جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-02@04:06:09 GMT

أمة سلاحها الموت

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

أمة سلاحها الموت

 

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

 

ماذا تنتظر؟

سَبَحْنا كثيرا في هذه الحياة، سبحنا لدرجة أن قوانا أصبحت منهكة وعقولنا تزمها المحن وتتربص بها العقبات؛ فهي لا تجد معينا ولا صاحبا ولا رفيقا، كل أولئك أصبحوا تحت التراب، تخنقني العبرات، تأخذني بعيدا نحو الأفق الذي بات غامضا، ومسجًى كرفاقي بين جفنات القبور أعاني القهر والضيم.

ورغم أنْ لا سبيل للتهاون والارتخاء، إلا أنَّ غُصَّة تنهش ما تبقى من إحساسٍ وضمير نحو أمةٍ سلاحها الموت، لكن ما يجري يتواطأُ مع مجريات الأمور، الأمور العادية التي نعيشها يوما إثر يوم؛ فلا دعوة للجهاد ولا حناجر تقتفي أثره، لا نستطيع سوى ابتلاع ريقنا في كل جانحة وجائحة هي تشغلنا لفترة من الزمن ثم نرى أنفسنا محاطين بالخوف، محاصرين بكل أنواع الذل، ونحاول طمس معالمنا بالسير تحت جدران الظل.

 

طلب الحياة

أمة الموت تطلب الحياة وتقامر في زحزحة مآسيها عل موت الفلسطينيين، هل تستطيع المقاومة قلب الطاولة؟ وهل ينقلب ميزان القوى نحونا؟ لا، أقصد نحو المقاومة لأننا -بكل بساطة- لم نقاوم سوى أحزاننا، في حين هم قاوموا شيئا برجماتيًّا موجودا يحاربهم في كل التفاتة عين، وفي كل دموع أطفال غزة، وفي كل صرخة أم، ومناجاة شيخ كبير، شيء يهدد حياتهم ويشدهم للموت.

هل نستطيع الحياة بعد موتهم؟ هل نحن أحياء فعلا؟ سؤالان في غاية الغموض لا يمكن الإجابة عنهما إلا بتبلد الشعور، وتجاهل العاطفة، ووهن الإدراك، يبدو أن الإحساس تجمد عند مشاهدة الموت وقسوته، وتناسى القلب حدته وشدة وقعه على النفس؛ فخارت القوى وضعفت الأجسام حيث لا تكاد تحمل نفسها إلى صلاة راتبة ودعاء يتيم.

أشعر أنَّ السكوت جبن والاستكانة قهر، وما وراء ذلك قمعٌ وكبت، ولكن ماذا يجب أن نفعل؟ هل الموت يستحق ما تستحقه الحياة؟ وهل الموت حياة في الأساس، أم هو نوم أبدي؟ وهل سندركه قبل التنكيل بنا وخوار القوى في أماكننا، هل سنلحق به في فلسطين؟ والسؤال الأكثر إلحاحا: هل نستطيع أخذ المبادرة؟

نحن يا أصدقاء نطلب الحياة، ونحاول أن نتنمَّق في ألبستنا من الثوب الطويل إلى الأحذية وغطاء الرأس ثم الملابس الداخلية التي يجب أن تكون من النوع الفلاني حتى لا تتأثر أجسادنا؛ فلا يخدشنا ناموس الليل ولا تؤذينا ذبابة النهار، ونحرص على شراء أفضل أنواع أغطية الفراش لنغطي بها أنفسنا في الصيف الحارق تحت برودة مكيفات الهواء، والشتاء البارد تحت دفء صوفها.

 

ماذا عنكم؟

ماذا عنكم؟ لا تقولوا شيئا، لدينا كل الإحصائيات وما زلنا ننتظر الكثير حتى نشحذ هممنا؛ فهي بحاجة إلى البارود حتى تستفيق، والبارود هو رائحة الأموات، نريد هذه الرائحة أن تصل إلينا، في وقوفنا أمام المرآة نصلح بها هيئاتنا عند ذهابنا لأعمالنا، وفي كل مشوار نذهب به في سياراتنا الفارهة، وفي كل تبضُّع نشتري مواد تجميل وتنظيف لبيوتنا حتى تبرق، نحتاج أن نرى الأشلاء وهي تسد طريقنا، نحتاج أن تضيق بها حياتنا حتى نستشعر محنتكم بشكل أكثر قبولا، وفي أقوى صيغة وأعظم استساغة.

