لجريدة عمان:
2024-11-26@19:05:59 GMT

السياسات النيوليبرالية والاستعمار الصهيوني

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

ما الذي يعنيه أن تشرد من أرضك؟ هل هنالك علاقة خاصة بيننا وبين الأرض التي ولدنا ونشأنا فيها ونعتبرها الوطن الذي ندافع عنه؟ ماذا عن الأرض التي نسمع عنها لكن أجدادنا هُجّروا قسريا منها، هل ننتمي لها فعلا وقد نشأنا في ديار أخرى بعيدة كانت أو قريبة؟ إن مجرد طرح هذه الأسئلة يعد علامة على مأزق كبير أنتجته سياسات نيوليبرالية، تقوم على ممارسات فردية تنطلق من «الأنا» بدلا من «نحن» وتجعلنا نفكّر في أنفسنا وعلاقاتنا كمفردات داخل علاقات الإنتاج فحسب.

إن هذه الفكرة جوهرية فيما يتعلق بالاستعمار، ولعل الحالة الفلسطينية أهم الأمثلة الشارحة لذلك. لكنها في الوقت نفسه، تحطم الأنموذج الذي سعى الاستعمار لتجسيده بصورة ممنهجة والذي ينزع بعد بعض الوقت العلاقة بالأرض، إذ إن فلسطين التي تقاوم ويعي المنتمون إليها أنها في جوهرها صراع مستمر على الأرض تقول إن تلك الممارسات التي امتدت الآن لما يزيد على ٨٠ عاما لم تفلح أبدا.

يناقش بلال عوض سلامة في كتابه «في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية» استخدام الرقابة والضبط ووسائل العنف المباشرة والناعمة من أجل هندسة سياسية واجتماعية جديدة تنتج «الفلسطيني الجيد» بالنسبة للمشروع الصهيوني، معتمدا على أطروحتي فرانز فانون في كتابه «معذبو الأرض» وآليات مواجهة الاستعمار، والحالة الفرنسية الجزائرية مع نماذج أخرى، وكتاب آخر أجده مهما في سياقات عديدة هو «عقيدة الصدمة» لنعومي كلاين، التي تدرس النيوليبرالية كمدخل لفهم آليات الاحتلال في عملها على الإخضاع والاستلاب. وهو كتاب كنت قد كتبت عنه في وقت سابق، إذ يناقش استخدام الأوقات الحرجة والصدمة لدى الشعوب لتمرير قوانين اقتصادية وسياسية جديدة على مر التاريخ.

ينطلق سلامة من الإيمان بأن الأرض هي جوهر الصراع الأول والأوحد، إذ إن استعمارها يعني استعمار واستلاب الحياة، وما يعنيه ذلك من مصادرة كل أشكال العيش، فاحتلال الأرض يتزامن مع احتلال عقول المستعمَرين وأجسادهم، إن استعمار الأرض يعني بالضرورة السيطرة على الحياة والعلاقات الاجتماعية الناجمة عنها، فيتم عبر الاستعمار تدمير الحاضنة الثقافية والتاريخ للشعوب الأصلية، إن العلاقة بالأرض هي «علاقة غريزية مقدسة»، وكل ما يتمظهر عنها هو بالضرورة مقدس. يذكر سلامة علاقة الفلسطينيين بشجرة الزيتون، بما تجسده من مثال حسي لما تعنيه الأرض، فتقديس هذه الشجرة يتجاوز المقدس بالمعنى الديني -على الرغم من أهمية هذا الجانب طبعا- فمنها يأتي الزيت والزيتون والصابون والإنارة والتدفئة والاشتغال في الأرض، إنها تجسد بحسب سلامة ما عبرت عنه حنة آرندت جوهر «الحياة العملية». وهذه العلاقة المعقدة بالأرض جعلت الفلاحين سباقين للاحتجاج السياسي ومعهم تبلور الحس والوعي الوطني وسبقوا بذلك النخب السياسية لأن الفلاحين هم من يملكون الأرض حقا. ويجب أن ندرك في الوقت نفسه أن إفراغ الأراضي الفلسطينية من سكانها هدف جوهري في عقيدة الحركة الصهيونية، مما يعني أنها المستهدف الأول. يدلل سلامة على تمظهرات هذه العقيدة عبر أمثلة عديدة منها استمرار هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة والعمل على عدم توقف ذلك فيما يعرف بـ«الإحلال».

إن دولة الاحتلال تعتمد على منظومة بنيوية تهندس بها الحياة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين بدأ ذلك مع الدفع في اتجاه تسليع الأراضي وبيعها عام 1867 مع ما اعتبر نوعا من الإصلاحات الأوروبية مع تضعضع وخفوت نجم الدولة العثمانية. لقد أدى ذلك لفقدان الفلاح الذي لم يكن يهتم بالحصول على صكوك ملكية لأراضيه، على اعتبار أن من يعمل في الأرض يملكها لخسارة هذه الأراضي التي باعها أصحابها الإقطاعيون الذين يعيشون في أماكن قصية عنها. ومع فقدان الأراضي كملكية للشعب يعني ذلك إفقاره من قواعد الإنتاج لنفسه.

