حرب غزة وحالة الاكتئاب العام
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
الحرب على غزة التي تجري في أرض تنتمي إلى العالم الإسلامي بوجه عام وإلى عالمنا العربي بوجه خاص، هي حرب تطغى على أي اهتمام آخر، وبشاعتها تشل تفكيرنا في أي شيء آخر وتصيبنا بحالة من الاكتئاب العام، لا باعتبارنا عربًا نجزع فحسب من المآسي التي تصيب إخواننا في فلسطين، وإنما نجزع أيضًا من افتقاد هذا العالم للإنسانية، ومن بشاعة عدوان بعض البشر على غيرهم من البشر.
ما يجري في غزة ليس حربًا على فصائل المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حماس؛ أعني أنها ليست حربًا يشنها جيش إسرائيل ضد جنود أو رجال مقاومة ينتمون إلى حماس، وإنما هي حرب يشنها العدوان الإسرائيلي على حماس، وعلى شعب فلسطين المؤيد للمقاومة. ولكن الحرب لها قواعد وأخلاقيات تحكمها المواثيق الدولية التي باتت حبرًا على ورق في عالم ظالم لا تفعل فيه المؤسسات والقوى الدولية شيئًا سوى أن تذكرنا بها. ومن هذه القواعد ما ينص على عدم التعرض للمدنيين بحيث تكون الحرب حربًا بين الجيوش، ومنها عدم التعرض للمؤسسات والمنشآت المدنية، ومنها ما يتعلق باستخدام القوة المتوازنة في الرد على العدوان، ومنها أيضًا ما يتعلق بحسن معاملة الأسرى، وغير ذلك كثير مما تنص عليه المواثيق الدولية.
ولكن ما جرى ولا يزال يجري في حرب إسرائيل الدائرة الآن هي حرب على الشعب الفلسطيني نفسه بغرض تصفيته؛ ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية نفسها، والشواهد على ذلك حقائق عديدة: أهمها ذلك العدوان الوحشي على المدنيين والمنشآت المدنية بما في ذلك المستشفيات والمدارس ودور العبادة والصحفيين، ولم ينج من ذلك النساء والأطفال الصغار والرضع الذين تنهدم بيوتهم على رؤوسهم في أثناء نومهم، حتى بلغ أعداد هؤلاء آلافًا عديدة تقترب من عشرة آلاف امرأة وطفل، وتلك حالة من العدوان الذي لا نظير له في جرائم الحروب في العالم. إنها حالة من الإبادة الجماعية تهدف إلى تهجير شعب فلسطين من أرضهم إلى أراضي بلدان مجاورة، خاصة أرض سيناء في مصر. ذلك هو المخطط العدواني الوحشي الإسرائيلي.
حقًّا إن إسرائيل ليست هي الدولة الوحيدة التي ترتكب الإبادة الجماعية، فقد ارتكبت الولايات المتحدة الأمريكية مثل هذه الجرائم في حربها على العديد من الدول مثل فيتنام على سبيل المثال، ومن قبل ذلك فإنها قامت في الأصل على إبادة شعب الهنود الحمر في أمريكا، ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن إبادة شعب الهنود الحمر كان بالبنادق، ولكن الإبادة في عصرنا الراهن تحدث من خلال أسلحة فتاكة لا تُبقي ولا تذر. وهذا بالضبط هو ما تفعله إسرائيل من أجل تصفية شعب فلسطين، ليس فحسب من خلال هدم بيوت المواطنين على رؤوسهم، وإنما أيضًا من خلال إلقاء أطنان من القنابل الفتاكة على بيوتهم وأماكن وجودهم بحجة تصفية رجال المقاومة، وكأن رجال المقاومة يسكنون كل بيت في فلسطين! بل إنها تستخدم أسلحة فتاكة محظورة دوليًّا، ومنها تلك القنابل التي تحتوي على الفسفور الأبيض، وهي مادة إن لم تقتل فإنها تحرق وتشوه الأجساد البشرية؛ وهذا ما شهده الأطباء في فلسطين وغيرهم الأطباء الأجانب، وهو ما شاهدناه أيضًا على شاشات التلفاز. وعلى هذا يمكن القول إن ما جرى ويجري في غزة العربية هو محرقة بالمعنى الحرفي؛ وبالتالي فإنها محرقة تفوق ما جرى لليهود أنفسهم على يد هتلر، وبذلك فإننا يمكن أن نتحدث عن «المحرقة الفلسطينية» التي يرتكبها من عانوا هم أنفسهم من المحرقة التي يتاجرون بها باسم «الهولوكوست». وهكذا فإننا نجد أن مَن وقع عليه الظلم يومًا ما يمارس الظلم والعدوان بشكل أكثر بشاعة من الظلم الذي عانى منه!