نحتاج أن تقنعونا أكثر بمأساتنا، أن تخرجوا بسالتنا التي نُكِئت، وقوتنا التي كُمدت؛ فأعداد موتاكم ما زال صغيراً، ألا تعرفون التاريخ؟ لقد قدمت الجزائر ملايين الشهداء من أجل الحرية، ولم يحرك أحدنا شنبه، ثم أصبحت "فرنسا" القاتلة ملتقى المحبين ووجهة الحالمين منا، بل هي صديقة يحاصرها الغرور وتلفّها النظرة المتعالية.

ننتظر أفولا أكبر، رائحةً للموت تعبر إلى آفاقنا للتحرك قليلا، نريد أن تكسروا كبرياءنا، تحطموا قيودنا، نريد أن نشعر أن الموت كشرب الماء، وقضم التفاح، وأن تكبحوا جماحنا، وأن تردوا عنا سيرنا خلف جدران الظل.

 

لم يبقَ سوى الموت

مضى الكثير وما بقي أجدر بالإشارة، كيف نستطيع اللحاق بالفلسطيني؟ وكيف نكفر عن يأسِنا بخلاصهم؟ نحو حريتهم المكبوتة بين جدران السجون وفوهات المدافع، كيف نموت وفي يدنا غصن زيتون لم يزرع بعد؟ إنها معادلة صعبة، ومطلب قل أن نناله نحن، إنه من حقكم أنتم فقط، كما الموت الشريف.

بَقِي أن نخجل من ذواتنا، نحن المسلمون نحب الحياة، تأكد هذا الأمر عندي؛ فبدل أن نبحث عن طرق الشهادة بحثنا بكل قوانا وثقافاتنا عن كيف نستطيع مقاطعة الماركات التي نعتقد أنها يهودية المنبت؟ حتى أثناء انتشار الموت هناك نبحث نحن عن عيشنا وحياتنا (هو غيض من فيض)، وأنا أؤمن بشيء لا يتناغم مع كثيرين، فاليهود جاءوا معنا للعيش بأمان وسلام كما يتحدث علماؤهم ومؤرخوهم، المشكلة هي أمريكا وليست هذه الدولة الصغيرة النابتة في أراضينا، أمريكا والصهاينة في إسرائيل والمعسكر الغربي هم أسباب قوتها وجبروتها، في حين لو عاشت بإمكانياتها لسوف تكون هناك نظرة أخرى.

مَضَى الكثير، ولم يبقَ سوى الموت يحرك أذنابنا كلما أوينا إلى الفراش نتذكر فلسطين، نريد أن نبادر لكنْ ثمة شيء يقمعنا، وكلما نهضنا من نومنا تذكرنا فلسطين، نبحث في هواتفنا عن خبر مفرح يدخل السرور في قلوبنا ويلطمنا بمخدر يبقى معنا طوال اليوم حتى نسمع خبرا آخر على غير ما نهوى ونريد، هكذا نعيش بهذا الهامش من الأمل نبتغي حلا لقضايانا بمزاجات لا بحلول على الأرض، ثم بدعاء لا تؤازره قوة، نفقأ عينا وندمي أذنا ونحن في بيوتنا، ونصفق لكم كثيرا، ونتوشح شالكم، نظن أن بهذا سنكون معكم، كل شيء يشدنا إلى القاع أيها الأحباء، وبقينا نمشي فوق جدار الظل.

طُعنت العروبة بخاصرتها منذ أن أرغمنا الاستعمار على اتفاقيات صاغرة مذلة نعتقد أنها انتصار لقوتنا ومطالب بعضنا، أعطي كل واحد أرضا ليحكمها حسب ما يرونه لا كما نراه، وهي لطمة أخرى مع تلك الاتفاقيات، ألا يعلمون حكمائنا أن التفرقة ضعف وأن القوة والهيبة في الاجتماع، في التآلف والتحالف؟

ولكن لا ينفعنا اللطم اليوم، علينا استنفار سلاحنا والتدرب على مجابهة مصيرنا ومواجهة هوان الأمة وخنوعها، مواجهته بكل صرامة وجِدّة في سبيل إرجاع ما تم كسره، ومراجعة التاريخ جيدا لنأخذ منه العبر، ماذا ننتظر؟ علينا أن نمضي سويا نحو جدار الشروق، جدار الشمس، نبتغي يوما عمليا ناهضا واضح المعالم، أما إذا تلقفنا ما نريد، وأمعنّا فيه جيدا فسنعترض كل معيق ونخترق المدى ونبحث عن حلم كل فلسطيني ثم كل عربي، وليحدث من ورائنا ما يحدث.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المذبحة كخطاب متكرر والمُشاهد قارئ بلا ذاكرة ولا اعتراض

إبراهيم برسي

30 يناير 2025

في المشهد الإنساني الأكثر قتامة، حيث تنطفئ الأنفس قبل أن يُزهق الجسد، تتجلى ثلاثة كيانات تتشابك في رقصة مروعة: القاتل، الضحية، والمشاهد.

