قراءة في "خطة سير مستعرب"
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
د. مُحمَّد نقري*
ليس كتاب "قراءة في خط سير مستعرب" مسار طريق ولا خطة سير بالمعنى الدقيق؛ فالأول يعني تحديد مكان الانطلاق والوصول وفق معايير ثابتة ومحددة، بينما الثاني يفيد إمكانية الاختيار بعد الانطلاق بين احتمالات متعددة تصل في نهايتها للمكان المحدد للوصول. ما تحمله صفحات هذا الكتاب هو بمثابة خط طويل ينفذ منه خيارات كثيرة للخروج، أو حتى للقفز نحو المجهول.
لم تكن حديقة بالمعنى المألوف للكلمة تحتوي على المزروعات التي أحبها المؤلف من التين والمشمش واللوز، بل كانت صفوف متراصة من مزروعات العنب؛ حيث كان يعمل والداه مدرسيْن في تلك المدينة في أقصى الجنوب الفرنسي، فمزروعات العنب تحتاج سقاية تضخها قنوات الري من مكان ضيق إلى مكان أرحب، وهذه الصورة اكتملت لديه مما كان يحكى عن الحدائق في إسبانيا تحت الاسم السحري من الحمراء إلى غرناطة.
ومهما يكن، فإنه انطلق إلى الجنوب ومن جنوب أبعد من هذا الجنوب؛ حيث شاطئ البحر ومرافئ المراكب حين كان يزورها مع والديه، فيما أطلق عليها من الجانب الآخر تسمية "المنصور" وما استتبعها من قراءات عن علي بابا، وعلاء الدين، وعن الجن، وعن الشرق الذي كان يحلم به، بل ما كان يطوق إليه داخل نفسه لمستشرق يفك أسرار العالم... انمحى كل ذلك في حياته الطلابية.
وفي يوليو 1946، كانت السنة الأخيرة للمؤلف في الثانوية، وشاءت الصدف أن يقترح الوزير الشيوعي للتسليح الحربي مكافأة المتفوقين بالدراسة من المرشحين في المباراة العامة في الجغرافيا الذين نالوا أعلى درجات في امتحاناتهم للسفر إلى أجاكسيو في جزيرة كورسيكا وتونس والجزائر والرباط ومراكش عن طريق الإبحار في إحدى القطع البحرية التي استولت عليها فرنسا من الجيش الألماني. فتم اختيار 14 طالبًا وطالبتين من المتفوقين بينهم المؤلف.
حقَّقت هذه الزيارات أحلامه من رؤية المساجد والمآذن والأسواق، لكنها كانت تجتابها ضبابية كفيلة بمسح كل شيء، حيث كانت تغلبها ملامح الفتاة التي كانت ضمن فريقهم من مدينة كليرمون، والتي انتهى بها المطاف لأن تكون شريكة حياته وأكثر.
وبعد عودته لمدينة مونبلييه واجتماعه مع أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا الذي سبق له أن اقترحه لهذه المباراة، نصحه بأنْ يُكمل دراسته في الآداب بدل الرياضيات. وهكذا كان فما إن بدأ في الدراسة حتى تبين له أن منهجها يلخص في كلمتين "ثقافة عامة"؛ إذ اشتملت المواد التي كانت تدرس ابتداءً من المواد الإجبارية إلى مباراة المعهد العالي للتعليم على: التاريخ، الأدب الفرنسي، اللغة اللاتينية-اليونانية أو أي لغة من اللغات الحية، وما بقي يترك لما يرغب به الطالب وفقاً لميوله الذاتية. وقد أضيفت إلى شهيته لهذه العلوم ذكرياته التي أمضاها في إفريقيا الشمالية؛ حيث كان قد اقتنى نسخة من ترجمة قديمة للقرآن لمترجمها "سافاري"، فما استهواه فيها ليست في المقام الأول الآيات التي تتحدث عن المجتمع الإسلامي الجديد، وإنما السور التي أوحيت إلى النبي مُحمَّد وفق التسلسل التاريخي؛ حيث تحولت اللغة بفضل هذا الإلهام الإلهي رغم قراءتها مترجمة، إلى لغة شاعرية جياشة مليئة بالمعاني والأحاسيس، وهذا ما أدخل المؤلف في نفسه تمام القبول والرضا كمهتم بالدراسات الأدبية.