اعتمدت دولة الاحتلال أيضا على سياسة التجزئة الاستعمارية لتفكيك الهوية الجمعية للفلسطيني ومع صدمة فقدان الأرض على مراحل تم حشر الفلسطينيين فيما أسماه سلامة: «محتشدات» ولها تنويعات منها المخيمات أو الشتات أو القرى الصغيرة المكتظة وفي خضم ذلك قامت بانتهاج سياسة تعتمد على الاستيعاب الذي يعد شكلا من أشكال المحو وهو أقل وطأة من الإبادة الجماعية «أشد فاعلية للتخلص من الأصلاني بدل الإبادة» حسب اقتباس سلامة لهنيدة غانم. يعتمدون فيها إذن على عقيدة «العصا والجزرة».

فيتم إعطاء الشعب القليل مثل الكهرباء لكن يتم تقييد حركتهم، يمنحون التسهيلات الاقتصادية خصوصا في فلسطين ١٩٦٧ وإذا لم ينفع معهم ذلك تستخدم معهم سياسة موشيه دايان وهي العقاب الجماعي للمحتشدات. وبهذا فإن الحياة الاقتصادية المستقرة وتحقيق الفردانية وعيش حياة الاستهلاك هي أداة تطويع سياسية، ويؤكد ذلك أن الاستعمار الصهيوني إنما يدفع بالنيوليبرالية ومصفوفتيها الاقتصادية والاجتماعية لإحكام السيطرة على الفلسطينيين، وفرض مخيال اجتماعي جديد عليهم ويتم ذلك عبر استبدال البرامج التحررية بمفاهيم ليبرالية خصوصًا لدى شريحة الطبقة المتوسطة الجديدة للفلسطينيين، تتعزز معها الفردية على حساب التحرر الوطني «تفريعها السياسي من التعبئة في المشروع الوطني» «تكريس الحلول الفردية على الحلول الجماعية» والنزعة الاستهلاكية محل المواطنة والحقوق. وتم ذلك عبر تدمير ممنهج للكيانات الجماعية وتعطيل أي مشروع حول أي شيء جماعي والتي تتناقض مع مبادئ النيوليبرالية. اعتمدت إسرائيل أيضًا على التكنوقراط في حكم فلسطين ١٩٦٧ الذين يفصلون بين المشاريع التنموية والتحرر الوطني.

لقد أدى ذلك كله لما عرفه سلامة بـ«السبات الاستعماري» وهو نوع من الموت الاجتماعي الذي انضوى تحت سياسات الأسرلة للفلسطينيين على اختلافهم واستخدام ذلك كأداة للهيمنة والسيطرة عليهم. يستخدم فيها الاقتصاد «كآلية للرقابة». وربما وإن نجح ذلك بصورة ما مع فلسطينيي 48 الذين يعرفون أنفسهم «كعرب إسرائيل» ونجح كذلك في الضفة الغربية مع الإفقار الشديد والعقوبات الشديدة التي يتعرض لها الفلسطيني هناك، فإن غزة كما يبدو تقف حجر عثرة أمام المشروع الصهيوني، وعلى اختلاف ما مرت به من محاولات حتى لإثراء سكانها قبل الانتفاضة الثانية فإنهم ظلوا مقاومين مؤمنين بمشروع تحرري، قادر على توحيد الفلسطينيين في الشتات وفي داخل دولة الاحتلال وفي النقب والجولان وفي الضفة أيضا.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

رئيس المركزي للإحصاء: مسح سوق العمل التتبعي خطوة نحو تحسين السياسات الاقتصادية

في حدث مهم يعكس التطور الكبير في العمل الإحصائي بمصر، أُطلق في الفترة من 24-25 نوفمبر 2024، بيانات مسح سوق العمل التتبعي لعام 2023 في حفل شهد حضور عدد من الشخصيات البارزة. 

الحفل تم تنظيمه تحت رعاية الدكتورة رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، إلى جانب الدكتور علي عباس، رئيس جهاز الإحصاء في السودان، والدكتور إبراهيم البدوي، المدير التنفيذي لمنتدى البحوث الاقتصادية.

وفي كلمته الافتتاحية، عبر اللواء خيرت بركات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن امتنانه للحضور، مثمناً التعاون المشترك بين وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، منتدى البحوث الاقتصادية، والجهاز في إطلاق هذا المسح الذي يعد الأول من نوعه في مصر. وأكد أن نتائج هذا المسح جاءت في وقت حرج تشهد فيه البلاد تحولاً رقميًا واسعًا، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على سوق العمل ومتطلباته.

