مسلسل «كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته» مستوحى من رواية تحمل نفس الاسم للروائي الأمريكي أنتوني دوير التي فازت بجائزة بوليتزر عام 2014.
تقع أحداثه بين ألمانيا وفرنسا بالتحديد في مدينة سان مالو الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية 1944. ويقوم على محورين: الأول هو تحرير المدينة الفرنسية من الاحتلال النازي الألماني، أما المحور الثاني فهو بحث أحد القادة الألمان عن حجر كريم اسمه (بحر اللهب) ومحاولة الحصول عليه وامتلاكه.
وأنا أتابع ذلك المسلسل برقت في ذهني فكرة ظلت ملازمة ومسيطرة عليّ، الفكرة تقول إن إسرائيل ما هي إلا أسطورة وحجر آخر تلفه اللعنة من كل جوانبه، فمنذ اغتصابها أرض فلسطين وإنشاء دولتها عام 1948 ظلت كيانا قائما أساسا على مجموعة هائلة من الأساطير عملت على الترويج لها بشكل يضمن لها البقاء، ليس البقاء وحده ولكن التميز والتوحد والتسيّد على جميع دول العالم. تلك الأساطير تستدعيها كلما شعرت بأن هناك من يحاول الاقتراب من حجرها الملعون. في السياق نفسه قد لا تختلف أسطورة إسرائيل كثيرا عن أسطورة حجر «بحر اللهب»، الذي يجمع بين الأسطورتين هو أن أسطورة حجر «بحر اللهب» هي أسطورة وتبقى هكذا وقد لا يصدقها كثير من الناس وفي النهاية ما هي إلا محض خيال. أما في الأسطورة الإسرائيلية فرغم أنها قائمة على وهم وخيال أيضا، لكن تلك الأساطير سرعان ما تتحول إلى حقيقة ملموسة وظاهرة جلية ومصدقة من أغلب العالم، وهكذا يتم توظيف الخيال ليتحول إلى حقيقة وليس أسطورة.
يوجز الفيلسوف والكاتب الفرنسي روجيه غارودي في كتابه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية (اتهم بمعاداة السامية وحوكم لاحقا في عام 1998م وحكم عليه سنة سجن مع وقف التنفيذ) تلك الأساطير التي تقوم على أساطير دينية وهي الأرض الموعودة، والشعب المختار وأسطورة يشوع، وأساطير القرن العشرين وهي أسطورة معاداة الصهيونية للفاشية، أسطورة محاكمة نورمبرج، أسطورة الهولوكوست، أسطورة أرض بلا شعب.
معاداة السامية، وكان أول من استخدمها الصحفي الألماني (ولهلم مار) عام 1879 للإشارة إلى تنامي كراهية اليهود في أوروبا. إلا أن إسرائيل اخترعت من «معاداة السامية» أسطورة أخرى تستغلها وقت ما تشاء وأينما ترغب، وتوظفها لخدمة أغراضها القبيحة، رغم أن السامية كمفهوم قد لا ينفرد به اليهود بنفسهم، فالعرب هم أيضا ساميون. لكن ما فشل فيه العرب نجحت فيه إسرائيل، فهي استطاعت أن تجعل من تلك الأسطورة أكثر ضراوة وشراسة وقد غلفت كل تصرفاتها وسياساتها بما فيها النهب والقتل والدمار والاستحواذ والاحتلال بغلاف السامية ومن لا يتفق معها أو ينتقدها توصمه بأنه معادٍ للسامية وبمرور الوقت استطاعت أن تسيج نفسها بهذه السردية التي تقوم على معادات السامية لكل من يجرؤ على نقدها أو يواجه جرائمها وغطرستها فهو ليس (مفقود.. مفقود) فقط كما قال عبد الحليم حافظ، وإنما (ملعون.. ملعون.. ملعون) وللأبد وستبقى اللعنة تطارده ما لم يكفّر عن خطيئته، وإلا ستفتح عليه النيران ويوصم بأنه معادٍ للسامية.