انقضتْ سنة 1949 مع ما مرَّ به المؤلف من أحداث في مجال دراسته؛ حيث اختار اللغات الفرنسية اللاتينية اليونانية الألمانية مضيفا الإيطالية بفضل زياراته إليها في مرحلة طفولته مع أهله ومع "جانين"، والإسبانية بفضل تشجيع والده الذي كان قد أكمل دراسته في المعهد العالي للمعلمين في مدينة مونبلييه الجنوبية، إلا أنَّه لم يجد أي انجذاب إلى اللغة الإنجليزية، وأما بين اللغات الهندوأوروبية فكان يميل لاختيار اللغة الفارسية. أتى العام 1950 ليكون عاما مباركا له، فقد تمت خطوبته لـ"جانين"، ونجح في مباراة المعهد العالي للتعليم بعد رسوبه به في العام الذي مضى.
وخلال سنته الأولى في المعهد العالي للمعلمين، قام المؤلف بزيارة رئيس كرسي اللغة الفارسية في معهد اللغات الشرقية هنري ماسيه؛ حيث أبدى له رغبته في التخصص بهذه اللغة مدعوما بما يحمله من كتب في القواعد والقواميس، فنصحه بتغيير تخصصه للغة العربية، لعدم وجود وظائف شاغرة في تخصص اللغة الفارسية، ونصحه بأخذ موعد مع أستاذ اللغات الشرقية بلاشير. وهكذا كان اجتماعه مع بلاشير الذي طلب منه التسجيل في معهد اللغات الشرقية ومقابلته في نهاية العام. إلا أن منهج الدراسة البطيء في اللغة العربية جعله يترك الدراسة ويستقر في دراسته في المعهد العالي للمعلمين. وفاء لوعده لبلاشير فقد عاد لمقابلته في شهر يونيو 1951. وفي تلك المقابلة، دفع بلاشير للمؤلف كتابا في اللغة العربية وطالبه بقراءته، فقرأ منه ما تيسر بدافع فضولي لمعرفة صاحب هذا الكتاب، فأخبره بلاشير بأنه عالم الجغرافيا من القرن العاشر يدعى ابن حوقل، وما عليه إلا أن يطالعه في أشهر الإجازة الصيفية.
خلال ذلك الصيف الذي قضاه مع والديه و"جانين" في إحدى المخيمات الصيفية، كان يقضي معظم وقته في قراءة كتاب الجغرافيا، مضيفا إليه كتابا آخر في الجغرافيا لشمس الدين المقدسي. وكما كانت تقتضي عادات ذلك الزمن كانت "جانين" تنام في سرير داخل مقطورة التخييم مع والديه بينما هو ينام داخل خيمة انفرادية. بعد انتهاء الإجازة وافق المعهد العالي للمعلمين على انتقاله لتخصص اللغة العربية بدلاً من التخصص في اللغات الأخرى التي سبق ذكرها، وكان اختياره لموضوع البحث: ترجمة فصل من كتاب المقدسي. وهكذا تولد لديه شعور بأنه أصبح مستعرباً بعد أن فتح له المقدسي وغيره آفاق التعمق في الجغرافية الإنسانية للعالم الإسلامي؛ مما تمخض عنه تأليف أربعة أجزاء ضخمة من مصنفات المؤلف خلال سنوات 1960 إلى 1980.
بعد تخرجه في المعهد العالي للمعلمين سنة 1952، وحصوله على رتبة الأستاذية تبعاً لاجتيازه مباراتها في تخصص النحو، عاوده سؤال عما إذا سيكمل تخصصه في اللغة العربية، خاصة بعد أن كان قد هجرها خلال إعداده لمباراة الأستاذية.
