سودانايل:
2024-10-02@03:52:23 GMT

بؤس القيادة (نموذج ياسر العطا)!

تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
بعد ذهاب البشير غير مأسوف عليه، لم يتوقع اكثر المتشائمين، ان يخلفه من يفوقه كذبا ونفاقا وجهلا واجراما، مجسدا في البرهان. ويبدو ان وجود البشير كشخصية غير مؤهلة وفاسدة واجرامية علي سدة السلطة لمدة ثلاثة عقود، انتج معايير القيادة تطابقه، والمتمثلة في عدم التاهيل والفساد والاجرام كمواصافات للقيادة.

ولهذا السبب يصعب التمييز بين البرهان والكباشي وياسر العطا وحميدتي ... والخ من قيادات الجيش والدعم السريع.
اما من جهة القيم، فتجسدها المداهنة للقيادات العليا، والاستعداد لارتكاب اشنع الفظائع لشراء رضا تلك القيادات. اي كلما كنت اقل كفاءة مهنية واكثر طاعة تنظيمية، كنت الانسب لشغل اعلي المراتب وتسنم اوسم الرتب. وهو ما يجعل مردود هكذا منظومة وطريقة عمل تندرج في مقولة بروف بكري الجاك (التسابق نحو الحضيض) وان ذكرها في سياق مغاير.
وغالبا اصطدام الثورة وحكومتها بهكذا قيادات عسكرية منحرفة، هو ما شكل عقبة امام حكومة الثورة، وعجل باجهاض حلم الثورة في التغيير. وكل ما يلي ذلك مجرد تفاصيل سواء ضعف قحت او طوباوية الجذريين. وبتعبير آخر الاستيلاء علي السلطة بقوة السلاح واجهاض مشروع التحول الديمقراطي وبناء الدولة الحديثة، هو وفاء لثقافة الاستعلاء وقيم التعدي وسلوك الاجرام التي تربي في كنفها العسكر المؤدلجين.
والحال كذلك، صعود حميدتي لم يكن مصادفة بعد ان اتقن اللعبة القذرة، واستفاد من تناقضات قيادة الجيش وجهاز الامن وكسب ثقة دولة الامارات (اسبرطة الصغري كما اطلق احدهم علي طموحاتها العدوانية). ولكن ما لم يكن متوقعا واسهم في تجاوز حميدتي لكل حدود المنطق والمعقول، لدرجة طموحه في ابتلاع الدولة، فمرده عكس العلاقة بينه وبين البشير سابقا والبرهان لاحقا، بعد ان اصبح الجنرالان الخائبان يبحثان عن رضا حميدتي ويتملاقانه، وهو مارفع الاخير ثمنه كثيرا!
بالرجوع للعطا، وكما سبق، الحديث عنه لا يختلف عن اي من اعضاء اللجنة الامنية، وضعفهم البنيوي في تكوين ومواصفات القيادة. ولكن الفارق ان العطا بقدر ما يطمع في شغل مكان البرهان، بقدرما ما يحتاج لشراء رضا البرهان للبقاء ضمن طاقم القيادة. وهذا ما جعله يراوح في هذه المساحة الملتبسة بتصريحاته العنترية، مرة لارضاء البرهان ومرة لارضاء الاسلامويين. وما يثير السخرية او الطموحات السرية، سعيه لارضاء قوي الحرية والتغيير علي عهد حكومتها، قبل ان يزجره البرهان ويزيحه من رئاسة لجنة التميكن، ثم يرجع لتوظيفه لمغازلة ذات قوي الحرية والتغيير لتمرير الانقلاب. بل حتي عندما تنحسر عنه الاضواء فترات طويلة بتدبير من البرهان او حميدتي الله اعلم، يرجع ويكيل المدح المتزلف للبرهان بطريقة مقززة. ولكن الملاحظ كلما انحسرت عنه الاضواء تصدر عنه تصريحات تُزايد لشراء رضا الاسلامويين. وهذه (المرمطة) التي ارتضاها العطا لنفسه، يغذيها احساس بانه اجدر من البرهان، وعليه الصبر وابتلاع المذلة والحفر حتي يحل محله! وهنا يشترك العطا مع بقية القيادات العسكرية، في بناء تصورات خاطئة عن قدراتهم وعن الواقع، وهذا بالضبط سبب الكوارث واعادة تكرارها بطريقة نمطية.