وكما هي أسطورة الخلود لكل من يملك حجر «بحر اللهب» هي كذلك إسرائيل توهم من يقترب منها بالخلود والمن والسلوى وأنهار من العسل، وذلك ما يجعل الكثيرين يتلهفون إليها ليخطب كل واحد منهم ودها وشرف الاقتراب منها والارتماء في أحضانها، وما التطبيع معها كما حدث لبعض الدول العربية والإسلامية إلا للاعتقاد بأن ذلك يضمن لهم الكثير من الميزات: منها الأمن والاقتصاد والتقنية الحديثة والتسلح والحماية وغيره، وبذلك تتولد لديهم أسطورة الخلود والاستمرارية فقط بمجرد أنهم تعاملوا مع ذلك الحجر وضمنوا أنْ لن تصيبهم لعنته.
ومن مظاهر ذلك هو تبني كل الرواية الإسرائيلية والسرديات الصهيونية والإيمان بها وكأنها قدر محتوم، بل الدفاع عنها رغم كل الوحشية والقتل والدمار واختراق القوانين والأنظمة التي تقوم بها. القائمة تطول لهؤلاء الذين أغراهم ذلك الحجر الملعون وسقطوا في وحله، ورأينا سقوط الكثير من الدول والمؤسسات والأفراد، بل وصل بهم الحال أن يجثوا على أقدامهم أو ينبطحوا أرضا أمام سطوة ذلك الحجر الملعون «إسرائيل».
في الجانب الآخر لأسطورة الحجر، يقع أولئك المشيطنون الملعونون الذين أصابتهم لعنة لمس الحجر وحاولوا ملامسة واقع إسرائيل، بل اللعنة تتعدى في إصابتها، وقد تلحق كل من يقترب منها ولو بالتلميح أو لم يحسن التعامل معها، ستصيبه لا محالة لعنة الحجر وسيكون ملعونا للأبد ويحل الأذى والدمار في كل من يحبه. كثيرون هم الملعونون والمطرودون من جنة إسرائيل والقائمة تطول عبر الزمان. وتضم الكثير من الساسة والمفكرين والفنانين وغيرهم ممن تجرأ على هذا الحجر رمي بسهام معادة السامية وانهالت عليه الاتهامات من كل حدب وصوب. الشواهد كثيرة على ذلك. فإسرائيل لم تتورع عن اتهام كتّاب ومثقفين كبار أمثال روجي جارودي أو نعوم تشومسكي وغيرهم.
وفي أحداث غزة في السابع من أكتوبر زادت لعنة الأسطورة «معاداة السامية» وأصبحت أكثر ضراوة وحدية وشراسة تصيب كل من يقترب من حجرها بشر. فأصبحت غزة وقتل الفلسطينيين هما المقياس الذي تستخدمه إسرائيل في وجه كل من تسول له نفسه أن ينتقدها أو مخالفة ما تقوم به من جرائم. فالتهمة جاهزة مسبقا ومغلفة بالكثير من التوحش، ولم تتورع يوما في اتهام الكثير ووصمهم بمعاداة السامية لكل من يقول الحقيقة أو يتوصل إلى استنتاج يقوده إليها، فقط لمجرد أنهم تجرؤوا على ما تفعله من قتل ودمار. تضع في مرمى نيرانها، ولم يسلم منها حتى أعتى الساسة كالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش. ومؤخرا أصابت اللعنة تلك دومنيك دو فيلمان رئيس وزراء فرنسا الأسبق فقط لمجرد أنه قال: إن إسرائيل تشن حربا وحشية في غزة وإبادة جماعية. والمثقفون، كتابا وفنانين وعارضات أزياء، والرياضيون من لاعبي كرة القدم وغيرهم أصبحوا يبدون تعاطفا مع الفلسطينيين في هوليوود الذي قد أدّى إلى وقف التعاقد معه. ومن اتهم بمعاداة السامية الممثل الأمريكي ميل جيبسون لمجرد دفاعه عن الفلسطينيين. والممثلة البريطانية