حقًّا إن كثيرًا من شعوب العالم قد انتفضت في مواجهة هذا الظلم والعدوان غير المسبوق، مثلما انتفض أفراد مشاهير وشخصيات سياسية عامة حول العالم، وهو ما شكل حالة ضاغطة غير مسبوقة على مواقف السياسات الدولية لدى الغرب المنحاز لدولة إسرائيل، ولكن هذه المواقف لا تزال عاجزة عن ردع العدوان الإسرائيلي حتى الوقت الراهن، وإن شكلت قوة ضاغطة عليه. يردد بعض الداعمين للعدوان كالببغاوات أن حماس هي من بدأت العدوان، ولكن لا أحد منهم يسأل أو يتساءل عن أسباب وجذور هذا العدوان الذي هو في حقيقة الأمر دفاع عن أرض ومقدسات شعب ما في مواجهة مغتصب الأرض والمعتدي بشكل دائم على وجوده طيلة خمسة وسبعين عامًا.
الخلاصة أننا إزاء عالم ظالم لا يعبأ بالإنسانية، وينصر الظالم على المظلوم، ويرى أن المظلوم لا يحق له الدفاع عن أرضه إزاء المحتل الذي يغتصب أرضه. وأنا لا أعني بالعالم هنا الشعوب أو الناس المغلوبة على أمرها، وإنما أعني القوى العالمية التي تحكم العالم، التي لا يشغلها سوى تحقيق مصالحها، وهي القوى التي تتمثل في الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الأقل الغرب المنصاع لسياساتها العدوانية حول العالم. وربما يكون هذا هو السبب في حالة الاكتئاب العميق الذي يعتري كل مَن كان في نفسه ذرة من الإنسانية في عالم يفتقر إلى الإنسانية والعدالة. هذا الاكتئاب العام ليس اكتئابًا بسبب حالة أو ظروف شخصية، وإنما هو اكتئاب يرجع إلى وضع العالم الراهن الذي يعيش فيه الإنسان. وإذا كان حال كل إنسان لديه ضمير في هذا العالم، فما بالك بحال الشعب الفلسطيني نفسه الذي سيولِّد هذا العدوان البشع في نفسه- وخاصة لدى الأطفال والأجيال القادمة- حالة من الكراهية والبغض لكل ما هو إسرائيلي؛ ولهذا فإن إسرائيل لن تعيش أبدًا في سلام، وهذا ما لا تفهمه المكابرة الإسرائيلية التي لا تعرف سوى العنف والوحشية إزاء الآخر المختلف في الدين والعقيدة، حتى إن كان هذا الآخر هو صاحب الحق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حالة من
إقرأ أيضاً:
أسرار التطبيق الصيني الذي أودى بأسهم أكبر شركات التكنولوجيا في العالم
أثار إطلاق تطبيق الدردشة الصيني "ديبسيك" موجة من التغيير في قطاع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بعد أن تفوق سريعاً على تطبيق "تشات جي بي تي" التابع لشركة "أوبن إيه آي"، ليصبح التطبيق المجاني الأكثر تحميلاً على أنظمة تشغيل آيفون في الولايات المتحدة، وهو ما تسبب في إلحاق خسارة فادحة لشركة "إن فيديا"، المتخصصة في تصنيع الرقائق، بلغت نحو 600 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال يوم واحد، مسجلاً رقماً قياسياً جديداً في سوق الأسهم الأمريكية.
تكلفة قليلة
يتمتع النموذج اللغوي الكبير (LLM) الذي يغذي التطبيق بقدرات تحليلية تقارب نماذج أمريكية مثل نموذج "o1" التابع لشركة "أوبن إيه آي"، لكنه، بحسب خبراء، يتطلب تكلفة قليلة لتدريبه وتشغيله، بحسب نقرير لـ"بي بي سي".
