لماذا تغيب جماهير المنتخب المصري عن المباريات؟ ظاهرة خطيرة
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
تثير المدرجات الخاوية أثناء مقابلات المنتخب المصري رغم وجود نجوم من طراز محمد صلاح وسماح الأمن بسعة شبه كاملة، جملة من الأسئلة حول سر هذا الغياب. ويتخلف المشجعون عن مواجهات "الفراعنة" المحلية في ظاهرة متكررة تجلت مع مطلع تصفيات مونديال 2026.
ولم يصدق المدرب البرتغالي روي فيتوريا "ما رآه في مباراة جيبوتي، لأنه كان ينتظر أن تمتلئ المدرجات عن آخرها في بداية مشوار تصفيات كأس العالم"، حسب مدير المنتخب محمد خالد غرابة الذي أكد لوكالة الأنباء الفرنسية أن "حالة الغياب الجماهيري تسبب ضيقا كبيرا لدى إدارة المنتخب".
ورغم البداية القوية في التصفيات الأفريقية بفوزين على جيبوتي (6-0) وسيراليون خارج أرضه (2-0)، دار الحديث بشكل أكبر حول مدرجات خاوية أصبحت مشهدا معتادا في مباريات بطل القارة سبع مرات.
على استاد القاهرة الذي تتسع مدرجاته لأكثر من 75 ألف متفرج، وكان يُعرف بـ"استاد الرعب" إذ كان يغص سابقا بالجماهير قبل ساعات من مباريات المنتخب، تناثر نحو خمسة آلاف مشجع وسط حالة من الصمت غير المعتاد في أغلب فترات المباراة التي سجل فيها صلاح، نجم ليفربول الإنكليزي، رباعية جميلة.
مدرجات خاوية
ويعبّر حازم إمام، نجم المنتخب السابق وعضو مجلس إدارة الاتحاد المصري، عن حزنه الشديد لهذه الظاهرة ويقول "أي منتخب في العالم يلعب بصورة أفضل حين تسانده جماهيره في المدرجات. حين كنت لاعبا، كنا ننتظر مباريات المنتخب بفارغ الصبر لنرى 100 ألف مشجع في استاد القاهرة ليساندوا منتخب بلادهم بدون التفكير في ألوان الأندية".
ويرى لاعب وسط الزمالك السابق أن فقدان الثقة هو السبب الرئيس وراء الغياب "أعتقد أنه مع النتائج الجيدة التي يحققها منتخب مصر في الفترة الأخيرة، ستعود الجماهير في المباريات المقبلة. أتمنى أن نحقق نتائج مميزة في كأس الأمم الأفريقية (كانون الثاني/يناير في ساحل العاج)، وهذا سيعود بصورة إيجابية على الحضور".
وإذا كانت مباريات الدوري تشهد حضورا جماهيريا محدودا بقرارات أمنية منذ سنوات عدة، إلا أن هذا الأمر يختلف في المباريات الدولية، حيث يسمح الأمن بحضور الجماهير بسعة شبه كاملة في مباريات الأندية في دوري أبطال أفريقيا وكأس الكونفدرالية، كما في مباريات المنتخب الرسمية والودية.
وفيما امتلأت مدرجات استاد القاهرة في مواجهة الأهلي والوداد المغربي في ذهاب نهائي دوري الأبطال في حزيران/يونيو الماضي، أو قبلها في مباراة الأهلي والهلال السوداني، بدت المدرجات عينها خاوية تماما في كل مباريات المنتخب المصري الأخيرة، باستثناء مواجهة السنغال في آذار/مارس الماضي ضمن ذهاب الدور الحاسم من تصفيات مونديال 2022 التي اخفقت مصر في بلوغها.
"غياب الجمهور سيؤثر سلبا"
ويرى لاعب المنتخب السابق والإعلامي راهنا أحمد حسام "ميدو" أن "هذه الظاهرة خطيرة للغاية وقد يدفع المنتخب ثمنها مستقبلا". ويضيف: "في الماضي دفعنا ثمن الاستهتار بمباريات أمام فرق كنا نعتبرها صغيرة، وغياب الجمهور سيؤثر سلبا على المنتخب حتى لو كان المنافس سهلا نظريا".
واعتبر لاعب أياكس الهولندي وتوتنهام الإنكليزي السابق أن الأزمة تتمثل في ارتباط الجماهير بأنديتها بصورة أكبر من المنتخب وهو مؤشر خطير. "الجماهير تعاقب المنتخب بسبب خلافات أنديتها مع مسؤوليه أو مع اتحاد الكرة. المنتخب أهم من الجميع، وحالة الارتباط التي كانت موجودة في الماضي يجب أن تعود مرة أخرى. لابد أن ينسى الجمهور خلافات الأندية ويقف وراء منتخب مصر في أي ظروف".
