جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-02@23:10:56 GMT

قراءة في "خطة سير مستعرب"

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

قراءة في 'خطة سير مستعرب'

 

 

د. مُحمَّد نقري*

ليس كتاب "قراءة في خط سير مستعرب" مسار طريق ولا خطة سير بالمعنى الدقيق؛ فالأول يعني تحديد مكان الانطلاق والوصول وفق معايير ثابتة ومحددة، بينما الثاني يفيد إمكانية الاختيار بعد الانطلاق بين احتمالات متعددة تصل في نهايتها للمكان المحدد للوصول. ما تحمله صفحات هذا الكتاب هو بمثابة خط طويل ينفذ منه خيارات كثيرة للخروج، أو حتى للقفز نحو المجهول.

فليس الكتاب سيرة ذاتية إلا جزئيًّا بحيث لا يتناول مواضيع عن العائلة والأصدقاء بل يأتي على ذكر عدة لقاءات جمعت المؤلف مع أصدقاء لا يتناولهم جميعاً بذكر أسمائهم باستثناء شريكة حياته "جانين". هدف الكتاب هو بيان كيف أن مسار الطريق أو خطة السير أعطت معنى لعلاقة المؤلف مع الآخرين؛ سواء كانوا من الذين يشاركونه في الانتماء للوطن من خلال رغبته في توضيحه لحضارة مازالت مجهولة أو غير واضحة لهم كما يجب، أو إلى العرب الذين يرغب المؤلف في تحميلهم رسالة رغم ما يعانونه من اضطرابات مفادها التأمل في ماضيهم دون خشية من قول كلمة "قيمهم".

لم تكن حديقة بالمعنى المألوف للكلمة تحتوي على المزروعات التي أحبها المؤلف من التين والمشمش واللوز، بل كانت صفوف متراصة من مزروعات العنب؛ حيث كان يعمل والداه مدرسيْن في تلك المدينة في أقصى الجنوب الفرنسي، فمزروعات العنب تحتاج سقاية تضخها قنوات الري من مكان  ضيق إلى مكان أرحب، وهذه الصورة اكتملت لديه مما كان يحكى عن الحدائق في إسبانيا تحت الاسم السحري من الحمراء إلى غرناطة.

ومهما يكن، فإنه انطلق إلى الجنوب ومن جنوب أبعد من هذا الجنوب؛ حيث شاطئ البحر ومرافئ المراكب حين كان يزورها مع والديه، فيما أطلق عليها من الجانب الآخر تسمية "المنصور" وما استتبعها من قراءات عن علي بابا، وعلاء الدين، وعن الجن، وعن الشرق الذي كان يحلم به، بل ما كان يطوق إليه داخل نفسه لمستشرق يفك أسرار العالم... انمحى كل ذلك في حياته الطلابية.

وفي يوليو 1946، كانت السنة الأخيرة للمؤلف في الثانوية، وشاءت الصدف أن يقترح الوزير الشيوعي للتسليح الحربي مكافأة المتفوقين بالدراسة من المرشحين في المباراة العامة في الجغرافيا الذين نالوا أعلى درجات في امتحاناتهم للسفر إلى أجاكسيو في جزيرة كورسيكا وتونس والجزائر والرباط ومراكش عن طريق الإبحار في إحدى القطع البحرية التي استولت عليها فرنسا من الجيش الألماني. فتم اختيار 14 طالبًا وطالبتين من المتفوقين بينهم المؤلف.

حقَّقت هذه الزيارات أحلامه من رؤية المساجد والمآذن والأسواق، لكنها كانت تجتابها ضبابية كفيلة بمسح كل شيء، حيث كانت تغلبها ملامح الفتاة التي كانت ضمن فريقهم من مدينة كليرمون، والتي انتهى بها المطاف لأن تكون شريكة حياته وأكثر.

وبعد عودته لمدينة مونبلييه واجتماعه مع أستاذ مادة التاريخ والجغرافيا الذي سبق له أن اقترحه لهذه المباراة، نصحه بأنْ يُكمل دراسته في الآداب بدل الرياضيات. وهكذا كان فما إن بدأ في الدراسة حتى تبين له أن منهجها يلخص في كلمتين "ثقافة عامة"؛ إذ اشتملت المواد التي كانت تدرس ابتداءً من المواد الإجبارية إلى مباراة المعهد العالي للتعليم على: التاريخ، الأدب الفرنسي، اللغة اللاتينية-اليونانية أو أي لغة من اللغات الحية، وما بقي يترك لما يرغب به الطالب وفقاً لميوله الذاتية. وقد أضيفت إلى شهيته لهذه العلوم ذكرياته التي أمضاها في إفريقيا الشمالية؛ حيث كان قد اقتنى نسخة من ترجمة قديمة للقرآن لمترجمها "سافاري"، فما استهواه فيها ليست في المقام الأول الآيات التي تتحدث عن المجتمع الإسلامي الجديد، وإنما السور التي أوحيت إلى النبي مُحمَّد وفق التسلسل التاريخي؛ حيث تحولت اللغة بفضل هذا الإلهام الإلهي رغم قراءتها  مترجمة، إلى لغة شاعرية جياشة مليئة بالمعاني والأحاسيس، وهذا ما أدخل المؤلف في نفسه تمام القبول والرضا كمهتم بالدراسات الأدبية.

انقضتْ سنة 1949 مع ما مرَّ به المؤلف من أحداث في مجال دراسته؛ حيث اختار اللغات الفرنسية اللاتينية اليونانية الألمانية مضيفا الإيطالية بفضل زياراته إليها في مرحلة طفولته مع أهله ومع "جانين"، والإسبانية بفضل تشجيع والده الذي كان قد أكمل دراسته في المعهد العالي للمعلمين في مدينة مونبلييه الجنوبية، إلا أنَّه لم يجد أي انجذاب إلى اللغة الإنجليزية، وأما بين اللغات الهندوأوروبية فكان يميل لاختيار اللغة الفارسية. أتى العام 1950 ليكون عاما مباركا له، فقد تمت خطوبته لـ"جانين"، ونجح في مباراة المعهد العالي للتعليم بعد رسوبه به في العام الذي مضى.

وخلال سنته الأولى في المعهد العالي للمعلمين، قام المؤلف بزيارة رئيس كرسي اللغة الفارسية في معهد اللغات الشرقية هنري ماسيه؛ حيث أبدى له رغبته في التخصص بهذه اللغة مدعوما بما يحمله من كتب في القواعد والقواميس، فنصحه بتغيير تخصصه للغة العربية، لعدم وجود وظائف شاغرة في تخصص اللغة الفارسية، ونصحه بأخذ موعد مع أستاذ اللغات الشرقية بلاشير. وهكذا كان اجتماعه مع بلاشير الذي طلب منه التسجيل في معهد اللغات الشرقية ومقابلته في نهاية العام. إلا أن منهج الدراسة البطيء في اللغة العربية جعله يترك الدراسة ويستقر في دراسته في المعهد العالي للمعلمين. وفاء لوعده لبلاشير فقد عاد لمقابلته في شهر يونيو 1951. وفي تلك المقابلة، دفع بلاشير للمؤلف كتابا في اللغة العربية وطالبه بقراءته، فقرأ منه ما تيسر بدافع فضولي لمعرفة صاحب هذا الكتاب، فأخبره بلاشير بأنه عالم الجغرافيا من القرن العاشر يدعى ابن حوقل، وما عليه إلا أن يطالعه في أشهر الإجازة الصيفية.

