ماذا يمكن أن ننتظر من كوب 28
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
آخر تحديث: 5 دجنبر 2023 - 9:45 صبقلم:روبن ميلز/ الرئيس التنفيذي لشركة قمر للطاقة مع قدوم 97 ألف ضيف إلى دبي لحضور مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ (كوب 28) الذي انطلقت فعالياته يوم الخميس أغلقت الطرقات، وكان من بين الضيوف الملك تشارلز الثالث، وبيل غيتس، وناريندرا مودي، ولولا دا سيلفا، وإيمانويل ماكرون، وكامالا هاريس، وريشي سوناك، ومبعوث المناخ الأميركي جون كيري.
وألغى البابا فرانسيس زيارته لأسباب صحية. لكن هل ستكون الشخصيات الملكية والثرية والشعبية كافية لتعويض أي نقص في المباركة الإلهية؟ وهل ينجح المؤتمرون في التوصل إلى اتفاقات حول المناخ يحتاجها عالمنا الذي ترتفع درجة حرارته؟ الأهداف الرئيسية من وجهة نظر دولة الإمارات العربية المتحدة المضيفة ودول الشرق الأوسط عديدة، أولها إدارة حدث فعال يحقق تقدما كبيرا في القضايا الرئيسية. والثاني هو تجاوز النقد الذي واجهته الدولة المضيفة، ومعظمه من وسائل الإعلام الغربية. حيث واجه رئيس مؤتمر المناخ سلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة النفط الحكومية العملاقة (أدنوك)، الانتقاد من عدة جهات. من جانبه أكّد الجابر في الخطاب الذي ألقاه في افتتاح الحدث أن إشراك شركات النفط والغاز في هذه العملية لم يكن سهلا، إلا أن إشراكها دفع إلى تبني العديد منها أهدافا تساهم في الوصول إلى صافي انبعاثات صفر بحلول 2050. وأكد الجابر على التزامه بإدارة عملية شاملة وشفافة، تشجع النقاش الحر والمفتوح بين جميع الأطراف. ورغم كل شيء استطاعت الإمارات أن تتوصل خلال الأيام الافتتاحية إلى توجيه المحادثات لتدور حول نقاط لم تنفّذ فيها الدول المتقدمة وعودها، إضافة إلى حشد تعاطف دبلوماسي من دول نامية سئمت المحاضرات الغربية.ثالث الأهداف الرئيسية للإمارات يكمن في ضمان تركيز الإعلانات النهائية على إزالة الانبعاثات الملوثة، بدلا من التركيز فقط على التخلي المطلق عن الوقود الأحفوري.أما رابع الأهداف وأهمها بالنسبة إلى العالم فيكمن في تحقيق تقدم حقيقي في مجال حماية المناخ، حيث تعهد الجابر بأن هذا سيكون بمثابة “مؤتمر عمل”. ومعروف أن دول الشرق الأوسط تعاني من نقاط ضعف مناخية خطيرة، وتواجه بالفعل ارتفاعا في درجات الحرارة القصوى، وشُحّا في المياه، وتصحرا وعواصف ترابية، وارتفاع منسوب مياه البحر الذي بات يهدد الشواطئ.انطلاقة الحدث كانت جيدة، حيث اتفق المندوبون في اليوم الأول على تفعيل “صندوق الخسائر والأضرار” الذي سيساعد البلدان الضعيفة على التعامل مع تأثيرات تغير المناخ الحتمية. وستساهم كل من الإمارات العربية المتحدة وألمانيا بمبلغ 100 مليون دولار، كما وافقت الولايات المتحدة واليابان على تقديم الدعم. التمويل شكل جزءا أساسيا من المحادثات، وهو ما يتناسب مع مكانة دبي التي تعتبر مركزا عالميا للأعمال، كما تمتلك أبوظبي اثنين من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم. وأعلنت الإمارات الجمعة عن إنشاء صندوق استثمار مناخي بقيمة 30 مليار دولار يهدف إلى “تحسين وصول بلدان جنوب الكرة الأرضية إلى التمويل”.