د. صالح الفهدي
ما كادت خُطانا تُلامسُ الزِّقاقَ المنحدرة من قلعة الشهباء وسوق نزوى العريق إلى العمقِ في محلَّة "العقر"، حتى ابتهجت صدورنا ونحنُ نخطو في تلك الزِّقاق والسِّكك الضيِّقة التي كان الظلامُ المُرعبُ يحشوها في الماضي، فضلاً عن أنَّ ثغور البيوت القديمة، وفتحاتها الموحشة تثيرُ لوحدها الخوفَ وتبعثُ على انثيال الخيالات المفزعة، لكنَّها بدت لنا وكأنَّها تنتمي إلى مكانٍ آخر، فالإِضاءات المبهجة التي تملأُ أنوارها تلك الدروب طردت عنها أطياف الوحشة، وأزاحت أشباح الخوف، وأحلَّت محلَّها أُنساً لا يكادُ يتوفَّر إلا في هذه الدروب النزوانيَّة التي تقودنا نحو أَنزال -جمعُ نُزُل- ومقاهٍ تراثيةِ الطراز والمعمار، عصريَّةُ المسمِّيات والخدمات، تنتظمُ في عقود أشبه بعقودٍ ذهبيَّة لو نظرتَ إليها من الأَعلى في المساء، في حين يبدو السور الذي رُمِّمَ جزءٌ منه مشكلاً جِسراً أَنيقاً بإضاءاته الموزَّعةِ بعنايةٍ هندسية رائعة بين ضواحي النخيل.
منذ عِقدٍ من الزَّمان، تقدَّم شابٌ طموحٌ بفكرةٍ تحويل أحد البيوت الطينية المهجورةِ في هذه المنطقة إلى "نُزُل"، وكانت هذه المبادرة هي أوَّلُ شمعةٍ توقدُ في الظلام لتلك الحارة الموحشة التي كان مُلاَّك بيوتها المهجورة يريدون التخلُّص منها بأبخس الأَثمان في ذلك الوقت، حتى بدأت الشموع تتكاثرُ في ظُلماتها، بمبادرةٍ أوسع وأشمل تمثَّلت بتأسيس أبناء ولاية نزوى لشركة "بوارق نزوى الدولية للإستثمار"؛ حيث أخذت على كاهلها فكرة إعادة الحياة إلى تلك البيوت التي تخلَّلها الضعف والهشاشة والوهن بإعادة ترميمها وتحويلها إلى أنزالٍ ومقاهٍ تقدِّم للسائح من الزائرين أو أبناءِ الوطن تجربةً فريدةً من نوعها.
لفتتنا هذه التجربة الحميمية التي عايشناها في عدد من البلدان التي زرناها، والتي استثمرت هذه المناطق القديمة فأعادت إليها الحياة؛ إذ جمعت فيها الأصالة والمعاصرة، وجعلت مجرَّد المشي في دروبها تجربةً ذات إحساسٍ شيِّق.
نزوى المشحونة بعراقةِ التاريخ، وعمق الأصالة، وزخم الأحداث المتلاحقة باعتبارها قطباً مهمًّا في تاريخ عُمان، يقدِّمُ أهلها أُنموذجاً في تقديرهم للعمل الذي يزاولونه بأنفسهم حيث تجد أهل الولاية وهم يقفون على جميع أعمالهم في سوق نزوى ابتداءً من محلَّات الذَّهب إلى سوق الخضار مروراً بمصانع الحلوى العُمانية، وها هم اليوم يقدِّمون الأنموذج الفريد في مبادرتهم الشيِّقة التي أشعلوا بفضلها الشموع في ظلمات الحارات الموحشة، والضواحي الداكنة الظلمة ليقدِّموا دروساً غير مصطنعة ولا متكلِّفة في إنماء فكرة السياحة، التي لا تحتاجُ إلا إلى فكرةٍ عمليةٍ ذات مردودٍ اقتصادي بوسيلة جاذبةٍ للسائح.