خلال ذلك الصيف الذي قضاه مع والديه و"جانين" في إحدى المخيمات الصيفية، كان يقضي معظم وقته في قراءة كتاب الجغرافيا، مضيفا إليه كتابا آخر في الجغرافيا لشمس الدين المقدسي. وكما كانت تقتضي عادات ذلك الزمن كانت "جانين" تنام في سرير داخل مقطورة التخييم مع والديه بينما هو ينام داخل خيمة انفرادية. بعد انتهاء الإجازة وافق المعهد العالي للمعلمين على انتقاله لتخصص اللغة العربية بدلاً من التخصص في اللغات الأخرى التي سبق ذكرها، وكان اختياره لموضوع البحث: ترجمة فصل من كتاب المقدسي. وهكذا تولد لديه شعور بأنه أصبح مستعرباً بعد أن فتح له المقدسي وغيره آفاق التعمق في الجغرافية الإنسانية للعالم الإسلامي؛ مما تمخض عنه تأليف أربعة أجزاء ضخمة من مصنفات المؤلف خلال سنوات 1960 إلى 1980.

بعد تخرجه في المعهد العالي للمعلمين سنة 1952، وحصوله على رتبة الأستاذية تبعاً لاجتيازه مباراتها في تخصص النحو، عاوده سؤال عما إذا سيكمل تخصصه في اللغة العربية، خاصة بعد أن كان قد هجرها خلال إعداده لمباراة الأستاذية.

خلال الصيف الذي تبعه، تزوج المؤلف بخطيبته "جانين" وانتقلا للسكن في مدينة فيشي، فحدثته ذات يوم بشيء من التأنيب عن ضرورة استكماله لدراسة اللغة العربية، وأن عليه أن يزور بلاشير في منزله الريفي. لم تأخذ هذه الكلمات وقتاً للتفكير حيث انطلقا إلى منزل بلاشير الريفي في سيارتهما الجديدة المهداة لهما من قبل الأهل والأصدقاء، وما إن اجتمعا ببلاشير حتى نصحه بالتقدم لمنحة في العلاقات الثقافية التي تقدمها وزارة الشؤون الخارجية مما سيسمح له بالتسجيل في معهد الدراسات العربية في دمشق، إضافة إلى متابعة الدراسة في الجامعة والتدرب على العربية في الحياة العملية والأسواق واللقاءات. أعجبته الفكرة وأتم كل الإجراءات اللازمة بعد حصوله على المنحة فتوجه مع زوجته في سنة 1953 إلى إيطاليا ومنها بالباخرة مصطحبا سيارته إلى القاهرة؛ حيث مكث لفترة وجيزة ثم السفر إلى بيروت والوصول ليلا والتوجه إلى دمشق حيث كانت إقامته في معهد الدراسات العربية. وعملاً بنصيحة بلاشير قام بالتسجيل في الجامعة في قسم فقه اللغة. غير أنه لم يعرها كل اهتمامه. في دمشق قام هو وزوجته بزيارة تدمر وحلب وأور وبغداد، فأعادته لذكرياته القديمة وسفره الأول إلى شمال إفريقيا؛ إذ كانت الأوضاع السياسية مقلقة في سوريا فبعد الانقلاب على الدكتاتور الشيشكلي من قبل مجموعة من الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين العروبيين كانت المظاهرات تهتف "إننا سوريون"، جال في خاطره بعد استعراضه لهذه السنين الطويلة الماضية بأن هذه العبارة هي تعبير عن الانتماء للعروبة التي حافظت عليها شعوب المنطقة مطالبة بالوحدة والتي بقيت تدرج كمغامرة. وكذلك الأمر بالنسبة لتعلم العربية المحكية فبعد الجلاء الفرنسي عن سوريا منذ سبع سنوات، إلا أنَّ الشعب ما زال يحمل في ذهنه عبء الانتداب، فقرر المؤلف التخلي عن إتقان العربية المحكية لصالح العربية المكتوبة. وتنفيذاً لنصيحة بلاشر توجه إلى ترجمة مجموعة كتب كليلة ودمنة لابن المقفع المنقولة عن الفارسية والهندية؛ حيث وجد في انكبابه على هذه الترجمة باباً للدخول للآداب المقارنة. وخلال هذه الفترة سافرت "جانين" للولادة في مدينة فيشي الفرنسية.

وبعد دمشق توجه إلى فرنسا ليلبي نداء الوطن في خدمة العلم الإلزامية لمدة سنة، وليكون بقرب زوجته وطفلته، خلال تلك الفترة لم يكن ليستغني عن كتاب كليلة ودمنة وعن القاموس؛ ففي نهاية كل تدريب عسكري يعود للكتابة والترجمة. وما إن انتهت فترة خدمته العسكرية في سبتمبر 1955 حتى سافر لباريس ليقترح نقله إلى القاهرة في معهد الدراسات العربية، ولكن أحد زملائه سبقه إليه، إضافة إلى أنه لا يحمل درجة الأستاذية في اللغة العربية، فاقترحوا عليه الذهاب لأديس أبابا كمسؤول في قسم الآثار للمركز الملكي للدراسات والأبحاث، فوافق بعد استئذان زوجته التي أسرها أن تستعيد جو إفريقيا بعد قضائها أربع سنوات في مدغشقر في طفولتها. وخلال تواجدهم في العاصمة الإثيوبية بعد ولادة طفلهم الثاني عملت "جانين" في الإرسالية العلمانية. أما هو، فكان يقضيها في ممارسة الرياضة مع موظفي السفارة الفرنسية والسياحة إلى أن ابتدأ في مساءلة نفسه عن مستقبله فهل يدرس اللغة الإثيوبية أم تاريخ إثيوبيا المرتبط بتاريخ جنوب الجزيرة العربية وبلغتها. فقرر الكتابة لوزارة خارجيته ليخبرهم بأن وجوده في إثيوبيا لا يفيد أحداً، فقرروا إعادته إلى فرنسا حيث عينته وزارة التربية مدرسا في ثانوية بليز باسكال في مدينة كليرمون فارون لتدريس الفرنسية واللاتينية، وكذلك زوجته عادت إلى المدرسة التي كانت تعمل بها خلال فترة خدمته العسكرية.

مرة أخرى.. وأين اللغة العربية من كل هذا؟ خلال هذه السنة أرسلت له وزارة الخارجية رسالة تطلب فيها الالتحاق بباريس للعمل لديهم كمشرف على المدارس في آسيا وإفريقيا، فوافق على الفور بعد موافقة زوجته التي أسرها جدا الانتقال إلى باريس. وصُودِف أن قابل المسؤول عن القسم في وزارة الخارجية والذي هو خريج المعهد العالي للمعلمين، فنصحه بأن يحصل على درجة الدكتوراه وأن يتقدم إلى مباراة لوظيفة دبلوماسية، خاصة وأنَّ المتقدمين إليها من الذين يتقنون العربية هم قلائل. وخلال الأربع سنوات التي قضاها في باريس، كانت ساعات العمل كثيفة في وزارة الخارجية، والتي كان يعود منها متأخرا إلى البيت بعد نوم أطفاله، تخللتها زيارة لغينيا التي نالت استقلالها عن فرنسا وإلى أديس أبابا. لم يكن هناك وقت كافٍ للعربية إلا من خلال أطروحة الدكتوراه التي اختار موضوعها عن عالم الجغرافيا المقدسي وما تخللها عن دراسة العالم العربي وبلاد الشام. وبعد الانتهاء منها، تمَّت طباعتها في المعهد الفرنسي في دمشق. وحتى يدعم اعتباره متخصصاً في هذا المجال كتب خمسة مقالات عن العالم العربي باسم مستعار بسبب واجب التحفظ الذي كان عليه مراعاته في الوظيفة. وفي صيف 1961، وبعد انقطاع العلاقات بين فرنسا ومصر بسبب تأميم قناة السويس، تألفت بعثة على أثر معاهدة زيورخ من ضمن أعضائها مسؤول العلاقات الثقافية. وقد عُيِّن فيها وسافر مع عائلته على إثرها للقاهرة في شهر سبتمبر 1961 قبل أيام من الانفصال بين مصر وسوريا.

