جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-04@21:25:08 GMT

قراءة في "خطة سير مستعرب"

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

قراءة في 'خطة سير مستعرب'

 

 

د. مُحمَّد نقري*

ليس كتاب "قراءة في خط سير مستعرب" مسار طريق ولا خطة سير بالمعنى الدقيق؛ فالأول يعني تحديد مكان الانطلاق والوصول وفق معايير ثابتة ومحددة، بينما الثاني يفيد إمكانية الاختيار بعد الانطلاق بين احتمالات متعددة تصل في نهايتها للمكان المحدد للوصول. ما تحمله صفحات هذا الكتاب هو بمثابة خط طويل ينفذ منه خيارات كثيرة للخروج، أو حتى للقفز نحو المجهول.

فليس الكتاب سيرة ذاتية إلا جزئيًّا بحيث لا يتناول مواضيع عن العائلة والأصدقاء بل يأتي على ذكر عدة لقاءات جمعت المؤلف مع أصدقاء لا يتناولهم جميعاً بذكر أسمائهم باستثناء شريكة حياته "جانين". هدف الكتاب هو بيان كيف أن مسار الطريق أو خطة السير أعطت معنى لعلاقة المؤلف مع الآخرين؛ سواء كانوا من الذين يشاركونه في الانتماء للوطن من خلال رغبته في توضيحه لحضارة مازالت مجهولة أو غير واضحة لهم كما يجب، أو إلى العرب الذين يرغب المؤلف في تحميلهم رسالة رغم ما يعانونه من اضطرابات مفادها التأمل في ماضيهم دون خشية من قول كلمة "قيمهم".

لم تكن حديقة بالمعنى المألوف للكلمة تحتوي على المزروعات التي أحبها المؤلف من التين والمشمش واللوز، بل كانت صفوف متراصة من مزروعات العنب؛ حيث كان يعمل والداه مدرسيْن في تلك المدينة في أقصى الجنوب الفرنسي، فمزروعات العنب تحتاج سقاية تضخها قنوات الري من مكان  ضيق إلى مكان أرحب، وهذه الصورة اكتملت لديه مما كان يحكى عن الحدائق في إسبانيا تحت الاسم السحري من الحمراء إلى غرناطة.

ومهما يكن، فإنه انطلق إلى الجنوب ومن جنوب أبعد من هذا الجنوب؛ حيث شاطئ البحر ومرافئ المراكب حين كان يزورها مع والديه، فيما أطلق عليها من الجانب الآخر تسمية "المنصور" وما استتبعها من قراءات عن علي بابا، وعلاء الدين، وعن الجن، وعن الشرق الذي كان يحلم به، بل ما كان يطوق إليه داخل نفسه لمستشرق يفك أسرار العالم... انمحى كل ذلك في حياته الطلابية.

وفي يوليو 1946، كانت السنة الأخيرة للمؤلف في الثانوية، وشاءت الصدف أن يقترح الوزير الشيوعي للتسليح الحربي مكافأة المتفوقين بالدراسة من المرشحين في المباراة العامة في الجغرافيا الذين نالوا أعلى درجات في امتحاناتهم للسفر إلى أجاكسيو في جزيرة كورسيكا وتونس والجزائر والرباط ومراكش عن طريق الإبحار في إحدى القطع البحرية التي استولت عليها فرنسا من الجيش الألماني. فتم اختيار 14 طالبًا وطالبتين من المتفوقين بينهم المؤلف.

حقَّقت هذه الزيارات أحلامه من رؤية المساجد والمآذن والأسواق، لكنها كانت تجتابها ضبابية كفيلة بمسح كل شيء، حيث كانت تغلبها ملامح الفتاة التي كانت ضمن فريقهم من مدينة كليرمون، والتي انتهى بها المطاف لأن تكون شريكة حياته وأكثر.