أَبهرتني نزوى في زيارتي الأُسرية الأخيرة، وأوَّل الإبهار هو الروح الرائعة لأهالي ولاية نزوى الذين قدَّموا لوطنهم قبل السائحين تجربةً فريدة ذات مغزىً ومعنى. خلال هذه الزيارة التقيتُ قدراً بالأخ العزيز عبدالله بن زهران العوفي وهو أحد أعضاء شركة بوارق نزوى الدولية للاستثمار، وقد كان يشرفُ بنفسه على بعض أعمال الشركة في ساعةٍ متأخرةٍ من المساء فحدَّثنا عن الفكرةِ والطموح، وفسَّرَ لنا كيف يمكن للدروب أن تتحوَّل إلى عقودٍ من الذهب، وكيف للحارات القديمة أن تنتشي بالحياةِ والحركة وتصبح أليفة وصديقة حين يرتقي الإنسان بطموحاته، ويعتلي بأفكاره، وتصوُّراته.
وقبل أن أختم هذه المقالة أُقدِّم بعض الأفكار التي أراها ذات قيمة من وجهة نظري للجهات المعنية والشركة المسؤولة:
أولاً: أرى أن يكون لمحافظة الداخلية مركزاً عصرياً مسؤولاً عن السياحة، كما يطلقُ عليها في الخارج "Tourist Information Center" ويُرمز له بالحرف (i)؛ حتى يقوم بمهمته في مساعدة السائحين في التعرُّف على المرافق السياحية في ولايات الداخلية؛ حيث تفتقد الفنادق في هذه الولايات لمنشورات سياحية نراها في البلدان الأُخرى لتسهِّل على السائح وضع برنامجه السياحي.
ثانياً: أرى أهميَّة تعميق التجربة الثقافية/السياحية لولايةٍ مثل نزوى التي تمورُ بالأحداث التاريخية، وتثقل بالكنوز العلمية والفكرية، والقصص المختلفة؛ ذلك لأن إضافة العمق في التجربة يتطابق مع الصورة التي تتخايل في ذاكرة السائح الغربي بسحر الشرق، وليالي ألف ليلةٍ وليلة، وذلك عبر الفعاليات، والمناسبات الفنية، والدراما، ومشاهدة الأفلام الخاصَّة بنزوى وتاريخها ورموزها وأحداثها، تطويعاً لكل ما يمكن تطويعهُ في تعميق الأثر الثقافي لنزوى عاصمة الثقافة، وحاضرة التاريخ.
ثالثاً: لا بد من المحافظة في هذا المسعى التطويري على الهُوية العمانية العربية للمكان؛ حيث إن بعض المسمِّيات للمقاهي أو المحلَّات أجنبية، وهذا يتنافى مع الثيم العام، علاوةً على الإِضرار بالخصوصية المرتبطةِ بالمكان، وهذه ملاحظةٌ أُبديها دون تحفُّظ لأي مسؤول تذكيراً للحفاظ على الهوية الوطنية.
وختاماً.. فإنَّ ما رأيته في زيارتي الأخيرة لنزوى قد أسرَّ نفسي؛ حيث بدأ البرنامج السياحي بزيارة التحفة العصرية الأصيلة "متحف عمان عبر الزَّمان"، الذي كان مخطَّطاً له أن يُشغل نصف يومٍ للزائر، ثم استكملنا بعدها اليوم في ربوع نزوى الرائعة التي قلتُ فيها قصيدة محبَّة ذات صباح بعنوان "إليكِ نزوى".
وبعد أن أضاءت نزوى مصابيح النور لهذه الأماكن التي تتلألأ بعبق الماضي الزكي، فإن نور فكرتها قد امتدَّ إلى ولايات أُخرى حولها وبعيداً عنها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
طرحت فرنسا والمملكة المتحدة فكرة إرسال قوات إلى الميدان كضمان أمني بعد اتفاق السلام. ولكن حتى الآن، يبدو أن قلة من الدول توافق على ذلك.
خلال قمة عُقدت في لندن يوم الأحد، طرحت فرنسا والمملكة المتحدة، مقترحًا لتطوير "تحالف الراغبين"، بهدف تعزيز الدفاع عن أوكرانيا والمساهمة في أي خطة سلام مستقبلية، في إطار الجهود الغربية المستمرة لدعم كييف في مواجهة التحديات الأمنية.
ووصف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر التحالف بأنه مجموعة من الدول "المستعدة لدعم أوكرانيا بقوات على الأرض وبطائرات في الجو، والعمل مع الآخرين ".