إن ما يحدث الآن في السودان ليس مجرد دمٍ يُسفك، بل هو إعادة إنتاج مأساوية لسردية قديمة، حيث يصبح الموت بيانًا، ويُختزل الإنسان إلى مادة مرنة في أيدي سادة العنف.

هنا، لا يعود القتل فعلًا لحظيًا، بل يتحول إلى بنية، إلى نظام يعيد تشكيل العالم وفق منطقه الخاص، حيث يتساوى الجسد بالرماد، وحيث يتلاشى الفارق بين الحياة والموت، لأن العيش تحت سطوة الذبح ليس إلا موتًا مؤجلًا.

القاتل في هذا المسرح الكابوسي ليس مجرد فرد يحمل سكينًا، بل هو كائنٌ أُعيد تكوينه ليكون وسيلة، حلقةً في سلسلةٍ لا نهاية لها من الإبادة الرمزية والمادية.

لم يكن يولد كذلك، بل صُنع، جُرّد من شعوره بالآخر، وسُلب منه كل وعيٍ بالذات إلا بوصفها انعكاسًا لغايةٍ أكبر، تبرر الذبح بوصفه طقسًا تطهيريًا، وأداةً لإعادة ضبط العالم وفق تصور أيديولوجي مشوّه.

إن صناعة القاتل لا تتطلب فقط توفير سلاح، بل تحتاج إلى عملية تفكيكٍ ممنهجة لكل بقايا التعاطف بداخله. إنها عملية تحول تدريجية، تبدأ بالتجريد النفسي، ثم تمر عبر الأدلجة، لتنتهي باللحظة التي تتحول فيها اليد المرتجفة إلى يدٍ واثقة تُمسك السكين بلا تردد.

نيتشه كان يحذر من أن «من يحارب الوحوش عليه أن يحذر من أن يتحول إلى وحش»، لكن ماذا إن كان المرء قد خُلق داخل فم الوحش ذاته؟!

ماذا إن كانت كل معاييره، منذ البداية، قد بُنيت داخل تلك العتمة، بحيث لم يعد يرى النور إلا بوصفه خيانة؟

لكن، إن كان القاتل قد فقد صلته بجوهر الإنسانية، فإن الضحية تواجه المصير ذاته من الجهة الأخرى.

هنا، لا يكون الموت مجرد إعدامٍ لجسد، بل هو تدميرٌ لبنية المعنى.

في لحظة الذبح، لا تُقتل الأجساد فقط، بل يُقتل الزمن، يُمحى كل شيءٍ سابق، ويُعاد تشكيل الواقع على مقاس الرعب.

الضحية ليست فقط فردًا يُباد، بل هي رمزٌ يُراد تحطيمه، فكرةٌ يُراد إسكاتها، تاريخٌ يُراد شطبه. لهذا السبب، لا يكون القتل مجرد إنهاءٍ للحياة، بل تأكيدًا على أن الذابح هو من يحدد من يستحق البقاء ومن يُمحى من الوجود.

ما يميّز الجريمة المطلقة أنها لا تترك حتى للضحية حق الموت بمعناه الإنساني، بل تسلب منه هيبته، تحيله إلى مشهدٍ، إلى استعراض، حيث يتحول الجسد إلى نصٍّ مكتوبٍ بالدم، نصٍّ يُقرأ من قبل الجميع، لكنه في حقيقته صرخةٌ لا أحد يسمعها.

فيكتور فرانكل، حين كان في معسكرات النازي، لم يكن يرى المأساة في الموت ذاته، بل في الطريقة التي كان يتم بها محو الإنسان من داخله قبل أن يُقتل، حيث يتحول الضحية إلى شيءٍ، إلى كيانٍ فقد كل خصوصيته، ولم يعد يُعرف إلا بوصفه عددًا في قائمة الهلاك.

غير أن المشهد لا يكتمل إلا بذلك الطرف الذي يبدو الأكثر براءة، لكنه ربما يكون الأكثر خطورة: المشاهد.

المشاهد الذي يجلس هناك، سواء خلف شاشة هاتفه أو في قلب الحدث، يراقب كيف يُذبح الإنسان، كيف تُقطع أوصاله، كيف تُمحى ملامحه، ولا يدري أنه في تلك اللحظة، يتحول هو نفسه إلى جزءٍ من آلة العنف.

حين نرى الدم مرةً، نشعر بالفزع، لكن حين نراه ألف مرة، يصبح مجرد لونٍ آخر.

