جريدة الرؤية العمانية:
2024-09-19@04:45:06 GMT

الأدب الحلمنتيشي

تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT

الأدب الحلمنتيشي

 

 

علي بن عبد الله اللواتي

الأدب الحلمنتيشي هو نوع من الشعر المعاصر، يمزج فيه الشاعر بين الفصحى والعامية، ويعتمد على الفكاهة والسخرية، ولقد ظهر وانتشر هذا الأدب في مصر والسودان والحجاز في خمسينيات القرن الماضي، وسط شعراء قسم جامعة الأزهر، ونتج بشكل مباشر أو غير مباشر عن مراحل جديدة للتغيرات الكبيرة التي تحيط بنا، لكنه لم يدُم طويلاً نظراً لعدم الاهتمام به، وهو مزيج بين العامية المصرية واللغة العربية الفصحى.

وقد نجد في شعر أبي نواس وابن الرومي، وقد كانت بداية ظهوره على يد حسين شفيق المصري (1882-1948). الذي أنتج أعمالا أطلق عليها "الشعر الحلمنتيشي" نسبة إلي فرقة تُدعى "الحلمنتيش" كانت تعرض مثل هذا الشعر الفكاهي، وهو مبني على مداعبات هزلية وإصلاحية وانتقادية لأحوالهما (مصر والسودان)، وقد عمل صحفيا ساخرا في العديد من الصحف والمجلات، كما ترأس مجلة "فكاهة"، وعاصر نجيب الريحاني وبديع خيري، وللشاعر بيرم التونسي أيضًا إبداعات في هذا الأدب، وقدم مجموعة من الأشعار فيه وقد عارض في أشعاره كبار الشعراء؛ أبرزها معارضته لابن الفارض:

أنتم فروضي ونفلي         أنتم حديثي وشغلي

أهل الكلوب ومالي          عن الكلوب تخلي

كما غنَّى له كبار المطربين؛ أمثال: أم كلثوم وسيد مكاوي، وربما تكون الأغنية "غنيلي شوي شوي" أشهر هذه الأغنيات، كذلك ظهر في السعودية اسم بارز في أنماط "الحلمنتيشي"؛ وهو: الشاعر أحمد قنديل، وله العديد من القصائد. ويستجيب هذا الشعر والأدب للظروف المختلفة من مؤثرات حولها كما هي الحال للمذاهب الأدبية. ويقال إنَّ المصطلح مكون من كلمتين "حلا" من حلا أي حلاوة الشي و"منتيش" من نتش الشيء، والنتاش في العامية المصرية هو الفشّار أو الكذاب، وبهذا التكوين تكون الكلمة تعني النتش الحلو أو الفشر اللذيذ. ويستجيب الشعر والأدب للظروف المتقلبة وما حولها من مؤثرات لغوية وظرفية، وقد يكون الأدب الحلمنتشي من الأدب العبثي أو اللامعقول؛ استجابةً لأدباء العبث في المفاهيم الإنسانية بعد الثورة الصناعية وحروب مدمرة بقصائد سماها "المشعلقات". كان من "حلمنتيشيات" حسين المصري إن عارض معَّلقة عمرو بن كلثوم:

أَلاَ هُبَّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحِيْنَا... وَلاَ تُبْقِي خُمُوْرِ الانْدِرِينا

فيقول: ألا هبي بصحنك فأطعمينا.. ولا تبقي فراخا أو طحينا

محمرة يتوه الرز إذا.. ما السمن خاطها سخينا

فهاتي ما استطعت من أصواني.. ولا تنسي السلطة والطحينة

وبعض من شعره كذلك:

الحب أخرج مقلتي... وأذاب قلبي باللهيب بتاعه

سار الوبور إلي بلاد أحبتي... يا ليتني متشعبط بذراعه

أدكتور مهلا بعض هذا التدلل... وإن كنت قد أزمعت قتلي فاقتل

أغرك مني أن جيبي فارغ... وأنك مهما تقفل الباب أدخل

ومنها:

شكوت تفَككَ الأوصالي... قالوا: دوائك شرب ممزوج الحديدي

وقال البعض، بل كُل كًلَ يوم... كذا وكذا ودع أكل القديد

وأخبرني يهودي حكيم.. صحيح القول ذو رأي سديد.. بأن البنكنوت

على فؤادي يشد مفصلي ويقم عودِ

وقد آمنت والإسلام ديني.. بأن الحق ما قال اليهودي

*****

ويسمَّى هذا المقطع بالأزهرية:

سألت على شعبانَ... أستاذنا الولي

فقالوا: بأن الشيخ مَنْزًلةَ خِلي... وراح إلى شبرا وحمّل عفشَه 

على ظهر جِدِيِ ذي ثلاثة أرجل

فقلتُ: لقردي والحمار الذي معي... قِفَا نبكي ذكرى حبيب ومنزلي

كما يعتبر الشاعر المصري ياسر قطامش، أبرز شعراء "الحلمنتيشي" في القرن الماضي، وهو أكثر تدوينا في هذا النمط من شعر القصص الساخرة، ومن بعض قصائده معارضته للأطلال: "يا فؤادي لا تسل أين الهوى":

يا فؤادي لا تسل اين الجنية... إنه مات فقف وابكي عليه

واسقني واشرب على أطلاله أو نسكافيه

وبعضا من شعره أيضا:

إذا الشعب يوما أراد اللحوم.. فلا بد أن يستجيب له البقر

ومن لم يعانقه شوق اللحوم... تشابه عيشته للغجر

فليس كمثل اللحوم فراخ... وليس كمثل اللحوم زفر

زيديني خبزا زيديني... يا اشطر طباخ صيني

إن الجرح سيطريني... زيديني خبزا علَّ الخبز إذا آكله يكفيني

*****

كما يشاركهم الشاعر مصطفى رجب في حلمنتيشياتهم؛ فيقول:

قالت وقد بصَّت عليَّ عوافي... وتدلعت في ثوبها الشفاف

وتحايلت وتخايلت وتمايلت... حتى سَبَت عقلي بغير سلاف

قالت: أأنت من العجوزة* يا فتى؟... أم أنت جِلف من بني الأرياف؟

إني أراك مهندما ومؤدبا... وعليك قنطار من الأصواف

لكن لمحتك في الطريق تبص لي... وتكاد تقضم من لحوم كتافي

النماذج كثيرة مما تهواه الناس كما تهوي الفكاهة والنكات والمداعبة الساخرة، وهناك العديد من الشعراء في هذا الأدب الساخر؛ منهم: أسعد رستم، وحافظ وشوقي، الذي قال في مقطوعة يسخر فيها من نفسه عندما وُلِدَ ابة البكر:

صار شوقي أبا علي... في زمان الترللي

وجناها جناية... ليس فيها بأول

لقد وجد شوقي في الأدب أو الشعر "الحلمنتيشي" نافذة ليطل من خلالها على الجمهور وليأخذ من السخرية بابًا للوصول إلي العامية، بعد أن أصبحت القصيدة لا هي فصيحة ولا هي عامية.

وهناك شعراء مجهولون كتبوا في الشعر العمودي، والذي منهم يشكو حاله:

ليس لي في البنك قرش واحد... اسال الجسار* ينبيك الخبر

وله قصيدة عن المركبة الفضائية التي حلق بها رائد الفضاء الروسي جاجارين:

أبولو حْداشَ يا أبتي... تحلّق فوق أجوائي

كما أنَّ الشاعر علي مُحمد غرة أصدر ديوانه "الشعر الموزون"، له معارضة لصفي الدين الحلي، من مقتطفاته:

سل الطواهي عنا والطوابينا... ويشهد الخبزُ ما خاب الرجا فينا

واسال عن اللوف والخبّببيزِ ما صنعت... في بطن حاسدينا أو قلب قالينا

وسائل البطن عن رزّ به سقطت... حبّاته لتزيد الكرش تسمينا

وللمناقيش دور في الفطور وزِد... فطيرة تحتوي زيتا وزيتزونا

إذا سمِعْنا من الأمعاء قرقرة... فالجوع يعصرنا عصرا فيؤذين

إن أشعار الشاعر الملط أفندي على نهج نزار قباني

إن كنت حبيبي سلفني فانا الجنط... أمي ترفض أن تقرضني وكذلك طنط

إن كنت حبيبي ساعدني فأنا مزنوق... والديانة قد وقفوا مثل الخازوق

اشتقت إليك فسلفني سيجارة "كِنت"... علمني حبيبي ساعدني كي أرحل عنك

ولكي تخلص مني اكتب شيكا ع البنك

... إنَّ تهجين اللغة العربية الفصيحة مع اللهجة العامية، جعل هذا الأدب مميزا من خلال تشكيله واستخدام التنوين ووصله مع ضمائر الفصحى وأدواتها وإبقائه على لفظها العادي؛ فالموضوع في القصيدة الفصيحة يطغى عليها طابع الصناعة اللغوية الفصحى، أما في الأدب "الحلمنتيشي" فالقصيدة تؤدي غايتها مهما كان هدفها، لكن في إطار جاد وكلماتها معبرة لجعل النص أكثر جدية في زمن أصبحت فيه السخرية جزءا من الحياة اليومية التي لا يمكن أن يمر يوم بلا سخرية. ولا يُمكن اعتبار الشعر "الحلمنتيشي" خارجا عن الضرورة في زمن ظهوره وتطوره، ويعتبر جزءًا من الحياة اليومية في ظرف أصبحت فيها السخرية اليومية جزءًا من الحياة التي لا يمكن أن تمر بلا سخرية؛ باعتبارها تنتمي إلى الفئة البسيطة والهامشية.

"الحلمنتيشي" السوداني: عُرِفَ عنه أنه أقرب إلى كوميديا الموقف منه إلى كوميديا الكلمة، كما أن اللهجة السودانية تحتوي إلى كبير على الكثير من المفردات العربية الفصيحة؛ مما يجعل تهجينها صعبا، ومن رواده: الشاعر مُحمد علي عبدالمجيد، والشاعر مُحمد الصراف. أما في السعودية، فقد برز الشاعر أحمد قنديل ومعروف بقصائده "القنديليات"، ويعتبر الشاعران حسين المصري والشاعر بيرو التونسي من أبرز شعراء الأدب الحلمنتيشي.

ومن المؤسف، ومن خلال بحثي لهذا النوع من الأدب الفكاهي، أني لم أجد كثيرا منه حيث ترافق ظهور هذا النوع من الشعر أو الأدب مع النهضة الموسيقية والشعرية في مصر، والتي تعد مركزا للنهضة الموسيقية والغناء، إضافة إلي ردةَّ فعل على النخبة الشعرية.

------------------

* العجوزة: حي مشهور من أحياء مدينة الجيزة بالقاهرة.

* الجسار: مدير المصرف.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الشاعر إبراهيم رضوان لـ «البوابة نيوز»: الكلمة واللحن أصبحا «في خبر كان»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أعرب الشاعر الكبير إبراهيم رضوان عن استيائه مما يحدث على الساحة الغنائية حاليا، قائلا: "ليست الكلمة وحدها التى أصبحت فى خبر كان، ولكن اللحن أيضا والأداء، منذ فترة سيطرت الأغنية، "الإفيه"، على الساحة الفنية، والمؤسف أن معظم الأطفال الصغار أصبحوا يحفظون هذه التفاهات، ومَن شَبَّ على شيء شاب عليه، كيف أستمر فى هذا الوسط السيئ الذى يسيطر عليه مؤدو المهرجانات وغيرهم، خصوصا بعد أن انضم إليهم مَن غنى بملابس بهلوانية، والذى غنى بالشيفون.