وتقول "ديبسيك" إنها حققت ذلك من خلال اعتماد استراتيجيات تقنية قلّلت من الوقت الحسابي المطلوب لتدريب نموذجها المسمى "آر1"، ومن حجم الذاكرة اللازمة لتخزينه، وتقول الشركة إن تقليل هذه التكاليف الإضافية أدى إلى خفض هائل في التكلفة.
وبحسب تقارير فإن تدريب النموذج الأساسي "آر1-الإصدار الثالث" استغرق نحو 2.788 مليون ساعة تشغيل من خلال العديد من وحدات معالجة الرسومات في وقت واحد، بتكلفة تقديرية تقل عن 6 ملايين دولار، مقارنة بأكثر من 100 مليون دولار التي صرّح بها سام ألتمان، رئيس شركة "أوبن إيه آي"، كتكلفة لازمة لتدريب "جي بي تي-الإصدار الرابع".
رقائق "إنفيديا"
جرى تدريب نماذج "ديبسيك" باستخدام ما يقرب من ألفي وحدة معالجة رسومات من طراز "إنفيديا إتش800"، وفقاً لورقة بحثية أصدرتها الشركة.
وتعدّ هذه الرقائق نسخة معدّلة من شريحة "إتش100" الشائعة، وقد صُممت خصيصاً لتناسب قوانين التصدير إلى الصين، وثمة احتمال أن تكون الشركة قد لجأت إلى تخزين كميات من هذه الشرائح قبل أن تشدّد إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، القيود في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهي خطوة أدت بالفعل إلى حظر تصدير رقائق "إتش800" إلى الصين.
سرعة الانتشار
إن الأمر الذي أثار دهشة العديد من الأشخاص هو سرعة إنطلاق "ديبسيك" على الساحة بنموذج لغة كبير بهذا التنافس، لذا يعتبر مؤسس الشركة ليانغ وينفنغ، التي أسسها في 2023، في الصين "بطلاً للذكاء الاصطناعي".
ويلفت الإصدار الأخير من "ديبسيك" الأنظار أيضاً بسبب ما يعرف بـ "الأوزان" الخاصة به، وهي المعاملات الرقمية للنموذج التي يجري الحصول عليها من خلال عملية التدريب، وكانت الشركة قد نشرت تلك المعلومات علناً، بالإضافة إلى ورقة تقنية تشرح عملية تطوير النموذج، وهو ما يتيح للمجموعات الأخرى إمكانية تشغيل النموذج على معداتها الخاصة وتكييفه ليلائم مهام أخرى.
وتعني هذه الشفافية النسبية أيضاً أن الباحثين في شتى أرجاء العالم، أصبح بمقدورهم معرفة أسرار النموذج واكتشاف طريقة عمله، على عكس نماذج "o1" و"o3" لشركة "أوبن إيه آي" والتي تعتبر بالفعل بمثابة صناديق مغلقة.
لكن هناك بعض التفاصيل المفقودة، مثل مجموعات البيانات والشفرة المستخدمة في تدريب النماذج، وهو ما دفع مجموعة من الباحثين إلى السعي حاليا لتجميع هذه التفاصيل معاً.
مستقبل الذكاء الاصطناعي
ربما تبرهن "ديبسيك" على أنه ليس من الضروري امتلاك موارد ضخمة لبناء نماذج ذكاء اصطناعي معقدة. ومن المتوقع أننا سنرى نماذج ذكاء اصطناعي قوية يجري تطويرها باستخدام موارد أقل بشكل متزايد، في ظل بحث الشركات عن طرق لزيادة كفاءة تدريب النماذج وتشغيلها.
وتهيمن شركات "التكنولوجيا الكبرى" في الولايات المتحدة، حتى الآن، على قطاع الذكاء الاصطناعي، وكان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد وصف صعود "ديبسيك" بأنه "دعوة لاستيقاظ" قطاع التكنولوجيا الأمريكي.
إلا أن هذا التطور قد لا يكون خبراً سيئاً لشركات مثل "إنفيديا" على المدى الطويل، ففي ظل تراجع تكاليف تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي سواء من حيث المال أو الوقت، سيكون من الأسهل على الشركات والحكومات تبني هذه التكنولوجيا، وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على المنتجات الجديدة والرقائق التي تستخدمها، وهكذا يستمر العمل.