وبعد عودته لمدينة مونبلييه واجتماعه مع أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا الذي سبق له أن اقترحه لهذه المباراة، نصحه بأنْ يُكمل دراسته في الآداب بدل الرياضيات. وهكذا كان فما إن بدأ في الدراسة حتى تبين له أن منهجها يلخص في كلمتين "ثقافة عامة"؛ إذ اشتملت المواد التي كانت تدرس ابتداءً من المواد الإجبارية إلى مباراة المعهد العالي للتعليم على: التاريخ، الأدب الفرنسي، اللغة اللاتينية-اليونانية أو أي لغة من اللغات الحية، وما بقي يترك لما يرغب به الطالب وفقاً لميوله الذاتية. وقد أضيفت إلى شهيته لهذه العلوم ذكرياته التي أمضاها في إفريقيا الشمالية؛ حيث كان قد اقتنى نسخة من ترجمة قديمة للقرآن لمترجمها "سافاري"، فما استهواه فيها ليست في المقام الأول الآيات التي تتحدث عن المجتمع الإسلامي الجديد، وإنما السور التي أوحيت إلى النبي مُحمَّد وفق التسلسل التاريخي؛ حيث تحولت اللغة بفضل هذا الإلهام الإلهي رغم قراءتها  مترجمة، إلى لغة شاعرية جياشة مليئة بالمعاني والأحاسيس، وهذا ما أدخل المؤلف في نفسه تمام القبول والرضا كمهتم بالدراسات الأدبية.

انقضتْ سنة 1949 مع ما مرَّ به المؤلف من أحداث في مجال دراسته؛ حيث اختار اللغات الفرنسية اللاتينية اليونانية الألمانية مضيفا الإيطالية بفضل زياراته إليها في مرحلة طفولته مع أهله ومع "جانين"، والإسبانية بفضل تشجيع والده الذي كان قد أكمل دراسته في المعهد العالي للمعلمين في مدينة مونبلييه الجنوبية، إلا أنَّه لم يجد أي انجذاب إلى اللغة الإنجليزية، وأما بين اللغات الهندوأوروبية فكان يميل لاختيار اللغة الفارسية. أتى العام 1950 ليكون عاما مباركا له، فقد تمت خطوبته لـ"جانين"، ونجح في مباراة المعهد العالي للتعليم بعد رسوبه به في العام الذي مضى.

وخلال سنته الأولى في المعهد العالي للمعلمين، قام المؤلف بزيارة رئيس كرسي اللغة الفارسية في معهد اللغات الشرقية هنري ماسيه؛ حيث أبدى له رغبته في التخصص بهذه اللغة مدعوما بما يحمله من كتب في القواعد والقواميس، فنصحه بتغيير تخصصه للغة العربية، لعدم وجود وظائف شاغرة في تخصص اللغة الفارسية، ونصحه بأخذ موعد مع أستاذ اللغات الشرقية بلاشير. وهكذا كان اجتماعه مع بلاشير الذي طلب منه التسجيل في معهد اللغات الشرقية ومقابلته في نهاية العام. إلا أن منهج الدراسة البطيء في اللغة العربية جعله يترك الدراسة ويستقر في دراسته في المعهد العالي للمعلمين. وفاء لوعده لبلاشير فقد عاد لمقابلته في شهر يونيو 1951. وفي تلك المقابلة، دفع بلاشير للمؤلف كتابا في اللغة العربية وطالبه بقراءته، فقرأ منه ما تيسر بدافع فضولي لمعرفة صاحب هذا الكتاب، فأخبره بلاشير بأنه عالم الجغرافيا من القرن العاشر يدعى ابن حوقل، وما عليه إلا أن يطالعه في أشهر الإجازة الصيفية.

خلال ذلك الصيف الذي قضاه مع والديه و"جانين" في إحدى المخيمات الصيفية، كان يقضي معظم وقته في قراءة كتاب الجغرافيا، مضيفا إليه كتابا آخر في الجغرافيا لشمس الدين المقدسي. وكما كانت تقتضي عادات ذلك الزمن كانت "جانين" تنام في سرير داخل مقطورة التخييم مع والديه بينما هو ينام داخل خيمة انفرادية. بعد انتهاء الإجازة وافق المعهد العالي للمعلمين على انتقاله لتخصص اللغة العربية بدلاً من التخصص في اللغات الأخرى التي سبق ذكرها، وكان اختياره لموضوع البحث: ترجمة فصل من كتاب المقدسي. وهكذا تولد لديه شعور بأنه أصبح مستعرباً بعد أن فتح له المقدسي وغيره آفاق التعمق في الجغرافية الإنسانية للعالم الإسلامي؛ مما تمخض عنه تأليف أربعة أجزاء ضخمة من مصنفات المؤلف خلال سنوات 1960 إلى 1980.