والمهم، اذا كان البرهان باداءه المخجل وفشله في كافة المجالات، شكل وصمة عار للقيادة باصراره علي التمسك بها مهما كان الثمن، وبما في ذلك ضياع البلاد وتقتيل اهلها! فياسر العطا ارتضي ان يكون الصورة الباهتة لهذه القيادة الفاشلة، بل والحرص علي تكرار نموذجها الكارثي (وهو يباري البرهان من كوشة لكوشة).
وما يلاحظ في قيادة ياسر العطا وبالطبع غيره من القيادت العسكرية والمليشياوية، انها تتصرف في البلاد ومصير شعبها كحق مطلق. فهي تتخذ القرارات المصيرية من غير مرجعية دستورية، وترتكب كل الاخطاء من غير محاسبة او مجرد مراجعة، ودونكم الحرب الدائرة الآن وطريقة ادارتها، والتي لا يعلم خفاياها احد (سوي المتقاتلين بالطبع)!
المهم، هؤلاء القاد العسكريون الذين افرزتهم الانقاذ، لا يكتفون بفشلهم العسكري الذي يفترض انه اختصاصهم، ولكنهم ادمنوا التطاول علي المدنيين وتجريم العمل السياسي والتدخل في شئون السلطة، وكل ذلك من غير دراية، لتنتج عن ذلك حالة التردي المطردة في كافة المجالات.
وحتي لا نلقي الكلام علي عواهنه، ولنتخذ نموذج ياسر العطا. فهذا الياسر الذي يتلبس لبوس كبار الجنرالات، وبحسب رواية قادة الحرية والتغيير، ومن خلال سعيهم المسؤول لنزع فتيل الازمة بين البرهان وحميدتي قبل اندلاع الحرب، اخبرهم ياسر بقدرة الجيش علي حسم المعركة اذا نشبت في ظرف بضع ساعات! وما يؤكد صحة رواية قادة الحرية والتغيير، ان ذات الجنرال ظل يظهر في فديوهات بعد الحرب، متحدثا عن تنظيف ام درمان واقتراب الحسم العسكري وطرد مرتزقة الدعم السريع الي خارج الديار! ومؤكد تصريحات ومواقف هذا النموذج النموذجي يقول الكثير عن حقيقة هؤلاء الجنرالات المزيفيين الذين ابتلينا بهم!
فمن جهة عسكرية، يدل علي عدم علم كبار الجنرالات لا بحقيقة قوة جيشهم ومدي استعداده لخوض المعركة، ولا قوة مليشا الدعم السريع ومدي جاهيزتها للمعركة! فهل بعد ذلك ننتظر منهم حسم للمعركة؟ والسؤال اذا كان لياسر عطا استراتيجية جديدة لحسم المعركة كما يبشرنا بها، هل من الحصافة كشفها للعدو اعلاميا؟ ام هي نوع من البروباغندا المكشوفة التي تنم عن غباء فطري وامتهان للكذب؟
ومن جانب القياة، التي يفترض ان تتحلي بالرؤية الشاملة وتفضيل الخيارات المناسبة متوخية مراعاة المصلحة العامة، والاهم مسؤولية تحمل الاخطاء والمكاشفة والصراحة. إلا اننا نجد نموذج قيادة قائدنا الهمام (هذا الياسر) فهي التصريح ذات اليمين وذات الشمال من غير اسس موضوعية، وتقديم الوعود المجانية تلو الوعود، ومن دون توضيح لماذا لم تتحق تلك الوعود، قبل ان يلحقها بوعود جديدة؟ والكارثة ان من يدفع ثمن عدم تحقيقها هم ملايين المواطنين المساكين، وعلي الاخص من هم في قلب المعارك؟ والسؤال الاهم في هذه الحرب المجنونة، ما هو معيار ياسر وغيره من كبار الجنرالات للانتصار في المعارك، والجيش يواصل خسران المواقع وسقوط الحاميات ويصر علي استراتيجية بقاءه في مقراته والدنيا تحترق من حوله، ويماطل في الذهاب للتفاوض بجدية؟ وطالما يمتلك الجيش سلاح طيران فعَّال، لماذا تتحرك مليشيا الدعم السريع بكل حرية في دارفور وهي منطقة شاسعة وشبه مكشوفة حتي سقطت جل الحاميات؟ والسؤال المؤلم، الا يوجد في قاموس هذه القيادات الاعتراف بالخطأ والفشل وقبول المحاسبة والاقالة او تقديم الاستقالة؟ واذا لم يحدث ذلك وعواقب الفشل والاخطاء تغرق الابرياء في بحور الدماء والوطن في لجة الحرب الاهلية والتذرر والضياع، فمتي يحدث ذلك؟ وهل الطمع في السلطة يبرر دمار البلاد وتشريد اهلها؟ والحال كذلك ما قيمة تلك السلطة من غير دولة وشعب؟ المهم سلسلة الاسئلة ذات الطابع العسكري لا تنتهي في هذه الحرب الغامضة؟ وصحيح لا نتحدث من موقع معرفة عسكرية، وقد تكون خاطئة او في غير زمانها ومكانها، ولكن ما سلف من اسئلة وغيرها، اعتقد انها تؤرق كل من تشغله هذه الحرب اللعينة، بكلفتها الباهظة انسانيا وعمرانيا ومستقبليا.
اما تصريحات ياسر العطا الاخيرة التي يكيل فيها التهم لدول الجوار والامارات بصفة خاصة وكانه اكتشف فجاة معلومات مجهولة؟ فهي تندرج في خانة القياد العسكرية، التي تتوهم مهارة القيادة في شحن الجنود وشراء رضا البسطاء والتنفيس عن الغضب، كما كان يفعل قائدهم البشير (رب العوارة)، الذي اشتهر بمجاراة اجواء الحماسة واطلاق العنان لرغباته المكبوتة (التصريحات الرعناء والتهديدات الجوفاء، غض النظر عن عواقبها الكارثية، وللمفارقة بعضها طاله شخصيا واحاله لقائد منبوذ، ولكنه كعناد العسكريين كل ذلك لم يردعه). في حين ان المطلوب ليس ذكر المعلومة بانفعال مراهقين، ولكن كيفية التعامل معها، والحد من خطورة تاثيرها في سير المعارك. مع العلم ان الدعم الامارتي غير سير المعارك من شدة كثافته وقوة نفوذ هذه الدولة الشريرة، وهو ما يتطلب مرونة في التعاطي، طالما هنالك عجز في كبح تاثيرها ونفوذها.
وبتعبير آخر، القيادة العسكرية المتضخمة مكتفية بذاتها، وتاليا لا تضع اعتبار للقنوات الدبلوماسية وتوازن القوي والمصلحة العامة! ولكن ذلك لا يمنعها من اراقة ماء وجهها وبلدها خلف الكواليس وتزلف اقوياء الخارج ليرضو عنهم (هنالك حديث يدور عن زيارة سرية قام بها الكباشي للامارات، اي ما يهم القيادات مصلحتها وليس ملصحة البلاد).
اما من الوجهة السياسية، فقد اتاحت الثورة وبسالة الثوار لكبار الجنرالات ومن ضمنهم ياسر العطا فرصة تاريخية، تحررهم من اخطاءهم وتكفر جرائمهم وتخلد اسماءهم، فقط لو انحازو بصدق للثورة، وحاربو الدولة العميقة، وتخلصو بحكمة من كارثة مليشيا الدعم السريع، وتصدوا بحزم لاطماع الدول الخارجية. وبكلمة واحدة اعلاء المصلحة العامة (ترك ما للمدنيين للمدنيين) وهزيمة المطامح والاطماع الخاصة (تجاوز الاختصاص والتعدي علي الحق العام وحقوق الغير)، وهو ما يميز القيادة الحقة في كافة المجالات. ولكن ما حدث هو عكس ذلك تماما، لا لشئ إلا لانها قيادة مزورة وغير مؤهلة ورهينة تاريخ اجرامي وعلاقات مشبوهة داخليا وخارجيا. وبسبب فقرها المعرفي والقيادي والقيمي كانت حساباتها خاطئة او مصلحية ضيقة، وهي تراهن علي الاسلاميين والمليشيات والمصريين والاماراتيين والاسرائليين (كل اعداء الثورة)، والمحصلة هذه الحرب القذرة، التي لم تُفقدهم السلطة فحسب، ولكن البلاد برمتها، بدلالة تركهم العاصمة مركز السلطة ورموز السلطات وهروبهم الي بورتسودان كاقصي مكان آمن، وممارسة سلطة شكلية يعزَّون بها انفسهم.