ومن المرجح أن تفي البلدان المتقدمة الآن بتعهدها المتأخر منذ 2009، والذي يقضي بتخصيص 100 مليار دولار سنويا لتمويل الدول ذات الدخل المنخفض في مواجهتها لتغير المناخ. وجدير بالذكر أن هذا المبلغ تآكل بسبب التضخم. وتعدّ تجارة الكربون أساسية لتوجيه التمويل نحو الطرق الأقل كلفة في خفض الانبعاثات على مستوى العالم. وهذا ما تتناوله المادة 6.4 من اتفاق باريس لسنة 2015، وما أمكن التوصل إلى اتفاق بخصوصه خلال كوب 27 الذي استضافته شرم الشيخ عام 2022 دون التعمق في عدد من التفاصيل.الاهتمام الدبلوماسي حاليا منصب على صياغة الإعلان النهائي، وما إذا كان سيتضمّن “التخلص التدريجي” أو “التخفيض التدريجي” للوقود الأحفوري، وما إذا كان التخلص والتخفيض سيتجاوزان الوقود الأحفوري الذي لا يعمل على احتجاز الكربون وتخزينه، ليشملا جميع أنواع الوقود الأحفوري بغض النظر عن نسب الانبعاثات التي تسجلها. وتتجاوز أهمية الاعتراف بجودة تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه الدول المنتجة للنفط، وتشمل العالم كلّه. لذلك من المتوقع أن تحظى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بدعم الهند والصين الغنيتين بالفحم. كما قدمت إدارة جو بايدن حوافز ضخمة لتكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه. لكن جلّ الجماعات البيئية تبقى معارضة بطبعها لأية تكنولوجيا مرتبطة بالوقود الأحفوري، ويظل دعم الاتحاد الأوروبي محتشما في أفضل حالاته. ومن المنتظر أن تحقق مجالات أخرى من تخضير صناعة الطاقة التقليدية تقدما حيويا قريبا في مجال المناخ، وفي طليعة ذلك مساعي الحد من تسرب غاز الميثان. لكن الهند تبدو مترددة بسبب قطاع صناعة الفحم الهائل داخل حدودها، وبسبب المخاوف المتمحورة حول الحصة الكبيرة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري الناتجة عن الزراعة وتربية الماشية وحرق نفايات المحاصيل، وتسعى بدلا من ذلك إلى إنشاء تحالف للوقود الحيوي. وفي المقابل يحظى هدف مضاعفة الطاقة المتجددة على مستوى العالم ثلاث مرات قبل 2030 بشعبية واسعة النطاق. ويبدو هذا الهدف قابلا للتحقيق قياسا بما هو عليه الأمر حاليا.الأهداف التي يتم الترويج لها يسهلها انخفاض تكاليف الطاقة الشمسية في الإمارات إلى مستوى قياسي عالمي، وتوسع شركة مصدر للطاقة المتجددة الحكومية. لكن مضاعفة معدل مكاسب كفاءة استخدام الطاقة بحلول نفس التاريخ تبقى من الأمور المشكوك في نجاحها.وظل التقدم على مستوى الكفاءة خلال العقود الماضية نسبيا، ولم يكتسب زخما إلا مع ارتفاع أسعار الطاقة. وشهدت أسعار النفط والغاز اعتدالا منذ العام الماضي، وكذلك تكاليف مصادر الطاقة المتجددة (خاصة الطاقة الشمسية والبطاريات) التي شهدت اتجاها تنازليا أيضا. وسيحدد التقييم العالمي الذي تضمنته اتفاقية باريس مدى اقتراب كوكب الأرض من تجاوز الحرارة عتبة 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي. أخيرا، يبدو المندوبون من مختلف الفئات مستعدين لتحقيق بعض التقدم الجيد والقوي، ولو أنه لن يبلغ الدرجة التي تتطلبها حالة الطوارئ.وعادة ما يكون طقس دبي لطيفا في هذه الفترة من العام، رغم أن العالم شهد أحر شهر أكتوبر خلال عام اعتبر الأكثر سخونة على الإطلاق. وربما كان عقد المؤتمر في منطقة الخليج خلال شهر أغسطس بدلا من أكتوبر سيبرز للحاضرين المخاطر أكثر من إبرازها لهم في هذا الوقت.
المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
المصارف الإسلامية التي أعادت الاعتبار للمال.. ماذا حدث لها؟
في قرية وادعة من قرى دلتا النيل، وُلدت عام 1963 شرارة تجربة مغايرة على يد الدكتور أحمد عبدالعزيز النجار، العائد من ألمانيا وقتها ليس باحثًا عن بديل شرعي للتمويل الغربي؛ بل عن معنى جديد للمال.
لم يكن المال عنده سلعة للبيع؛ بل أمانة لإعمار الأرض، وأداة لاستعادة التوازن بين الإنسان والحاجة. ومن خلال "بنوك الادخار المحلية" في مدينة "ميت غمر"، دشّن النجار نموذجًا مبكرًا لما يمكن تسميته اليوم بـ "اقتصاد المعنى"؛ حيث لم يكن المال يُباع؛ بل يُستثمر بالشراكة، ويتقاسم الناس عوائده وخسائره بوعي ومسؤولية.
ومع خروج التجربة من طورها المحلي إلى فضاء المؤسسات، بدأت تتشكل الملامح الأولى لمنظومة مصرفية إسلامية متكاملة، فتأسس أول مصرف إسلامي مستقل عام 1975 في دبي، تلاه في العام نفسه إنشاء البنك الإسلامي للتنمية في جدة كذراع تنموية تعاونية، ثم جاءت تجربة السودان الرائدة في أوائل الثمانينيات حين أسلمت نظامها المصرفي بالكامل.
وعلى مدى العقود التالية، اتسع حضور المصرفية الإسلامية، وتحوّلت من مبادرة طموحة إلى صناعة مالية في عقدها الخامس؛ لتتجاوز أصولها 4.5 تريليونات دولار، وتشكل المصارف الإسلامية منها أكثر من 70%، وتُصدر سنويًا صكوكًا بأكثر من 200 مليار دولار؛ لتمويل مشاريع في الطاقة والتعليم والتنمية. ومع ذلك، ما زال السؤال الجوهري مطروحًا: هل ما زالت المصرفية الإسلامية وفيّة لرسالتها القيمية، أم تحوّلت إلى نسخة مألوفة بلغة شرعية؟
إعلانفي هذا السياق، يُطرح مفهوم "اقتصاد المعنى" بوصفه إطارًا تحليليًا لفهم المصرفية الإسلامية من الداخل؛ لا باعتبارها منظومة تخلو من الربا فحسب، بل كمحاولة لإنتاج نماذج مالية تتجاوز منطق الربحية إلى غايات تعيد الاعتبار للمال كوسيلة للكرامة والعمران.
وبهذا يختلف عن مفاهيم قريبة كاقتصاد السعادة، الذي يربط المال بالرضا النفسي، والاقتصاد السلوكي الذي يفسّر السلوك المالي وفق الانحيازات الإدراكية، إذ إن "اقتصاد المعنى" يُعيد تموضع المال في مركز القيمة؛ حيث لا يُقاس النجاح بالربح فقط، بل بما أحدثه المال من نفع، وعدل، وعمارة. فبينما تسأل بعض النماذج: كم ربحت؟، يسأل اقتصاد المعنى: لمن ربحت؟ وبأي أثر؟
كما يتقاطع منهجيًا مع "نظرية المآلات" في الفقه الإسلامي، دون أن يتطابق معها مفهوميًّا؛ حيث يهتم هو بالسياق المؤسسي والرسالة، وليس بعواقب الأفعال فقط.