بعد تخرجه في المعهد العالي للمعلمين سنة 1952، وحصوله على رتبة الأستاذية تبعاً لاجتيازه مباراتها في تخصص النحو، عاوده سؤال عما إذا سيكمل تخصصه في اللغة العربية، خاصة بعد أن كان قد هجرها خلال إعداده لمباراة الأستاذية.

خلال الصيف الذي تبعه، تزوج المؤلف بخطيبته "جانين" وانتقلا للسكن في مدينة فيشي، فحدثته ذات يوم بشيء من التأنيب عن ضرورة استكماله لدراسة اللغة العربية، وأن عليه أن يزور بلاشير في منزله الريفي. لم تأخذ هذه الكلمات وقتاً للتفكير حيث انطلقا إلى منزل بلاشير الريفي في سيارتهما الجديدة المهداة لهما من قبل الأهل والأصدقاء، وما إن اجتمعا ببلاشير حتى نصحه بالتقدم لمنحة في العلاقات الثقافية التي تقدمها وزارة الشؤون الخارجية مما سيسمح له بالتسجيل في معهد الدراسات العربية في دمشق، إضافة إلى متابعة الدراسة في الجامعة والتدرب على العربية في الحياة العملية والأسواق واللقاءات. أعجبته الفكرة وأتم كل الإجراءات اللازمة بعد حصوله على المنحة فتوجه مع زوجته في سنة 1953 إلى إيطاليا ومنها بالباخرة مصطحبا سيارته إلى القاهرة؛ حيث مكث لفترة وجيزة ثم السفر إلى بيروت والوصول ليلا والتوجه إلى دمشق حيث كانت إقامته في معهد الدراسات العربية. وعملاً بنصيحة بلاشير قام بالتسجيل في الجامعة في قسم فقه اللغة. غير أنه لم يعرها كل اهتمامه. في دمشق قام هو وزوجته بزيارة تدمر وحلب وأور وبغداد، فأعادته لذكرياته القديمة وسفره الأول إلى شمال إفريقيا؛ إذ كانت الأوضاع السياسية مقلقة في سوريا فبعد الانقلاب على الدكتاتور الشيشكلي من قبل مجموعة من الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين العروبيين كانت المظاهرات تهتف "إننا سوريون"، جال في خاطره بعد استعراضه لهذه السنين الطويلة الماضية بأن هذه العبارة هي تعبير عن الانتماء للعروبة التي حافظت عليها شعوب المنطقة مطالبة بالوحدة والتي بقيت تدرج كمغامرة. وكذلك الأمر بالنسبة لتعلم العربية المحكية فبعد الجلاء الفرنسي عن سوريا منذ سبع سنوات، إلا أنَّ الشعب ما زال يحمل في ذهنه عبء الانتداب، فقرر المؤلف التخلي عن إتقان العربية المحكية لصالح العربية المكتوبة. وتنفيذاً لنصيحة بلاشر توجه إلى ترجمة مجموعة كتب كليلة ودمنة لابن المقفع المنقولة عن الفارسية والهندية؛ حيث وجد في انكبابه على هذه الترجمة باباً للدخول للآداب المقارنة. وخلال هذه الفترة سافرت "جانين" للولادة في مدينة فيشي الفرنسية.

وبعد دمشق توجه إلى فرنسا ليلبي نداء الوطن في خدمة العلم الإلزامية لمدة سنة، وليكون بقرب زوجته وطفلته، خلال تلك الفترة لم يكن ليستغني عن كتاب كليلة ودمنة وعن القاموس؛ ففي نهاية كل تدريب عسكري يعود للكتابة والترجمة. وما إن انتهت فترة خدمته العسكرية في سبتمبر 1955 حتى سافر لباريس ليقترح نقله إلى القاهرة في معهد الدراسات العربية، ولكن أحد زملائه سبقه إليه، إضافة إلى أنه لا يحمل درجة الأستاذية في اللغة العربية، فاقترحوا عليه الذهاب لأديس أبابا كمسؤول في قسم الآثار للمركز الملكي للدراسات والأبحاث، فوافق بعد استئذان زوجته التي أسرها أن تستعيد جو إفريقيا بعد قضائها أربع سنوات في مدغشقر في طفولتها. وخلال تواجدهم في العاصمة الإثيوبية بعد ولادة طفلهم الثاني عملت "جانين" في الإرسالية العلمانية. أما هو، فكان يقضيها في ممارسة الرياضة مع موظفي السفارة الفرنسية والسياحة إلى أن ابتدأ في مساءلة نفسه عن مستقبله فهل يدرس اللغة الإثيوبية أم تاريخ إثيوبيا المرتبط بتاريخ جنوب الجزيرة العربية وبلغتها. فقرر الكتابة لوزارة خارجيته ليخبرهم بأن وجوده في إثيوبيا لا يفيد أحداً، فقرروا إعادته إلى فرنسا حيث عينته وزارة التربية مدرسا في ثانوية بليز باسكال في مدينة كليرمون فارون لتدريس الفرنسية واللاتينية، وكذلك زوجته عادت إلى المدرسة التي كانت تعمل بها خلال فترة خدمته العسكرية.