تحقق هذا الحلم أخيراً بالسفر للقاهرة والسكن في إحدى الشقق التابعة للسفارة السويسرية، إلى جانب السياحة في مدنها التاريخية. الوظيفة كانت تشمل الالتقاء بالمسؤولين المصريين لتوطيد دعائم التبادل الثقافي بشكل تام، والبت في طلبات المنح الدراسية إلى فرنسا بعد التأكد من شرط الإجازة الجامعية وإتقان اللغة الفرنسية وتوفر التخصص المطلوب. عكر صفو الإقامة في القاهرة زيارة أفراد من المخابرات المصرية لشقته في ثيابهم السوداء في منتصف الليل حيث اقتادوه إلى السجن بتهمة التجسس وتهديد الأمن القومي، مع خشيته الحكم عليه بالإعدام. وبعد المفاوضات التي أعادته إلى فرنسا والخروج من السجن في شهر أبريل 1962، اقترحت وزارة الخارجية تعيينه في البرازيل، فأعاد طرح السؤال على نفسه: وأين مكان اللغة العربية؟ فقرر العودة للتعليم الجامعي؛ حيث عين أستاذا في جامعة مونبلييه لمادتي فقه اللغة والأدب المقارن مع عقده النية لفتح قسم للغة العربية، إلا أن جامعة أكسونبروفنس طلبت منه أن يدعم قسم اللغة العربية الموجود سابقا في تخصصها الأكاديمي. أما في مجال الأبحاث العلمية، فما زال اهتمامه قائما بعلماء الجغرافيا العرب. وقد منحته جدران السجن في القاهرة القدرة على فهم منهجية هذه الجغرافية البشرية؛ إذ إنَّ الأولوية لدى علمائها العرب كانت في دراسة الانتشار البشري على مساحة البلاد الممتدة من آسيا الوسطى وغرب الهند إلى إسبانيا وإعطاء القيمة العلمية للعلماء اليونانيين الذين أسهمت كُتبهم المترجمة في إثراء البيئة العلمية. ويطرح سؤال عما كان يبحث عنه هؤلاء العلماء في مؤلفاتهم: السفر أو تدوين مشاهداتهم أو وسيلة أخرى للإعلام. هل أرادوا إضافة شيء جديد في زمنهم. هل هي الثقافة حيث كانوا يحلمون بالوصول إليها عن طريق المعرفة.

مضت سنتان في تدريسه في جامعة أكس من 1962 إلى 1964 حيث قام بكتابة عدة مقالات عن العالم العربي الحديث وخاصة عن كتاب نجيب محفوظ وعلاقة كليلة ودمنة بكتاب "اساطير النافورة"...ومن خلالهما العودة إلى الأدب المقارن، ثم العودة إلى الجغرافيا عند العلماء العرب، ولكن هذه المرة مع الصعوبات الجمة للوصول إلى المكتبات التخصصية. وفي خضم هذه الاهتمامات يرده اقتراح من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والتي أصبحت تسمى فيما بعد "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية". مما استدعى منه الانتقال مرة أخرى إلى باريس بعد ان كانت قد استقرت زوجته في مونبلييه وأبدعت في التدريس في معاهدها.

وفي باريس، أصبح "عالم اجتماع" أو هكذا صنف، حيث كان يقضي بضع ساعات أسبوعية في محاضراته مع الباحثين من طلاب المدرسة العليا، ومعظم وقته في كتابة المقالات التي تتوافق مع منحاه الأكاديمي الجديد وفيما يتعلق بالمصطلحات العربية في النسب والميراث وفق أحكام الشريعة، إلى جانب تدريب الكادر التعليمي في البلاد النامية والبلاد العربية، والآداب المعاصرة، وكتابة عشرين مقالا في الموسوعات. أضاف إليهم ترجمة لرحلة من القرن العاشر الميلادي قام بها يهودي اسباني إبراهيم بن يعقوب إلى مختلف البلاد الأوروبية.  كذلك أصدر كتابا عن الحضارة الإسلامية من القرن السابع إلى القرن العشرين، والاطروحة عن الجغرافيين العرب التي توجت الأكاديمية الفرنسية إصدارها. من لطائف ما كان يتمتع به دراجته النارية التي أصبحت عدة شغله كمستعرب، فمن مكان سكنه على حافة مدخل العاصمة الفرنسية كان كثيرا ما يمتطيها متوجها إلى مدن أكثر بعدا حيث يمضي وقته في الكتابة في احد المطاعم التي تتقبل مكوثه فيها لفترة طويلة. خلاصة عمله في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا نتج عنها عنوانا جديدا له كدكتور في الآداب وتعيينه أستاذا في جامعة باريس الثامنة حيث كانت تقع على عاتقه مع باقي زملائه الأساتذة تنظيم قسم الدراسات العربية ودمجها مع أقسام أخرى كقسم فقه اللغة والآداب المقارنة والتاريخ.

وفي خريف 1968، أراد المتشددون الذين قاموا بالثورة الطلابية إجراء تغيير شامل في مناهج الدراسة في الجامعة إلا أنهم فشلوا فعادت الجامعة إلى ارتداء حلتها القديمة وتم إنشاء قسم للغة العربية. لم تكن المهمة الجديدة في الجامعة لتتيح له استكمال أبحاثه، إلا أنه تمكن من تأليف كتاب عن تاريخ الأدب العربي وتجميع وثائق عن الجغرافيا فيما ذكره الجغرافيون العرب عن أهمية الأرض والشعوب خارج حدود العالم الإسلامي. أصابته مأساة في مرض ابنه الذي كان يبلغ الأربعة عشر سنة فبترت ساقه، ورغم آلامه كان يصطحبه معه إلى إيطاليا لتقديم عدة برامج تلفزيونية عن الإسلام. هذه الانشغالات حالت بينه وبين إعطاء كامل طاقته في الجامعة تاركا كثيراً من المهام إلى زملاءه.  وقد كانت خاتمة أحزانه وفاة ابنه. في نهاية العام الجامعي تم تعيينه في جامعة باريس الثالثة مسؤولا في الكرسي الجامعي التي كان يشغلها أستاذه بلاشير.