وبهذا، لا يناقض "اقتصاد المعنى" تلك النظريات؛ بل ينبني عليها ويعمّقها، ويعيد الاعتبار لفلسفة التزكية، والعدل، والاستعمار الأخلاقي للأرض، بوصفها مرجعيات معيارية لأيّ نشاط مالي. وبهذا المعنى، لا ندعو إلى العزلة عن السوق؛ بل إلى الحضور فيها بشروط تُعلي من المقصد، وتُبقي على الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامش العائد.
وبناءً على هذا التأصيل، ينطلق المقال عبر ثلاثة محاور مترابطة. فيتأمل، أولًا، في التصوّر الإسلامي لوظيفة المال مقارنةً بالنماذج الاقتصادية الوضعية، ثم يتتبع كيف حاولت المصرفية الإسلامية تجسيد هذا التصوّر عبر هياكلها التمويلية ومؤسساتها التشغيلية، وأخيرًا، يتوقف عند سؤال التحدي والبقاء: هل ما زالت هذه المنظومة تحتفظ بجوهرها الأخلاقي، أم أنها انزلقت إلى تَشييء المال (reification of money) تحت ضغط الامتثال والمنافسة؟
المال في التصور الإسلامي.. أداة لا غايةمن بين المفاهيم التي تتداولها الألسن يوميًّا دون كثير تأمّل، يبرز مفهوم المال، لا كمجرد وسيلة تبادل؛ بل كأحد أكثر المفاهيم التصاقًا بالمصير الإنساني. غير أنّ التباس المصطلح قد يُضيّع دلالته. فـ "المال" ليس هو "النقد" المتداول فقط، ولا هو "الثروة" المدَّخَرة فحسب؛ ولا يقتصر على الممتلكات أو الدخول والهبات.
إعلانإنه مفهوم أوسع من ذلك؛ إذ يشمل كل ما له قيمة قابلة للتملك والانتفاع، سواء أكان عينًا أم منفعة، أو مادة ملموسة أو حقًا متجردًا. فالنقد فرع من المال، والثروة مظهر من مظاهره، والاقتصاد لا يدور إلا في فلكه.
هذه الحقيقة تبدو بسيطة؛ لكنها تحوّلت عبر التاريخ إلى معركة فلسفية واقتصادية عميقة بين رؤيتين متباينتين: رؤية تُقدّس المال، وأخرى تُقيّده بوظيفة أخلاقية، وتنظر إلى آثاره.
ففي النظام الرأسمالي المعاصر، وامتداده الليبرالي، عُرّف المال في جوهره بأنه «وسيلةٌ للتبادل، ومخزن للقيمة، وأداة لتحديد الأسعار. غير أنّ هذا التعريف المحايد، سرعان ما تلوّن حين تَحوّل المال إلى غاية بذاته.
فمع تصاعد الفردانية، وتراجع المرجعيات الأخلاقية، أصبح المال في الفكر الغربي لا يُعرّف فقط بوظائفه الاقتصادية؛ بل بدلالاته الاجتماعية، مثل: النجاح، والمكانة، والهيمنة.
وربما كان عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" أبرز مَن أظهر هذا التحوّل، حين ربط بين الأخلاق البروتستانتية وصعود الرأسمالية، موضحًا كيف أصبح السعي لجمع المال نوعًا من التديّن الجديد؛ "علامة على رضا الرب"، ولكن بلغة الأسواق. فالمال لم يُعَدّ وسيلة؛ بل أصبح دينًا بلا معابد.
وفي المقابل، يتعامل التصور الإسلامي مع المال بوصفه أداة محايدة، لا تكتسب قيمتها من ذاتها؛ بل من طريقة اكتسابها وإنفاقها. فالمال مخلوق، لا خالق، ومنحة لا هوية. قال تعالى: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مُستَخلَفين فيه… الآية﴾ [الحديد: 7]، ليؤكد أنّ المُلك الحقيقي لله، وأنّ الإنسان مجرّد وكيل يُحاسَب لا على الكم فقط؛ بل على الكيف.