مرة أخرى.. وأين اللغة العربية من كل هذا؟ خلال هذه السنة أرسلت له وزارة الخارجية رسالة تطلب فيها الالتحاق بباريس للعمل لديهم كمشرف على المدارس في آسيا وإفريقيا، فوافق على الفور بعد موافقة زوجته التي أسرها جدا الانتقال إلى باريس. وصُودِف أن قابل المسؤول عن القسم في وزارة الخارجية والذي هو خريج المعهد العالي للمعلمين، فنصحه بأن يحصل على درجة الدكتوراه وأن يتقدم إلى مباراة لوظيفة دبلوماسية، خاصة وأنَّ المتقدمين إليها من الذين يتقنون العربية هم قلائل. وخلال الأربع سنوات التي قضاها في باريس، كانت ساعات العمل كثيفة في وزارة الخارجية، والتي كان يعود منها متأخرا إلى البيت بعد نوم أطفاله، تخللتها زيارة لغينيا التي نالت استقلالها عن فرنسا وإلى أديس أبابا. لم يكن هناك وقت كافٍ للعربية إلا من خلال أطروحة الدكتوراه التي اختار موضوعها عن عالم الجغرافيا المقدسي وما تخللها عن دراسة العالم العربي وبلاد الشام. وبعد الانتهاء منها، تمَّت طباعتها في المعهد الفرنسي في دمشق. وحتى يدعم اعتباره متخصصاً في هذا المجال كتب خمسة مقالات عن العالم العربي باسم مستعار بسبب واجب التحفظ الذي كان عليه مراعاته في الوظيفة. وفي صيف 1961، وبعد انقطاع العلاقات بين فرنسا ومصر بسبب تأميم قناة السويس، تألفت بعثة على أثر معاهدة زيورخ من ضمن أعضائها مسؤول العلاقات الثقافية. وقد عُيِّن فيها وسافر مع عائلته على إثرها للقاهرة في شهر سبتمبر 1961 قبل أيام من الانفصال بين مصر وسوريا.

تحقق هذا الحلم أخيراً بالسفر للقاهرة والسكن في إحدى الشقق التابعة للسفارة السويسرية، إلى جانب السياحة في مدنها التاريخية. الوظيفة كانت تشمل الالتقاء بالمسؤولين المصريين لتوطيد دعائم التبادل الثقافي بشكل تام، والبت في طلبات المنح الدراسية إلى فرنسا بعد التأكد من شرط الإجازة الجامعية وإتقان اللغة الفرنسية وتوفر التخصص المطلوب. عكر صفو الإقامة في القاهرة زيارة أفراد من المخابرات المصرية لشقته في ثيابهم السوداء في منتصف الليل حيث اقتادوه إلى السجن بتهمة التجسس وتهديد الأمن القومي، مع خشيته الحكم عليه بالإعدام. وبعد المفاوضات التي أعادته إلى فرنسا والخروج من السجن في شهر أبريل 1962، اقترحت وزارة الخارجية تعيينه في البرازيل، فأعاد طرح السؤال على نفسه: وأين مكان اللغة العربية؟ فقرر العودة للتعليم الجامعي؛ حيث عين أستاذا في جامعة مونبلييه لمادتي فقه اللغة والأدب المقارن مع عقده النية لفتح قسم للغة العربية، إلا أن جامعة أكسونبروفنس طلبت منه أن يدعم قسم اللغة العربية الموجود سابقا في تخصصها الأكاديمي. أما في مجال الأبحاث العلمية، فما زال اهتمامه قائما بعلماء الجغرافيا العرب. وقد منحته جدران السجن في القاهرة القدرة على فهم منهجية هذه الجغرافية البشرية؛ إذ إنَّ الأولوية لدى علمائها العرب كانت في دراسة الانتشار البشري على مساحة البلاد الممتدة من آسيا الوسطى وغرب الهند إلى إسبانيا وإعطاء القيمة العلمية للعلماء اليونانيين الذين أسهمت كُتبهم المترجمة في إثراء البيئة العلمية. ويطرح سؤال عما كان يبحث عنه هؤلاء العلماء في مؤلفاتهم: السفر أو تدوين مشاهداتهم أو وسيلة أخرى للإعلام. هل أرادوا إضافة شيء جديد في زمنهم. هل هي الثقافة حيث كانوا يحلمون بالوصول إليها عن طريق المعرفة.