وامتدت حالة الجفاء بين الجماهير والمنتخب إلى مبارياته الودية رغم قوتها أمام تونس في أيلول/سبتمبر الماضي، وحتى في تصفيات كأس أمم أفريقيا أمام إثيوبيا.
"المدرجات ستمتلئ من جديد"
ويفكر الجمهور راهنا بصورة أكبر في مباريات الأندية، حسب القائد السابق لرابطة المشجعين محمد رفعت الشهير بـ"ريعو"، مشيرا إلى أن غياب الجماهير الذي امتد لأكثر من عشر سنوات أدى لخلق جيل جديد لا يهتم بحضور المباريات.
ويضيف ريعو "في الماضي، كانت مباريات المنتخب عيدا للجماهير. لكن الغياب الطويل والأزمات التي أحاطت بالمنتخب قللت من ارتباطها وأنشأت جيلا جديدا غير مهتم بالحضور".
لكن جمال حمدون أحد أشهر المشجعين في مصر يرى أن الأمر لا يعدو حالة استثنائية ستمرّ قريبا.
وقال "رأينا في كأس الأمم الأخيرة الجماهير تسافر من مصر للكاميرون لحضور المباريات وتعود في اليوم نفسه. مع توالي المباريات والاقتراب من حلم الوصول لكأس العالم 2026، أعتقد أن المدرجات ستمتلئ من جديد، فالجمهور المصري لن يتأخر عن الفراعنة حين يحتاجون لوجودهم في المدرجات".
ويختم مدير المنتخب محمد غرابة متفائلا: "بالتأكيد نرغب في عودة الجمهور في المباريات المقبلة لأنه عامل قوة لا غنى عنه. نتمنى أن يعود لمساندة المنتخب بأعداد كبيرة".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي رياضة المصري محمد صلاح كأس العالم أفريقيا مصر كأس العالم أفريقيا محمد صلاح رياضة رياضة رياضة سياسة سياسة رياضة رياضة رياضة رياضة رياضة رياضة رياضة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
التَّصحيح البُولاقي ظاهرةٌ تراثيةٌ في خدمة المخطُوط الإِسلامي
عَرَفَ القارئ العربي بواكير الطِّباعة والكتاب المصفُوف على الآلاتِ، وذلك من خلال المدِّ الحضاريِّ والذي ابتدأ في عددٍ من الأقطار العربيَّة، وتُسجل القاهرةُ في ذلك نشوءًا مبكرًا خَدَمَ صناعة ونَشْر الكتاب الإسلامي التُّراثي بمختلف تخصُّصاته؛ فبعد أن اندحرَ الفرنسيُّون، وقد جلبوا معهم عددًا من الآلاتِ، والتي أسَّسوا بها المطبعة الأهلية سنة 1798م، ولم يكن من شأنِ هذه المطبعةِ إلا نشر الأوامر والمراسيم ونزرًا قليلا من الكتب العربيَّة.
فبعد هذا الاندحار الفرنسيِّ؛ مرَّت فترةٌ من الزمن، زهاء عشرين سنة، وليس في مصر طباعة ولا مطبعة، حتى أُنشأت المطبعة الأهليَّة؛ وذلك في سنة ١٨١٩م، ثم نُقلت هذه المطبعةُ إلى بُولاق، على ضِفاف النِّيل؛ فعُرفت بمطبعة بولاق، أو المطبعة الأميريَّة؛ ومن هنا بدأت حكايةُ الطِّباعة العربية والتَّصحيح والتَّحقيق التُّراثي.
لقد أسهمت المطبعة البولاقيَّة، وقد تصدَّرت مشهد الطباعة والنَّشر حينَها: فعكفت على إخراج أُمهات الكتب، وإبرازِ جليل المصادر؛ حتى بثَّت من ذلك، خلال الفترة من ۱۲۸۹هـ إلى آخر ربيع الأول ١٢٩٥هـ: من النُّسخ ما بلغَ (٣٦١٨١٥)، وكان قبلَ ذلك مطبوعا لغاية سنة ١٢٨٤ه (٢٤٢،٧٥)؛ فبلغَ إجمالُ ما صدر من النُّسخ (المجلَّدات) لغاية سنة ١٢٩٥ه (٦٠٣٨٩٠)؛ وهو رقمٌ مهابٌ؛ خاصةً إذا ما عُطِفَ على ضعف الوسائل الطباعيَّة في تلك الأيَّام، والاعتماد على الجَمْع اليدوي، وهو يمثل عائقًا كبيرا في سرعة الإنجاز.