تتبلد الحواس، تنخفض العتبة الأخلاقية، ويتحول الرعب إلى عادة.

لكن، ماذا يحدث عندما تصبح العادة هي القاعدة؟ عندما لا يعود القتل استثناءً، بل مشهدًا يوميًا يمر أمام الأعين كما تمر الإعلانات على شاشة التلفاز؟ عندها، يصبح السؤال الأكثر رعبًا: متى نتوقف عن الإحساس أصلًا؟

الإنسان، بطبيعته، يملك قدرةً هائلةً على التكيف، لكن ماذا لو كان هذا التكيف هو عين السقوط؟!

فرويد تحدث عن هذه الظاهرة بوصفها «التكرار القهري»، حيث يعيد الإنسان إنتاج الصدمة حتى تفقد أثرها الأصلي، حتى يتماهى معها.

وحين يحدث ذلك، فإن العنف لا يعود استثناءً، بل يصبح جزءًا من النسيج النفسي للذات.

وماذا يحدث حين يتحول العنف إلى لغة؟ إلى نظام تواصلٍ غير معلن؟

عندها، لا يعود الموت هو المشكلة، بل الحياة في ظل هذا الموت المستمر.

المجتمعات التي تعتاد مشهد الذبح لا تبقى كما هي، بل تعيد تشكيل نفسها وفق منطقه.

هنا، يولد جيلٌ جديدٌ لا يعرف الحياة إلا كحالة طوارئ دائمة، حيث تُصاغ الأحلام وفق قوانين الخوف، وحيث لا يعود هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن تكون قاتلًا أو ضحية، لأن الجميع يعيش داخل نفس المسلخ، فقط بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الإدراك.

ليس غريبًا أن يكون السلاح المفضل في هذه المشاهد الدموية ليس الرصاص، بل السكين.

فالسكين ليس مجرد أداة قتل، بل هو سلاحٌ ذو رمزيةٍ خاصة في الحروب الأهلية والمذابح العرقية.

السكين، على عكس الرصاص، لا يقتل بسرعة. إنه يمنح الجريمة امتدادًا زمنيًا، يجعل الألم جزءًا لا يتجزأ من عملية الموت، ويحوّل القاتل إلى سيد اللحظة، حيث يُقرر كيف، ومتى، وبأي وتيرةٍ يمزّق أوصال الحياة.

حين نرى هذه المشاهد في السودان اليوم، حيث تستخدم قوات العمل الخاص ( كتائب الإسلاميين الارهابية ) السكاكين لشجِّ الرؤوس، وتقطيع الأيدي قبل الذبح، فإن الأمر يتجاوز مجرد القتل إلى صناعة مشهدٍ متكاملٍ للرعب، حيث يُراد للضحية أن تموت ببطء، وللمجتمع أن يشاهد، وللدم أن يتحول إلى الحبر الذي يُكتب به واقعٌ لا نهاية له من الرعب.

لكن، هل هناك مخرجٌ من هذا الحصار الوجودي؟! أم أن الأمر مجرد إعادة تدويرٍ لا نهائي للدم؟!

ربما يكون المخرج الوحيد هو في التمرد على بنية المشهد ذاته، في رفض اللعبة بكاملها، لا بممارسة العنف المضاد، بل بكسر المنطق الذي يجعل من العنف ضرورة، بكشف الخدعة الكبرى التي تجعل الإنسان يقبل أن يكون مجرد متفرجٍ على مذبحةٍ لا تنتهي.

لأن الخطر الحقيقي ليس في السكين الذي يقطع الجسد، بل في العين التي ترى ولا ترتعش، في الروح التي تشاهد ولا تسأل، في القلب الذي يتوقف عن الخفقان أمام مشهد الموت، ليس لأنه قد مات، بل لأنه لم يعد يرى فرقًا بين الحياة والموت.

 

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • مأساة المعلمين في المحافظات المحتلة.. بين مشانق الموت وجحيم الحياة
  • كيف تُغسل المرأة إذا ماتت وهي حائض؟
  • الموت يفجع مصطفى شعبان.. هكذا نعى شقيقه
  • الموت يفجع الفنان مصطفى شعبان
  • الموت يغيب الفنان السعودي محمد الطويان
  • حبيبة رضيعة غزة أمامها أيام فقط قبل الموت وإسرائيل أوقفت إجلاءها الطبي
  • المذبحة كخطاب متكرر والمُشاهد قارئ بلا ذاكرة ولا اعتراض
  • ماذا تعرف عن قاعدة غوانتانامو التي ستستضيف المهاجرين؟
  • مرضى التأمين بالمحافظات على حافة الموت
  • شاحنات الموت في بغداد.. بين فوضى المرور وعجز الحلول