وتأطيرًا لهذا المعنى الأخلاقي العميق، عبّر عنه النبي ﷺ بقوله: "لا تزولُ قدَما عبد يومَ القيامة حتَّى يسألَ عن عمره فيما أفناهُ، وعن علمه فيمَ فعلَ، وعن ماله من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاهُ." [أخرجه الترمذي]، ليُحيل العلاقة بالمال من مجرّد نشاط اقتصادي، إلى سؤال وجودي، ومسؤولية أخروية. فالمال في هذا التصور ليس رصيدًا بنكيًّا؛ بل هو أثرٌ في النفس، وأمانة في اليد، ومآل في الحساب.
إعلانوقد نَظَر العلامة الطاهر بن عاشور إلى المال من زاويتين تكشفان عمق التصور المقاصدي له في الإسلام؛ فهو من جهة "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس، في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلًا بكدح"، ومن جهة أخرى يرى أن المال "حقٌ للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير".
فليست الغاية من المال محض التملك أو التراكم؛ بل تحقيق الكفاية والتوازن الاجتماعي، في إطار يجعل منه وسيلةً للكرامة لا أداةً للهيمنة، وشراكةً في الإعمار لا استئثارًا بالمنفعة.
وهنا يُعاد ترتيب الوظائف الأساسية للمال: لا قيمة للمال إلا بقدر ما يحقق من كرامة للإنسان، وعدالة للمجتمع، وتعمير للأرض. فالمال ليس سلعةٌ تُباع مستقلة؛ بل قيمة أخلاقية تؤسس لعلاقة متوازنة بين الفرد والآخر، بين الغاية والوسيلة، وبين السلطة والمسؤولية.
ذلك التباين العميق بين "المال كوسيلة" و"المال كغاية"، هو ما يفتح الباب لفكرة "اقتصاد المعنى"؛ حيث لا تُقاس الثروة بالعائد وحده؛ ولكن بوظيفتها الأخلاقية ومآلاتها المجتمعية.
ومن هنا، جاءت المصرفية الإسلامية كتجربة مؤسسية تسعى لتجسيد هذا التصور، عبر نماذج تمويلية تقوم على المشاركة والإنتاج لا الربا، وعلى تقاسم المخاطرة لا ضمان العائد.
ومع التوسع في أكثر من 80 دولة، وبلوغها نطاق المؤسسات السيادية، باتت هذه المصرفية جزءًا من السوق العالمية؛ لكنها في ذلك تواجه سؤالًا وجوديًا متجددًا، ألا وهو: هل لا تزال تُعَبّر عن جوهرها الأخلاقي، أم أنها تحوّلت إلى نسخة مألوفة.. بلغة مأذونة؟
فبين صكوك تُسَوَّق باسم الاستدامة، ومؤسسات رقمية تتزيّن بلغة الشريعة، يتأرجح المشروع بين الوعد والمراوحة، وبين المعنى الذي أطلقه الرواد، والواقع الذي تفرضه قواعد البورصة.
المصرفية الإسلامية: محاولة لبناء مؤسسات ذات معنىحين نخرج من الحبر إلى الحجر، ومن التنظير إلى البناء، تتجلّى المصرفية الإسلامية كمحاولة لاختبار فكرة "اقتصاد المعنى" في الواقع المؤسسي. فلم تأتِ هذه المصارف لتبدّل الأسماء، ولا لتلوّن المعاملات بلغة دينية؛ بل جاءت لتمنح المال وظيفة أخلاقية، وتجعل من كل عقد مرآةً لقيمة، ومن كل صيغة بابًا لكرامة. ففي هذا المشروع، لم يكن المال هدفًا؛ بل جسرًا، ولم يكن المصرف مؤسسة لتكديس الأرقام؛ بل لبناء حياة تستحق أن تُعاش.
إعلانوقد بدأت هذه الفكرة من تلك الشرارة الأولى في مدينة "ميت غمر"، حين أراد النجار أن يُحرّر المال من منطق الجشع إلى أفق المشاركة، ومن لغة الربح فقط إلى منطق التنمية بالمعنى.