خلال الصيف الذي تبعه، تزوج المؤلف بخطيبته "جانين" وانتقلا للسكن في مدينة فيشي، فحدثته ذات يوم بشيء من التأنيب عن ضرورة استكماله لدراسة اللغة العربية، وأن عليه أن يزور بلاشير في منزله الريفي. لم تأخذ هذه الكلمات وقتاً للتفكير حيث انطلقا إلى منزل بلاشير الريفي في سيارتهما الجديدة المهداة لهما من قبل الأهل والأصدقاء، وما إن اجتمعا ببلاشير حتى نصحه بالتقدم لمنحة في العلاقات الثقافية التي تقدمها وزارة الشؤون الخارجية مما سيسمح له بالتسجيل في معهد الدراسات العربية في دمشق، إضافة إلى متابعة الدراسة في الجامعة والتدرب على العربية في الحياة العملية والأسواق واللقاءات. أعجبته الفكرة وأتم كل الإجراءات اللازمة بعد حصوله على المنحة فتوجه مع زوجته في سنة 1953 إلى إيطاليا ومنها بالباخرة مصطحبا سيارته إلى القاهرة؛ حيث مكث لفترة وجيزة ثم السفر إلى بيروت والوصول ليلا والتوجه إلى دمشق حيث كانت إقامته في معهد الدراسات العربية. وعملاً بنصيحة بلاشير قام بالتسجيل في الجامعة في قسم فقه اللغة. غير أنه لم يعرها كل اهتمامه. في دمشق قام هو وزوجته بزيارة تدمر وحلب وأور وبغداد، فأعادته لذكرياته القديمة وسفره الأول إلى شمال إفريقيا؛ إذ كانت الأوضاع السياسية مقلقة في سوريا فبعد الانقلاب على الدكتاتور الشيشكلي من قبل مجموعة من الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين العروبيين كانت المظاهرات تهتف "إننا سوريون"، جال في خاطره بعد استعراضه لهذه السنين الطويلة الماضية بأن هذه العبارة هي تعبير عن الانتماء للعروبة التي حافظت عليها شعوب المنطقة مطالبة بالوحدة والتي بقيت تدرج كمغامرة. وكذلك الأمر بالنسبة لتعلم العربية المحكية فبعد الجلاء الفرنسي عن سوريا منذ سبع سنوات، إلا أنَّ الشعب ما زال يحمل في ذهنه عبء الانتداب، فقرر المؤلف التخلي عن إتقان العربية المحكية لصالح العربية المكتوبة. وتنفيذاً لنصيحة بلاشر توجه إلى ترجمة مجموعة كتب كليلة ودمنة لابن المقفع المنقولة عن الفارسية والهندية؛ حيث وجد في انكبابه على هذه الترجمة باباً للدخول للآداب المقارنة. وخلال هذه الفترة سافرت "جانين" للولادة في مدينة فيشي الفرنسية.
وبعد دمشق توجه إلى فرنسا ليلبي نداء الوطن في خدمة العلم الإلزامية لمدة سنة، وليكون بقرب زوجته وطفلته، خلال تلك الفترة لم يكن ليستغني عن كتاب كليلة ودمنة وعن القاموس؛ ففي نهاية كل تدريب عسكري يعود للكتابة والترجمة. وما إن انتهت فترة خدمته العسكرية في سبتمبر 1955 حتى سافر لباريس ليقترح نقله إلى القاهرة في معهد الدراسات العربية، ولكن أحد زملائه سبقه إليه، إضافة إلى أنه لا يحمل درجة الأستاذية في اللغة العربية، فاقترحوا عليه الذهاب لأديس أبابا كمسؤول في قسم الآثار للمركز الملكي للدراسات والأبحاث، فوافق بعد استئذان زوجته التي أسرها أن تستعيد جو إفريقيا بعد قضائها أربع سنوات في مدغشقر في طفولتها. وخلال تواجدهم في العاصمة الإثيوبية بعد ولادة طفلهم الثاني عملت "جانين" في الإرسالية العلمانية. أما هو، فكان يقضيها في ممارسة الرياضة مع موظفي السفارة الفرنسية والسياحة إلى أن ابتدأ في مساءلة نفسه عن مستقبله فهل يدرس اللغة الإثيوبية أم تاريخ إثيوبيا المرتبط بتاريخ جنوب الجزيرة العربية وبلغتها. فقرر الكتابة لوزارة خارجيته ليخبرهم بأن وجوده في إثيوبيا لا يفيد أحداً، فقرروا إعادته إلى فرنسا حيث عينته وزارة التربية مدرسا في ثانوية بليز باسكال في مدينة كليرمون فارون لتدريس الفرنسية واللاتينية، وكذلك زوجته عادت إلى المدرسة التي كانت تعمل بها خلال فترة خدمته العسكرية.