مضت سنتان في تدريسه في جامعة أكس من 1962 إلى 1964 حيث قام بكتابة عدة مقالات عن العالم العربي الحديث وخاصة عن كتاب نجيب محفوظ وعلاقة كليلة ودمنة بكتاب "اساطير النافورة"...ومن خلالهما العودة إلى الأدب المقارن، ثم العودة إلى الجغرافيا عند العلماء العرب، ولكن هذه المرة مع الصعوبات الجمة للوصول إلى المكتبات التخصصية. وفي خضم هذه الاهتمامات يرده اقتراح من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والتي أصبحت تسمى فيما بعد "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية". مما استدعى منه الانتقال مرة أخرى إلى باريس بعد ان كانت قد استقرت زوجته في مونبلييه وأبدعت في التدريس في معاهدها.

وفي باريس، أصبح "عالم اجتماع" أو هكذا صنف، حيث كان يقضي بضع ساعات أسبوعية في محاضراته مع الباحثين من طلاب المدرسة العليا، ومعظم وقته في كتابة المقالات التي تتوافق مع منحاه الأكاديمي الجديد وفيما يتعلق بالمصطلحات العربية في النسب والميراث وفق أحكام الشريعة، إلى جانب تدريب الكادر التعليمي في البلاد النامية والبلاد العربية، والآداب المعاصرة، وكتابة عشرين مقالا في الموسوعات. أضاف إليهم ترجمة لرحلة من القرن العاشر الميلادي قام بها يهودي اسباني إبراهيم بن يعقوب إلى مختلف البلاد الأوروبية.  كذلك أصدر كتابا عن الحضارة الإسلامية من القرن السابع إلى القرن العشرين، والاطروحة عن الجغرافيين العرب التي توجت الأكاديمية الفرنسية إصدارها. من لطائف ما كان يتمتع به دراجته النارية التي أصبحت عدة شغله كمستعرب، فمن مكان سكنه على حافة مدخل العاصمة الفرنسية كان كثيرا ما يمتطيها متوجها إلى مدن أكثر بعدا حيث يمضي وقته في الكتابة في احد المطاعم التي تتقبل مكوثه فيها لفترة طويلة. خلاصة عمله في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا نتج عنها عنوانا جديدا له كدكتور في الآداب وتعيينه أستاذا في جامعة باريس الثامنة حيث كانت تقع على عاتقه مع باقي زملائه الأساتذة تنظيم قسم الدراسات العربية ودمجها مع أقسام أخرى كقسم فقه اللغة والآداب المقارنة والتاريخ.

وفي خريف 1968، أراد المتشددون الذين قاموا بالثورة الطلابية إجراء تغيير شامل في مناهج الدراسة في الجامعة إلا أنهم فشلوا فعادت الجامعة إلى ارتداء حلتها القديمة وتم إنشاء قسم للغة العربية. لم تكن المهمة الجديدة في الجامعة لتتيح له استكمال أبحاثه، إلا أنه تمكن من تأليف كتاب عن تاريخ الأدب العربي وتجميع وثائق عن الجغرافيا فيما ذكره الجغرافيون العرب عن أهمية الأرض والشعوب خارج حدود العالم الإسلامي. أصابته مأساة في مرض ابنه الذي كان يبلغ الأربعة عشر سنة فبترت ساقه، ورغم آلامه كان يصطحبه معه إلى إيطاليا لتقديم عدة برامج تلفزيونية عن الإسلام. هذه الانشغالات حالت بينه وبين إعطاء كامل طاقته في الجامعة تاركا كثيراً من المهام إلى زملاءه.  وقد كانت خاتمة أحزانه وفاة ابنه. في نهاية العام الجامعي تم تعيينه في جامعة باريس الثالثة مسؤولا في الكرسي الجامعي التي كان يشغلها أستاذه بلاشير.