وقد فسَّر هذا الشَّغف الإصداري، والسعيَ الدَّؤوب من مطبعة بُولاق وما آخاها؛ الشيخُ عبد السلام هارون رحمه الله، عندما قال: “ولقد كانت فكرة إحياء التراث والنَّشاط فيه فكرة قومية، قبل أن تكون فكرة علمية؛ فإنَّ طغيان الثقافة الأوربية والنُّفوذ التركي وضغطه، كان يأخذ بِمَخْنِقِ العرب في بلادهم؛ فأرادوا أن يخرجوا إلى متنفَّس يحسون فيه بكيانهم المستمد من كيان أسلافهم، في الوقت الذي ألفُوا فيه الغُرَبَاء من الأوربيين يتسابقون وينبشون كنوز الثقافة العربيَّة؛ فانطلقوا في هذه السَّبيل، ينشرون ويُحيون؛ إذ كانوا يرون أنهم أحق بهذا العمل النَّبيل وأجدر”.
ومن نفائس التُّراث الذي بعثته هذه المطبعة البُولاقية، وسابقت به الوقتَ حتى يكون بين يدي القارئِ العربي: لسان العرب، وتفسير الطبري، وفتح الباري، والأغاني، والكتاب لسيبويه، والأم للإمام الشَّافعي، ومنهاج السنة النبوية الشيخ الإسلام ابن تيميَّة، والصحاح للجوهري، وشرح الحماسة للتبريزي، وشرح مقامات الحريري لأبي العباس الشُّريشي، وصبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي، ووفيات الأعيان لابن خلِّكان، وقلائد العقيان للفتح ابن خاقان، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقَّري؛ رحمهم الله.
وقد أسَّست المطبعةُ البولاقيةُ لعُرفٍ طباعيٍّ، وتقليدٍ مأمومٍ في المنشورِ العربي وقتَها، بل هو أبعدُ وأعمقُ من ذلك؛ فهو عبارةٌ عن ظاهرةٍ تراثيةٍ، تُسجل الأحرف الأولى لعملية التحقيق المعاصر في المهادِ العربي؛ إن هذه الظاهرة المحدَثة على صفحاتِ ومصفوفاتِ المنشُور العربي، وعلى يد العلماء والمراجعين في مطبعة بولاق: هي ما يُسمَّى، وتُصدَّر به تلك المطبوعات: بالتَّصحيح؛ والذي تولَّد وتخلَّق من خلاله الكتابُ الإسلامي من رحم مخطوطته التراثيَّة، وعلى يد أَبناء وعُلماء الجامع الأزهر.
إنَّ هذا التقليدَ العلميَّ في صيانة ورعاية التراث العربي والإسلامي، مَهَرَت فيه مطبعةُ بُولاق، وقدَّمت من خلاله ضمانةً للقارئ والباحث والمستفيد، يستطيع من خلالها أن يأمنَ ويركنَ إلى هذه المطبوعات، وأن يهُون عليه ذلك الخطبُ التَّاريخي؛ والذي ودَّع فيه أنقَ وعبقَ المخطوط التُّراثي، واستقبل فجرًا جديدًا من منشوراتٍ، تُخبر عن هذه المخطُوطات، وتحكي مودعَها؛ ولولا أن أُسلمت هذه المسؤوليةُ إلى هذه اليدِ الخبيرةِ والبصيرةِ: لكانت تلك النقلةُ عسرةً أشرةً على عُلماء ومُتعلمي تلك الحقبة.
لقد بلغ أمرُ المهارة بهذه الصنعة، والتي اختطَّتها مطبعةُ بُولاق: أن ضمَّت إلى جَنَبَاتها كبارَ المصحِّحين، وأعلام المدقِّقين والمراجعين؛ ومن أولئك الرُّواد، والذين تهادت أسماؤُهم على الأغلفةِ والصَّفحات الأولى من منشورات تلك الفترة:
أولًا: الشَّيخ محمد بن عبد الرحمن؛ المعروف بقطة العدوي، المتوفَّى سنة ۱۲۸۱هـ، كانت له عناية بالنَّحو، ومن مؤلفاته المطبوعة: فتح الجليل بشرح شواهد ابن عقيل، ونسخَ بعض الكتب بخطِّه، وبعضُها محفوظٌ بدار الكتب المصريَّة.