مرة أخرى.. وأين اللغة العربية من كل هذا؟ خلال هذه السنة أرسلت له وزارة الخارجية رسالة تطلب فيها الالتحاق بباريس للعمل لديهم كمشرف على المدارس في آسيا وإفريقيا، فوافق على الفور بعد موافقة زوجته التي أسرها جدا الانتقال إلى باريس. وصُودِف أن قابل المسؤول عن القسم في وزارة الخارجية والذي هو خريج المعهد العالي للمعلمين، فنصحه بأن يحصل على درجة الدكتوراه وأن يتقدم إلى مباراة لوظيفة دبلوماسية، خاصة وأنَّ المتقدمين إليها من الذين يتقنون العربية هم قلائل. وخلال الأربع سنوات التي قضاها في باريس، كانت ساعات العمل كثيفة في وزارة الخارجية، والتي كان يعود منها متأخرا إلى البيت بعد نوم أطفاله، تخللتها زيارة لغينيا التي نالت استقلالها عن فرنسا وإلى أديس أبابا. لم يكن هناك وقت كافٍ للعربية إلا من خلال أطروحة الدكتوراه التي اختار موضوعها عن عالم الجغرافيا المقدسي وما تخللها عن دراسة العالم العربي وبلاد الشام. وبعد الانتهاء منها، تمَّت طباعتها في المعهد الفرنسي في دمشق. وحتى يدعم اعتباره متخصصاً في هذا المجال كتب خمسة مقالات عن العالم العربي باسم مستعار بسبب واجب التحفظ الذي كان عليه مراعاته في الوظيفة. وفي صيف 1961، وبعد انقطاع العلاقات بين فرنسا ومصر بسبب تأميم قناة السويس، تألفت بعثة على أثر معاهدة زيورخ من ضمن أعضائها مسؤول العلاقات الثقافية. وقد عُيِّن فيها وسافر مع عائلته على إثرها للقاهرة في شهر سبتمبر 1961 قبل أيام من الانفصال بين مصر وسوريا.
تحقق هذا الحلم أخيراً بالسفر للقاهرة والسكن في إحدى الشقق التابعة للسفارة السويسرية، إلى جانب السياحة في مدنها التاريخية. الوظيفة كانت تشمل الالتقاء بالمسؤولين المصريين لتوطيد دعائم التبادل الثقافي بشكل تام، والبت في طلبات المنح الدراسية إلى فرنسا بعد التأكد من شرط الإجازة الجامعية وإتقان اللغة الفرنسية وتوفر التخصص المطلوب. عكر صفو الإقامة في القاهرة زيارة أفراد من المخابرات المصرية لشقته في ثيابهم السوداء في منتصف الليل حيث اقتادوه إلى السجن بتهمة التجسس وتهديد الأمن القومي، مع خشيته الحكم عليه بالإعدام. وبعد المفاوضات التي أعادته إلى فرنسا والخروج من السجن في شهر أبريل 1962، اقترحت وزارة الخارجية تعيينه في البرازيل، فأعاد طرح السؤال على نفسه: وأين مكان اللغة العربية؟ فقرر العودة للتعليم الجامعي؛ حيث عين أستاذا في جامعة مونبلييه لمادتي فقه اللغة والأدب المقارن مع عقده النية لفتح قسم للغة العربية، إلا أن جامعة أكسونبروفنس طلبت منه أن يدعم قسم اللغة العربية الموجود سابقا في تخصصها الأكاديمي. أما في مجال الأبحاث العلمية، فما زال اهتمامه قائما بعلماء الجغرافيا العرب. وقد منحته جدران السجن في القاهرة القدرة على فهم منهجية هذه الجغرافية البشرية؛ إذ إنَّ الأولوية لدى علمائها العرب كانت في دراسة الانتشار البشري على مساحة البلاد الممتدة من آسيا الوسطى وغرب الهند إلى إسبانيا وإعطاء القيمة العلمية للعلماء اليونانيين الذين أسهمت كُتبهم المترجمة في إثراء البيئة العلمية. ويطرح سؤال عما كان يبحث عنه هؤلاء العلماء في مؤلفاتهم: السفر أو تدوين مشاهداتهم أو وسيلة أخرى للإعلام. هل أرادوا إضافة شيء جديد في زمنهم. هل هي الثقافة حيث كانوا يحلمون بالوصول إليها عن طريق المعرفة.