أحدثت وفاة ابنه صدمة له ولزوجته ولابنته جعلته ينكب على استكمال كتباته ومهنته التدريسية، إذ أصبح أستاذ كرسي رغم انه لا يحمل الأستاذية في اللغة العربية كباقي المرشحين لهذا المنصب الأكاديمي الرفيع، قد يكون بسبب أن القسم الذي يشغله لا يتضمن مستعربين فقط، وإنما أيضا متخصصين في التركية والفارسية. كذلك اختتم العشرين سنة التي أمضاها وقد طوى صفحة الآداب المقارنة ليستقر في كتب الجغرافية البشرية عند المسلمين حتى القرن الحادي عشر. قبل إصدار الجزء الثاني من كتابه في هذا المجال باشر في الكتابة الوصفية للمواقع الطبيعية للعالم الإسلامي. تقاطعت مع ترجمة لأشعار بدر شاكر السياب وعشرات المقالات عن علماء الجغرافيا العرب القدماء والحديثين، وكتاب "ألف ليلة وليلة". مجموعة هذه المقالات نشرت في موسوعات أو مجلات تخصصية. مما جعله مسروراً في تدريسه في هذه الجامعة وجود الطلبة والطالبات الذين ما انفكوا يسألونه فيما لو طالع هذا الكتاب أو ذاك المرجع، فيجيب بالنفي دون أن يعلموا بأنهم أثاروا في نفسه الفضول لمطالعة هذه الكتب لدرجة انه كان يشعر بالسعادة بإحساسه أنه هو الذي يتلقى ويتعلم أكثر من شعوره بالسعادة في كونه أستاذاً. شجعه أحد الأصدقاء يوما إلى الترشح في "الكوليج دا فرنس" فتمت الموافقة على قبوله. في هذه المؤسسة الرفيعة يبتدئ الأستاذ بطرح مشروعه التعليمي من خلال نقطتين أساسيتان الأولى أن تتحقق لديه المعرفة فوراً ولاحقاً بحيث يتعين أن تكون مبتكرة بموضوعها كما في الخطوات التي تليها. فالكوليج لا تمنح شهادات ولا إفادات؛ إذ يأتي إليها أي مستمع في أي وقت يشاء، والثانية متعلقة بالوقت عندما تنتهي مواضيع البرنامج المعلن عنها، لا يضاف إليها مواضيع "حشوة" فسياسة الكوليج المنحوتة بالرخام : "هنا ندرس ما نبحث عنه". طبيعة العمل في الكوليج تتطلب تفرغاً من التدريس من الجامعات باستثناء متابعة أطروحات المسجلين لدى الأستاذ في الدكتوراه، كما تتطلب السفر دائماً والالتقاء بشخصيات علمية ذائعة الصيت. التدريس الجامعي يعني منح المعرفة مع الالتزام الحصري بالبرنامج، بينما في الكوليج تعني البحث بحرية أولاً والتكلم لاحقاً بشرط الحفاظ على نفس الموضوع. بينما المحاضرات فهي أمام جمهور مستمع بدون نقاش، وأما النقاشات فكانت مخصصة في ورشات الدراسة لمواضيع ثانوية او مكملة أو جديدة. 

عندما يسأل عن مواضيع محاضراته ومنشوراته وكتبه، فهي عبارة عن مئات المقالات المتنوعة وعن الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي، حيث تم نشر الجزء الثالث المخصص للأماكن الطبيعية في العالم العربي سنة 1980 ويقوم بتحضير الجزء الرابع والأخير عن المجتمعات والتصرفات الذي صدر بعد ثمانية سنوات. وبعد فتح شهيته على الكتابة نشر طبعة مصورة عن بعض المواضيع التي كتب عنها في الجزئين الثاني والرابع، ترجمة مذكرات أسامة ابن منقذ وهو أمير سوري في العهد الصليبي، والسورة رقم 56 من القرآن الكريم ودراسة حيوان الدب عند العرب  وثلاثة كتب من مقابلات مع زملاءه الأساتذة.