أحدثت وفاة ابنه صدمة له ولزوجته ولابنته جعلته ينكب على استكمال كتباته ومهنته التدريسية، إذ أصبح أستاذ كرسي رغم انه لا يحمل الأستاذية في اللغة العربية كباقي المرشحين لهذا المنصب الأكاديمي الرفيع، قد يكون بسبب أن القسم الذي يشغله لا يتضمن مستعربين فقط، وإنما أيضا متخصصين في التركية والفارسية. كذلك اختتم العشرين سنة التي أمضاها وقد طوى صفحة الآداب المقارنة ليستقر في كتب الجغرافية البشرية عند المسلمين حتى القرن الحادي عشر. قبل إصدار الجزء الثاني من كتابه في هذا المجال باشر في الكتابة الوصفية للمواقع الطبيعية للعالم الإسلامي. تقاطعت مع ترجمة لأشعار بدر شاكر السياب وعشرات المقالات عن علماء الجغرافيا العرب القدماء والحديثين، وكتاب "ألف ليلة وليلة". مجموعة هذه المقالات نشرت في موسوعات أو مجلات تخصصية. مما جعله مسروراً في تدريسه في هذه الجامعة وجود الطلبة والطالبات الذين ما انفكوا يسألونه فيما لو طالع هذا الكتاب أو ذاك المرجع، فيجيب بالنفي دون أن يعلموا بأنهم أثاروا في نفسه الفضول لمطالعة هذه الكتب لدرجة انه كان يشعر بالسعادة بإحساسه أنه هو الذي يتلقى ويتعلم أكثر من شعوره بالسعادة في كونه أستاذاً. شجعه أحد الأصدقاء يوما إلى الترشح في "الكوليج دا فرنس" فتمت الموافقة على قبوله. في هذه المؤسسة الرفيعة يبتدئ الأستاذ بطرح مشروعه التعليمي من خلال نقطتين أساسيتان الأولى أن تتحقق لديه المعرفة فوراً ولاحقاً بحيث يتعين أن تكون مبتكرة بموضوعها كما في الخطوات التي تليها. فالكوليج لا تمنح شهادات ولا إفادات؛ إذ يأتي إليها أي مستمع في أي وقت يشاء، والثانية متعلقة بالوقت عندما تنتهي مواضيع البرنامج المعلن عنها، لا يضاف إليها مواضيع "حشوة" فسياسة الكوليج المنحوتة بالرخام : "هنا ندرس ما نبحث عنه". طبيعة العمل في الكوليج تتطلب تفرغاً من التدريس من الجامعات باستثناء متابعة أطروحات المسجلين لدى الأستاذ في الدكتوراه، كما تتطلب السفر دائماً والالتقاء بشخصيات علمية ذائعة الصيت. التدريس الجامعي يعني منح المعرفة مع الالتزام الحصري بالبرنامج، بينما في الكوليج تعني البحث بحرية أولاً والتكلم لاحقاً بشرط الحفاظ على نفس الموضوع. بينما المحاضرات فهي أمام جمهور مستمع بدون نقاش، وأما النقاشات فكانت مخصصة في ورشات الدراسة لمواضيع ثانوية او مكملة أو جديدة. 

عندما يسأل عن مواضيع محاضراته ومنشوراته وكتبه، فهي عبارة عن مئات المقالات المتنوعة وعن الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي، حيث تم نشر الجزء الثالث المخصص للأماكن الطبيعية في العالم العربي سنة 1980 ويقوم بتحضير الجزء الرابع والأخير عن المجتمعات والتصرفات الذي صدر بعد ثمانية سنوات. وبعد فتح شهيته على الكتابة نشر طبعة مصورة عن بعض المواضيع التي كتب عنها في الجزئين الثاني والرابع، ترجمة مذكرات أسامة ابن منقذ وهو أمير سوري في العهد الصليبي، والسورة رقم 56 من القرآن الكريم ودراسة حيوان الدب عند العرب  وثلاثة كتب من مقابلات مع زملاءه الأساتذة.

غير أن ترجمته لقصائد الشعر العربي جعلته يتساءل عن مقدار الأمانة العلمية في نقل المعاني إلى الفرنسية، مما ولد إليه الرغبة في تطويع اللغة الفرنسية لتصبح مقفاة وموزونة مما أثار نقد زملائه الذين يفضلون الشعر بلا قيود ولا أوزان. وهذا ما قاده إلى قصة مجنون ليلى ومقارنته لها بقصص مماثلة في الأدب الفرنسي مثل روميو وجولييت. هذه الشهية نحو هذه القراءة جعلته يشعر بسعادة القفز بين رواية وقصة وقصيدة وفكرة أنسته لبعض الوقت كتاباته عن الجغرافية البشرية.

وفي سنة 1984 تم تعيينه لمدة أربع سنوات في الإدارة العامة للمكتبة الوطنية مع ما جلبته له هذه الوظيفة من امتيازات في السكن والخدمة المنزلية والسفر والاستقبالات وحضور المهرجانات. غير أنه بعد اطلاعه على طريقة عمل المكتبة والمصاعب التي ممكن التغلب عليها بإضافة بعض التحسينات على عملها وفرز ما يمكن فصله عنها من موجودات وآثار وأزياء تاريخية قديمة إلى أماكن أخرى، تقدم بمجموعة اقتراحات منتظراً موعداً مع وزير الثقافة، بعد طول الانتظار تقدم باستقالته من هذا المنصب.

وكان قد مضت عشر سنوات على عمله في "الكوليج دا فرنس" من بين واحد وعشرين سنة قضاهم في التعليم الجامعي وتأليف الكتب. عين على أثرهم بناء على اقتراح زملاءه في وظيفة مدير للكوليج مع مساعدين تحت امرته، وهذا ما دفعه إلى التفكير في تنظيم وتطوير الكوليج التي كانت مقصداً للجمهور بشكل كثيف، لم يعد بنائها القديم يتحمل استيعاب المزيد، فتقدم بمشروع إلى رئاسة الجمهورية لإعادة تأهيلها ، فتمت الموافقة عليه. بعد انتهاء الترميم كان التوجه إلى عقد اجتماعات وندوات حول مواضيع يلقى فيه الضوء على أحداث معاصرة في حديقة "تالام". فكان الاجتماع الأول في اللوفر تحت مبنى الهرم الزجاجي حيث تم استقبال شخصيات مشهورة وباحثين أكاديميين من مختلف الجامعات الأوروبية، والأهم من كل ذلك موافقة رئيس الجمهورية على استقبال مثل هذه الشخصيات ليس فقط من أوروبا بل من كل لى رئاسة الجمهورية دول العالم ليكونوا أعضاء في الكوليج وليسوا زوار، مع إعطائهم الحرية في تحديد فترة إقامتهم ومواضيع محاضراتهم، والمشاركة في التصويت الانتخابي للهيئة التعليمية. وأما اللغة العربية فما زال يعطيها وقته في التأليف إلى ان يحين موعد التقاعد.

آخر فصول الكتاب خصصها لزوجته التي أحبها والتي تحملت معه التنقلات ومراجعة ما يكتبه وولدهما اللذان فقداه، مع ذكرى البلاد والمدن التي زاراها، وأخيراً التقاعد بعد تأليف خمسة عشر كتابا خلال ثلاثة وعشرين سنة مع ما كان يرغب به من جمعها والتعليق على بعضها وما يراوده من أفكار حول الحياة والموت والإيمان ورجاء القيامة. وهل يقال بأنه يتناسى بعد كل هذا اللغة العربية ؟ لا وإنما وفاءه لها أخذ منحى آخر إذ أراد أن يذكر بها، وبتاريخها الذي رغب في ارتقاءه إلى الأعلى، كما فعل الخليفة المأمون الذي أراد في القرن التاسع أن يجعل منها حضارة جديدة، نهضة تسبق نهضة أوروبا. التراث العربي الذي أغنته تراجم كبار المفكرين اليونانيين القدماء. "مقابلات بغداد" التي وجدت طريقها في صميم فكره هي قطعة من التاريخ ونموذج لتأمله في الزمن الحاضر. إضافة إلى شهرزاد التي رآها محررة القيود بعد موت زوجها مع إرادة كإرادة المأمون في تحديث المجتمع. وأخيراً ما قام بتأليفه من شعر نقله إلى العربية أو بالعكس عن فقدان ابنه بعد أن جمعها أحد زملاءه من الأصدقاء. ومن قال بأن حلمه في الآداب المقارنة انتهى بل أخذ منحى آخر.

