ثنائيّة الشّرق والغرب وجلد الذّات
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
لا أحد يستطيع أن ينكر ما حدث في الغرب بعد عصر الأنوار من نهضة معرفيّة وصناعيّة وتقنيّة أثرت في الإنسان المعاصر إيجابًا أم سلبًا، ولكننا اليوم لا نتحدّث عن بدايات عصر الأنوار، ولا حتّى عن نهايات القرن التّاسع عشر والنّهضة الصّناعيّة، نحن اليوم نتحدّث عن القرن الحادي والعشرين، فهل ما زال العالم فعلا اليوم يعيش هذه الثّنائيّة أم هي أقرب إلى الوهم؟
في الواقع لا يمكن اعتبار ذلك وهما بالمعنى الحرفيّ، فلا زال الغرب في الجملة يتفوقون علميًّا وفلسفيًّا وتقنيًّا، وما زال الواقع الاجتماعيّ والمدنيّ لديهم أكثر انفتاحًا من العالم الآخر، وما زال العالم الغربيّ مؤثرًا سياسيًّا وإعلاميًّا ومعرفيًّا، كما أنّه صاحب النّفوذ السّياسيّ والعسكريّ، والمهيمن بشكل عام على القرارات والسّياسات، ومتحكم في المال وما يتعلّق بالثّروات.
وإذا كان الاتّحاد السّوفييتيّ قطبًا منافسًا للإمبرياليّة الغربيّة في المجالات المعرفيّة والعسكريّة، إلّا أنّه بتراجعه وضعفه أعطى زخمًا أكبر للغرب، ولكن ليس من حيث الأنا وتفوق الدّم الأوروبيّ، كما يعيش غالبهم هذه الحالة السّلبيّة إلى اليوم، وإنّما من حيث المركزيّة البرجماتيّة الأمريكيّة، فالغرب بمفهومه الجغرافيّ والإنسانيّ والتّعدديّ أوسع بكثير، إلّا أنّ الهيمنة الإعلاميّة والعسكريّة الأمريكيّة هي من تحاول حصر الغرب من خلال نفوذها وبرجماتيّتها، وفق فلسفتها المعاصرة والمعقدة في حدّ ذاتها، في علمانيّة تتزاوج بين الأصوليّة الدّينيّة، واللّبراليّة المطلقة أو المعرفيّة.
لكن هل بسقوط الاتّحاد السّوفييتيّ أوجد الهيمنة الواحديّة الغربيّة من خلال النّفوذ الأمريكي، أتصوّر أنّ الواقع اليوم انتقل من القطبين المؤثرين وفق حلفائهما في العالم إلى البؤر القطريّة المؤثرة في العالم، حيث ما حدث في العالم من تناقض حينها، فالثّورة الصّناعيّة والمعرفيّة كادت أن تخلق واقعًا إنسانيًّا متقدّمًا، ويرقي بالعدالة الإنسانيّة، إلّا أنّ الواقع السّياسيّ، واستغلاله للتّقدّم المعرفيّ والعسكريّ اتّجه سلبا في دمار شمل العالم أجمع، وغطرسة استعماريّة لم يعرف التّأريخ الإنسانيّ لها مثيلا، ليقود العالم ثلّة من السّياسيين الّذين لا يبحثون عن الإنسان وكرامته، وإنّما تقودهم أنا الذّات للشّهرة والسّيطرة على خيرات الأمم الأخرى، كما بيّن ذلك ألبرت أينشتاين (ت 1955م) في رسالته لصديقه سيجموند فرويد (ت 1939م) عام 1931م إنّ هؤلاء «الزّعماء السّياسيين والحكومات يدينون بمراكزهم إلى القوّة من ناحية، والانتخابات من ناحية أخرى، ولا يمكن اعتبارهم ممثلين لأفضل العناصر الفكريّة والأخلاقيّة في الأمم الّتي يمثلونها».
نحن لمّا نتحدّث اليوم سياسيّا واقتصاديّا على الأقل لا نتحدّث عن أمريكا، ولا عن الاتّحاد الأوروبيّ فحسب؛ نحن نتحدّث اليوم عن أقطاب قطريّة في الشّرق، لها تأثيرها السّياسيّ والاقتصاديّ والصّناعيّ، بل والمعرفيّ، حيث نتحدّث عن الصّين وكوريا الشّماليّة والهند وتركيا وإيران مثلا، فهناك واقع آخر يتجسّد في القرن الحادي والعشرين، له مؤشراته واقتضاءاته، وجوده اليوم حالة إيجابيّة لكسر الأنا البرجماتيّ الأمريكيّ، لكنّه أيضا أمام سؤال التّوازن الّذي سيحدثه؛ هل سيكون في خدمة المجتمع الإنسانيّ، أم نحن أمام صراعات أخرى، تخلق دمارًا في الحالة البشريّة.
وكان الرّهان سابقا على المثقف، ليوقف حماقة السّياسيين، بيد أنّه فشل سواء كان كاتبًا أو فنانًا كما يرى أينشتاين «إنّ الفنانين ورجال الفكر يسلسلون قيادهم للوطنيّة المتعصبة الضّيقة الأفق، إلى درجة أبعد ممّا يفعل رجال الأعمال»، وهو ما يسميه علي حرب بالمثقف الموالي، أي «الّذي يُسوِّغ للحاكم مشروعيته، ويدافع عن سياساته»، ولو قاد العالم إلى الحروب والدّمار، بل وقاد شعبه إلى الاستبداد والفقر والّلاإنسانيّة، ويرى أنّ «المثقف والسّياسيّ كلاهما يصنع الآخر، وبالإجمال كلّ منهم يقيم علاقة مع سواه، أكانت علاقة عداء أم حبّ أم شراكة».
أتصوّر اليوم، والحالة الإنسانيّة الّتي يعيشها المجموع البشريّ؛ نقطة مهمّة ليتجاوز المثقف ليس الأنا السّياسيّ فحسب، بل الأنا القُطريّ، بما يحمله من أنا اجتماعيّ ودينيّ وثقافيّ، إلى الحالة الإنسانيّة ذات الذّاتيّة والماهيّة الواحدة، ويكون عابرا لهذه الأنا القطريّة والمصالحيّة، حيث دوره اليوم وفق مراجعات للماضي من جهة، واستشراف للمستقبل من جهة أخرى؛ ضرورة ملحة، لعلّه يسهم في خلق واقع إنسانيّ أكثر تقدّمًا إنسانيًّا، وتطوّرًا بشريًّا.
وإذا جئنا إلى واقعنا العربيّ اليوم؛ فقد كان تجاوز ظاهريّا الاستعمار، وما عاشه من حالة بين صراع القطبين، إلى الهيمنة الأمريكيّة، ووضعه الحاليّ في ظلّ ظهور دول قطريّة كبرى في الشّرق والغرب، وتأثيرها السّياسيّ والاقتصاديّ والإعلاميّ، فهل سيشكل في ذاته قوّة أخرى تنقل هذه المنطقة الجغرافيّة إلى مرحلة التّأثير في العالم، ومرحلة الشّراك في الواقع الإنسانيّ، والتّأثير العالميّ.
بلا شك أنّ منطقة الخليج العربيّ مثلا لها تأثيرها السّياسيّ اليوم، وأنّ الواقع النّفطيّ وما تحويه من وفرة الغاز الطّبيعيّ، وموقعها الجغرافيّ الاستراتيجيّ، دفع بها إلى هذا التّأثير، بيد أنّه كما يحمل الواقع الإيجابيّ، هو في ذاته يحمل من السّلبيات؛ لأنّ التّأثير المستدام لا يبنى على عارض المواد الطّبيعيّة، فهذه تزول يوما ما، أو تستبدل بعارض آخر، إنّ التّأثير المستدام يأتي من الذّات، ومن قوّة الذّات، ولعلّ ما حدث في غزّة اليوم يحتاج إلى الكثير من المراجعات، ولهذا يترتب على المثقف العربيّ بما فيه الخليجيّ مسؤولية كبيرة في تفكيك هذه المراجعات موضوعيًّا، بعيدًا عن المصالح النّفعيّة.
هذا لا يعني جلد الذّات، فهناك من يقزّم ذاته، ويقلّل من قدراته، ويجعلنا نعيش حالة من الوهم بين الشّرق والغرب، وكأننا أمّة لا تأثير لها، ولا يوجد لدينا عقول مبدعة، ولا إرادة منتجة، وهذا أيضا لا يعني تلميع الذّات، وعدم نقد الواقع، والبعد عن المصالحيّة في ذلك أيضا.
ولا أريد تخصيصا بهذا الواقع الخليجيّ، بل الواقع العربيّ عموما، بعيدا عن الواقع المأساويّ الّذي تعيشه العديد من الأقطار العربيّة، بيد أن الأمل كبير في رجوع استقرارها ونهضتها قريبا، فهذا يقوم على تغيير نمط التّفكير ذاته، فالاغتراب المصالحيّ لا يقلّ خطورة عن الاغتراب الماضويّ، فالأول يجعلك تعيش في الوهم لمصالح فرديّة وآنيّة، والثّاني يجعلك تعيش في وهم الماضي، وأنّه الخلاص للحاضر، وكما يرى غالب الفريحات أنّنا «بحاجة ماسّة لتأسيس نظام ثقافيّ عربيّ، يعتمد على التّحرر من العادات والتّقاليد والرّجعيّة الّتي تؤشر على التّخلف، والنّظام الثّقافيّ العربيّ هذا لابدّ وأن يعتمد التّنوير الثّقافي الهادف إلى إحداث انقلاب في نمط التّفكير العربيّ السّائد، والعمل على تغيير المجتمع على أسس عقلانية تحدث تغييراً في سلوك الإنسان من خلال نشر العلم والمعرفة والتّأمل العقليّ»، هذه المعرفة تقوم على التّحرر من استنقاص الذّات، والتّقليل من قدرتها على النّهوض، وفي الوقت نفسه تجاوز جلد الذّات إلى حدّ ارتفاع المنطق والإنصاف في ذلك.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العالم الس یاسی
إقرأ أيضاً:
اليوم العالمي للعبة الأمتع في العالم.. من مبتكر الكلمات المتقاطعة؟
يحتفي العالم اليوم بذكرى ابتكار لعبة الكلمات المتقاطعة، التي تعد من أقدم وأشهر الألعاب الذهنية التي تعتمد على الألغاز، إذ ظهرت لأول مرة عام 1913 من خلال إحدى الجرائد البريطانية وحظت من وقتها باهتمام الكثيرين، وانتشرت عبر المجلات والجرائد في جميع انحاء العالم ثم عبر الهواتف المحمولة.
قصة ابتكار الكلمات المتقاطعةيرجع ابتكار لعبة الكلمات المتقاطعة إلى الصحفي آرثر وين، وهو صحفي أمريكي كان يعمل لدى صحيفة نيويورك ورلد في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1913 طلب رؤساء وين منه أن يبتكر خدمة جديدة تضيف المتعة والإثارة لدى القراء وتساعد على زيادة نسبة مبيعات الصحيفة بطريقة ذكية، فعاد بذاكرته إلى مرحلة الطفولة عندما كان يلعب باستخدام الحروف واقتبس منها فكرة الكلمات المتقاطعة، وفق ما ذكره موقع TIME Magazine.
دخلت لعبة الكلمات المتقاطعة لأول مرة إلى صحيفة نيويورك ورلد في 21 ديسمبر 1913، وقد نالت إعجاب قطاع كبير من الجمهور لما تضيفه من تسلية ومتعة، حتى أصبحت مادة أساسية لدى الجرائد والمجلات في مختلف أنحاء العالم، وتم ترجمتها بمختلف اللغات، ومع التطور التكنولوجي الذي يعيشه العالم انتقلت إلى الهواتف المحمولة ومازال القراء حريصون على لعبها بنفس الشغف.
إثراء المعلومات العامةتتكون الكلمات المتقاطعة من مربعات سوداء وبيضاء عدة على شكل جدول يحوي أعمدة وصفوفًا من المربعات الفارغة، ويتم لعبها عن طريق ملء المربعات البيضاء لتشكيل الكلمات أو العبارات عن طريق حل القرائن التي تؤدي إلى إجابات بينما تستخدم المربعات السوداء لفصل الكلمات أو العبارات، وهي تساعد على زيادة القوة الفكرية والذهنية، وإثراء المعلومات العامة وتسلية القراء.