والحال ان القادة العسكريين المزيفون كياسر العطا لا يخوضون الحروب كالابطال، إلا اذا كانت حروب كلامية، ولا يتفاوضون كالشجعان من اجل اوطانهم ومواطنيهم. كما ان معاركهم الاصلية ليست في ساحة المعارك، ولكنها حرب مغالطات داخلية لحقيقة خواءهم وعدم تاهيلهم واجرامهم وفسادهم واصرارهم علي الاستيلاء علي السلطة بطريقة غير شرعية. وعموما لا يمكن للقادة الحقيقيين ان يكونوا (شُخشيخة) في يد غيرهم، فهكذا مهانة تليق بالقادة المزيفين.
ولكن ما يثير الحزن والاسي ان كل هذه الكوارث التي حلت بالشعب السوداني ودولته لم تعظ قادة العسكر، وما زال مسلسل فصولها يتوالي من غير افق للحل السلمي علي ايديهم. والمقصود انه ومن اجل اطماع صغيرة، كحرصهم علي سلطة لا يستحقونها، اُفسح المجال للتفريط في الامن القومي، لتستغله مليشيا همجية تنشر الانتهاكات والخراب اينما حلت. وكل ذلك بدل مراجعة النفس والاخطاء والاعتراف بحقيقة الواقع والاوضاع العسكرية، وإدراك ما يمكن ادراكه (طالما يؤمنون بالانسحابات) من بلاد تتسرب من بين ايديهم وشعب يتعرض للهلاك يوميا. وهو ما لن يتم إلا بالتحرر من عبء الاطماع غير الشرعية، واعلان ايقاف الحرب من قبل الجيش، وقبول التفاوض غير المشروط، والخروج نهائيا من السلطة والاقتصاد والاعتذار عن كل الانقلابات السابقة. وليس هنالك تاكيد علي ان هكذا قرارات ليست مناورة، من استقالة طاقم قيادة الجيش، فهي بكل المقاييس ليس اهم من الدولة وشعبها. وهكذا توضع مليشيا الدعم السريع وقادتها امام الامر الواقع وكشف نواياها للجميع، وعندها اذا لم ترعوِ تصبح الحرب حرب وجود ضد هذه المليشيات الهمجية.
وصحيح لم نحظَ كغيرنا من الشعوب المحظوظة بقادة عظام، يقودون بلادهم لمرافئ التنمية والتطور. وحتي لو صدف توافر امثال هذه العملة النادرة من القادة، لن تسمح لها الانقلابات العسكرية بالتواجد، ناهيك عن افساح المجال لانجازاتها. ولكن دخول نظام الانقاذ الاسلاموي علي خط الانقلابات العسكرية، انحط بكل شئ وعلي وجه الخصوص شريحة القيادات، لنصل مرحلة ان يتولي زمام الامور القتلة واللصوص والرباطة والجهلة والانتهازية من كل شكل ولون. اما نتاج هذا التردي، فهو اشعال هذه الحرب الكارثية والعجز عن التحكم في دنمياتها ومآلاتها.
واخيرا
الفيك اتعرفت يا مجلس الامن وانت تخلي مسؤلياتك لذات الزول المتسبب في المصائب، وليس هنالك اسوا حظا ممن يراهن عليك. وصحيح كما يقول ستيفان زفايغ (الفقير (ونضيف الضعيف من دول وافراد) في هذا العالم هو الضحية دائما). ويبدو ان المؤامرة علي البلاد من الضخامة بمكان بحيث يشارك فيها الجميع ضد الشعب وتطلعاته. ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحریة والتغییر یاسر العطا هذه الحرب ولکن ما وهو ما من غیر