من هو المستعرب ولماذا وكيف، استثنى من ذلك كتباً ثلاثة قيد الإصدار، المثل الذي أراد اتباعه هو على هيئة الثقافة العربية في القرون الوسطى والتي كانت تميل إلى الاعتقاد بأنه لا قيمة للمعرفة الا بنقلها إلى الآخرين، لذلك فما أراده هو تأليف ما استطاع إليه سبيلا بأسلوب سهل والذي تطلب منه بذل جهد قليل. ولكن هل يتعلق الأمر بالمعرفة فقط في وقت يشغل فيه العالم العربي موقعا أساسيا. كيف لا نندهش بجهل الآخرين له. فجميع كتبه ومقالاته كانت بالنسبة له عبارة عن مهام يقوم بتحقيقها. هذه المعرفة منحها العالم العربي في فترته الأخيرة للعالم. هذه الرسالة أراد توجيهها إلى الفرنسيين والى العرب في هذا الوقت رغم الأحداث الأليمة والأزمات الحالية التي يعيشها كي يعاد إلى دراسة هذا التراث بهدف الوصول إلى عالم يكون مشتركاً للجميع. وهذا ما أراد أن يلعبه في نقل هذا التراث وهذه الأحداث التي كان شاهداً عليها.

* قاضٍ سابق وأستاذ جامعي - مدير عام دار الفتوى سابقا

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المداخل الثلاثة للتكامل المعرفي.. قراءة نقدية في المنهج والتطبيق

تستأثر قضية التكامل المعرفي باهتمام كبير لدى العديد من الباحثين، لاسيما منهم المعنيين بتجسير العلاقة بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية، أو المعنيين بالوصل بين علوم الكون وعلوم الوحي.

البعض يفضل أن يصطلح على هذه العملية المعرفية والمنهجية بالجمع بين القراءتين، والبعض الآخر، يفضل أن يستعمل مفهوم التأصيل، فيما حمل تيار مهم من الباحثين المتغربين مشروع "أسلمة المعرفة"، واعتقدوا أن تحرير المناهج الغربية من التحيز، ووصلها بالرؤية الإسلامية من شأنه أن يقيم الجسر الضروري بين معارف الوحي ومعارف الكون أو بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية.

وبعيدا عن المناخ الذي تأسست فيه هذه الاصطلاحات، وبررت وجودها، وأخذا بعين الاعتبار، مسار التقييم والنقد هذه الاصطلاحات، وما ترتب عنها من مشاريع بحثية، وإسهامات منهجية، بل وتراكمات معرفية أيضا، فإن المفهوم نفسه، أضحى يطرح التباسات كثيرة، تحتاج إلى جهود لتبديدها، ومن ذلك ما يرتبط بتداخل المعرفة والمنهج في هذا المفهوم، وهل يقصد بالتكامل المعرفي، تكامل المعارف التي تنطلق من نسق ثقافي مرجعي واحد، كما هو الشأن في تكامل علم اللغة بعلم الأصول، أو تكامل المنطق بهذا العلم، أو تكامل علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، أو تكامل الأصول مع الفقه، مما يوصف عادة بالتداخل المعرفي، أم يقصد به تكامل المعارف التي تصدر عن أنساق ثقافية مرجعية متغايرة؟

ثلاثة مداخل مؤسسة للتكامل المعرفي

فإذا كان الأمر يخص النوع الأول، فهذا التكامل المعرفي لا يترتب عنه أي إشكال، بحكم أن النسق الثقافي والمرجعي الذي تتحرك فيه المعارف موحد، ولا تتباين الرؤى داخله إلا عبر آلية التأويل. أما إن كان يخص النوع الثاني، فالأمر يتطلب بعض التفصيل، وهل يراد بالتكامل المعرفي عملية إدماج المناهج الدارسة، ومحاولة فك ارتباطها وتحيزاتها بغية الإفادة منها وتشغيلها في سياق ثقافي آخر، أم يقصد بها تحقيق التكامل بين المعارف المنتجة باعتبارها مفاهيم وقيم وأنماط ثقافية؟

ربما كان من التواطؤ المعرفي غير المقصود، أن الذين يدعون إلى التكامل المعرفي، أو التداخل المعرفي، أو التأصيل، أو أسلمة المعارف، لا يختلفون في مسعاهم للوصل بين علوم الوحي وعلوم الإنسان، أو في تحقيق الجمع بين القراءتين، في استهداف إدماج المناهج لا تبيئة وتوطين المعارف، وذلك تقديرا منهم، بأن المعارف حمالة مفاهيم ومنظومات قيمة مرتبطة بأنساقها الثقافية، وهي ليست محل توافق أو مهادنة، إذ الجميع، ينطلق من قاعدة أن المشكلة ليست في القيم والمفاهيم، فهي تكتسب صفة الثبات والخلود وغير القابلية للتغيير، وإنما المشكلة في التصورات ومناهج الفهم التي تأثرت بفعل واقع الجمود الحضاري، وأيضا بفعل  الهيمنة الثقافية الغربية.

البعض يفضل أن يصطلح على هذه العملية المعرفية والمنهجية بالجمع بين القراءتين، والبعض الآخر، يفضل أن يستعمل مفهوم التأصيل، فيما حمل تيار مهم من الباحثين المتغربين مشروع "أسلمة المعرفة"، واعتقدوا أن تحرير المناهج الغربية من التحيز، ووصلها بالرؤية الإسلامية من شأنه أن يقيم الجسر الضروري بين معارف الوحي ومعارف الكون أو بين العلوم الشرعية وبين العلوم الاجتماعية.ولذلك، تسعى هذه القراءة النقدية إلى توضيح هذه المقدمة الأساسية حتى تنضبط الأفكار، وتتحرر من الالتباس والغموض، ويكون هذا الإسهام مشروطا بخلفيته المفهومية. وهي تضم محورين: استعراض موجز لثلاث دراسات تندرج ضمن جهود تشغيل منهجية التكامل المعرفي، ثم تسجيل خلاصة الخبرة المحصلة من هذه التجربة، والنتائج التي أفسر عنها الاستعمال الوظيفي لمناهج العلوم الاجتماعية، سواء في دراسة نماذج من التراث الفكري للأمة، أو في دراسة ونقد بعض النماذج المعرفية الغربية، أو في تحليل بنية ونظام تفكير بعض الحركات الإصلاحية.

دراسات في اختبار ثلاثة مداخل للتكامل المعرفي

نختار عرض مختصر لثلاث دراسات كتبتها في سياقات مختلفة، تختلف من حيث زاوية التعاطي مع التكامل المعرفي. فالأولى، تأصيلية، تنطلق من نموذج تراثي في دراسة جماعة دينية (دراسة الإمام الغزالي لجماعة شيعية سرية هي الإسماعيلية)، حاول الباحث من خلالها التأصيل لبعض مفردات علم الاجتماع الديني التي سبق الإمام الغزالي إلى اعتمادها قبل أن تستقر النماذج الدارسة للحركات الدينية.

والثانية، نقدية تأسيسية (نموذج تفسيري لقياس تطور الديمقراطية في العالم العربي)، تنطلق من تقييم النمط الغربي في دراسة تطور الديمقراطية في العالم العربي، ونقد أسسه كما استقرت في نماذج دراسة التحولات الديمقراطية، واقتراح نمط آخر، ينطلق من السياق المخصوص لواقع الديمقراطية في العالم العربي، ويميز بين حركية المؤسسات وتطورها، وبين دينامية المجتمع في علاقته بهيمنة النمط الاستبدادي، ودراسة ثالثة إدماجية:"مراجعات الإسلاميين"، حاولت استثمار بعض المناهج الغربية وتوظيفها في دراسة ظواهر تنتمي إلى الحقل السوسيولوجي العربي.