وأشار رئيس الجهاز إلى أن المسح يبرز العلاقة الوثيقة بين النمو الاقتصادي والتشغيل، حيث يؤكد على أهمية النمو المرتفع في توفير فرص العمل وتقليل البطالة، كما أضاف أن نتائج المسح ستسهم في تطوير سياسات سوق العمل بما يتناسب مع التحديات الجديدة التي فرضتها الجائحة العالمية وحرب أوكرانيا، مما يؤثر بشكل كبير على الاقتصاد المصري وسوق العمل.

تحليل مستفيض للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

وأشار رئيس الجهاز إلى أن هذا المسح يركز على دراسة مجموعة من العوامل الحيوية التي تؤثر على سوق العمل، مثل الخصائص الديموغرافية، العمالة، والبطالة، ويعكف المسح أيضًا على دراسة المشاريع الأسرية وتأثير القطاع غير الرسمي على الاقتصاد المصري، وهو قطاع يساهم بشكل كبير في الدورة الاقتصادية ولكن يفتقر غالبًا إلى البيانات التفصيلية. 

ويُعد هذا المسح من المسوح الوحيدة التي تتابع نفس الأسر على مدار الزمن، مما يوفر رؤى معمقة حول التنقلات في سوق العمل، الهجرة، وديناميكيات الزواج.

وتم التطرق في هذا المسح، الذي يُعد النسخة الخامسة من سلسلة مسوح سوق العمل، إلى تأثير التغيرات الاقتصادية على الفئات المختلفة، خاصة النساء في سوق العمل، وهو جانب حيوي يستدعي الاهتمام في ضوء التحديات المتزايدة.

تضمن المسح هذا العام أسئلة جديدة حول "الوظائف الخضراء" و"العمل عبر المنصات الإلكترونية"، وهي مجالات بدأت تأخذ حيزًا متزايدًا في ظل التحولات العالمية نحو الاستدامة والتحول الرقمي، كما أظهرت نتائج المسح تحسنًا ملحوظًا في سوق العمل المصري خلال السنوات الأخيرة، حيث شهدت مصر انخفاضًا في معدلات البطالة وارتفاعًا في معدلات التشغيل، مما يعكس تحسنًا في بيئة الأعمال.

وأشار رئيس الجهاز أيضًا إلى التعاون الوثيق مع منتدى البحوث الاقتصادية، الذي قام بإجراء تحليلات شاملة للبيانات الجديدة، والتي تشمل تطور عدم المساواة في الدخل، فجوة الأجور بين الجنسين، وأنماط الهجرة، إضافة إلى دور المرأة في رعاية الأسرة. هذه الدراسات ستحلل التغيرات التي طرأت على الاقتصاد المصري منذ عام 2018، بما يعزز قدرة الحكومة على صياغة سياسات عمل قائمة على البيانات الدقيقة.

دور الجهاز المركزي في تعزيز التنمية الوطنية

في ختام كلمته، أكد رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء على الدور الحيوي للجهاز في توفير البيانات الإحصائية الدقيقة التي تسهم في صنع قرارات استراتيجية تسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. 

وأضاف أن المسح يقدم رؤى شاملة تمكّن الحكومة وصناع السياسات من تقييم الوضع الحالي لسوق العمل واتخاذ القرارات اللازمة لتوجيه السياسات بما يتماشى مع احتياجات المجتمع.

كما توجه رئيس الجهاز بالشكر إلى جميع الشركاء في هذا المشروع، سواء وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، أو منتدى البحوث الاقتصادية، وفريق العمل في الجهاز، معربًا عن أمله في أن تساهم نتائج هذا المسح في تحسين استراتيجيات العمل والتنمية في مصر بما يتناسب مع المتغيرات المحلية والدولية.

ختامًا، يبقى أن مسح سوق العمل التتبعي لعام 2023 يُعد أداة حيوية في توجيه سياسات سوق العمل المصري نحو مزيد من التطور والنجاح، ويشكل خطوة هامة نحو تعزيز قدرة الاقتصاد المصري على مواجهة التحديات المستقبلية.

مقالات مشابهة

  • بسبب والدتها.. عشرينية على قيد الحياة تُمحى من على وجه الأرض
  • اتفاقية بين "سلامة الغذاء" و"الرعاية الصحية" لتعزيز التعاون في مجال السياسات الغذائية
  • اتفاقية بين سلامة الغذاء والرعاية الصحية لتعزيز التعاون في مجال السياسات الغذائية
  • الزار بين التهميش الاجتماعي ورفض الاستعمار (1)
  • صباغ : سورية تجدد إدانتها للاعتداءات الإسرائيلية السافرة على دول المنطقة وشعوبها، وإدانة جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني
  • عابدة سلطان.. الأميرة الهندية المسلمة التي تحدت التقاليد وواجهت الحياة بشجاعة
  • نفايات البلاستيك تهدد الحياة على الأرض .. تحذيرات جديدة
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • الاستعمار والتدمير المنهجي: قراءة في خيار المقاومة (2-2)
  • رئيس المركزي للإحصاء: مسح سوق العمل التتبعي خطوة نحو تحسين السياسات الاقتصادية