقاناً أن هناك من ينشره بقصدٍ مع سبق الإصرار، وهو يدرك ما يفعل.
وهناك من يرصد كل ذلك، ويسر له... ويبتسم لسريان السم الزعاف الذي دسه!!!.
واعتقد باطمئنان أن ذلك العَلَم خرج من ذات الأضابير التي انهالت منها المصائب على دارمساليت.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: دار مسالیت تاج الدین
إقرأ أيضاً:
قراءة في أبعاد ودلالات الزيارة السلطانية
لا يمكن قراءة الزيارة السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- أمس إلى مدرسة السلطان فيصل بن تركي للبنين بولاية العامرات بمحافظة مسقط في معزل عن مشروع بناء الدولة الذي ينتهجه جلالته، أعزه الله، والذي يأتي التعليم في أولى أولوياته باعتباره المحرك الأساسي والمعوّل عليه لأي انتقال حقيقي من طور بنائي إلى طور آخر؛ خاصة وأن عصرنا هذا هو عصر الثورة التكنولوجية التي يحركها الذكاء الاصطناعي الذي ما زال العالم يحاول تصور مقدار تقدمه رغم أنه في عتباته الأولى.
وما زلنا نتذكر خطاب جلالة السلطان في شهر فبراير من عام 2020 والذي يمكن اعتباره «العقيدة السياسية» للمشروع التحديثي لصاحب الجلالة والذي تحدث فيه جلالته عن التعليم بشكل واضح جدا حيث قال: «إن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة». تحدث جلالته في ذلك الخطاب عن «البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار»، و«أسباب التمكين»، وربط جلالته بين كل ذلك وبين «متطلبات المرحلة المقبلة» التي لا تستقيم دون تعليم ودون تمكين ودون وبيئة محفزة.
ومن الواضح أن مدرسة السلطان فيصل بن تركي التي زارها جلالة السلطان أمس هي أحد النماذج التعليمية التي يتطلع لها سلطان البلاد والتي تتيح للطلاب في هذه المرحلة المبكرة من مسارهم التعليم من وضع أقدامه على العتبات الأولى من البيئة الداعمة للابتكار والبحث، حيث تضم المدرسة أحدث التقنيات والمختبرات التي يحتاجها التعليم الحديث.
وأكد جلالة السلطان المعظم خلال حديثه في المدرسة على أهمية الانتقال بالتعليم من التعليم التقليدي إلى التعليم الحديث، على أن التعليم التقليدي الذي تحدث عنه جلالة القائد ليس التعليم التقليدي الذي كنا نتحدث عنه قبل عقدين من الزمن، حيث تحول التعليم الذي كان حديثا في مطلع الألفية الجديدة إلى تعليم تقليدي في هذا الوقت وما نعتقده قمة في الحداثة اليوم سيكون بعد أقل من عقد واحد تعليما تقليديا وهذا أمر مفهوم في ظل التسارع التكنولوجي والمعرفي الذي يعيشه العالم.
إن وعي حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم التقدمي بأهمية تطوير التعليم ليتواكب مع معطيات العصر وتقنياته مهمة جدا خاصة وأنها تأتي ضمن رؤية استراتيجية أعم وأشمل لتطوير عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة في مختلف المؤشرات.
لكن رؤية جلالة القائد، أيضا لا تقف بالتعليم عند حدود التقنيات الحديثة والثورة التكنولوجية، على أهميتها، ولكنه، أعزه الله، يربط بين هذا التقدم وبين التمسك بالقيم والأخلاق الرفيعة المستمدة من الدين الإسلامي والتي تعلي من مكانة الأخلاق وبناء الهوية الوطنية.
ومعنى التعليم، في فلسفة جلالة السلطان وفكره، هو الذين يمزج بين المعارف الحديثة وبين البحث والابتكار ولكن دون الانسلاخ من القيم والمبادئ ومن الهوية الوطنية وهذه الرؤية تتجاوز التعليم بوصفه بناء معرفيا إلى التعليم بوصفه بناء أخلاقيا وحضاريا وهذا هو الأبقى والأدوم للبشرية.
إن المرحلة القادمة من شأنها في ظل هذا التوجه وهذا الفكر السلطاني أن تشهد تطورا كبيرا في مسارات التعليم واهتماما لا رجعة فيه بتأهيل الكوادر التربوية لتستطيع تحقيق هذه الرؤية وهذه الفلسفة العميقة.. على أن الأمر يحتاج إلى جهد مجتمعي كبير وإلى تضافر الجهود من أجل أن تكون مخرجات التعليم قادرة على أن تحمل أمانة عُمان، أمانتها التاريخية التي لا تكتفي إلا أن تكون مساهمة في الحضارة الإنسانية وقادرة على التأثير فيها.