1 ـ الدراسة الأولى:

فضائح الباطنية للإمام الغزالي: تم اختيار دراسة هذا المنتوج التراثي، لكونه يمثل نموذجا من نماذج علم الاجتماع الديني، حاول الإمام الغزالي فيه أن يقدم معطيات ومعلومات عن جماعة دينية ـ الباطنية ـ وأهم مقولاتها، وأساليبها في الحركة، وطرقها في الاستقطاب، مع تقديم نموذج تفسيري لأسباب توسع هذه الجماعة بالقياس إلى محدودية الخطاب الذي تتنباه. وقد كان المبرر الأساسي للاشتغال على هذه الدراسة الفرضية المفارقة التي طرحها الإمام الغزالي في هذا الكتاب، بين الخطاب الذي تتبناه هذه الجماعة، والذي لا يتمتع بأدنى شروط الانسجام المنطقي والتأصيل الشرعي والانضباط لأحكام العقل، وبين توسع الجماعة وانتشارها، إذ حاول أن يختبر مبكرا، العلاقة بين مكونات الخطاب وبنيته وبين عناصر التأثير والجاذبية الجماهيرية.

2 ـ الدراسة الثانية:

من أجل بناء نموذج مستقل لقياس تطور العالم العربي نحو الديمقراطية: وقد اندرجت في سياق متابعة زخم علوم السياسة في دراسة تجارب بالانتقال إلى الديمقراطية، والاشتغال الكثيف على نظريات الانتقال الديمقراطي، وفي ظل أي شروط يتم، والاجتهاد في تقديم نموذج تفسيري لهذه الظاهرة.

ما برر الاشتغال على هذه الدراسة أمران: الأول زخم الدراسات الذي طالت الدول التي انتقلت إلى الديمقراطية، وذلك ضمن موجات ثلاث، وكيف تم الاجتهاد في تفسيرها بمحددات مختلفة، سواء بالتركيز على الشروط السياسية الخاصة بكل بلد، أو بالاهتمام بوضعية الثروة ومستوى الدخل ومسار التحديث وأثر ذلك في تسريع وتيرة الانتقال، أو بالتركيز على أولوية الثقافة السياسية السائدة، أو بالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها، أو بالوضع الإقليمي الذي يتاخمه، أو بأثر السياسات الدولية عليه ومدى تأثر البلد برياح الدمقرطة الآتية من الخارج.

وأما الثاني، فيرتبط بموجة الدراسات التي حاولت تفسير أسباب تعثر انتقال العالم العربي إلى الديمقراطية، وكيف أخطأت هذه الدول تجربتها في التأسيس لموجة رابعة من الانتقال إلى الديمقراطية مع ربيع الشعوب، وكيف تباين تفسير ذلك بسبب من تحكيم نماذج نظرية اعتمدت في دراسة الموجات الثلاث للانتقال الديمقراطي، ومحاولة إسقاطها على العالم العربي دون فهم سياقاتها الخاصة.

وهكذا اتجهت هذه الدراسة لنقد منهجية اعتماد التصانيف الدولية لقياس مؤشرات الديمقراطية في العالم العربي في تفسير الحالة الديمقراطية العربية، وكيف تساهم منهجية التمييز بين الأقطار الحرة عن شبه الحرة، والأقطار شبه الحرة عن غير الحرة، في إضفاء صورة ظاهرية شكلية عن التطور الحاصل في اتجاه الديمقراطية في عدد من البلدان، وتخفي في المقابل  تطورات مهمة قد تحصل في تقليص بعض العوامل المعيقة للديمقراطية، دون أن تكون مندرجة بالضرورة ضمن مصفوفات قياس الديمقراطية ومؤشراتها، إذ كان  منطلق النقد في هذه الدراسة، محاولة لطرح سؤال بناء نموذج تفسيري عربي، يبحث تطور الديمقراطية في العالم العربي بالتركيز على حركة الشعوب نحو الديمقراطية، ويرصد تحول أو استقرار العوامل المعيقة للديمقراطية، ويتحرر من أقانيم مؤشرات قياس الديمقراطية كما استقرت في المقاربات الغربية، ويتحرى أهم المؤشرات التي تنبئ عن حصول تقدم نوعي في اتجاه الديمقراطية بغض النظر عن تقدم وضعها المؤسساتي أو مشمولاتها التقليدية.

الدراسة الثالثة: في النموذج التفسيري لمراجعات الإسلاميين: إذ تقدم نموذجا لتشغيل بعض مناهج العلوم الاجتماعية لدراسة مراجعات الإسلاميين في مستوياتها الثلاثة: (الانتقال من العمل المسلح إلى العمل السلمي، والانتقال من العمل الثوري إلى المشاركة السياسية، والتحولات داخل منطق المشاركة السياسية)، فقد استعانت الدراسة بنموذجين: النمط المثالي لماكس فيبر، الخلل الوظيفي لميرتون.

وترى الدراسة أن النمط المثالي (الفيبري)، يفترض أن التنظيم الإسلامي، يتبنى خطاطةً سياسيةً تحدد منطلقاته وأهدافه وأداته لتحقيق هذه الأهداف ونظرية العمل التي يحدد فيها مواقفه من الفاعلين وأشكال إدارته للتفاعلات معهم، وأن وظائفه تتخلص في استقطاب أفرادٍ جددٍ للتنظيم بناء على الخطوط الكبرى للمشروع الرسالي الإسلامي (الخطوٍ الأولى)وتنشئتهم على مفردات الخطاطة السياسية (الخطوة الثانية)، حتى يتأهل ليصير أداةً في الفعل (الخطوة الثالثة). وحيث إن التنظيم يفترض دائماً أنماطاً من سلوك الفاعلين اتجاه فعله، فإن الوظيفة الرابعة، تركز على التبرير في مستويين: تبرير الفعل من حيث ارتباطه بالخطاطة السياسية (الأهداف التي يفترض أنه تم الاقتناع بها ضمن عملية التنشئة السياسية)، ثم تغطية الفضاء الداخلي بما يكفي من المواقف التي تجيب عن كافة التفاعلات التي أثارها هذا الفعل. ثم تأتي الوظيفة الأخيرة، والتي تتمثل في تمتين التنظيم وتعزيز وحدته وامتصاص بعض الآثار السلبية التي يمكن أن تلحق بنيته الداخلية من جراء فعله وما أثاره من تفاعلات.

وحتى تكتمل الصورة التمثيلية ضمن هذا النموذج التمثيلي، ركزت الدراسة على الدور الذي تقوم به الخطاطة المعرفية. فإذا كانت الخطاطة السياسية تحدد الأهداف والرهانات، وترسم الخطوط الكبرى لاستراتجية الفاعل الإسلامي، فإن الخطاطة المعرفية تقوم بمهمة، التبرير بمستوييه، وتقديم ما يكفي من الحجج لتغطية الفضاء الداخلي للتنظيم، والحفاظ على النمط القائم، ولو اقتضى ذلك إنتاجَ مواقفٍ جديدةٍ مساندة للخطاطة السياسية الأصلية.

