حين كانت عمليَّة السَّلام قائمة في واشنطن بعد مدريد وقَبل اتِّفاق أوسلو، كان بعض الإسرائيليِّين يقولون للفلسطينيِّين لو أردنا أن نضعَ طاولة حسب ميزان القوى بَيْنَنا لكان شكل الطاولة مختلفًا تمامًا، منوِّهين للقوَّة العسكريَّة للكيان الصهيوني مقارنة مع شَعب تحت الاحتلال يناضل بلحمه الحيِّ من أجْلِ نَيْل حُريَّته واستقلال بلاده وإحقاق حقِّه في أرضه.
لقَدْ أطلقوا على وقف العدوان «هدنة» وكأنَّ الطرفين متساويان في حرب يمتلك كُلُّ واحد مِنْهما أدوات الحرب المعهودة، بَيْنَما هو عدوان موصوف على شَعب أعزل وحرب إبادة وتطهير عِرقي لا علاقة لها بالقضاء على حماس، بل هدفها الوحيد هو قتل وتهجير شَعب فلسطين من على أرضه واحتلال هذه الأرض بموقعها وخيراتها والتخلُّص من سكَّانها الأصليِّين من خلال أبشع المجازر والتطهير العِرقي الَّذي عرفته البَشَريَّة في زمننا الحديث. إذا كانت هذه الهدنة المزعومة قَدْ نجمت عن إدخال 1% فقط من احتياجات القِطاع من وقود وأدوية وغذاء، وإذا كان يوم انتهائها قَدْ حصد أرواح أكثر من مئتي شهيد فلسطيني وأكثر من ستمئة جريح فما هو التصوُّر لليوم الَّذي يلي إنهاء هذه الهدنة طال الزمن بها أم قصر؟ أم أنَّ الهدف الأساس من كُلِّ ما يحاول الأميركيون فعله بمن فيهم نائبة الرئيس القادمة إلى المنطقة هو ضمان إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليِّين ثمّ تصرِّح كما صرَّح جون كيربي مستشار الأمن القومي الأميركي أنَّها تؤيد «قرار إسرائيل باستئناف القصف على غزَّة».
أمَّا إطلاق سراح أسرى فلسطينيِّين بالمقابل فهو ليس جزءًا متوازيًا من المعادلة؛ لأنَّ الفلسطينيِّين كُلَّهم يقعون تحت ربقة استعمار استيطاني، وها هو الكيان يقتل عشرات الفلسطينيِّين في الضفَّة والقِطاع ومِنْهم أسرى سابقون تزامنًا مع إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيِّين كما أنَّ سُلطات الاحتلال تستطيع أن تُعيدَ أيًّا من هؤلاء إلى معتقلاتها؛ لأنَّها تمتلك القوَّة العسكريَّة الَّتي لا يمتلكها الفلسطينيون الصَّابرون والصَّامدون بعقيدتهم وإيمانهم وتشبُّثهم بأرضهم. بالإضافة إلى أنَّ الولايات المُتَّحدة تقدِّم كُلَّ المال والسِّلاح لهذا الكيان وتؤيِّد حرب الإبادة الَّتي يشنُّها على الفلسطينيِّين فهي بالإضافة إلى ذلك تسخِّر كُلَّ مقدَّراتها السِّياسيَّة والدبلوماسيَّة وعلاقاتها مع كُلِّ الأطراف من أجْلِ خدمة الكيان الغاصب وتمكينه من الاستمرار في قتل وتهجير السكَّان الفلسطينيِّين الأصليِّين واحتلال الأرض وما بها وما عَلَيْها.
والمُشْكلة الأكبر اليوم هي أنَّ المعتدين والضحايا يتكلمون لغتَيْنِ مختلفتَيْنِ لا تتقاطع إحداهما مع الأخرى. فرغم كُلِّ المَسيرات المؤيِّدة للشَّعب الفلسطيني ومبادرات بعض أصحاب الضمائر الحُرَّة حتَّى داخل الإدارات الأميركيَّة والأوروبيَّة لإيقاف حرب الإبادة على الفلسطينيِّين فإنَّ المعتدين لهم خططهم واستراتيجيَّاتهم الَّتي لا تقيم لحياة الفلسطينيِّين أو العرب وزنًا على الإطلاق فبعد أن أعلن جون كيربي تأييده لاستئناف «إسرائيل» قصف غزَّة قال: «نُكرر بأنَّ العمليَّة يجِبُ أن تأخذَ بعين الاعتبار قيود قانون الحرب بتقليص الضحايا المَدنيِّين». أيُّ حرب هذه بَيْنَ حاملات طائرات وغواصات نووية أميركيَّة وقنابل ومدرعات ودبَّابات من جهة، ومجموعة من المقاتلين المؤمنين بأرضهم وديارهم والَّذين لا يملكون سوى أرواحهم الطَّاهرة يقدِّمونها ثمنًا لانتمائهم من جهة ثانية؟! وما معنى تقليص الضحايا المَدنيِّين؟ كم ألفًا من المَدنيِّين الأبرياء مسموح لهذا الكيان الغاصب أن يقتلَ؟ وهل قتل المَدنيِّين جزء من قانون الحرب؟
وعلى مستوى آخر لا يعلَمُ المرء ماذا يقول وهو يقرأ مقالًا نُشر في الناشنال إنترست في 29/11/2023 بعنوان «التنافس الصيني الأميركي، الاستراتيجيَّة العالَميَّة ومكانة الشرق الأوسط». يقول الكاتب: «إنَّ أعمال الصين في الشرق الأوسط لَنْ ترقى إلى أعمال الولايات المُتَّحدة، ليس فقط لأنَّ للصينيِّين أسلوبًا مختلفًا، بل لأنَّ أهدافهم مختلفة». ويضيف: «من غير المحتمل أن ينخرطَ الصينيون في بناء الدوَل وهم مرتاحون للعمل مع دكتاتوريِّين بسجلَّات حقوق إنسان مشينة». متى بنت الولايات المُتَّحدة دولًا؟ ومتى أسهَمت في بناء دوَل؟ ومتى اعترضت على دكتاتوريَّات طالما أنَّها تخدم مصالحها وتُمكِّنها من نهب مواردها وتسير في ركب قرارها؟ أين هي القِيَم الأميركيَّة الَّتي يتحدَّث عَنْها المقال والَّتي يدَّعي أنَّها تُلْهم ملايين البَشَر باتِّباع حُكم القانون وإرادة النَّاس والانتقال السِّلمي للسُّلطات؟ متى عملت السِّياسة الأميركيَّة على توفير الأمن لدوَل الشرق الأوسط؟ أوَلَمْ يُشكِّلْ استخدام الفيتو في مجلس الأمن أكبر عثرة في تطبيق قراراته بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربيَّة وإقامة الدَّولة الفلسطينيَّة وعودة اللاجئين؟ ومع أنَّ كاتب المقال السفير ديفيد هيل يذكر «مجزرة 7 أكتوبر» كما يُسمِّيها فهو لا يذكر على الإطلاق كُلَّ المجازر الَّتي ارتكبتها «إسرائيل» في غزَّة والضفَّة الغربيَّة. بَيْنَما حضر وزير خارجيَّة الصين إلى مجلس الأمن لِيدعوَ العالَم كُلَّه إلى وقف هذه المجازر بحقِّ الشَّعب الفلسطيني، ولِيقولَ إنَّ الاستمرار بقتل الفلسطينيِّين خطٌّ أحمر. كيف نقارن هذا مع تأييد جون كيربي لقرار «إسرائيل» باستئناف حرب الإبادة على الفلسطينيِّين العُزَّل؟؟
يدعو ديفيد هيل صنَّاع السِّياسة الأميركيِّين أن يعملوا على مستويَيْنِ: الأوَّل هو مواجهة التنافس مع الصين، والثاني هو وضع أولويَّات التحدِّيات الإقليميَّة في خدمة المصالح الأميركيَّة. في الوقت الَّذي يرى الأميركان في الشَّرق الأوسط نفطًا وخيرات ومواقع استراتيجيَّة فإنَّ الصين تتحدث عن أبناء الشَّرق الأوسط وعن حياتهم وحمايتهم من الإبادة والتطهير العِرقي، ولذلك فإنِّي أبَشِّر السفير هيل أنَّ المستقبل هو لأبناء الشَّرق الأوسط ولأصدقائهم والمؤمنين بالمساواة بالحياة والحُرِّيَّة مِثل الصين وروسيا، وليس للبوارج الحربيَّة والغوَّاصات النوويَّة والقنابل الذكيَّة الَّتي تُلقى عَلَيْهم ومليارات الدولارات الَّتي ترصد لِقتْلِهم إمَّا بآلة الإرهاب أو بالآلة الصهيونيَّة العنصريَّة الإرهابيَّة.
لَمْ تَعُدِ الولايات المُتَّحدة ترى الشعوب ولا تسمع صوتها، ولكنَّ هذا الصوت سيحفر مكانته في قلوب المؤمنين بالعدالة، وسيكُونُ هو صوت المستقبل الَّذي يملأ أرجاء الأرض. وبالمقابل فإنَّ هذه الشعوب لَمْ تَعُدْ ترى أو تسمع ادِّعاءات الولايات المُتَّحدة والغرب عمومًا بالديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، بل بدأت تراها على حقيقتها: قوى استعماريَّة غربيَّة عنصريَّة هدفها نهب خيرات الدوَل والاستيلاء على موقعها الجيواستراتيجي أو على قرارها السِّيادي كَيْ تكُونَ تابعة لها وتعمل رهن إشارتها.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الولایات الم ت حرب الإبادة الم دنی
إقرأ أيضاً:
الجيش الأميركي يكشف تفاصيل عملياته ضد الحوثيين
ضربت الولايات المتحدة أكثر من 800 هدف في اليمن منذ منتصف مارس، مما أسفر عن مقتل مئات الحوثيين، بمن فيهم أعضاء في قيادة جماعتهم، وفق ما أعلن الجيش الأميركي الأحد.
وذكر بيان صادر عن مركز القيادة الأميركية في الشرق الأوسط أنه "منذ 15 مارس، شنت قوات القيادة المركزية الأميركي حملة مكثفة ومتواصلة تستهدف الحوثيين في اليمن لاستعادة حرية الملاحة والردع الأميركي. وقد نُفذت هذه العمليات باستخدام معلومات استخباراتية مفصلة وشاملة تضمن آثارا قاتلة ضد الحوثيين مع تقليل المخاطر على المدنيين".
وتابع: "للحفاظ على الأمن العملياتي، عمدنا إلى الحد من الكشف عن تفاصيل عملياتنا الجارية أو المستقبلية. نحن متعمدون للغاية في نهجنا العملياتي، لكننا لن نكشف عن تفاصيل محددة حول ما فعلناه أو ما سنفعله. سنواصل زيادة الضغط وتفكيك قدرات الحوثيين بشكل أكبر طالما استمروا في إعاقة حرية الملاحة".
وأضاف: "منذ بداية عملية -راف رايدر- قصفت القيادة المركزية الأميركية أكثر من 800 هدف. وقد أسفرت هذه الضربات عن مقتل مئات المقاتلين الحوثيين والعديد من القادة الحوثيين".
وأبرز البيان: "دمرت الضربات العديد من منشآت القيادة والسيطرة، وأنظمة الدفاع الجوي، ومنشآت تصنيع الأسلحة المتطورة، ومواقع تخزين الأسلحة المتطورة. ضمت هذه المنشآت أسلحة تقليدية ومتطورة، بما في ذلك صواريخ باليستية وصواريخ كروز مضادة للسفن، وأنظمة طائرات مسيرة، وسفنا سطحية بدون طيار، استُخدمت في هجمات الحوثيين الإرهابية على ممرات الشحن الدولية".
وكشفت القيادة الأميركية في الشرق الأوسط: "في حين واصل الحوثيون مهاجمة سفننا، فقد أدت عملياتنا إلى تراجع وتيرة وفعالية هجماتهم. انخفض إطلاق الصواريخ الباليستية بنسبة 69 في المئة. كما انخفضت الهجمات من الطائرات المسيرة الهجومية أحادية الاتجاه بنسبة 55 في المئة".
وختم البيان: "لا شك أن إيران تواصل تقديم الدعم للحوثيين. لا يمكن للحوثيين الاستمرار في مهاجمة قواتنا إلا بدعم من النظام الإيراني.. سنواصل تصعيد الضغط حتى يتحقق الهدف، وهو استعادة حرية الملاحة والردع الأميركي في المنطقة".