ثانيًا: الشيخ نصر الهوريني؛ من علماء الأدب واللغة بالأزهر، صحَّح كثيرًا من كتب العلم والأدب والتاريخ واللغة، وصنَّف كتبا كثيرة؛ منها: المطالع النَّصرية للمطابع المصرية، في أصول الكتابة والإملاء، وشرح ديباجة القاموس المحيط، تُوفي -رحمه الله- سنة ١٢٩١هـ.
ثمَّ توالى العطاءُ الطباعي بعد ذلك، والذي لا تزال روحُ مطبعة بُولاق تسري فيه؛ ومن أبرز هذه المطابع الأهليَّة، والتي راج فيها هذا المصطلح التُّراثي، (عُنِيَ بتصحيحه): جمعية المعارف، واسمها: المطبعة الوهبيَّة؛ ومن أنذر ما طبعته: كتاب الفتح الوهبي على تاريخ أبي نصر العتبي، وهو كما يقول الشَّيخ عبد السلام هارون رحمه الله: “من أعجب كتب التَّاريخ”، والمطبعة الأزهريَّة المصريَّة؛ ومما أخرجته: كتاب الكامل في التاريخ لعزِّ الدِّين ابن الأثير، سنة ۱۳۰۱هـ، وبهامشه: كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، والمطبعة العثمانيَّة؛ والتي طُبع بها:
كتاب النِّهاية في غريب الحديث لابن الأثير، سنة ١٣١١هـ، طبعةً متقنةً مضبوطةً بالشكل الكامل، ومطبعة الجماليَّة، الكائنة بحي الغوريَّة؛ ومن مطبوعاتها: كتاب الروض الأنف للسُّهيلي، سنة 1332هـ، والمطبعة الميمنيَّة، وصاحبها أحمد الحلبى، وقد نشرت هذه المطبعة كثيرًا من عيون التراث؛ منها: مسند الإمام أحمد بن حنبل ، سنة ١٣١٣هـ، وبهامشه: کتاب منتخب کنز العمَّال لعلاء الدِّين التَّقي الهندي.
وقد كان أولئك الذين أشرفُوا على طَبع هذه الموسُوعات، وتأسيس مصطلح (التَّصحيح) فيها عملًا ونهجًا وظيفيًّا، كانت هذه الطبقةُ من مشايخ وعلماء الأزهر؛ فتجلَّى في مُخرجهم مشهدٌ محمودٌ، من الأمانةِ والحصافةِ والغيرةِ على تراث الأمةِ؛ ومِن هذه الأسماء التي مَهَرَت بهذه الصنعةِ، وسُوِّد بها غلافُ الكتاب العربي والإسلامي: محمد الحسيني، وطه محمود، ومحمد عبد رب الرسول، ومحمد قاسم، ومحمد الزهري الغمراوي، وعبد الغنى محمود؛ وقد صدر قبل أيامٍ، دراسةٌ بعنوان: أعلام المصحِّحين بالقسم الأدبي في مطبعة بولاق ودار الكتب المصرية تاريخ وتراجم؛ أرجو أن تفيدَ في هذا الحقل التَّاريخي.
ومن الطرائف الإخباريَّة في هذا البابِ، والتي يحكيها الدُّكتور محمود الطناحي: أنَّ كتاب تيسير الوصول إلى جامع الأصول، لابن الدَّيبع الشَّيباني؛ قد صدرَ سنة ١٣٣٠هـ، عن مطبعة الجماليَّة، وقد عني بتصحيحه ومراجعة أصوله الخطية: الشَّيخ محمد هارون، وكيل مشيخة علماء الإسكندريَّة، وهو والد المحقِّق المعروف عبد السلام محمد هارون، رحمهم الله؛ أقول: فأعمال الوالد تحكي مرحلة التَّصحيح في خدمة المخطوط الإسلامي، وأعمال الولدِ تحكي الحقبة التَّالية، وهي أعمال التَّحقيق، والتي بقيت منهجًا متبعًا في منظومةِ إخراج الكتاب التُّراثي.
غير أن ممَّا يُرصدُ من منهجيَّة هذا التَّصحيح البُولاقي: أنَّه لا يذهبُ بعيدًا في عملية التَّحقيق المتعَارف عليها، وإنما يتحسَّس مِن ذلك الحدَّ الأدنى من الثقةِ بالنصِّ المخطُوط، وأن يُعمد إلى أصلٍ واحد، ويراجعَ عليه الكتاب، ويمارس المصحِّح هذه العمليَّة التوثيقية في صمتٍ ومجانبةٍ للهوامش الحاكية للفروقِ والتَّصحيفاتِ والأسقاطِ والآفاتِ، فضلا عن الهوامش المجليَّة للغَريب والأَعلام والمحالِّ والطَّوائف وما جرى على هذا النَّحو.