لا تزال طبيعة المهمة العسكرية المحتملة للقوات الغربية في أوكرانيا غير واضحة، وسط تساؤلات استراتيجية حول نطاق وأهداف هذا التدخل. ويطرح فيليب بيرشوك، مدير "معهد البحوث الاستراتيجية" في المدرسة العسكرية في أوروبا، سلسلة من التساؤلات الجوهرية حول السيناريوهات المحتملة لنشر القوات.
ويشير بيرشوك ليورونيوز إلى أن هناك فارقًا جوهريًا بين إرسال قوات إلى غرب أوكرانيا للسماح للجيش الأوكراني بإرسال وحدات محلية للقتال على الجبهة، وبين نشر قوات لحفظ السلام، حيث يتطلب هذا الأخير تمركز قوات عند خطوط التماس لمنع استمرار القتال، وهو نهج يختلف تمامًا عن التدخل العسكري التقليدي.
Relatedأوكرانيا تجدد رفضها دخول مفتشي الطاقة الذرية إلى زابوروجيا عبر الأراضي المحتلةرئيس وزراء السويد السابق" يصف مفاوضات ترامب للسلام حول أوكرانيا بأنها مباحثات "هواة" ستارمر: لندن وباريس تعملان على خطة لوقف الحرب في أوكرانيا سيتم طرحها على ترامبويقدر الخبراء أن تنفيذ مهمة حفظ سلام موثوقة يتطلب نشر عدة آلاف من الجنود. وفي هذا السياق، صرّح سفين بيسكوب، الباحث في "معهد إيغمونت" في بروكسل، لقناة يورونيوز قائلاً: "قد يكون من الضروري إرسال فيلق عسكري يضم 50 ألف جندي، لإيصال رسالة واضحة إلى روسيا مفادها أننا جادون للغاية في هذا الأمر."
ورغم أن باريس ولندن تبديان استعدادًا لاستكشاف هذا الخيار، إلا أن المواقف الأوروبية لا تزال منقسمة بشكل كبير حيال هذه الخطوة الحساسة، إذ تتحفظ بعض الدول على التصعيد العسكري المباشر، ما يضع مستقبل هذا المقترح أمام اختبار سياسي ودبلوماسي معقد.
الدول المترددةويبدو أن بعض الدول الأوروبية تتجه نحو تأييد المبادرة الفرنسية-البريطانية، لكنها لم تحسم موقفها بعد بشأن مسألة نشر جنود على الأرض في أوكرانيا.
ففي البرتغال، تعهدت الحكومة بدعم الخطة التي ستضعها لندن وباريس، لكنها ترى أن الحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا في إطار عملية حفظ السلام لا يزال سابقًا لأوانه. وأكد الرئيس مارسيلو ريبيلو دي سوزا أن أي قرار يتعلق بنشر قوات برتغالية يجب أن يُعرض على المجلس الأعلى للدفاع الوطني، المقرر اجتماعه في 17 مارس للنظر في الأمر.
أما في هولندا، فقد أوضح رئيس الوزراء ديك شوف أن بلاده لم تقدم أي التزامات ملموسة بعد، لكنه أكد انضمام هولندا إلى الجهود العسكريةالفرنسية-البريطانية للمساهمة في وضع حلول ممكنة.
بدورها، قد تنضم إسبانيا إلى المبادرة في مرحلة لاحقة، إذ صرّح وزير الخارجية خوسيه مانويل ألباريس أن مدريد "ليس لديها مشكلة" في إرسال قوات إلى الخارج، لكنه شدد على أن التركيز الحالي بشأن أوكرانيا لا يزال سياسيًا ودبلوماسيًا بالدرجة الأولى. ومع ذلك، يبدو أن الرأي العام الإسباني يدعم هذا التوجه، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته قناة "لا سيكستا" أن 81.7% من الإسبان يؤيدون نشر قوات لحفظ السلام في أوكرانيا.