غير أن ترجمته لقصائد الشعر العربي جعلته يتساءل عن مقدار الأمانة العلمية في نقل المعاني إلى الفرنسية، مما ولد إليه الرغبة في تطويع اللغة الفرنسية لتصبح مقفاة وموزونة مما أثار نقد زملائه الذين يفضلون الشعر بلا قيود ولا أوزان. وهذا ما قاده إلى قصة مجنون ليلى ومقارنته لها بقصص مماثلة في الأدب الفرنسي مثل روميو وجولييت. هذه الشهية نحو هذه القراءة جعلته يشعر بسعادة القفز بين رواية وقصة وقصيدة وفكرة أنسته لبعض الوقت كتاباته عن الجغرافية البشرية.

وفي سنة 1984 تم تعيينه لمدة أربع سنوات في الإدارة العامة للمكتبة الوطنية مع ما جلبته له هذه الوظيفة من امتيازات في السكن والخدمة المنزلية والسفر والاستقبالات وحضور المهرجانات. غير أنه بعد اطلاعه على طريقة عمل المكتبة والمصاعب التي ممكن التغلب عليها بإضافة بعض التحسينات على عملها وفرز ما يمكن فصله عنها من موجودات وآثار وأزياء تاريخية قديمة إلى أماكن أخرى، تقدم بمجموعة اقتراحات منتظراً موعداً مع وزير الثقافة، بعد طول الانتظار تقدم باستقالته من هذا المنصب.

وكان قد مضت عشر سنوات على عمله في "الكوليج دا فرنس" من بين واحد وعشرين سنة قضاهم في التعليم الجامعي وتأليف الكتب. عين على أثرهم بناء على اقتراح زملاءه في وظيفة مدير للكوليج مع مساعدين تحت امرته، وهذا ما دفعه إلى التفكير في تنظيم وتطوير الكوليج التي كانت مقصداً للجمهور بشكل كثيف، لم يعد بنائها القديم يتحمل استيعاب المزيد، فتقدم بمشروع إلى رئاسة الجمهورية لإعادة تأهيلها ، فتمت الموافقة عليه. بعد انتهاء الترميم كان التوجه إلى عقد اجتماعات وندوات حول مواضيع يلقى فيه الضوء على أحداث معاصرة في حديقة "تالام". فكان الاجتماع الأول في اللوفر تحت مبنى الهرم الزجاجي حيث تم استقبال شخصيات مشهورة وباحثين أكاديميين من مختلف الجامعات الأوروبية، والأهم من كل ذلك موافقة رئيس الجمهورية على استقبال مثل هذه الشخصيات ليس فقط من أوروبا بل من كل لى رئاسة الجمهورية دول العالم ليكونوا أعضاء في الكوليج وليسوا زوار، مع إعطائهم الحرية في تحديد فترة إقامتهم ومواضيع محاضراتهم، والمشاركة في التصويت الانتخابي للهيئة التعليمية. وأما اللغة العربية فما زال يعطيها وقته في التأليف إلى ان يحين موعد التقاعد.

آخر فصول الكتاب خصصها لزوجته التي أحبها والتي تحملت معه التنقلات ومراجعة ما يكتبه وولدهما اللذان فقداه، مع ذكرى البلاد والمدن التي زاراها، وأخيراً التقاعد بعد تأليف خمسة عشر كتابا خلال ثلاثة وعشرين سنة مع ما كان يرغب به من جمعها والتعليق على بعضها وما يراوده من أفكار حول الحياة والموت والإيمان ورجاء القيامة. وهل يقال بأنه يتناسى بعد كل هذا اللغة العربية ؟ لا وإنما وفاءه لها أخذ منحى آخر إذ أراد أن يذكر بها، وبتاريخها الذي رغب في ارتقاءه إلى الأعلى، كما فعل الخليفة المأمون الذي أراد في القرن التاسع أن يجعل منها حضارة جديدة، نهضة تسبق نهضة أوروبا. التراث العربي الذي أغنته تراجم كبار المفكرين اليونانيين القدماء. "مقابلات بغداد" التي وجدت طريقها في صميم فكره هي قطعة من التاريخ ونموذج لتأمله في الزمن الحاضر. إضافة إلى شهرزاد التي رآها محررة القيود بعد موت زوجها مع إرادة كإرادة المأمون في تحديث المجتمع. وأخيراً ما قام بتأليفه من شعر نقله إلى العربية أو بالعكس عن فقدان ابنه بعد أن جمعها أحد زملاءه من الأصدقاء. ومن قال بأن حلمه في الآداب المقارنة انتهى بل أخذ منحى آخر.