وأريدُ أن أُعلِّق على هذا الصَّنيع البُولاقي بالمقرَّرات التَّالية:
أولًا: لا أجدُ في هذا الصنيعِ مأخذًا على أعلام هذه الطَّبقةِ، ورُواد هذا النَّمط التراثي؛ فهكذا تبدأ الصناعةُ العلميةُ، وهكذا تكونُ الدفقةُ الأُولى من المعارف والحِرف، وفي ضميمةٍ أُخرى، أراها شافعًا لا يُرد: أن المقاصدَ التي اختُطَّت في هذه الحقبةِ، والواجبَ الثقافيَّ الذي أُلقي على عاهن الرَّاعي للكتاب العَربي والإِسلامي؛ ليُملي في غير عذرٍ، ويدعُو في غيرِ أَخَرةٍ: أن يُبَثَّ هذا التُّراث، بل ويُكاثر من سَواده وحُضوره، حتَّى تُغالب ثقافتُنا ما استُورد من ثقافاتٍ أُجنبيَّة، ولكن مع الحدِّ الأدنى من الثِّقة بنصِّ الكتاب، وهو ما مثَّله الدَّور والصَّنيع التَّصحيحي.
ثانيًا: شَهِدَ التَّصحيح البُولاقي تطوُّرا في عمليَّة إخراجِ النُّصوص التُّراثية، ولم يقف على النَّمط الاقتصاديِّ الذي افتتح به مسيرتَه؛ ومما يسجلهُ المراقبُ في مطبوعاتِ هذه الفترةِ، أنها لَقِيَتْ في بعضِ أنحائِها ازدهارًا منهجيًّا يُحفل به؛ فمن ذلك: ما جاء في آخر كتاب لسان العرب، المطبوع في مطبعة بُولاق، سنة ١٣٠٠ه – ١٣٠٨هـ؛ حيث ذكر مصحِّحه الشيخ محمد الحسيني، أنَّ هذه الطبعة اعتمدت على نسخةٍ بخطِّ ابن منظور نفسه، كانت في وقف السُّلطان برسباي بن شعبان، ونسخةٍ أُخرى أُحضرت من مكتبة راغب باشا، باستانبول، ومنه: ما ذكره الشيخ محمد الزهري الغمراوي، في آخر الطبعة الميمنية، من مسند الإمام أحمد بن حنبل، من الاعتماد على نسخةٍ مخطوطةٍ، بخزانة السَّادات الوفائيَّة بمصر.
ثالثًا: أرى وبعد تقديري لهذه الحقبةِ من رِعاية وصِيانة المخطوط التُّراثي، أنَّ هذه الصنعةَ وهذا التَّصحيحَ البُولاقي يُنزل منزلة الضَّرورة مِن منهجيَّة وإجراءات خِدمة المخطوطاتِ، وأنَّه من المحلِّ والظَّرف والإمكانياتِ والأدواتِ التي لا تجيزُ القياسَ عليها والاستنانَ بها؛ بل حقُّ العلمِ ومسؤوليَّة التراثِ وأمانةُ الكلمةِ، تستدعي المجاوزةَ مِن هذا النَّهج الاضطراريِّ إلى أَكمل المناهج وأَزهاها وأَبهاها؛ وما ينطقُ عن أنَّ تراثَ هذه الأُمة الإسلاميَّة يتجلَّى فيه إعجاز الحفظِ الربَّاني.
وهُنا أختمُ بدعوةٍ خاصَّةٍ، إلى زُملاء الحقل الأكاديميِّ، وبمختلف التخصُّصات التي تخدم التُّراث العَربي والإِسلامي: ألَّا يُرَدَّ طلابُ الدراساتِ العُليا عن أن يُوظفوا أطروحاتهم العلميَّة في تجويدِ عمليَّة إخراج مكنون المخطوطات، والرَّفع من مستوى الثقة بنُصُوصها، والفتش في الخزائنِ والمكتباتِ والأوقافِ عن أُصُول تُراثنا وشواهد حَضَارتنا، وألَّا تُصرف وجوه الدَّراسين عن هذا المَعين بكلمةِ: تمَّت طباعتُه.