إقرأ أيضاً:

جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة

أُنجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج.

يوثق التحقيق من خلال شهادات وبيانات صحفيين وصحفيات في غزة الأثر النفسي القاسي، الذي تُخلفه تغطية الحرب، في ظل غياب الدعم النفسي اللازم، المُقدم لهم من المؤسسات الإعلامية.

لم يتمكن يوسف فارس من طرد رائحة احتراق الجثث العالقة في ذهنه؛ حتى إن مشهداً اعتيادياً لشواء السمك أثناء عودته من العمل، يذكره بالقصف الإسرائيلي لمدرسة « التابعين »، الذي راح ضحيته نحو مئة شخص. « لم أعد أحتمل رائحة الشواء، بعد أن شممت رائحة الجثث والأشلاء المحترقة »، يقول يوسف فارس (37 عاماً)، الصحفي في شمال غزة.

بعد مضيّ عشرة أشهر من الحرب على قطاع غزة، وعبر حسابه على فيسبوك، كتب أنس الشريف، مراسل الجزيرة شمال القطاع: « أقضي ليالي بلا نوم، كأنني أبحث عن ملاذ لا يمكن الوصول إليه، تتكرر في ذهني صور المجازر في غزة… ربما تكمن الراحة في الموت؟! ».

المشاعر ذاتها وربما هواجس أخرى، دونتها دعاء روقة -عبر صفحتها على فيسبوك- بعد نجاتها للمرة الثالثة من غارة إسرائيلية استهدفت ساحة مستشفى شهداء الأقصى، وأدت إلى مقتل خمسة أشخاص: « هل سأموت حرقاً أم بشظية صاروخ؟! هذا السؤال أصبح يراودني ويقلقني … لا أريد أن يفتفتني الصاروخ لأشلاء، أُريد جسدي كاملاً حين مماتي ».

تلخص كلمات فارس والشريف وأمنيات روقة حال عديد الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، ممن عاشوا الحرب الأخيرة وشاركوا في تغطيتها.

في السابع من أكتوبر 2023، استيقظ الغزيون على أصوات الانفجارات، كانت الصواريخ بحسب وصف أحد الصحفيين تملأ سماء غزة. سارع الصحفيون لتغطية الحرب التي لم يتوقع أيّ منهم حينها أن يطول أمدها إلى هذا الحد. رغم أن القطاع شهد عدة حروب، لكنّ أطولها لم تتجاوز واحداً وخمسين يوماً. وجد الصحفيون أنفسهم أمام حرب لا تبقي ولا تذر؛ فالنجاة منها قدر قد لا يصيب كثيرين.

« المشاهد التي يراها تعلق في ذاكرته، الأصوات التي يسمعها، صافرات الإنذار والانفجارات وصراخ الناس الذين يعانون… كل ذلك مقلق جداً ويستنزف الإنسان، لا يمكن أن يمر بذلك لفترات طويلة من دون أن يترك أثراً »، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد.

لا يوثق الصحفيون والصحفيات أحداث الحرب فحسب، بل يعيشون تفاصيلها كل يوم. يقول يوسف فارس، الصحفي في شمال غزة: « عندما نتحدث مع أفراد فقدوا عائلاتهم، نشعر بدموعهم على خدودنا، وبكل مشاعرهم لأننا عشنا ما يعيشونه ».

 

يوسف فارس من داخل مدرسة التابعين في العاشر غشت بعد قصفها بطيران الجيش الإسرائيلي

في بث مباشر، وبعد تلقيه خبر مقتل زميله محمد أبو حطب رفقة أحد عشر فرداً من عائلته، قال الصحفي سلمان البشير: « نحن ضحايا على الهواء مباشرة، مع فرق التوقيت ». ورغم كل هذه الضغوط والتهديدات، يستمر الصحفيون في التغطية.