تعتبر الدراسة هذا النموذج، إنما هو الصورة المثالية التي يفترض أن التنظيم يشتغل وفقها، بما في ذلك توقعاته لأنماط سلوك بقية الفاعلين ونسق التفاعلات المفترض. أما الصورة الواقعية، وردود الفعل الحقيقية التي يتلقاها، والاستراتيجيات والرهانات التي ينتجها الفاعلون الآخرون، وأثر كل ذلك على بنيته الداخلية، فهو شيءٌ آخر مختلفٌ عن هذه الصورة المثالية. فأين يقع الاختلال داخل هذا النمط المثالي؟ هل يحدث في مجموع الوظائف؟ أم في وظيفة بعينها؟  وكيف يحصل هذا الاختلال؟ وماذا يترتب عنه؟ وما البدائل التي ينتجها هذا الفاعل لمواجهة هذا الاختلال؟ وهل يتأثر النسق تبعاً لذلك، كلياً أو جزئياً؟

تقدم تجربة "الإسلاميين" خبرة مهمة تثبت بأن الاختلال الوظيفي يمس التنظيم في اللحظة التي ينخرط فيها في نسق التفاعلات الملموس، أي بعد أن تكون خطاطته السياسية خرجت من الأذهان إلى الأعيان، وتحولت إلى فعلٍ قاصدٍ يرمي تحقيقَ رهانٍ سياسيٍ محددٍ. فعند اشتباك الرهانات وتفاعلها، أي لحظةَ تأسيس العلاقة بين المدخلات والمخرجات، تختبر فعالية وظائف النسق، وهل هي قادرةٌ على تقديم البدائل الوظيفية عن الاختلالات الحاصلة، لاسيما إذا لم يقع التطابق بين استجابات الأفراد للأهداف المحددة في الخطاطة السياسية وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.

تستعين الدراسة بمفهوم الاختلال الوظيفي (المقترب البنائي) لتفسير مراجعات الإسلاميين، فتسجل، من منطلق الاستقراء، أن العدول كليةً عن النسق السابق، أو تعديله، بما يسمح بإخراج بعض العناصر المفصلية من الخطاطة السياسية السابقة، وإدخال عناصرَ جديدةٍ إليها، يتطلب التعديل الكلي للخطاطة المعرفية، ذلك أن هناك دائماً إمكانيةٌ لتعديل الرهانات السياسية إذا كانت حديةً. لكن، النسق المعرفي الحدي، لا يمكن تعديله إلا بالانتظام في نسقٍ معرفٍي آخرَ، يتمتع بالأسس والقواعد التي تكسبه قدرةً على تبرير وتسويغ تحولات الموقف عند لحظة التفاعلات مع رهانات بقية الفاعلين السياسيين.

خلاصات خبرة الانتظام المعرفي في تجربة التكامل المعرفي:

تقدم هذه الدراسات ثلاثة مداخل للتكامل المعرفي، يخص الأول البحث في التراث الإسلامي عن أصول وجذور العلوم الاجتماعية، بمفرداتها وقواعدها ومنهجية بحثها (التأصيل). ويخص الثاني، نقد محدودية تشغيل بعض النماذج المعرفية الغربية في دراسة السياقات العربية الإسلامية مع محاولة التأسيس لنموذج عربي مستقل (النقد والتأسيس) وذلك بالإفادة من التراكم الحاصل في تنوع هذه النماذج وأعطاب إسقاطها على دراسة السياقات غير الغربية، فيما يعرض الثالث لمحاولة الإفادة الوظيفية من العلوم الاجتماعية (منهجية الإدماج المعرفي)، ونماذجها ومفاهيمها في دراسة بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية المتصلة بالسياق العربي الإسلامي (دراسة وتفسير الكيفية التي تتم بها مراجعات الإسلاميين).

وبالنظر إلى ما تحصل في خبرة اعتماد منهجية التكامل المعرفي في هذه الدراسة، يمكن أن نجمل الخلاصات الآتية، وذلك بحسب كل مقاربة على حدة:

1 ـ مقاربة التأصيل:

يتوقف كثير من الباحثين عند عطب أساسي تواجهه هذه المقاربة، وهو الانطلاق من نموذج جاهز يجري محاولة إسقاطه على المنتوج التراثي، وأحيانا كثيرة بتكلف، بغرض إشباع نفسي، للتأكيد على أن مفردات العلوم الاجتماعية قد كانت مكتملة، أو حضر كثير منها في التراث الإسلامي، وأن المشكلة تكمن فقط في الكشف عنها وإبرازها للوجود، وأن علماء الغرب سبقوا إلى هذه العملية، ونسجوا على التراكم الذي تحقق دون الإشارة إليه.

والواقع، أن المهمة المعرفية، ينبغي أن تتحرر كلية من هذه المسبقات النفسية والمعرفية، فالبحث في التراث الإسلامي، يتطلب الوعي بحدود التمايز بين خبرة العلوم في سياق التأليف، وخبرتها بعد ذلك، كما يتطلب التحرر من أسر العلاقة بين الذات والآخر، إذ المطلوب ابتداء دراسة المنتوج في سياقه دونما تكلف أو تعسف في إسقاط نتائج لا يتحملها.

ولذلك تركزت الخلاصات المستفادة من تجربة دراسة الغزالي للباطنية في العناصر الآتية:

ـ أنه قدم نموذجا لدراسة حركة دينية وفقا لبعض آليات علم الاجتماع الديني (المقابلة والعدول عن المقترب الوثائقي) مع استعمال الممكن (الاعتماد على المنشقين من الجماعة عوض المنتمين لها، بسبب تعذر الوصول إليهم لسريتها).

ـ أنه كشف وسائل تواصلها ومكونات خطابها، وتنوعه بحسب مستويات إدراك الشرائح الاجتماعية المستهدفة، كما درس العلائق التي تربط بين مستويات هذا الخطاب والهدف العام الذي يجمعها، ودرجة تأثيره.

ـ أنه حاول الإجابة على فرضيته الأساسية من الكتاب، وهي فهم أسباب توسع الحركة وانتشارها رغم ضعف خطابها ومحدودية بالقياس إلى شروط الانسجام المنطقي، والمقبولية العقلية، والتوافق مع الشرع.

ـ أنه انتقل في مهمته المعرفية من توصيف الحركة وأشكال تحركيها وخطابها وعناصر تواصلها إلى محاورة معتقدها ومحاولة إبطاله اعتمادا على الحجج والبراهين، بما يمهد للوظيفة السياسية للكتاب.

ـ أنه انتقل من الوظيفة المعرفية (توصيف الجماعة ونقد معتقدها) إلى الحكم عليها، وتوفير سند معرفي وشرعي للسلطة السياسية لشرعنة محاربتها والتصدي لها.

ـ أن الجهد الذي بذله الغزالي، في المستوى المعرفي الأول، المعني بتجميع المعطيات عن الجماعة، وبحث أشكال توسعها وانتشارها، ودراسة مستويات خطابها ومكوناته، والعلاقات القائمة بينها، والوظائف التي تخدمها، وتفسير أسباب انتشارها بالقياس إلى ضعف خطابها، يقدم نموذجا مهما في التأصيل لبعض مفردات ومنهجيات علم الاجتماع الديني في تعاطيه مع الحركات الدينية.

2 ـ مقاربة التأسيس:

يكتنف هذا المقترح عطب أساسي، يتمثل في عدم استواء المجهود المعرفي المبذول في النقد مع الجهد المعرفي المبذول في التأسيس لنموذج بديل، والجواب عنه، أن جهد النقد يتوجه إلى نموذج قد أخذ زمنا طويلا في الاستواء، تطلب تواتر التراكم المعرفي، وأن مبرر النقد برز مع محاولات الإسقاط على السياقات غير الغربية، والنتائج غير العلمية التي يتم الانتهاء إليها، أو بالأحرى تكريس تصنيفات تقليدية يتم ترويجها عن حالة العالم العربي، كما ولو كانت مادة لا تقبل النقاش، وأن ما يطلب هو جهد وضع هذه الدولة في هذه الخانة، ووضع تلك في الخانة المقابلة.  في حين، لا يستطيع أي باحث لمفرده أن يدعي بعد جهد النقد أن محاولته قد غطت المكان، ووفرت الشروط الضرورية لبناء نموذج مستقل في دراسة ظاهرة من الظواهر الاجتماعية والسياسية.

