القمة الخليجية واللحظة التاريخية الفارقة
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
رغم أن الجماهير العربية وقطاعا كبيرا من الجماهير العالمية لم يعودوا يعولون كثيرا على ما يمكن أن تفعله المنظمات العربية أو الدولية من أجل وقف المجازر والإبادة الجماعية التي تقوم بها -أمام مرأى العالم ومنظماته- قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة فإن القمة الخليجية التي من المنتظر أن تُعقد غداً في العاصمة القطرية الدوحة يمكن لها أن تخطو خطوة نحو الأمام فيما لو استطاعت تشكيل موقف صلب وحازم تواجه به العالم الغربي وشركاءها الاقتصاديين في مختلف قارات العالم.
لا شك أن الكثير من الدول العربية تعاني من تحديات داخلية عميقة أنهكتها كثيرا، فعلاوة على المستوى الاقتصادي المتدني الذي أوصل بعضها إلى حافة الفقر فإنها تعاني، أيضا، من مشاكل في بنية أنظمتها وفي الترابط الحقيقي بين المكونات البنيوية التي تتشكل منها الدولة.. وليس جديدا القول إن حركات ما عُرف بـ«الربيع العربي» ساهمت في تشظية بعض الدول العربية وتفكيك بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي لم تعد معه قادرة على العمل بوصفها دولا محورية في العالم العربي، وأصبحت منشغلة عن دورها العربي.. يضاف إلى ذلك ما كانت تعاني منه هذه الدول في العقود التي سبقت «الربيع العربي» من تحديات ومشكلات كبيرة.
وأمام هذا المشهد، تبدو الدول الأعضاء في «مجلس التعاون الخليجي» الأكثر تماسكا وترابطا سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو على مستوى الترابط بين البنى المشكّلة لكيان الدولة.. لذلك فهي الأقدر اليوم، عند وجود الإرادة، على ممارسة دور الضاغط على الدول الغربية من أجل رفع دعمها ووقف تحريضها على استمرار الحرب على غزة. ويمكن أن ينطلق الموقف «الخليجي» من سياق إنساني إن لم يكن ثمة توافق على السياق السياسي، فلم تُنتهك الإنسانية من قبل كما انتُهكت في غزة، ولم تستهتر الأنظمة التي تدعم إسرائيل بقتل الأبرياء، بما في ذلك الأطفال، كما فعلت في غزة، إلى حد فقدت معه الجماهير العالمية أي ثقة في المؤسسات الأممية وأي صوت يتحدث أو يدافع عن «حقوق الإنسان» التي باتت لها دلالات مختلفة باختلاف الطرف الذي ينتهكها.
ولذلك فإن القادة المجتمعين غداً في الدوحة أو مَن ينوب عنهم أمام لحظة تاريخية يمكنها أن تغيّر الكثير في مسارات المشهد في المنطقة وتُعيد رسم بعض خطوط المستقبل.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
لا خيار أمام الدول العربية غير تعزيز هُوياتها الوطنية
رغم أن فوز الرئيس الأمريكي ترامب فـي الانتخابات الرئاسية الأمريكية من شأنه أن يساهم فـي إضعاف العولمة وتعزيز السيادة الوطنية على الجوانب الاقتصادية بشكل خاص عبر المزيد من الرسوم الجمركية الحمائية فإن هذا لا يعني أن الهُويات الوطنية فـي دول العالم، وخاصة العالم الثالث، ستصبح فـي مأمن من خطر العولمة الممتد مند عدة عقود، بل ربما يزيد مد العولمة الثقافـية فـي اللحظة التي سيعتقد مصدرو العولمة أنها فـي خطر الانكفاء. ما زالت الكثير من دول العالم تواجه تحديات متزايدة فـي مسيرة حفاظها على نسيجها الثقافـي وخصوصيتها الاجتماعية، وهذا الأمر فـي تزايد مع تمدد حركات دعم المثلية وتغولها فـي المنظمات العالمية والتكتلات السياسية الكبرى. تحتاج الدول من أجل الحفاظ على استقرارها إلى صمود هويتها الوطنية وتماسكها والحفاظ على قيمها ومبادئها.. وأي تمييع لهذه الهوية أو ضرب لها تحت أي شعار كان من شأنه أن يساهم فـي تفكيك الدول وتشظية تماسكها الاجتماعي وضرب ثقافتها فـي العمق، وأي استراتيجية وطنية تهدف إلى حماية أمن واستقرار أي وطن من الأوطان لا بد أن يأتي بند حماية الهوية الوطنية فـي مقدمتها تلك الأهداف. والهوية الوطنية ليست مجرد انتماء جغرافـي أو عرقي، بل هي تجسيد للقيم الثقافـية والدينية والتاريخية التي تربط مجموعة من الناس ببعضهم بعضًا داخل دولة محددة. وتعمل الهويات الوطنية كقوة تساهم فـي حشد المواطنين حول شعور مشترك بالانتماء لوطن واحد وثقافة واحدة بكل تجليات الدلالة التي تحملها كلمة «ثقافة». ومن منظور نظري، تعمل الهوية الوطنية على تعزيز الشعور بالوحدة الذي يشكل ضرورة أساسية للاستقرار السياسي. ويرى صمويل هنتنغتون فـي كتابه «صدام الحضارات» أن المجتمعات التي تتمتع بشعور قوي بالهوية الجماعية هي أكثر قدرة على تحمّل ضغوط التغيير العالمي. ويمكن تتبع هذه الفكرة عبر تحديات مرت بها الكثير من الدول عبر التاريخ: فقد اعتمدت الولايات المتحدة، خلال فتراتها الأكثر اضطرابا، على سرد وطني مشترك لتجاوز الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية. وعلى نحو مماثل، غالبا ما تجنبت الدول المستعمرة بعد مرحلة الاستعمار والتي نجحت فـي تأسيس هوية وطنية متماسكة تجنبت فخاخ الصراع الداخلي الذي ابتليت به بعض الدول المستقلة حديثًا. وتقدم السياسة الحديثة دليلا آخر على أهمية الهوية الوطنية فـي حفظ تماسك المجتمعات والدول؛ فدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، التي تتمتع بهويات وطنية قوية ومتجذرة، تمكنت من الحفاظ على مستويات عالية من الاستقرار السياسي والاقتصادي حتى حين انتقلت بين ديناميكيات عالمية معقدة. وعلى العكس من ذلك، فإن الدول التي تتسم هويتها بالتفتت أو التقلب، كما هو الحال فـي المناطق التي تعاني من انقسامات عرقية أو طائفـية عميقة، غالبًا ما تعاني من عدم الاستقرار والصراع. لا بد أن تكون الهوية الوطنية أولوية استراتيجية للحكومات التي تسعى إلى ضمان استقرار وأمن بلدانها، والتيقن أن تآكل الهوية يمكن أن يؤدي إلى أزمة عميقة فـي أي مجتمع. وفـي هذه اللحظة التي تشهد فـيها بلدان العالم تحولات كبرى وتقلبات عالمية تحتاج دول العالم وبشكل خاص الدول العربية إلى تنفـيذ استراتيجيات وطنية تركز على التعليم والثقافة والسياسات العامة من أجل تعزيز وضع الهويات الوطنية. ولا بد من وزارات التعليم فـي العالم العربي ومن جميع المعلمين أن يعززوا فخر الطلاب بهوياتهم الوطنية وبتاريخهم العربي مهما كان، وتشجيعهم على الحس النقدي وقراءة التاريخ والمستقبل بأدوات النقد المهنية ولكن دون الشعور بالانكسار من أحداث التاريخ وتحدياته. ولا يمكن تقبل تقليل البعض من توجهات الدول لتعزيز هويتها الوطنية عبر المناهج الدراسية تحت دعاوى أن الهوية الوطنية بخير وأنها راسخة، قد تكون كذلك ولكن المد الغربي الذي يستهدف الثقافات العربية بشكل خاص مد كبير ومدروس وممنهج ونحتاج إلى تكاتف جماعي من أجل الحفاظ على صمود هوياتنا الوطنية فـي العالم العربي. الهوية الوطنية ليست مجرد مسألة ثقافـية؛ بل هي أصل استراتيجي قادر على تعزيز قدرة الدول على الصمود فـي مواجهة الضغوط العالمية والثقافـية. |