« لن يكلف أحد نفسه بسؤالنا إن كنا بخير »

 

يفترش الصحفي مصطفى جعرور (34 عاماً) خيمة نُصبت في ساحة مستشفى شهداء الأقصى، يتقاسمها مع خمسة صحفيين آخرين. انتهى به المطاف في هذه الخيمة بعد شهرين من الحرب، قضاها متنقلاً بين مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ومستشفى ناصر في خان يونس.

يقول جعرور، الذي يعمل لصالح مؤسسة محلية: « تحرص المؤسسة على تذكيرك بالسلامة الجسدية والابتعاد عن المخاطر… من هذه الناحية لا يوجد تقصير من المؤسسة، لكن المؤسسات عامة لا تسأل الصحفي إن كان بخير أم لا؟! بل لا يملكون الوقت حتى لفعل ذلك ». مضيفاً أن ما يهم المؤسسات نهاية المطاف، هو استلام المادة الصحفية. ورغم أنه « ناجٍ من أربع حروب سابقة »، فإن هذه الحرب هي الأصعب، وفق تعبيره.

في اليوم الثالث من الحرب، فقد جعرور ثلاثة من زملائه المقربين في قصف إسرائيلي، استهدف عمارة سكنية، وفق ما وثّقت أريج في تحقيق سابق لها. يظهر جعرور في هذا الفيديو منهاراً باكياً، لحظة تأكيد خبر مقتلهم.

 

حتى ساحة مستشفى شهداء الأقصى، تعرضت للقصف الإسرائيلي عدة مرات، منها أواخر مارس، والأخير مطلع غشت. يصف جعرور حاله قائلاً: « أعجز عن النوم أحياناً، وحين تقع مثل هذه الأحداث لن يكون النوم ممكناً، بات الأمر مخيفاً للغاية ».

أهوال كثيرة يعيشها الصحفي مصطفى جعرور، كسائر سكان القطاع. دُمّر منزله، وفقد عدداً من زملائه، ونزحت عائلته عدة مرات، لتستقر أخيراً في منطقة القرارة بخان يونس؛ فيصعب الوصول إليهم. لكنّ المشهد الذي أثر فيه نفسياً وبات جزءاً من « روتينه » الصباحي، هو اصطفاف جثث القتلى في كل ممرات المستشفى.

 

خيمة الصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى (المصدر: مصطفى جعرور)

يشارك جعرور تفاصيل ما يمر به مع زملائه الصحفيين الذين يتقاسم معهم الخيمة. أما المراسل الحربي عطية درويش (36 عاماً)، يفضّل أن يكون وحيداً، ويحتفظ بالكثير من التفاصيل المؤلمة لنفسه.

يذكر درويش، الذي سبق وتعرض لإصابة أثناء إحدى التغطيات قبل بضع سنوات، أن شعور الخوف والقلق كان يلازمه بداية الحرب؛ فكان أكثر ما يخشاه أن يتلقى خبر قصف محل سكن عائلته، أو أصدقائه. أما الآن فقد تبدّل هذا الخوف، يقول درويش: « ذهب هذا الخوف! لم أعد أشعر به، حتى إنني أصبحت عاجزاً عن البكاء ».

 

عطية درويش

وعن دعم المؤسسات الإعلامية، يشير درويش -الذي فقد شقيقه وابنة أخته، إلى جانب ثمانية أشخاص من عائلته عقب قصف منزلهم- إلى أن المؤسسات الصحفية العربية والدولية التي يعمل لديها؛ لا تسأل عن حالته النفسية في « الوقت الراهن »، وإنما يسألون فقط عن احتياجاته في العمل.