لقد غُرست البذرة هناك، في مشروع بدا متواضعًا في حجمه، لكنه كان جسورًا في روحه. وما أن خرجت الفكرة من الضيق إلى السعة، حتى بدأت تنمو بهدوء، من السودان إلى الخليج، ومن إسطنبول إلى جاكرتا، ومن كوالالمبور إلى نواكشوط، ومن لاهور إلى لاغوس. في كل محطة، كانت التجربة تحمل ملامح السياق؛ لكنها تعود لتتغذى على الجذر ذاته: المال ليس سلعة، بل أمانة.
ولأن الرؤية مهما علت لا تثمر إلا حين تُترجم، حاولت هذه المصارف أن تخلق من داخلها نموذجًا يعكس فلسفتها. فكان التمويل التشاركي قلبًا نابضًا لهذا الجسد المؤسسي.
ففي عقد المشاركة، يُعيد الطرفان تعريف العلاقة من "دائن ومدين" إلى "شريكين في البناء والمصير". وكل طرف يضع من ماله قدرًا، ويتقاسمان الربح وفق اتفاق مسبق، ويتحملان الخسارة بقدر المساهمة من رأس المال.
أمّا المشاركة المتناقصة، فهي صيغةٌ تحمل في طيّاتها فكرة التمكين التدريجي؛ حيث يبدأ العميل شريكًا، ثم يشتري حصص المصرف حتى ينفرد بالملكية، ما يجعل العقد أشبه بسُلّم تصاعدي نحو الاستقلال.
وفي المضاربة، يستثمر المصرف المال، ويستثمر العميل الجهد، في علاقة تُبنى على الأمانة لا الضمان، وعلى الثقة لا الفائدة. أمّا الإجارة المنتهية بالتمليك، فقد كانت جسرًا ثالثًا يتيح للعميل استخدام الأصل والانتفاع به، ثم امتلاكه بعد سداد الأقساط، مع وضوح الشروط، وضبط الالتزامات، دون أن يُفضي إلى تداخل يُربك المقاصد، أو يختلّ به حدّ الفصل بين العقود.
ليست هذه الصيغ مجرد أدوات تمويلية؛ بل هي تجسيد عملي لمفهوم "اقتصاد المعنى" الذي يربط العقود بالثقة، والمسؤولية، والإنتاج الحقيقي.
إعلانفقد سعت المصرفية الإسلامية في بداياتها لإحياء الغايات لا مجرد أسلمة العمليات. لكن مع الوقت، تقلصت بعض الصيغ إلى إجراءات شكلية، وظهرت أدوات تحاكي الربا شكلًا دون تسميته، فيما غلب في بعض المؤسسات الصوت الكَمي على الرؤية المقاصدية، فصار التقييم ينشغل بالتوافق مع المعايير لا بتحقيق العدالة والمعنى.
وهكذا، اتّسعت الفجوة بين اقتصاد الامتثال واقتصاد المعنى، وباتت بعض المؤسسات تتحدث لغة الأرقام بدقة؛ لكنها تهمس بلغة القيم بخجل. لا لخلل جوهريّ؛ بل لأنّ السوق يُكافئ النمو السريع أكثر مما يُكافئ الانسجام الأخلاقي.
وعلى الرغم مما شهدته التجربة من تحولات، لا تزال جذوة المعنى مشتعلة في مؤسسات صامتة لكنها صادقة، تُعيد الروح للمصرفية الإسلامية من خلال التمويل الأصغر، والمبادرات الوقفية، والشراكات المجتمعية. فالمعنى لا يُكتب في اللوائح؛ بل يُترجم في الضمير، ويتجلى في النية، وليس فقط في تجنّب الفائدة. فالتساؤل الأهم هو ليس عن حجم الأصول؛ بل عن جوهر الرسالة.
فهل تجرؤ هذه المؤسسات، وقد بلغت من النضج ما بلغت، أن تعود لتسأل نفسها: لماذا وُجدنا؟ وهل ما زلنا نحمل هذا المعنى الذي لأجله وُلدنا؟ ذلك هو السؤال الحقيقي.. وكل الباقي تفاصيل.