مضت سنتان في تدريسه في جامعة أكس من 1962 إلى 1964 حيث قام بكتابة عدة مقالات عن العالم العربي الحديث وخاصة عن كتاب نجيب محفوظ وعلاقة كليلة ودمنة بكتاب "اساطير النافورة"...ومن خلالهما العودة إلى الأدب المقارن، ثم العودة إلى الجغرافيا عند العلماء العرب، ولكن هذه المرة مع الصعوبات الجمة للوصول إلى المكتبات التخصصية. وفي خضم هذه الاهتمامات يرده اقتراح من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والتي أصبحت تسمى فيما بعد "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية". مما استدعى منه الانتقال مرة أخرى إلى باريس بعد ان كانت قد استقرت زوجته في مونبلييه وأبدعت في التدريس في معاهدها.
وفي باريس، أصبح "عالم اجتماع" أو هكذا صنف، حيث كان يقضي بضع ساعات أسبوعية في محاضراته مع الباحثين من طلاب المدرسة العليا، ومعظم وقته في كتابة المقالات التي تتوافق مع منحاه الأكاديمي الجديد وفيما يتعلق بالمصطلحات العربية في النسب والميراث وفق أحكام الشريعة، إلى جانب تدريب الكادر التعليمي في البلاد النامية والبلاد العربية، والآداب المعاصرة، وكتابة عشرين مقالا في الموسوعات. أضاف إليهم ترجمة لرحلة من القرن العاشر الميلادي قام بها يهودي اسباني إبراهيم بن يعقوب إلى مختلف البلاد الأوروبية. كذلك أصدر كتابا عن الحضارة الإسلامية من القرن السابع إلى القرن العشرين، والاطروحة عن الجغرافيين العرب التي توجت الأكاديمية الفرنسية إصدارها. من لطائف ما كان يتمتع به دراجته النارية التي أصبحت عدة شغله كمستعرب، فمن مكان سكنه على حافة مدخل العاصمة الفرنسية كان كثيرا ما يمتطيها متوجها إلى مدن أكثر بعدا حيث يمضي وقته في الكتابة في احد المطاعم التي تتقبل مكوثه فيها لفترة طويلة. خلاصة عمله في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا نتج عنها عنوانا جديدا له كدكتور في الآداب وتعيينه أستاذا في جامعة باريس الثامنة حيث كانت تقع على عاتقه مع باقي زملائه الأساتذة تنظيم قسم الدراسات العربية ودمجها مع أقسام أخرى كقسم فقه اللغة والآداب المقارنة والتاريخ.
وفي خريف 1968، أراد المتشددون الذين قاموا بالثورة الطلابية إجراء تغيير شامل في مناهج الدراسة في الجامعة إلا أنهم فشلوا فعادت الجامعة إلى ارتداء حلتها القديمة وتم إنشاء قسم للغة العربية. لم تكن المهمة الجديدة في الجامعة لتتيح له استكمال أبحاثه، إلا أنه تمكن من تأليف كتاب عن تاريخ الأدب العربي وتجميع وثائق عن الجغرافيا فيما ذكره الجغرافيون العرب عن أهمية الأرض والشعوب خارج حدود العالم الإسلامي. أصابته مأساة في مرض ابنه الذي كان يبلغ الأربعة عشر سنة فبترت ساقه، ورغم آلامه كان يصطحبه معه إلى إيطاليا لتقديم عدة برامج تلفزيونية عن الإسلام. هذه الانشغالات حالت بينه وبين إعطاء كامل طاقته في الجامعة تاركا كثيراً من المهام إلى زملاءه. وقد كانت خاتمة أحزانه وفاة ابنه. في نهاية العام الجامعي تم تعيينه في جامعة باريس الثالثة مسؤولا في الكرسي الجامعي التي كان يشغلها أستاذه بلاشير.