من هو المستعرب ولماذا وكيف، استثنى من ذلك كتباً ثلاثة قيد الإصدار، المثل الذي أراد اتباعه هو على هيئة الثقافة العربية في القرون الوسطى والتي كانت تميل إلى الاعتقاد بأنه لا قيمة للمعرفة الا بنقلها إلى الآخرين، لذلك فما أراده هو تأليف ما استطاع إليه سبيلا بأسلوب سهل والذي تطلب منه بذل جهد قليل. ولكن هل يتعلق الأمر بالمعرفة فقط في وقت يشغل فيه العالم العربي موقعا أساسيا. كيف لا نندهش بجهل الآخرين له. فجميع كتبه ومقالاته كانت بالنسبة له عبارة عن مهام يقوم بتحقيقها. هذه المعرفة منحها العالم العربي في فترته الأخيرة للعالم. هذه الرسالة أراد توجيهها إلى الفرنسيين والى العرب في هذا الوقت رغم الأحداث الأليمة والأزمات الحالية التي يعيشها كي يعاد إلى دراسة هذا التراث بهدف الوصول إلى عالم يكون مشتركاً للجميع. وهذا ما أراد أن يلعبه في نقل هذا التراث وهذه الأحداث التي كان شاهداً عليها.

* قاضٍ سابق وأستاذ جامعي - مدير عام دار الفتوى سابقا

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني

عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى:

 الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا).  الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور.

لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟

قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة.

أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟

رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع.

إعلان

ما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة.

لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار.

السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟

لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته.

للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس).

إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟

تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها.

أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا.

الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع.

إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي.

إعلان

إنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين.

هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات.

أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة.

لهذا يقول العهد الديمقراطي:

"الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".

إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة.

هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.

لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.

هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة.

بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة.

من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟

إعلان

لقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟

لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.

لماذا ديمقراطية اجتماعية؟

كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية.

هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين.

لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا.

أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".

لماذا ديمقراطية اتحادية؟

إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا.

إعلان

هذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي.

النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.

لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.

هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".

لماذا ديمقراطية سيادية؟

المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل.

الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون.

لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".

إعلان لماذا ديمقراطية مواطنية؟

لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب.

أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.

هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.

مجمل القول:

أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.

خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).

إعلان

لقائل أن يقول: مشروع جميل لكن ما حظوظه من التحقيق، خاصة في ظل انحسار الديمقراطية في العالم والتهاب الشعبوية في كل مكان، ومتانة الأنظمة الاستبدادية التي قد تشكل الثورة التكنولوجية طوق نجاتها بما توفر من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟

هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.

لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته.

أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟

وللحديث بقية

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • حماس: نرحب بخطة إعادة إعمار غزة التي اعتمدتها القمة العربية
  • الرئيس الشرع: سوريا كانت من أوائل الدول الداعمة للحقوق العربية
  • الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
  • كيف كانت الدراما العربية تتفاعل مع قضية فلسطين سابقا؟
  • صفورية التي كانت تسكن تلال الجليل مثل العصفور.. جزء من هوية فلسطين
  • خالد الجندي يوضح أهمية قراءة القرآن الكريم بالتشكيل
  • مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ينظم احتفالية بمناسبة شهر رمضان
  • مركز تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ينظم احتفالية بمناسبة حلول شهر رمضان
  • فتح باب التسجيل لجائزة مجمع الملك سلمان للغة العربية
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يعلن فتح باب التسجيل في جائزته السنوية العالمية بدورتها الرابعة