إيما واتسون بطلة مسلسل أفلام هاري بوتر بعد نشرها رسالة مؤيدة للفلسطينيين، واتهم الكوميدي الفرنسي ديودوني بمعاداة السامية وحكم عليه بالسجن شهرين. كذلك عمدت شبكة دويتشه فيليه الألمانية إلى فصل صحفيين عرب بدعوى معاداة السامية. ومن أصابته اللعنة كذلك إيلون ماسك المتهم بترويجه البغيض لمعاداة السامية، حسب تصريح البيت الأبيض وعلى إثر ذلك أوقفت العديد من الشركات العالمية الإعلانات عبر منصة إكس التي يملكها. وكذلك تم فصل مذيعة في «بي بي سي» فقط لمجرد أنها انتقدت إسرائيل، وغيرها من صحفيين أو كتاب وما حدث للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب عندما منع التكريم عنها عن روايتها «تفصيل ثانوي» بحجج من هذا القبيل. وقد ذهبت بعض الدول كألمانيا إلى سن تشريع يمنع منح الجنسية لمن يثبت معاداته للسامية.
نعود إلى نهاية المسلسل عندما تجد بطلته العمياء «ماري» أن الحجر لم يمنح والدها وعائلتها الخلود أخذته وألقته في البحر، لتسدل الستار على أسطورته. أما الحجر الآخر.. الحجر الملعون فلا يزال يجذب الكثيرين إلى لعنته. العالم يتفرج ساقطا في وحل اللعنة لا أحد يجرؤ على اقتلاع ذلك الحجر اللعين ويلقي به في البحر كما فعلت ماري ويريح البشرية من لعنته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بمعاداة السامیة معاداة السامیة الکثیر من
إقرأ أيضاً:
بيع تمثال من الحجر الجيري لـ بطليموس الثاني في مزاد علني.. ما القصة؟
تستعد دار “كريستيز” للمزادات العالمية في لندن لتنظيم مزاد يضم مجموعة مميزة من القطع الأثرية المصرية، اليونانية، والرومانية، التي تقدر قيمتها بآلاف الدولارات. من أبرز القطع المصرية المعروضة تمثال نادر مصنوع من الحجر الجيري للملك بطليموس الثاني، أحد حكام الدولة البطلمية في مصر. يعود التمثال إلى العصر البطلمي (285-246 قبل الميلاد)، ويُقدر سعره ما بين 8,000 إلى 12,000 جنيه إسترليني.
بطليموس الثاني: مؤسس عصر ذهبيبطليموس الثاني، الذي حكم مصر من عام 283 ق.م إلى 246 ق.م، هو ابن بطليموس الأول سوتر، قائد الإسكندر الأكبر ومؤسس الدولة البطلمية، ووالدته هي الملكة برنيكي الأولى ذات الأصول المقدونية.
شهد عهد بطليموس الثاني أوج ازدهار الدولة البطلمية، حيث أصبحت مدينة الإسكندرية مركزًا عالميًا للثقافة والعلم. اعتنى الملك بمكتبة الإسكندرية ومتحفها، مما ساهم في تحويل المدينة إلى منارة للعلم والمعرفة.
تبنى بطليموس الثاني سياسة توسعية، تمكّن خلالها من ضم الجزر الإيجية وأجزاء من شرق البحر المتوسط. قاد جيوشه في الحرب السورية الأولى (275-271 ق.م) ضد الدولة السلوقية، في إطار سعيه لتوسيع نفوذ مصر في المنطقة.
التمثال المعروض في المزاد يعكس الحرفية الفنية التي ميزت العصر البطلمي، حيث جمع الفنانون بين الأسلوب المصري التقليدي والتأثيرات اليونانية. يمثل التمثال رمزًا للفترة التي شهدت اندماجًا ثقافيًا فريدًا بين حضارتي مصر القديمة والعالم الهلنستي.