أحدثت وفاة ابنه صدمة له ولزوجته ولابنته جعلته ينكب على استكمال كتباته ومهنته التدريسية، إذ أصبح أستاذ كرسي رغم انه لا يحمل الأستاذية في اللغة العربية كباقي المرشحين لهذا المنصب الأكاديمي الرفيع، قد يكون بسبب أن القسم الذي يشغله لا يتضمن مستعربين فقط، وإنما أيضا متخصصين في التركية والفارسية. كذلك اختتم العشرين سنة التي أمضاها وقد طوى صفحة الآداب المقارنة ليستقر في كتب الجغرافية البشرية عند المسلمين حتى القرن الحادي عشر. قبل إصدار الجزء الثاني من كتابه في هذا المجال باشر في الكتابة الوصفية للمواقع الطبيعية للعالم الإسلامي. تقاطعت مع ترجمة لأشعار بدر شاكر السياب وعشرات المقالات عن علماء الجغرافيا العرب القدماء والحديثين، وكتاب "ألف ليلة وليلة". مجموعة هذه المقالات نشرت في موسوعات أو مجلات تخصصية. مما جعله مسروراً في تدريسه في هذه الجامعة وجود الطلبة والطالبات الذين ما انفكوا يسألونه فيما لو طالع هذا الكتاب أو ذاك المرجع، فيجيب بالنفي دون أن يعلموا بأنهم أثاروا في نفسه الفضول لمطالعة هذه الكتب لدرجة انه كان يشعر بالسعادة بإحساسه أنه هو الذي يتلقى ويتعلم أكثر من شعوره بالسعادة في كونه أستاذاً. شجعه أحد الأصدقاء يوما إلى الترشح في "الكوليج دا فرنس" فتمت الموافقة على قبوله. في هذه المؤسسة الرفيعة يبتدئ الأستاذ بطرح مشروعه التعليمي من خلال نقطتين أساسيتان الأولى أن تتحقق لديه المعرفة فوراً ولاحقاً بحيث يتعين أن تكون مبتكرة بموضوعها كما في الخطوات التي تليها. فالكوليج لا تمنح شهادات ولا إفادات؛ إذ يأتي إليها أي مستمع في أي وقت يشاء، والثانية متعلقة بالوقت عندما تنتهي مواضيع البرنامج المعلن عنها، لا يضاف إليها مواضيع "حشوة" فسياسة الكوليج المنحوتة بالرخام : "هنا ندرس ما نبحث عنه". طبيعة العمل في الكوليج تتطلب تفرغاً من التدريس من الجامعات باستثناء متابعة أطروحات المسجلين لدى الأستاذ في الدكتوراه، كما تتطلب السفر دائماً والالتقاء بشخصيات علمية ذائعة الصيت. التدريس الجامعي يعني منح المعرفة مع الالتزام الحصري بالبرنامج، بينما في الكوليج تعني البحث بحرية أولاً والتكلم لاحقاً بشرط الحفاظ على نفس الموضوع. بينما المحاضرات فهي أمام جمهور مستمع بدون نقاش، وأما النقاشات فكانت مخصصة في ورشات الدراسة لمواضيع ثانوية او مكملة أو جديدة.
عندما يسأل عن مواضيع محاضراته ومنشوراته وكتبه، فهي عبارة عن مئات المقالات المتنوعة وعن الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي، حيث تم نشر الجزء الثالث المخصص للأماكن الطبيعية في العالم العربي سنة 1980 ويقوم بتحضير الجزء الرابع والأخير عن المجتمعات والتصرفات الذي صدر بعد ثمانية سنوات. وبعد فتح شهيته على الكتابة نشر طبعة مصورة عن بعض المواضيع التي كتب عنها في الجزئين الثاني والرابع، ترجمة مذكرات أسامة ابن منقذ وهو أمير سوري في العهد الصليبي، والسورة رقم 56 من القرآن الكريم ودراسة حيوان الدب عند العرب وثلاثة كتب من مقابلات مع زملاءه الأساتذة.