تقدم تجربة "الإسلاميين" خبرة مهمة تثبت بأن الاختلال الوظيفي يمس التنظيم في اللحظة التي ينخرط فيها في نسق التفاعلات الملموس، أي بعد أن تكون خطاطته السياسية خرجت من الأذهان إلى الأعيان، وتحولت إلى فعلٍ قاصدٍ يرمي تحقيقَ رهانٍ سياسيٍ محددٍ. فعند اشتباك الرهانات وتفاعلها، أي لحظةَ تأسيس العلاقة بين المدخلات والمخرجات، تختبر فعالية وظائف النسق، وهل هي قادرةٌ على تقديم البدائل الوظيفية عن الاختلالات الحاصلة، لاسيما إذا لم يقع التطابق بين استجابات الأفراد للأهداف المحددة في الخطاطة السياسية وبين الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.ولذلك يمكن أن نسجل على هذه المحاولة التي استهدفت دراسة النماذج الغربية في قياس الديمقراطية في العالم العربي وتقديم معالم نموذج مستقل الخلاصات الآتية:

ـ  أن جهد النقد لهذه النماذج أثبت محدوديتها، وأثبت رهانها على ثقل الدولة في العملية الديمقراطية، في حين أن مسار الديمقراطية وتجربتها، انطلقت بالأساس من ثقل المجتمع، وأنه وجب بناء على ذلك، عدم وضع البيض كله في سلة التغيرات التي تحدث فقط على بنية الدولة ومؤسساتها وهياكلها ووضعها الدستوري، وإنما ينبغي الانتباه إلى اتجاه حركية المجتمع بكل مستويات تعبيره إلى الانفلات من قبضة الاستبداد وهيمنة الدولة.

ـ  أن هذه النماذج انطلقت من معاييرها ومقاييسها من تعريف محدد للديمقراطية اقتصر على البعد السياسي والمؤسسي، وألغى من الحساب عملية الديمقراطية باعتباره مسارا لتنامي الشعور الديمقراطي في المجتمع والتعبير عنه بمختلف الأشكال.

ـ أن عملية الـتأسيس البناء على التراكم النقدي وذلك بالاستعانة بجهود باحثين سابقين يلتمس في محاولتهم النقدية أو المفاهيمية، السيب لبناء النموذج والتأسيس له.

ـ أن بناء النموذج، لا يتطلب ابتداء اكتمال مفاهيميه ومفرداته والانتقال من ذلك إلى تحديد وتحرير المقاييس والمعايير، ثم اختبار فعاليتها ودرجة تمثيلها للتفسيرية، بل شرط البناء، تحرير المفاهيم ابتداء، ووضع المنطلقات الأساسية التي تمكن من وضع خارطة طريق للإسهامات القادمة بالتدقيق في المعايير والمقاييس بما يحقق القصد في الاستقلال بالنموذج التفسيري لدراسة تحولات الديمقراطية في العالم العربي.

3 ـ مقاربة الإدماج:

تعترض هذه المقاربة عادة قضية العلاقة بين المنهج وبين الرؤية الناظمة أو النسق الثقافي الذي خرجت منه، كما تواجهها مشكلة تدخل الذات الباحثة في المنهج، وهل يتم توظيف المنهج بشكل وظيفي إجرائي، أم يتم فرض المنهج بحمولته الثقافية والقيمية والحضارية على الظاهرة المدروسة.

وقد اختارت الدراسة الاعتبار بالقدرة الإجرائية الوظيفية للمنهج (النمط المثالي لماكس فيبر) أو المفهوم المدمج من حقل العلوم الاجتماعية (مفهوم الخلل الوظيفي عند ميرتون)، لأن القصد هو اختبار الإمكان التفسيري، وحل مشكلة معرفية مرتبطة بفهم تحولات الإسلاميين ومراجعاتهم والكيفية العملية التي تتم بها هذه السيرورة من الانتقال من نسق إلى آخر.

وقد نتج عن اعتماد المقترب الإدماجي تحصيل الخلاصات الآتية:

ـ أن الوعي بالمنهج (مفاهيم ومفردات وآليات)، والتحرر من تحيزاته، والقدرة على توظيفه الإجرائي، مع تتبع واقع إسقاطاته، يفيد في تأمين عملية الإدماج من العيوب التي تصاحبها في العادة.

ـ  أن عملية اختيار المنهج، لا تبررها فقط الحاجة لحل مشكلة معرفية، بل تبررها بدرجة أكبر، مدى توافق المنهج مع الظاهرة المدروسة، والإمكان الذي يوفره، بحيث لا يكون القصد فقط إثبات مدى قدرة الباحث على توظيف مناهج العلوك الاجتماعية، بل قدرته على اختيار المنهج الذي يضمن تقديم الحل الأمثل للمشكلة المعرفية دون أن ترتب عن عملية الإسقاط تعسفات تفسد منهجية التكامل المعرفي أو تشوهها.

ـ  أن التوظيف المتعدد للمناهج أو المفاهيم، يتطلب وضع الإطار النظري الناظم، الذي يجيب عن سؤال الانسجام أولا، ويوضح حدود العلاقة ثانيا، والفائدة العملية المرجوة من ذلك ثالثا، بالشكل الذي يبدو فيه الاختيار غير مؤثر على مادة البحث، ولا مكيف لها بحسب حاجات المنهج، فحل المشكلة المعرفية، يسبق الحاجة إلى اعتماد تعدد المناهج أو المفاهيم، وحصول الاتساق في عملية التكامل المعرفي، تتطلب الوعي بشروط الاستعمال المتعدد، والاقتضاء الوظيفي وحدود ضرورته.

ـ أن سؤال التوظيف يستتبعه سؤال اختبار الفعالية، وأن عملية الإسقاط تتطلب الإجابة عن كل الإشكالات، بعرضها أولا، وتلافي إخفائها، ثم ببسط الجواب عن الاستثناءات الواردة وعدم تأثيرها على النموذج التفسيري، وذلك على الشكل الذي افترضته الدراسة عند تشغيل مفهوم الخلل الوظيفي في دراسة نماذج مختلفة من الأنساق الحركية، تتباين أشكال تعاطيها في لحظة التفاعلات مع مخرجات الفاعل السياسي الخارج عنها.

مقالات مشابهة

  • ترامب يعلن عن نسب الرسوم التي سيفرضها على دول العربية منها الجزائر
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُعلن إغلاق استقبال المشاركات في مؤتمره الرابع لعام (2025م)
  • قراءة في تشكيلة الحكومة السورية الانتقالية : تحديات سياسية ودينية متصاعدة
  • قراءة عداد الغاز عبر موقع بتروتريد لشهر أبريل 2025.. رابط وخطوات التسجيل
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُطلق برنامج (شهر اللغة العربية) في مملكة إسبانيا
  • المداخل الثلاثة للتكامل المعرفي.. قراءة نقدية في المنهج والتطبيق
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يشارك في (معرض بولونيا الدولي للكتاب 2025) في جمهورية إيطاليا
  • باحث ألماني: تعلّمت العربية لأنني أردت الهروب من ضيق الأفق في أوروبا
  • الخرطوم هي العاصمة العربية التي هزمت أعتى مؤامرة
  • من أوكرانيا إلى فلسطين.. العدالة التي تغيب تحت عباءة السياسة العربية