إيطاليا وبولندا: المتشككونرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تُعد من أكثر القادة الأوروبيين تحفظًا بشأن فكرة نشر قوات أوروبية في أوكرانيا، حيث وصفتها بعد اجتماع لندن بأنها "حل معقد للغاية وربما أقل حسمًا من الخيارات الأخرى". وأكدت في تصريحاتها أن إرسال قوات إيطالية لم يكن مطروحًا على جدول الأعمال في هذه المرحلة.
وترى ميلوني أن أفضل ضمان أمني لأوكرانيا يكمن في تفعيل المادة 5 من ميثاق الناتو، التي تلزم جميع أعضاء الحلف بالدفاع عن أي دولة عضو تتعرض لهجوم. ومع ذلك، يظل تطبيق هذه المادة غير واضح في ظل عدم عضوية أوكرانيا في الحلف، مما يجعل مقترح ميلوني غير محدد المعالم في الوقت الحالي.
Relatedردًّا على ترامب وبوتين: الدنمارك تُطلق صفقة تسليح ضخمة بـ6.7 مليار يوروفون دير لاين تدعو لتسليح أوكرانيا "بسرعة" حتى لا تصبح لقمة سائغة في فم روسياقمة أوروبية تناقش تعزيز تسليح أوكرانيا والحرب في غزةأما في بولندا، أحد أبرز داعمي أوكرانيا منذ بداية الحرب، فلا يزال الموقف حاسمًا برفض إرسال قوات بولندية إلى الأراضي الأوكرانية. وأوضح رئيس الوزراء دونالد توسك أن بلاده تحملت بالفعل عبئًا كبيرًا باستقبال نحو مليوني لاجئ أوكراني خلال الأسابيع الأولى من الحرب، مما يجعلها غير مستعدة للانخراط عسكريًا بشكلٍ مباشر.
وبينما تبدو وارسو مستعدة لتقديم الدعم اللوجستي والسياسي، إلا أنها لا تعتزم نشر قوات على الأرض، ما يعكس الانقسامات داخل أوروبا بشأن هذا الخيار العسكري الحساس.
المجر وسلوفاكيا، غير مستعدتين على الإطلاق للقيام بذلكتتخذ كل من المجر وسلوفاكيا موقفًا أكثر انتقادًا للدعم العسكري الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، إذ تدفعان باتجاه فتح حوارٍ مع روسيا لإنهاء الحرب بدلاً من تصعيد المواجهة العسكرية.
وهاجم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان القادة الأوروبيين المجتمعين في لندن، متهمًا إياهم بالسعي إلى "مواصلة الحرب بدلاً من اختيار السلام"، في إشارة واضحة إلى رفضه لاستراتيجية الدعم العسكري المستمر لكييف.
من جانبه، أعرب رئيس وزراء سلوفاكيا عن تحفظه الشديد تجاه مبدأ "السلام من خلال القوة"، معتبرًا أنه مجرد مبرر لاستمرار الحرب في أوكرانيا بدلًا من البحث عن حلول دبلوماسية حقيقية.
وبناءً على هذه المواقف، يُستبعد تمامًا أن تنضم بودابست وبراتيسلافا إلى أي مبادرة لنشر قوات أوروبية، إذ ترفض حكومتا البلدين بشكلٍ قاطعٍ الانخراط العسكري المباشر في النزاع الأوكراني.
موقف برلينتتوجه الأنظار الآن إلى ألمانيا، حيث يجري تشكيل حكومة جديدة برئاسة المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس.
وقد استبعد المستشار الألماني الحالي أولاف شولتز إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا، على الرغم من أن وزير دفاعه بوريس بيستوريوس ألمح إلى إمكانية نشر قوات حفظ السلام في منطقة منزوعة السلاح، في حال وقف إطلاق النار.
إلا أن هذا الموقف قد يتغير، حتى وإن كان من الصعب إقناع الرأي العام المحلي بقرار نشر الجنود الألمان في أوكرانيا.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية من محام إلى مستشار.. شتوكر يتولى رئاسة الحكومة النمساوية الجديدة بعد مشادة البيت الأبيض.. زيلينسكي: مستعدون لتوقيع اتفاق المعادن ستارمر: لندن وباريس تعملان على خطة لوقف الحرب في أوكرانيا سيتم طرحها على ترامب الغزو الروسي لأوكرانياالمملكة المتحدةالاتحاد الأوروبيقوات عسكرية