غير أن ترجمته لقصائد الشعر العربي جعلته يتساءل عن مقدار الأمانة العلمية في نقل المعاني إلى الفرنسية، مما ولد إليه الرغبة في تطويع اللغة الفرنسية لتصبح مقفاة وموزونة مما أثار نقد زملائه الذين يفضلون الشعر بلا قيود ولا أوزان. وهذا ما قاده إلى قصة مجنون ليلى ومقارنته لها بقصص مماثلة في الأدب الفرنسي مثل روميو وجولييت. هذه الشهية نحو هذه القراءة جعلته يشعر بسعادة القفز بين رواية وقصة وقصيدة وفكرة أنسته لبعض الوقت كتاباته عن الجغرافية البشرية.
وفي سنة 1984 تم تعيينه لمدة أربع سنوات في الإدارة العامة للمكتبة الوطنية مع ما جلبته له هذه الوظيفة من امتيازات في السكن والخدمة المنزلية والسفر والاستقبالات وحضور المهرجانات. غير أنه بعد اطلاعه على طريقة عمل المكتبة والمصاعب التي ممكن التغلب عليها بإضافة بعض التحسينات على عملها وفرز ما يمكن فصله عنها من موجودات وآثار وأزياء تاريخية قديمة إلى أماكن أخرى، تقدم بمجموعة اقتراحات منتظراً موعداً مع وزير الثقافة، بعد طول الانتظار تقدم باستقالته من هذا المنصب.
وكان قد مضت عشر سنوات على عمله في "الكوليج دا فرنس" من بين واحد وعشرين سنة قضاهم في التعليم الجامعي وتأليف الكتب. عين على أثرهم بناء على اقتراح زملاءه في وظيفة مدير للكوليج مع مساعدين تحت امرته، وهذا ما دفعه إلى التفكير في تنظيم وتطوير الكوليج التي كانت مقصداً للجمهور بشكل كثيف، لم يعد بنائها القديم يتحمل استيعاب المزيد، فتقدم بمشروع إلى رئاسة الجمهورية لإعادة تأهيلها ، فتمت الموافقة عليه. بعد انتهاء الترميم كان التوجه إلى عقد اجتماعات وندوات حول مواضيع يلقى فيه الضوء على أحداث معاصرة في حديقة "تالام". فكان الاجتماع الأول في اللوفر تحت مبنى الهرم الزجاجي حيث تم استقبال شخصيات مشهورة وباحثين أكاديميين من مختلف الجامعات الأوروبية، والأهم من كل ذلك موافقة رئيس الجمهورية على استقبال مثل هذه الشخصيات ليس فقط من أوروبا بل من كل لى رئاسة الجمهورية دول العالم ليكونوا أعضاء في الكوليج وليسوا زوار، مع إعطائهم الحرية في تحديد فترة إقامتهم ومواضيع محاضراتهم، والمشاركة في التصويت الانتخابي للهيئة التعليمية. وأما اللغة العربية فما زال يعطيها وقته في التأليف إلى ان يحين موعد التقاعد.
