لجريدة عمان:
2024-09-30@10:11:57 GMT

ثنائيّة الشّرق والغرب وجلد الذّات

تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT

لا أحد يستطيع أن ينكر ما حدث في الغرب بعد عصر الأنوار من نهضة معرفيّة وصناعيّة وتقنيّة أثرت في الإنسان المعاصر إيجابًا أم سلبًا، ولكننا اليوم لا نتحدّث عن بدايات عصر الأنوار، ولا حتّى عن نهايات القرن التّاسع عشر والنّهضة الصّناعيّة، نحن اليوم نتحدّث عن القرن الحادي والعشرين، فهل ما زال العالم فعلا اليوم يعيش هذه الثّنائيّة أم هي أقرب إلى الوهم؟

في الواقع لا يمكن اعتبار ذلك وهما بالمعنى الحرفيّ، فلا زال الغرب في الجملة يتفوقون علميًّا وفلسفيًّا وتقنيًّا، وما زال الواقع الاجتماعيّ والمدنيّ لديهم أكثر انفتاحًا من العالم الآخر، وما زال العالم الغربيّ مؤثرًا سياسيًّا وإعلاميًّا ومعرفيًّا، كما أنّه صاحب النّفوذ السّياسيّ والعسكريّ، والمهيمن بشكل عام على القرارات والسّياسات، ومتحكم في المال وما يتعلّق بالثّروات.

وإذا كان الاتّحاد السّوفييتيّ قطبًا منافسًا للإمبرياليّة الغربيّة في المجالات المعرفيّة والعسكريّة، إلّا أنّه بتراجعه وضعفه أعطى زخمًا أكبر للغرب، ولكن ليس من حيث الأنا وتفوق الدّم الأوروبيّ، كما يعيش غالبهم هذه الحالة السّلبيّة إلى اليوم، وإنّما من حيث المركزيّة البرجماتيّة الأمريكيّة، فالغرب بمفهومه الجغرافيّ والإنسانيّ والتّعدديّ أوسع بكثير، إلّا أنّ الهيمنة الإعلاميّة والعسكريّة الأمريكيّة هي من تحاول حصر الغرب من خلال نفوذها وبرجماتيّتها، وفق فلسفتها المعاصرة والمعقدة في حدّ ذاتها، في علمانيّة تتزاوج بين الأصوليّة الدّينيّة، واللّبراليّة المطلقة أو المعرفيّة.

لكن هل بسقوط الاتّحاد السّوفييتيّ أوجد الهيمنة الواحديّة الغربيّة من خلال النّفوذ الأمريكي، أتصوّر أنّ الواقع اليوم انتقل من القطبين المؤثرين وفق حلفائهما في العالم إلى البؤر القطريّة المؤثرة في العالم، حيث ما حدث في العالم من تناقض حينها، فالثّورة الصّناعيّة والمعرفيّة كادت أن تخلق واقعًا إنسانيًّا متقدّمًا، ويرقي بالعدالة الإنسانيّة، إلّا أنّ الواقع السّياسيّ، واستغلاله للتّقدّم المعرفيّ والعسكريّ اتّجه سلبا في دمار شمل العالم أجمع، وغطرسة استعماريّة لم يعرف التّأريخ الإنسانيّ لها مثيلا، ليقود العالم ثلّة من السّياسيين الّذين لا يبحثون عن الإنسان وكرامته، وإنّما تقودهم أنا الذّات للشّهرة والسّيطرة على خيرات الأمم الأخرى، كما بيّن ذلك ألبرت أينشتاين (ت 1955م) في رسالته لصديقه سيجموند فرويد (ت 1939م) عام 1931م إنّ هؤلاء «الزّعماء السّياسيين والحكومات يدينون بمراكزهم إلى القوّة من ناحية، والانتخابات من ناحية أخرى، ولا يمكن اعتبارهم ممثلين لأفضل العناصر الفكريّة والأخلاقيّة في الأمم الّتي يمثلونها».

نحن لمّا نتحدّث اليوم سياسيّا واقتصاديّا على الأقل لا نتحدّث عن أمريكا، ولا عن الاتّحاد الأوروبيّ فحسب؛ نحن نتحدّث اليوم عن أقطاب قطريّة في الشّرق، لها تأثيرها السّياسيّ والاقتصاديّ والصّناعيّ، بل والمعرفيّ، حيث نتحدّث عن الصّين وكوريا الشّماليّة والهند وتركيا وإيران مثلا، فهناك واقع آخر يتجسّد في القرن الحادي والعشرين، له مؤشراته واقتضاءاته، وجوده اليوم حالة إيجابيّة لكسر الأنا البرجماتيّ الأمريكيّ، لكنّه أيضا أمام سؤال التّوازن الّذي سيحدثه؛ هل سيكون في خدمة المجتمع الإنسانيّ، أم نحن أمام صراعات أخرى، تخلق دمارًا في الحالة البشريّة.

وكان الرّهان سابقا على المثقف، ليوقف حماقة السّياسيين، بيد أنّه فشل سواء كان كاتبًا أو فنانًا كما يرى أينشتاين «إنّ الفنانين ورجال الفكر يسلسلون قيادهم للوطنيّة المتعصبة الضّيقة الأفق، إلى درجة أبعد ممّا يفعل رجال الأعمال»، وهو ما يسميه علي حرب بالمثقف الموالي، أي «الّذي يُسوِّغ للحاكم مشروعيته، ويدافع عن سياساته»، ولو قاد العالم إلى الحروب والدّمار، بل وقاد شعبه إلى الاستبداد والفقر والّلاإنسانيّة، ويرى أنّ «المثقف والسّياسيّ كلاهما يصنع الآخر، وبالإجمال كلّ منهم يقيم علاقة مع سواه، أكانت علاقة عداء أم حبّ أم شراكة».

أتصوّر اليوم، والحالة الإنسانيّة الّتي يعيشها المجموع البشريّ؛ نقطة مهمّة ليتجاوز المثقف ليس الأنا السّياسيّ فحسب، بل الأنا القُطريّ، بما يحمله من أنا اجتماعيّ ودينيّ وثقافيّ، إلى الحالة الإنسانيّة ذات الذّاتيّة والماهيّة الواحدة، ويكون عابرا لهذه الأنا القطريّة والمصالحيّة، حيث دوره اليوم وفق مراجعات للماضي من جهة، واستشراف للمستقبل من جهة أخرى؛ ضرورة ملحة، لعلّه يسهم في خلق واقع إنسانيّ أكثر تقدّمًا إنسانيًّا، وتطوّرًا بشريًّا.

وإذا جئنا إلى واقعنا العربيّ اليوم؛ فقد كان تجاوز ظاهريّا الاستعمار، وما عاشه من حالة بين صراع القطبين، إلى الهيمنة الأمريكيّة، ووضعه الحاليّ في ظلّ ظهور دول قطريّة كبرى في الشّرق والغرب، وتأثيرها السّياسيّ والاقتصاديّ والإعلاميّ، فهل سيشكل في ذاته قوّة أخرى تنقل هذه المنطقة الجغرافيّة إلى مرحلة التّأثير في العالم، ومرحلة الشّراك في الواقع الإنسانيّ، والتّأثير العالميّ.

بلا شك أنّ منطقة الخليج العربيّ مثلا لها تأثيرها السّياسيّ اليوم، وأنّ الواقع النّفطيّ وما تحويه من وفرة الغاز الطّبيعيّ، وموقعها الجغرافيّ الاستراتيجيّ، دفع بها إلى هذا التّأثير، بيد أنّه كما يحمل الواقع الإيجابيّ، هو في ذاته يحمل من السّلبيات؛ لأنّ التّأثير المستدام لا يبنى على عارض المواد الطّبيعيّة، فهذه تزول يوما ما، أو تستبدل بعارض آخر، إنّ التّأثير المستدام يأتي من الذّات، ومن قوّة الذّات، ولعلّ ما حدث في غزّة اليوم يحتاج إلى الكثير من المراجعات، ولهذا يترتب على المثقف العربيّ بما فيه الخليجيّ مسؤولية كبيرة في تفكيك هذه المراجعات موضوعيًّا، بعيدًا عن المصالح النّفعيّة.

هذا لا يعني جلد الذّات، فهناك من يقزّم ذاته، ويقلّل من قدراته، ويجعلنا نعيش حالة من الوهم بين الشّرق والغرب، وكأننا أمّة لا تأثير لها، ولا يوجد لدينا عقول مبدعة، ولا إرادة منتجة، وهذا أيضا لا يعني تلميع الذّات، وعدم نقد الواقع، والبعد عن المصالحيّة في ذلك أيضا.

ولا أريد تخصيصا بهذا الواقع الخليجيّ، بل الواقع العربيّ عموما، بعيدا عن الواقع المأساويّ الّذي تعيشه العديد من الأقطار العربيّة، بيد أن الأمل كبير في رجوع استقرارها ونهضتها قريبا، فهذا يقوم على تغيير نمط التّفكير ذاته، فالاغتراب المصالحيّ لا يقلّ خطورة عن الاغتراب الماضويّ، فالأول يجعلك تعيش في الوهم لمصالح فرديّة وآنيّة، والثّاني يجعلك تعيش في وهم الماضي، وأنّه الخلاص للحاضر، وكما يرى غالب الفريحات أنّنا «بحاجة ماسّة لتأسيس نظام ثقافيّ عربيّ، يعتمد على التّحرر من العادات والتّقاليد والرّجعيّة الّتي تؤشر على التّخلف، والنّظام الثّقافيّ العربيّ هذا لابدّ وأن يعتمد التّنوير الثّقافي الهادف إلى إحداث انقلاب في نمط التّفكير العربيّ السّائد، والعمل على تغيير المجتمع على أسس عقلانية تحدث تغييراً في سلوك الإنسان من خلال نشر العلم والمعرفة والتّأمل العقليّ»، هذه المعرفة تقوم على التّحرر من استنقاص الذّات، والتّقليل من قدرتها على النّهوض، وفي الوقت نفسه تجاوز جلد الذّات إلى حدّ ارتفاع المنطق والإنصاف في ذلك.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی العالم الس یاسی

إقرأ أيضاً:

إسرائيل والغرب الاستعماري فاتورة جنون العشاء الأخير

 

سقطت كل تموضعات الهيمنة الإمبريالية، من الكيان الإسرائيلي المحتل، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأخواتها في أوروبا الإمبريالية، وأصبحت تلك القوى مجرد أوراق ذاوية، متساقطة في خريفها الحتمي.

سقطت أساطير القوة، والتفوق العسكري البحري والجوي الأمريكي، وسقطت مزاعم التفوق الحضاري، وأقنعة السمو والرقي الإنساني الأوروبي، كما تهاوت عنجهية الكيان المدلل، المغرم بهواية ممارسة التوحش والإجرام، والمولع بإراقة الدماء وحروب الإبادة الشاملة، دون أن يجرؤ أحد على منعه.

رغم مرور عام كامل، لم تستطع أقوى الترسانات العسكرية، وأحدث المنظمات التكنولوجية، أن تجتث قوة وفاعلية، فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، ومازالت هذه الأخيرة، تلحق بأعتى جيوش الإمبريالية، أخزى وأنكى الهزائم، رغم الفوارق الهائلة بينهما، على كافة المستويات، ورغم ذلك فإن الفعل المقاوم اليوم، لم يعد ما كانه بالأمس، سواء في غزة أو في الضاحية اللبنانية، علاوة على ظهور جبهات جهاد وإسناد جدیدة، في العراق واليمن وإيران، الأمر الذي جعل الغرب الإمبريالي، يتخلى عن وقاره المصطنع، وعطف أبويته المزعومة، ويقفز إلى حلبة الصراع والمواجهة، معلنا موقفه الاستعماري وشراكته الإجرامية، وهمجيته ونزعته التوحشيه، الموغلة في دماء وأشلاء المدنيين الأبرياء العزل، في قطاع غزة وعموم فلسطين والضاحية الجنوبية، واليمن والعراق وأفغانستان، و….. و…… إلخ.

كانت القضية الفلسطينية – وما زالت – الجرح الغائر، في جسد الأمة العربية والإسلامية، غير أن خروج صورة المعركة وطبيعة المواجهة، من ضيق التصور القومي الخاص، إلى فضاء الواجب الديني، الملزم لجميع المسلمين، قد أعاد لها قوتها وزخمها الحقيقي، وأعادها إلى سياق الاستجابة للأمر الإلهي، وأصبحت المسألة أكبر من مصير مشترك، عرقيا أو قوميا أو جغرافيا، لتشمل المصير الحياتي، والمصير الأخروي معا.

مما لا شك فيه أن وعد الله حق، وسنته ثابتة مؤكدة، لا تتبدل ولا تتغير، وفي كل زمان وفي كل مكان، لا بد أن يعلو جبروت فرعون، لتسقطه عصى موسى، ورغم إمكانات القوة والهيمنة الاستكبارية، في تموضعها المادي، إلا أن أبسط الأدوات (العصى)، وأقل الإمكانيات (ضرب البحر)، كفيلة بمشيئة الله بإسقاط أعتى القوى، وطي أزمنة الهيمنة والطغيان، إلى الأبد.

إن المارد الذي انطلق من عقاله، في السابع من أكتوبر 2023م، لا يمكن أن ينكسر، بعد عام كامل من عنفوانه، والطوفان الذي ما زال يعصف بأعتى القوى، على مدار عام كامل، لا يمكن أن ينطفئ، بحيلة سياسية أو مؤامرة عالمية، كما أن ما عجزت قوى الاستكبار الإمبريالية العالمية، أن تقضي عليه مجتمعة، على مدى عام كامل، هي أعجز من أن تنال منه، مثقال ذرة بعد ذلك، مهما راهنت على عامل الزمن.

كان صدور أقل تصريح، عن أصغر ضابط أمريكي، كافيا لأن يقلب العالم، رأسا على عقب، وكانت مجزرة واحدة بحق الفلسطينيين، كافية لفرض الاستسلام، على شروط العدو، وكانت تكاليف العمليات الاستشهادية، باهظة التنكيل والقمع والإبادة، بحق المدنيين الأبرياء، لكن الوضع اليوم قد تغير، ولم يعد لحاملات الطائرات الأمريكية، أي قيمة وجودية، بعد أن عجزت عن حماية نفسها، أمام الصواريخ الباليستية والمسيرات اليمنية، ولم يعد للمجازر والإبادة والتوحش، أي أثر إرهابي، لردع المجاهدين الفلسطينيين واللبنانيين، عن خيار الجهاد والمقاومة، والسباق الجمعي في ميادين التضحية والكرامة، ولم تعد العمليات الاستشهادية، باهظة الثمن أو عبثية الجدوى، كما أن الاغتيالات الإجرامية الإسرائيلية، لم ثؤثر على موقف الجهاد والإسناد، أو تضعفه تكتيكيا أو عسكريا أو ميدانيا، وهو ما أثبت مرة أخرى، الكفاءة العالية والأداء المتفوق، لدى فصائل الجهاد والإسناد، التي ما زالت تضرب بكل قوة وفاعلية، في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد اختارت أهدافها بدقة وعناية، في ظل امتلاكها زمام المعركة، وقدرتها على تحقيق النصر، بخطوات ثابتة ومدروسة.

لم يعد من مصلحة إسرائيل وأمريكا وأخواتهما، ارتكاب المزيد من المجازر، والقتل والتدمير والإبادة، لأنها أصبحت بلا فاعلية ولا جدوى، ولم يعد في جعبة القوى الاستعمارية والاستكبار، غير الزوال الحتمي، والسقوط الكبير المدوي، وحتى الرهان على عامل الزمن، لن يخدم تلك الكيانات الوظيفية الإجرامية، التي تآكلت من الداخل تماما، وفقدت شرط التفوق العسكري، وعامل البقاء الاقتصادي، الذي يتهاوى بشكل متسارع، تزامنا مع السقوط القيمي والأخلاقي والإنساني الشامل.

مقالات مشابهة

  • سفير عمان بالقاهرة: تعزيز التعاون العربي الأفريقي خطوة محورية لمواجهة التحديات الراهنة
  • سفير سلطنة عمان بالقاهرة: تعزيز التعاون العربي الأفريقي خطوة محورية لمواجهة التحديات الراهنة
  • شـواطئ.. روسيا والغرب.. لمن الغلبة؟ (4)
  • إسرائيل والغرب الاستعماري فاتورة جنون العشاء الأخير
  • من هو مجدي يعقوب؟ تفاصيل عن حياة طبيب القلب والرحمة الأشهر في العالم العربي
  • بدء فعاليات اليوم الثاني من المنتدى الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي
  • إسرائيل والغرب الاستعماري فاتورة جنون العشاء الأخير
  • النائب حنا جريس: استعادة النسيج الاجتماعي العربي ضرورة ملحة
  • انطلاق فعاليات المنتدى الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي
  • الواقع العربي والقابلية للهزيمة