وعن اختفاء الكلمة التى تمس الوجدان، أشار "رضوان" في تصريحات خاصة لـ "البوابة نيوز"،  إلى أن الشعر الغنائى ذهب واختفى بفعل فاعل، والأغنية الجميلة خرجت ولم تَعُد، ولن تعود، فلقد هبط علينا مجموعة بحروفهم وألحانهم العقيمة وأصواتهم البشعة ليتسببوا فى تدمير كل شيء، فهم الجراد الذى يأكل الأخضر واليابس، ومنهم مَن لم يحصل حتى على شهادة محو الأمية لتقديمها لنقابة الموسيقيين ليحصلوا على العضوية. 

وعن سبب ضياع الذوق العام، قال الشاعر الكبير: "الزَّن على الودان أعظم من السحر"،  أنت جائع وليس أمامك إلا هذا الطعام الذى لا تحبه، ولكنك ستضطر أن تأكله لعدم وجود غيره، هكذا تآمروا على الجيل الجديد لكى يفسدوه ويجرفوه تمامًا من كل من له علاقة بالقِيم والمبادئ". 

وعن اختفاء شعراء الأغنية، أكد أن مَن أراد أن يحافظ على كرامته فلينسحب، مضيفا أنه ترك العاصمة فى عز نجاحه وعاد إلى المنصورة فى الوقت الذى كانت تغنى فيه شاديه آخر أغنياتها. 

وأوضح إبراهيم رضوان: "زمن الكلمة ما زال بخير طالما أن الأغانى القديمة موجودة، وما زلت أتشرف بأننى لم أقع فى مصيدة التفاهة وفرضت أسلوبى على محمد نوح الذى غنى لى معظم أغنياته و على هانى شاكر الذى كتبت له "أرجوكى يا حبيبتي"، وعلى محمد منير، الذى طلب منى أن أكتب له أغنيات على مقاسه لكننى أجبرته أن يغنى بأسلوبي، حتى نقدم كل ما هو جديد، فكتبت له عدة أغنيات منها (قلب الوطن مجروح) و (الناس نامت إلاك). 

وعن الفرق بين شعراء الزمن الجميل والشعراء الحاليين، أشار الى أن الفرق شاسع جدا بين مطربى الزمن الجميل والفترة الحالية، موجهًا سؤالا هل من الممكن أن يكتب أى أحد فى مصر جملة مرسى جميل: "ستاير النسيان.. نزلت بقالها زمان"؟، أو "زرعت فى ضل ودادي" لأحمد رامي؟ أو "عش الهوى المهجور لإمام الصفطاوي"؟ 

وتابع: " ما زلنا نعيش فى مرحلة التوابع، وشعراء الكلمة الحلوة أخذتهم النداهة، وللأسف الشديد الجيل الجديد ظلم نفسه وسلمها للاستسهال والتفاهة والعقم الفني".

ووأردف: "  شعراء الأغنية فى زمن الفن الجميل اختفوا بحكم السن أو المحافظة على الكرامة، والدليل على وجودهم أن هناك المئات منهم ما زالوا يتقاضون حق الأداء العلنى من جمعية المؤلفين والملحنين". 

وإستكمل: "كلما التقيت بأحدهم وسألته عن آخر أعماله تكون المفاجأة، آخر أعماله كانت منذ سنوات طويله لأن السوق ليس به إلا المعطوب، معظم شعراء الأغنية فى حالة يرثى لها، أتحدث عن الذين حافظوا على اسمهم".

مقالات مشابهة

  • قضايا
  • شريك هيئة الأدب بتبوك يقيم ندوة تثقيفية حول التراخيص الإعلامية
  • استشهاد فتى برصاص الاحتلال قرب نعلين غرب رام الله
  • بيت الشعر في الشارقة يتغنى بالغربة والحنين
  • إلياس خوري روائي لبناني جمع بين هم الأدب ووجع فلسطين
  • الشاعر إبراهيم رضوان لـ «البوابة نيوز»: الكلمة واللحن أصبحا «في خبر كان»
  • رئيس مجلس الوزراء يلتقي رئيس المؤسسة العامة القابضة
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تستعد لتنظيم معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
  • شريك هيئة الأدب بتبوك يقيم أمسية ” حضور كتابك في الساحة الأدبية “
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تختتم النسخة الثانية من برنامج “أنت” التدريبي