آخر فصول الكتاب خصصها لزوجته التي أحبها والتي تحملت معه التنقلات ومراجعة ما يكتبه وولدهما اللذان فقداه، مع ذكرى البلاد والمدن التي زاراها، وأخيراً التقاعد بعد تأليف خمسة عشر كتابا خلال ثلاثة وعشرين سنة مع ما كان يرغب به من جمعها والتعليق على بعضها وما يراوده من أفكار حول الحياة والموت والإيمان ورجاء القيامة. وهل يقال بأنه يتناسى بعد كل هذا اللغة العربية ؟ لا وإنما وفاءه لها أخذ منحى آخر إذ أراد أن يذكر بها، وبتاريخها الذي رغب في ارتقاءه إلى الأعلى، كما فعل الخليفة المأمون الذي أراد في القرن التاسع أن يجعل منها حضارة جديدة، نهضة تسبق نهضة أوروبا. التراث العربي الذي أغنته تراجم كبار المفكرين اليونانيين القدماء. "مقابلات بغداد" التي وجدت طريقها في صميم فكره هي قطعة من التاريخ ونموذج لتأمله في الزمن الحاضر. إضافة إلى شهرزاد التي رآها محررة القيود بعد موت زوجها مع إرادة كإرادة المأمون في تحديث المجتمع. وأخيراً ما قام بتأليفه من شعر نقله إلى العربية أو بالعكس عن فقدان ابنه بعد أن جمعها أحد زملاءه من الأصدقاء. ومن قال بأن حلمه في الآداب المقارنة انتهى بل أخذ منحى آخر.
من هو المستعرب ولماذا وكيف، استثنى من ذلك كتباً ثلاثة قيد الإصدار، المثل الذي أراد اتباعه هو على هيئة الثقافة العربية في القرون الوسطى والتي كانت تميل إلى الاعتقاد بأنه لا قيمة للمعرفة الا بنقلها إلى الآخرين، لذلك فما أراده هو تأليف ما استطاع إليه سبيلا بأسلوب سهل والذي تطلب منه بذل جهد قليل. ولكن هل يتعلق الأمر بالمعرفة فقط في وقت يشغل فيه العالم العربي موقعا أساسيا. كيف لا نندهش بجهل الآخرين له. فجميع كتبه ومقالاته كانت بالنسبة له عبارة عن مهام يقوم بتحقيقها. هذه المعرفة منحها العالم العربي في فترته الأخيرة للعالم. هذه الرسالة أراد توجيهها إلى الفرنسيين والى العرب في هذا الوقت رغم الأحداث الأليمة والأزمات الحالية التي يعيشها كي يعاد إلى دراسة هذا التراث بهدف الوصول إلى عالم يكون مشتركاً للجميع. وهذا ما أراد أن يلعبه في نقل هذا التراث وهذه الأحداث التي كان شاهداً عليها.
* قاضٍ سابق وأستاذ جامعي - مدير عام دار الفتوى سابقا
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رامي صبري: المهرجان "مش ذوقي".. وأرحب بـ عمل دويتو مع ويجز
تحدث النجم رامي صبري، عن المهرجانات وشكله وإقبال الجمهور على سماعها، قائلًا: "المهرجان مش بيتغنا.. حلو والناس بتحبه وأنا ساعات بسمعه، مش هو ده اللون اللي ممكن أغنيه".
وأوضح “صبري”، خلال حواره مع الإعلامية أسما إبراهيم ببرنامج “حبر سري”، على شاشة “القاهرة والناس”، أنه ليس له علاقة بالمهرجانات ويرفض غنائه، ويرفض أن يترك اللون الذي تميز فيه من الغناء، مضيفًا: "أوافق أن أشارك في عمل غنائي ثنائي راب مع مروان بابلو وويجز، مؤكدًا أن ويجز مجتهد وفرض نجاحه وأغانيه معروفه، وجميع مطربي الراب نجحوا وليس هناك أي شخص ضد النجاح.
وشدد على أن ويجز شاطر ومجتهد وبيذاكر على الذي يتمزون فيه، موضحًا أنه قريب من الراب وليس المهرجان، و"المهرجان موسيقى شعبي جاي من تحت أوووي، لغة تانية غير اللغة بتاعتنا، فرقة زي كاريوكي متميزين ومجتهدين ولديهم صوت موسيقي ممتاز، لديهم مشروع ولهم جمهور وبيعملوا موسيقى مميزة ومحترمة، وحفلتهم تنجح بشكل كبير لغتهم زي اللغة بتاعتنا".
وتابع: "المهرجانات مش ذوقي وضد أي حد يقطع رزق حد.. طول ما المهرجان في نطاق الأدب والاحترام تمام وليس هناك أي شخص رقيب على الذوق العام، القانون لازم يتنفذ على الكل عشان نقتنع بفكرة المنع".