التحدي البنيوي.. ضغوط السوق وسؤال البقاءبكل هدوء واتزان، تأتي تلك اللحظة الفاصلة بين الفكرة وتجربتها، بين الرؤية وواقعها؛ لتطرح السؤال الأصعب: هل ما زالت المصرفية الإسلامية تحفظ "المعنى" الذي وُلدت من أجله، في عالم تملي فيه السوق شروطها، وتُحاصر لوائح الامتثال هامش الاختيار؟
فبعد أن انطلقت من تصور يرى المال أمانة لا غاية، ووسيلةً للإعمار لا للاحتكار، تجد اليوم نفسها أمام اختبار وجوديّ عسير، لا يقف عند حدود التنظير؛ بل يتطلب إعادة مساءلة الأساس الذي عليه بُنيت؛ ليستقيم التصوير.
ففي بيئة مصرفية عالمية تحكمها الربحية والكفاءة، تواجه المصرفية الإسلامية ضغوطًا من ثلاث جبهات: الامتثال التنظيمي، والمنافسة السوقية، ومتطلبات العائد.
إعلانلم يعد يُنظر إليها من زاوية قيمتها الأخلاقية، بل بقدرتها على التكيّف مع مؤشرات الأداء والرقابة. وبدل ابتكار أدوات تعبّر عن رؤيتها، انزلقت بعض المؤسسات إلى "أسلمة الأدوات التقليدية"، فغدت المرابحة تُشابه الفائدة، والإجارة تضمن الأرباح دون تقاسم للمخاطر، والمشاركة تُفرغ من معناها التمكيني.
وامتد التحدي من الأدوات إلى العقل المؤسسي؛ حيث تغلب الحسابات الكمية على الاجتهاد المقاصدي، وتُدار الصيغ بلغة الجداول لا بروح الغايات، فتُختزل فكرة التمويل القيمي إلى توافق شكلي.
فالمطلوب إذن، ليس رفض السوق؛ بل استعادة التوازن بين الامتثال والمقصد، وبين المنافسة والرسالة. فالمصرفية الإسلامية وُجدت لا لتُقلد؛ بل لتُعبّر عن رؤية تُعيد للمال قيمته، وللمؤسسة معناها. والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم، هو: هل نملك الشجاعة لبناء أدوات تعبّر عن رؤيتنا.. لا تُشابه غيرنا؟
ما بعد القول.. وما قبل الإجابةفي المصرفية الإسلامية، لم يكن الغرض يتمثل في إنتاج أدوات مالية فحسب؛ بل إعادة صياغة العلاقة بين المال والإنسان. فقد وُلدت هذه التجربة قبل خمسة قرون في لحظة حضارية حرجة، لتقدّم بديلًا أخلاقيًّا في عالم يُعامل المال كأداة سيطرة لا وسيلة إعمار. لم تكن مجرد تعديل تقني على نموذج رأسمالي؛ بل دعوة لإعادة الاعتبار للإنسان والعَقد والقيمة، ضمن ما يمكن تسميته باقتصاد المعنى.
لكن مع مرور الزمن، تآكلت بعض هذه الرؤية تحت ضغط الامتثال ولوائح السوق، فانزلقت مؤسسات إلى تكرار أدوات تقليدية بأسماء شرعية، وابتعدت عن المقاصد إلى حسابات الربحية وحدها.
فقوة المصرفية الإسلامية لا تُقاس بعدد الصكوك ولا بحجم الميزانيات؛ بل بقدرتها على الوفاء برسالتها بأن تكون أداة تحرير لا تدوير، ومؤسسة تعيد للمال معناه، لا تسلبه روحه. ففي زمن تجتاحه الأشكال، تبقى المعاني وحدها قادرة على البقاء.
إعلانوالسؤال الجوهري الذي يظل يُلحّ على الضمير المهني والأخلاقي معًا،هو: هل يكفي ألا تكون المصرفية الإسلامية ربويّة أم يجب أن تكون رحيمة وعادلة أيضًا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline