لحسن أوزين التحول: ما الذي يمكن أن تقدمه المقاربة الفلسفية؟ ” تخبرنا أعمق المفاهيم الفلسفية شيئا كالآتي: لو أردت لحياتك أن يكون لها معنى، عليك تقبل الحدث، عليك البقاء على مسافة من السلطة، وعليك أن تكون حازما في قرارك. هذه هي القصة التي ترويها الفلسفة لنا دوما، تحت أقنعة كثيرة مختلفة: أن تكون في الاستثناء، في حالة الحدث، أن تحافظ على مسافة من السلطة، وأن تتقبل عواقب الأمور، وأيا تكن صعوبتها.

” آلان باديو قد تبدو لنا القراءة السابقة للمفارقات والالتباسات مجرد تأويل/شر لا بد منه. يسمح لنا بالمزيد من التفكير العميق القادر على اكتشاف السؤال/ التفكير. الذي بإمكانه إلقاء المزيد من الضوء على الحدث الذي أنتجته رواية رسائل المتحول. يضعنا الاختيار والقرار الصعب الذي أقدم عليه الأستاذ الجامعي في الاستجابة لرغبة دفينة في عيش تجربة التحول، أمام حالة من التصدع والتمزق، في الموضوع والفكر. يتخذ هذا القرار الصعب والمؤلم للذهاب بعيدا في معنى التحول المسيج والمأسور داخل بنيات ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية قهرية وقمعية، وشديدة التقليد والتكريس لبديهيات الثوابت والهوية والاستقرار. سواء من قبل الدولة أو المجتمع، أو من طرف نخبه اليمينية واليسارية والاسلاموية… ولتجاوز هذا الموات الأبدي، الخاضع للتكرار القهري، يُقبل المُتحول على قرار صعب في محاولته خلق نوع من التمزق و الانقطاع في جسده، وفي الجسد الاجتماعي المألوف المتلبس قوانين الطبيعي، كحتمية معقولة، لا مفر من قدريتها. تذهب الرواية، كشكل فني إبداعي في هذا الاتجاه خاضعة لمنطقها الداخلي وآليات اشتغالها، في خلخلة السائد والموروث الثقافي الاجتماعي، المسكون بالخوف والعداء، في فهم وعيش وحلم التحول، في محدودية سقفه المحكوم بقواعد الاعتيادي المعروفة ضوابطه وقياساته، في علاقاته، و قوانينه الاجتماعية والثقافية والسلطوية والأخلاقية المفعمة بالنفاق. ” كثيرة هي الاسرار التي ستكتشفين، وموجعة هي المفارقات التي ستواجهك، ستكونين وحدك دون سند في هذا العماء القاسي، وستطرحين ألف سؤال وسؤال: لماذا يا بابا؟ لا أجوبة أقدمها لك. كل شيء يعتمد على مدى تقبلك لفكرة التحول نفسها. إما أن تلعنيني وتتبرئين مني، وهذا أكيد، وإما أن تنقبي في طمي النهارات المكرورة والعادية عن لون الطمي الغامق الذي يختزن في مادته أمطارا ورياحا وشموسا وأعاصير وهزات أرضية، كان لا بد منها لكي  يشتغل الكوسموس. تصوري ماذا لو كان العالم كله بلون من طبقة رسوبية واحدة: لا أسرار، لا تناقضات، لا آلام، لا صدمات، كل شيء عادي..؟ كنت ستلعنين هذا الكوكب الممل الرتيب الذي يشبه مواعظ فقهية طاعنة في الضجر.”199  يضعنا المتحول أمام مسافة مرعبة ورهيبة، بعيدا عن المتعارف عليه في العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية. يدخل في علاقة ضدية مفارقة مع هذا الوجود الاعتيادي الممل الرتيب. يستنطق المقموع والصامت والقابع في النفس، في زواياها المعتمة، المانعة لإيقاظ الفكر والعلم والحب والسياسة. لهذا لم يقف عند سقف التحول المهني، والترقية التي سيحصل عليها بعد عودته من أمريكا حاملا شهادة تأهيلية في التواصل. بدا له هذا السقف في التحول الشخصي مقززا، واعتيادي الى حد الغثيان. لذلك اختار وقرر الدخول في علاقة مفارقة مع كل مسوغات هذا التحول المانع للتحول الحقيقي. ” كان من الممكن أن أعود إليك من أمريكا بطلا من ورق، يحمل شهادة جامعية تثبت نجاحه في اختبارات التواصل. سيعترف الجميع بي، وربما رفعوني الى منصب العمادة في جامعة ابن طفيل، لكني اخترت اختبارا آخر، أن أجبر نفسي على الاعتراف بحقي في إخضاع الحرية لأشرس أنواع التناقضات، وأنا واثق أنك ستجدين من ينزل جثتي من حبل المشنقة، ويدفنها كأية مادة انتهت صلاحيتها الوجودية.”200 هكذا يورطنا المتحول بين طيات الانقطاع الذي تفكر فيه، وتنتجه الرواية كإبداع يقاوم الموات الابدي، الذي يرخي ظلاله المقرفة على الواقع الحي، لاجما حركة التطور والتحول والتغيير. ” في التضاريس التي تسكن شراييني، كان الوطن يتلكأ في الولادة. ما الذي تحقق منذ أربعين سنة من الاستقلال؟”197 يعني هذا أن قرار المتحول يزيل عنا بجرأة  ورقة التوت القيمية والثقافية والأخلاقية، التي نتستر وراءها، بدعوى الهوية والقيم والخطوط الحمر التي يُجرّم التفكير فيها، أو بالأحرى الإقدام عليها، والعمل على تخطيها. لذلك نلاحظ أن كل هذه السلط القهرية تدخل في علاقة تناقض متفاوت الحدة والشدة والقوة، مع الحدث الذي أنتجه الاختيار الحر المرعب للمتحول، في تأزيم التحول، وتأزيم الفكر المتشدق أو المهتم والمعني بمسألة التحول. علاقة مفارقة تأخذ شكلها الأقصى المتجسد في حرية الفرد في اختياراته وقرارته. كما لو أننا إزاء حدث استثنائي يخلخل ويمزق مفارقة العلاقة بين الاعتيادي المألوف والاستثناء المجسد للرضة والانقطاع. تدعونا الرواية الى تحمل عبء ومعاناة ألم التحول الأقرب الى البتر النفسي/الجسدي لأنساق ثقافية ورمزية، اجتماعية وقيمية ودينية اكتسبت قيمة العضوية الحية فيما يشكلنا جسديا وروحيا. الى درجة يصعب القبول ببترها والتخلص من طبيعتها الورمية الخبيثة( هكذا هي مثلا الأبوية بنزعتها المركزية الذكورية)، التي تحول بيننا وبين الحياة في تدفق شلالاتها الهادرة المتدفقة، بالمسرات والافراح والتحولات النوعية، التي تعلي من شأن قيمة الانسان، في عيش مشروعه الوجودي، في خلق القطائع، وإضاءة المسافات المرعبة التي ينتجها الحدث، كتناقض وبديل لما هو سائد ومعروف ومألوف. لهذا ترفع الرواية من قيمة الاستثناء بآليات الحب التي تحضنه. والمتمثلة في مجموعة من الأصدقاء وحدتهم عذابات آلام مخاضات التحول. دون أن ننسى التجلي الفني والجمالي لقيمة هذا الحب في علاقته بجميلة ، و ديونيز إشراق. ” آه يا ديونيزوس العظيمة، أنت حصان طروادة الذي تختبئ فيه أسراري لكي تقتحم أسوار المدينة”199 لم يكن أصدقاء الأستاذ المغاربة وعلى رأسهم بشير حمراوي بقادرين على فهم قرار التحول. لأن سقف رؤيتهم محدود، وأفقهم لا يتجاوز عملية إعادة الإنتاج. لهذا تصرف بشير تبعا لنمطية الاعتيادي المألوف المعبر عن القهر الابوي السلطوي، بنزعته الذكورية. فكان صعبا عليه وعي المسافة التي أنتجها المتحول. لأنها مفارقة في علاقتها لما يحكم ويؤسس مرجعية ورؤية بشير ومن معه. إنها علاقة ضد العلاقة. هذا هو السؤال الفلسفي العميق الذي تثيره وتفكر فيه الرواية( وليس بالضرورة الكاتب) كمشكلة فلسفية حقيقية، تؤسس لوضع فلسفي جدير بهذا الاسم. والصعوبة نفسها في قبول وتقبل والاعتراف بالحدث، بحق الاخر في اختلافه وحريته الفردية، يمكن أن يعيشها الكثير من القراء المنمطين والمطبعين اجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا…، الذين لا يتسع عقلهم لأكثر من فكرة الوفاء الزائف للفضيلة والأخلاق، والهوية والاستقرار… يخشون التمزق والقطائع، وعيش الحدث الاستثنائي الذي لا يشبهه شيء. إنه العلاقة الضدية التي تأخذ شكل المفارقة الى حد التناقض مع ما هو سائد ومسيطر. وهنا يكمن بعدها الفلسفي العميق في طرح مفهوم التحول. كمسافة جهنمية بأهوالها المرعبة، يصعب عبورها بالنسبة لعقلية السلطة والمعرفة والأعراف والقوانين…، التي تعمل على إيقاف التفكير. هذا ما يسميه آلان باديو بالفلسفة، أوالتفكير الفلسفي الذي يتولد من الشرخ والتمزق والانقطاع، بوصفه مفارقات لما هو اعتيادي. فقرار التحول تصعيد للفكر النقدي تجاه المألوف الذي يحد مما يمكن أن يؤسس للفن، للإبداع، للحدث بالمعنى الفلسفي المعبر عن الاستثناء. أي، كل ما يعري أشكال الجبن والخوف والفوبيا المرضية التي تولدها الحقارات، في الأفكار، في الرؤى، في الانفعالات والمشاعر والعواطف. لذلك صعد المتحول من الانتهاكات والتمزقات، وهو يخوض حسابا عسيرا مع الذات في ترددها، في جبنها، في حقاراتها عندما تعرضت صديقته تالا المومس للعنف الذكوري الشرس. ” هل هذا هو التحول؟ تساءلت، لكن في أعماقي، كنت ما أزال أحمل حقارات الآخرين، إنها عاهرة وتستحق القتل… خجلت من نفسي، إنها امرأة تقاسمني الإيجار، وتحترم خصوصياتي، وهذا هو المهم.”202  هو يعرف شراسة المعركة التي يخوضها مع الذات. لأن من لا ينتصر على ذاته في التغيير والتحول لا ينتصر على أي شيء آخر. التحول اقتدار على وعي الاختيار، وامتلاك القرار الصارم في الخلق الجديد لما هو غير موجود. كما أنه وعي وفكر يقظ له قدرة  إرادة عبور المسافة بين القمع والحرية، بين التأويل القبلي للجنس والجندر، والحرية والعدالة والمساواة. وبين السلطة والحقائق النابعة من القطيعة و الحدث/التحول، وأيضا  بشكل أساسي بين الحب/الرواية والموت. حيث تعطي الرواية للقطيعة قيمتها، وللحدث وزنه واعتباره، في التأسيس لشيء لم يكن موجودا. وهذا ما يجعله استثناء في وجه القواعد والأعراف والتصورات والمعتقدات الاعتيادية المألوفة، التي أخذت بعدا طبيعيا كقدر محتوم يصعب تحويله أو تغييره. لم يعد التحول في نظر المتحول لعبة فنية مجردة، أو فرجة مسرحية خارج الذات والكينونة والجسد، والفكر اليقظ. على الإبداع والفن أن يحتكم الى منطق قوانينه الداخلية، وآليات اشتغاله الذاتية، في التكون والتطور، كسيرورة مستقلة في تحقيق وإنجاز حقائقها، بعيدا عن أي قهر خارجي، أو وصاية تسربت الى الذات كشيء طبيعي مفارق للتاريخ البشري. هكذا يكون التحول الحقيقي الجذري، الذي يستلزم استجابة معرفية، فكرية وإبداعية، تجاه غير مألوف. وهذا يعني التفكير بتحول الحياة. هذا هو التجلي الفني والجمالي للقطيعة والحدث الاستثنائي الذي سعت الرواية الى تحقيقه. واستفزاز وعي وفكر القارئ، وهو يواجه رعب خوفه، و عسر قبوله للتمزق والانتهاكات والشروخ المؤلمة التي تحدثها الرواية في سجلاته النفسية الثقافية والفكرية والقيمية الأخلاقية، التي تشربها مع حليب الطفولة.  وهي سجلات قابعة في أعماقه كشفرة نفسية للاشعور الثقافي الجمعي الموروث. تحاول الرواية إزاحة هذه التصلبات المانعة لتحقق الانقطاع، من خلال شكلها الإبداعي الفني. الذي تستثمر في بنائه قيمة الحب التي جمعت المتحول بديونيز إشراق وجميلة فاميلا وإميليو. ” هذا هو الفرق، في التحول الحقيقي لا مجال للخوف، متعة الانتقال الحيوي المصيري تنسف كل خوف، لكن في التحول الزائف، نصبح خائفين من صوتنا، من مشيتنا، من حركاتنا، من تفكيرنا، من هواجسنا، من جسدنا، من هذا الالتباس التراجيدي بين الرغبة الذكورية والمشاعر الأنثوية.”204   ومتعة الرواية وجماليتها الشاهقة أنها قاومت كإبداع، وفن، الموت. ربما هذا هو التحدي الذي اشتغلت عليه. وتحكمت في نسج خيوطه العنكبوتية الرؤية السردية مسنودة بذخيرة ثقافية فكرية. فمن يحسن الانصات لرسائل المتحول، في ظلالها وهشاشتها، في نبضها الحي وقوتها الكبيرة، وفي تشبثها بالحياة ومقاومة الموت، يتعلم ما الذي ينبغي فعله وقوله إزاء التحول والتغيير الحقيقيين.  الموقف صعب أمام القارئ لكن لا مفر من تعلم عبور المسافات، والانخراط في الحدث، و الانتصار لقرار واختيار التحول بوصفه شكلا إبداعيا لمقاومة الموت. “من يستطيع أن يواجه ذاته عارية من كل قناع، من كل حماية؟ من يستطيع أن يدخل مع داخليته الحميمة في حرب على المكشوف؟ من يستطيع أن يقف في الخارج وحيدا كشجرة مفردة تعصف بأغصانها الرياح والهوج؟ بمعنى آخر- وهنا نلتقي بسؤال كانط مرة أخرى- من يجرؤ على الخروج من قصوره العقلي الذي أبقاه فيه الزمن المتطاول، والكاهن، والشرطي، والأب…؟” * الهامش عبدالحميد شوقي” رسائل المتحول” (دار خطوط وظلال الطبعة الأولى 2023) *هاشم صالح: مخاضات الحداثة التنويرية( دار الطليعة ط1س2008ص234)

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: هذا هو

إقرأ أيضاً:

استعراض لترجمة رواية ساماهاني (SAMAHANI) للروائي عبد العزيز بركة ساكن

ترجمة ميادة إبراهيم وعادل بابكر
بقلم : عمر محمد الأمين الوادي شعيري

تمهيد
صدرت رواية ساماهاني [وهي مفردة سواحيلية تعني "سامحني"] للروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن باللغة العربية في طبعتها الأولى عام 2017 من دار مسيكلياني للنشر والتوزيع في تونس العاصمة، وصدرت ترجمتها الإنجليزية في عام 2024م من فوندري إيديشنز (FOUNDRY EDITIONS) في المملكة المتحدة، بترجمة ميادة إبراهيم وعادل بابكر.
وقد حصلت الترجمة الإنجليزية على جائزتين، جائزة (ENGLISH PEN AWARD)، وجائزة باوباب (BaoBaB) الأفريقية.
غلاف طبعة الترجمة الإنجليزية من إعداد هيلين مارشال، ويهدف تصميم الأنماط الموجودة على أغلفة منشــورات فوندري إيديشنز (FOUNDRY EDITIONS)، والتي هي مستوحاة من صور البحر في اللوحات الإسلامية المصغرة، لتوثيق الإرث البصري للبحر الأبيض المتوسط.
مدخل
جاءت الرواية في 222 صفحة من القطع المتوسط، وقد ضمت الصفحة الداخلية للغلاف ترجمة موجزة لكلٍ من الروائي عبد العزيز بركة ساكن والمترجمين.
• يعد عبد العزيز بركة ساكن المولود عام 1963 في مدينة كسلا بشرق السودان من أبرز أدباء السودان، وهو يعيش الآن في دولة النمسا، حيث أرغمه النظام العسكري الإسلامي في الخرطوم على الهجرة من بلده، كما أن معظم أعماله الرئيسة محظورة في وطنه، ومع ذلك يتم تداول كتبه سراً وتوزيعها عبر الإنترنت بين القراء السودانيين من جميع الأجيال.
 وقد فازت روايته "الجنغو: مسامير الأرض" بجائزة الطيب صالح الإبداع الروائي في عام 2009م، كما فازت ترجمتها الفرنسية بجائزة الأدب العربي (Prix de la literature) 2020 التي يقدمها معهد العالم العربي.
 كما حققت ترجمة رواية “ساماهاني” إلى اللغة الإنجليزية جائزتين، كانت الأولى جائزة (ENGLISH PEN AWARD)، وكانت الثانية جائزة باوباب (BaoBaB) الأفريقية..
اختير الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن كاتباً لمدينة "غراتس" النمساوية، وهي منحةٌ من أجل التفرغ للكتابة لعامٍ كاملٍ والمشاركة في الفعاليات الثقافية بالمدينة.
• ميادة إبراهيم مترجمة أدبية مقيمة في كوينز بنيويورك ولها جذور في الخرطوم ولندن، وهي تترجم بين العربية والإنجليزية. تم ترشيح ترجماتها لجائزة بشكارت Pushcart ونشرت في عدد من دور النشر من بينها ويلوز هاووس Willows House في جنوب السودان، وآرشبيلاغو بوكس وArchipelago books، وDolce Stil Criollo، و128 Lit. وهي تعمل مديرة التحرير في دار تيلتيد آكسيس برس Tilted Axis Press.
• عادل بابكر مترجم سوداني من وإلى اللغتين الإنجليزية والعربية، يعيش في أبو ظبي، وله عدد من المؤلفات والتراجم منها "منسي: رجل نادر على طريقته" للطيب صالح (بانيبال بوكس، 2020)، و"مختارات من الشعر السوداني الحديث: " (جامعة نبراسكا، 2019)، وكتاب "The Beauty Hunters: Modern Sudanese Poetry, Evolution and Impact" (مطبعة جامعة نبراسكا، 2023) والعديد من الروايات والقصص القصيرة لكتاب سودانيين مشهورين.
متن الرواية:
يقول الروائي (نصٌ مفتوحٌ على التاريخ، دون أن يحاكيه، يستلهم منه.... وزمانه ذاكرة الاستبداد التي لم يوصد بابها بعد....) مسرح الأحداث جزيرة زنجبار والبر الأفريقي المقابل لها والمعروف حاليا بسواحل تنزانيا وكينيا.
التساؤل (من يملك من؟ من أين جاءت الحريّة إلى أفريقيا؟ وهل وصلت فعلاً؟ وهل كانت هدية على طبقٍ بمدافع بريطانية وفرنسية وألمانية؟ أم ثورةٌ وثمرةُ نضالٍ لأرواحٍ كابدت الشقاء وأنهكها التعذيب؟ حتى تاقت نفوسها للانعتاق؟
ساماهاني إبداءُ أسفٍ وطلبٌ بعد أن نكتب السؤال الأخير لماذا الآن؟).
جاءت الروايّة في 25 فصلا، أدرج الروائي في بداية الرواية اقتباسات استهلالية:
• استهلها بإيراد المثل السواحيلي: "المُحب ليس له وازع"،
• ثم وصيّة الحكيم الفولاني شيرنو بكار لتلميذه آمادو همباتي با: "يجب أن يُقاوم الشرُ بقوة الخير والحب، عندما يدمر الحب الشر، يقتله إلى الأبد. أمّا القوة فلا تستطيع أن تدفن الشر إلا بصورة مؤقتة، لأنّ الشر بذرة عنيدة، حالما تُدفن تنمو في السر، وتظهر مرة أخرى وهي أكثر بشاعة"،
 القول المأثور عن سيدنا عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"
• ثم أورد في نهاية الرواية قول كارل ماركس: "في التاريخ، كما في الطبيعة، التعفّن مخبر الحياة"،
وكم تمنيّت لو أن االروائي قد أورد الحديث القدسي:" يقول - صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ).
تجري أحداث الرواية بأسلوب استرجاع الحوادث والوقائع مع إمساك الروائي بالخيط الناظم لها جميعاً ليدير المشاهد بصورة تصاعدية صوب النهاية التي خطط لها، وكان الخيط الناظم لها جميعاً هو توق كل إنسان فردٍ لنيل حريته الشخصية بالنسبة للمسترقين منهم برغم تعدد الشخصيات وتنوع أنواع الأسر والاستعباد الواقع عليها، علاوة على تحرر القبيلة وطرد الشر من أرضها! إن التطلع والتشوف للحريّة الفردية وللجماعة والقبيلة تتدافع وتتشابك وتتداخل مع الانفعالات الذاتية من رغبة في الانتقام وفي الثأر والغضب وحتى السعي لتحقيق مرامٍ ذاتية عند البعض!، وقد تصطدم كل هذه الكثافة الانفعالية مع الحكمة المتراكمة الموروثة والحنكة عند أفراد القبيلة وزعمائها وحكمائها وكبار السن فيها فهم الملاذ والملجأ بحكم الحنكة والتجربة والقائمين على الجانب الروحي فيها، أكان ذلك، كريم معتقدات، أو ديانات ربانية قدمت مع الدخلاء عربا كانوا أم أوربيين.
هذا التنازع والتضاد والتعارض بين الانفعالات الشخصية والحكمة والموضوعية قد يؤدي أحيانا لاشتباكها، وعندما ينتصر الشر الذي في قلب الإنسان أو يجري تغليب الانفعال الذاتي على موروث الحكمة في محاربة الشر في ذات الإنسان والدعوة للخير تنطلق صيحة "ساماهاني" إبداء لأسفٍ أو اعتذار!!!
استخدم المؤلف الاستهزاء والتهكم والسخرية اللاذعة والتصوير الكاريكاتيري لرسم المشاهد أياً كان مسرحها، داخل قصور السلطان أو في السوق أو في داخل الغابة أوفي مجتمع القبيلة، مع استدعاء المسترق ليس فقط من وضع التهميش الذي وضع فيه، ولكن أيضاً من حال الفرز والإقصاء الاجتماعي ووضعه في قلب الحدث واستعادة صوته (مثل استرداد سندس لصوته، وهو الذي خرس وفقد صوته بعد خضوعه لعملية الإخصاء لتأهيله كخادم مرافق للأميرة!! مثله مثل والده والذي أُخصي هو الآخر لإعداده كخادم مرافق للسلطان، ولم يستعد سندس صوته إلا حينما دخل شباب القبيلة [وكان قد رتب لهم ذلك] داخل القصر بعد أن اقتحموا مستودع الأسلحة وأخذوا البنادق والذخيرة استعداداً للثورة! حينها فقط استعاد سندس صوته وتكلم فجأة بعد صدمة استمرت أكثر من عشر سنوات: "أنا سأذهب معكم، وسأخذ الأميرة أيضاً معي، انتظروني لحظة".).
ثم نجد المغنية أوهورو (تعني الحريّة، لاحظ الإيحاء في الاسم) هي الوطنية الوحيدة التي ليس لها ارتباط فعلي بالمؤسسة .... حرة مثل الريح، وطليقة كطيور النورس التي تملأ أفق المحيط بالرفرفة. ولأنها وصفت نفسها وتصرفت كساحرة وابنة للشيطان ما استطاع أحد من النخاسين أو البحارة السكارى أو الشهوانيين الوصول إليها فهي كما الحريّة متمردة وعصيّة على الأسر ولكن عندما طرق كهفها المسجونون بقيادة مطيّع العبد المخصي استقبلتهم ومدت يدها لهم!! وهي التي كانت تردد في السوق دائما ترانيم وتغريدة الثورة والغد الآتي:
"أنا الساحرة ابنة الشيطان
من يقترب مني هلك
جئت من الجحيم وإليه سأعود"
"علينا أن نصبح أمة
شعبا حرا طليقاً كما كنا منذ أن خلقنا الرب،
وهذا طريقٌ طويل، ولكن كل الطرق الطويلة تبدأ بالمشيئة،
بالإصرار....
وعندما تضع رجلك على الدرب فقد وصلت
فالحر سيد نفسه".
فهذا نشيد وطني بامتياز ويدعو للثورة ليكون الفرد سيد نفسه وأن نصبح أمة!!
وبانتقال هذه الجماعة من وضع الفرز الاجتماعي والإقصاء الذي وُضِعتْ فيه إلى بؤرة صُنع الحدث والبطولة اصطحبت معها ثقافتها وأعرافها وتقاليدها وقيّمها، ولهذا حفلت الملحمة بالكثير من الأقوال المأثورة والحكم المقتبسة من واقع حياة المجتمع والقبلية، علاوة على الخرافات والسحر والتعاويذ، فنجد أن زعيم القبيلة والساحر والأعمى يستخدمون الحكمة والأقوال المأثورة في حججهم وحجاجهم مع الشباب ومحاولة تغليب صوت العقل وتجنب الاندفاع والانفعالات مع التذكير بأعراف القبيلة وقيمها ككابحٍ ضابطٍ للتصرف ولردع السلوك الطائش، فمثلاً من أقوال زعيم القرية:
• "إذا عملت عمل الشيطان فستصبح شيطاناً، إنك لا تجفف النهر انتقاماً من تمساح ابتلع والدك".
ومع أنه كان يدير عملية التحضير للثورة بل رتب للهجوم على مخزن السلاح في الجزيرة بترتيب مع (سندس) إلا أنه ضد الاندفاع والانفلات الطائش، فيقول بثقة تامة:
• "أقول لكم سيأتي يوم تنتقمون فيه، آجلاً أو عاجلاً، ولكن سيأتي حتماً، وسيتحمل كل مجرم ثقل ما فعل".
• "والغراب لا يترك عشه لطائر السمبر، لأنه أكبر منه حجما، وأكثر سواداً، وأعلى صوتاً وأطول منقاراً، ولكن يظل يهاجمه إلى أن يرحل".
واجتماعياً عندما اندفعت جموع الأهل تتقدمهم مغنية الحي محرضة للفتك بسندس والأميرة (إنهما روحان شريران ناقصان تافهان مشؤومان) ووجودهما سيجلب اللعنّة على الجميع، خرج الزعيم وخاطبهم بقوله:
• (القاتل يُقتل، وقاتلُ الغريب يُقتل هو واخوه).
فهدأت الجموع وتركت له أمر تدبير التصرف مع هذا الثنائي الملعون! وكيفية إبعادهم! فهذا قائد محنك ومتمرس عينه على هدفه، وبمثل هذه الحكمة نجد أن الجد الأعمى يحاول أن يعيد لحفيده مَواَنا واإمْبُوا (ابن الكلبة) اليتيم لرشده "الشر لا يقاوم بالشر".
من منظور آخر، ينقل الروائي ساكن العبد إلى بطولة الرواية، ويتصور ماضيه، ويضعه داخل المجتمع، ويكشف عن ثقافته المفقودة، ويستعيد صوته.
اختار المؤلف في السرد للشخصيات المحورية أسماء تحمل مدلولات إيحائية، فمثلا اسم السلطان (سليمان بن سليم) (الذي باركه الرب مؤخرا) والذي انتهى به الأمر عارياً ومخصياً بأيدي المسجونين في قبو قصره!! و(لطيفة) هو اسم ابنته الوحيدة اليتيمة المدللة المرحة، والتي تعشق البحر، وها هي تردد بالعربية على الشاطئ بعد أن استهواها المنظر، وكارثة الردى تحلق فوقها، مقطعا آسراً حفظته من فرقة القصر الموسيقية، والمقطع للصوفي الشهير الجنيد:
يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا +++ لَم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا
لي حَبيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشا+++ إِن يَشَأ يَمشي عَلى خَدّي مَشى
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ+++ إِن يَشَأ شِئتُ وَإِن شِئتُ يشأ
والتي تتوق إلى التحرر من والدها المستبد السلطان وزوجها زير النساء، انتهى بها المطاف مغتصبة قتيلة وجسدا مسجى على صخرة قرب الشاطئ، فالنقاء الذي في قلبها جعلها قربانا لتحرير روح أمٍ توفيت بعد أن وطئها السلطان ونزفت حتى الموت هي الأخرى!
ثم نجد(سندس) الصبي الأسير الذي أُخصي ليكون مرافقا الأميرة انتهى به الحال أن صار عشيقها!! و(مطيّع) والده المخصي هو الآخر مرافق السلطان قائدا للمساجين! في القديم كانت العرب تسمى رقيقها بأسماء جميلة مثل (جميل ومطيع وسندس) بينما تختار الأسماء المرعبة والقبيحة والحوشية للأبناء (ليث وصخر وضرغام والقعقاع) لإفزاع الأعداء.
أما مَواَنا واإمْبُوا (ابن الكلبة) اليتيم والذي أرضعته كلبة جده -ومن هنا جاء اسمه-، والذي يضحك كما تنبح الكلاب هَوْ هَوْ، والذي يقول عن نفسه:(إنه يد للإثنين عدالة الرب وظلم الشيطان!!)، فهو يعمل للثورة ويدعو لها ولهذا حثّ (سندس) للانضمام للثوار بل قاد شبابها للاستيلاء على السلاح من قصر الأميرة! ولهذا يقول:" وحينها لن نغفر ولدينا الإرادة، وأنا بالذات لدي من الشر ما يكفي لهزيمتهم. لدي رغبة كبيرة في الانتقام، أمي تأتيني كل يوم في الحلم وتسألني: لماذا أنت نائم؟ يقول أهلنا إن للحكايات أرواحا!" فقد مزج بين الإثنين توقه للحرية والانتقام لأمه طلباً للثأر وجعل ذلك همه ورسالته التي يسعى لتحقيقها.
وقصته مع حلم أمه الذي يطاره ليلاً مماثل للخرافة لدى الشعوب الأخرى، فمن الخرافات العربية قبل الإسلام خرافة (الهامة) وهي تتعلق بقضية الأخذ بالثأر والذي يعتبر أمراً مقدساً: فالعرب الجاهليون كانوا يؤمنون بأن هناك طائراً خرافياً يخرج من هامة القتيل ويظل يحوم حول قبره صائحاً: أسقوني.. أسقوني. يريد سُقيا الدم بالثأر فهو متعطش لدم القاتل. فإذا قُتِل القاتل ارتاحت روح القتيل.
فقد قال ذو الإصبع العدواني في ابن عمه:
"يا عمروُ إن لم تدعْ شتمي ومنقصتي
أضربْك حتى تقول الهامة: أسقوني"
"كما نجد شبيها لها في مسرحية هملت لشكسبير، حيث يظهر له شبح أبيه المقتول قاصّاً عليه سر مقتله بالتواطؤ بين أمه وعمه وطالباً الثأر منهما حتى تنطفئ ناره:
أنا روح أبيك، وقد حُكِم عليّ بأن أطوف
في الليل زمناً وفي النهار،
بأن أتضوّر جوعاً في اللهب
سردتُ على مسامعك قصةً،
أخفُّ لفظة فيها تعذّب نفسك،
وتجمّد دمَك الفتي.
وداعاً يا هملت. لا تنسني!
عبر القرون الداميات "
وهو عند الاخرين من غير أهله" إنه كلب البئر الملعونة. بئر الرب!"، وعند سندس" إنه الشر الذي في قلب الإنسان ".
وقد نطق بحكم وأقوال مأثورة إن كان عند حديثه عن الثورة ومبرراتها وحتمية انتصارها أو عند الحديث عن الانتقام والثأر الشخصي بالنسبة له، فهو يقول: "" لا يوجد دم أرخص من دم ولا روح أرخص من روح".
دمك دم أمي دم أمي دمك
دم أمي دمك دمك دم أمي
وفي المشهد الختامي يصرخ "ساماهاني" طالباً الغفران من جده الحكيم الضرير، ومن سندس لأنه خدعه، ومن قلبه لأنه لن يكون رحيماً، ثم يخاطب الأميرة أن ليس له خيار سوى الدم، إن خلاصي هو خلاصك أنت أيضا!
"أغفر لي يا جدي لقد خدعتك، سامحني يا سندس، لقد خدعتك، سامحني يا قلبي فلن أكون رحيماً، روح امي تنتظر الآن. القتلى لا يغفرون، تقول لي أمي كل يوم في الحلم، أريد أن أرتاح. ولا ترتاح أرواح المقتولين أبداً ما لم يقدم إليهم الدم المستحق. سامحيني أيتها السيدة، ليس لدي خيار آخر، لم يترك أبوك لي خياراً سوى الدم. إن خلاصي هو خلاصك أنت أيضا، ولا يساوي دم أمي سوى دمك. لو كنت شريرة فاسدة لنجوت، فالنقاء الذي في قلبك قدمك قربانا لتحرير روح أمي من بئر ظلم أبيك."
إذا لم تكن هي عدالة الرب فهو ظلم الشيطان، وما أنا سوى يد للاثنين معا: لقد قبلت التكليف؟"
ثم هرول صائحاً بأعلى صوته "ساماهاني"!!
أما سندس العاشق فقد أحنى رأسه على الجسد المسجى، سقطت منه دمعة على وجهها، وهمس في أذنها بصوتٍ مشروخٍ" "ساماهاني "
وختمت الرواية باقتباس قول كارل ماركس "في التاريخ كما في الطبيعة، التعفن مخبر الحياة"!!
****
ختمت الترجمة بهذه الإضافة أو التعقيب:(إن التاريخ المأساوي العميق للاستعمار يشفر تجربة الذات الاستعمارية في اللغة نفسها، ويقع على عاتق الفنان فك رموزها وكشفها. نأمل أن نكون قد قدمنا مساهمة إيجابية في أحد هذه المشاريع من خلال هذه الترجمة).
وتأتي هذه الترجمة للروايّة إلى اللغة الإنجليزية في إطار الجهد المبذول لفتح النوافذ أمام الأدب السوداني ليطل على القراء والقارئات باللغات الأخرى ولمشاركة الآخرين إبداعنا وثقافتنا وتراثنا وتقاليدنا، وأنّا لم نكن عبئاً على الآخرين لا غير.
****

بقلم : عمر محمد الأمين الوادي شعيري
ديسمبر 2024م

oelamin1@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • أجسام غريبة في سماء جازان السعودية.. وفلكية جدة تفسِّر الحدث (صورة)
  • حب مسموم.. رواية تناقش قضية النرجسية في ضوء التطور التكنولوجي
  • تدريبات السيتي الأول ضمن فعاليات اليوم المفتوح للفتيات في أبوظبي
  • بعد 14 عاما.. النابلسي يعود لمسجده الذي طالبه “الأسد” بنسيانه
  • تركي آل الشيخ يعلن إقامة بطولة الصفع ضمن موسم الرياض (شاهد)
  • 2024: احتجاز الجزائر جثة اللاعب أخريف.. الحدث المؤلم
  • بعد عام “صعب”.. رسائل حكومية لطمأنة المصريين بشأن الاقتصاد في 2025
  • “الخارجية” تعرب عن إدانة المملكة حادث الدهس الذي وقع في مدينة نيو أورليانز الأمريكية
  • المنجم الذي تنبأ بانفجار مرفأ بيروت يعود مجدداّ ليتوقع : حماس ستوفق برأس إسرائيل ” ضخم ” وهذا ماسيحدث لليمن ولكل الدول العربية
  • استعراض لترجمة رواية ساماهاني (SAMAHANI) للروائي عبد العزيز بركة ساكن