الصحفيان مصطفى جعرور وعطية درويش

ما يقوله درويش يتطابق مع شهادة الصحفي محمد إسماعيل دحروج، الذي أكد أنه حين تعرض لإصابة، تواصلت معه المؤسسة التي يعمل لديها، وحرصت على تقديم الدعم له. لكنّ المفارقة حين حوصروا في مستشفى الشفاء لأيام، لم تسأله أيّ مؤسسة عن حاله؛ بمعنى أن الصحفي يلقى اهتماماً من المؤسسات حين يكون الجرح ظاهراً، أما تلك الجراح الخفية فلا أحد يلتفت إليها.

من جهة أخرى، يقول الصحفي عبد الله عبيد، إن ما يحفزه للاستمرار في العمل هو تواصل مديره للاطمئنان على صحته؛ لكن في الوقت ذاته فإن المؤسسة لا تُقدّم أيّ دعم مادي للصحة النفسية. وأكد عبيد أنه مر بأربع حروب سابقة، لم يتلقَ خلالها أيّ دعم من أيّ مؤسسة.

 

محمد دحروج

على حافة الانهيار

تمكنت أريج من جمع بيانات مئة و25 صحفياً/ة في قطاع غزة؛ أكد 105 منهم/ن حاجتهم الماسة إلى الحديث حول ما شهدوه من أحداث خلال الحرب الأخيرة على غزة.

أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الصحفيين/ات (64 صحفياً/ة) يشعرون بالخوف والتوتر أثناء تغطيتهم للأحداث، مقابل 72 صحفياً/ة يتعمدون الانشغال هرباً من مشاعرهم.

كما أوضح الاستطلاع أن 69 صحفياً/ة يرون أن علاقاتهم الاجتماعية تأثرت سلباً بتغطية الأحداث، كما أن 77 منهم أكدوا مرورهم بتقلبات مزاجية حادة. وتشير الأرقام إلى أن 75.2 بالمئة من الصحفيين/ات لا تفارقهم الصور والأحداث التي شهدوها حتى بعد انتهاء التغطية.

يجد فارس في العمل لأكثر من 16 ساعة يومياً، مخرجاً للهروب من ضغوط الحرب النفسية. يضيف قائلاً: « لا يكون العمل الصحفي نعمة لصاحبه سوى في الحروب، فالذي يعمل يكون لديه مسار مقنع للهروب من تفاصيل واقعه وهواجس مستقبله ». حاول فارس أن يتوقف عن التغطية ليوم واحد؛ لكنّه لم ينجح.

يتساءل فارس، الذي لم يتوقف يوماً منذ بداية الحرب عن نشر قصص توثق معاناة الغزيين شمال القطاع: « هل يمكن لإنسان سوي نفسياً أن يكتب ثمانين قطعة صحفية، ويقدم أربعين تقريراً وجولة مصورة، وخمساً وعشرين قصة تلفزيونية، لصالح أكبر خمس مؤسسات إعلامية عربية خلال شهر واحد… لا بل ويستمر في روتين كهذا لستة أشهر؟ ».

 

تصوير محمد بعلوشة

أما عن الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي يعمل متعاوناً معها، فيؤكد الصحفي يوسف فارس أن علاقته بهذه المؤسسات اتخذت أبعاداً أكثر إنسانية خلال هذه الحرب، وتخطت كونها علاقة عمل؛ لأنها تتواصل معه بشكل يومي؛ للاطمئنان على حاله وحال أسرته. ويشير فارس إلى أنه ترك ارتباطات مع مؤسسات دولية -رغم مردودها المادي الأعلى- لأنها كانت دون المستوى الإنساني، على حد تعبيره.

تشير الأرقام إلى أن 53 صحفياً/ة من المستطلعة آراؤهم، لم يحصلوا على يوم إجازة واحد منذ الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. حتى أولئك الذين توقفوا عن العمل أياماً معدودات بسبب نزوحهم، أو اعتقالهم، أو حتى إصابتهم، فقد عادوا للعمل مباشرة.

تقول خبيرة الأمن والسلامة الجسدية، عبير السعدي، إن الخطورة تكمن في انخراط بعض المراسلين الحربيين المحليين عاطفياً في التغطيات بمناطق النزاع؛ لأن حينها يختفي حس المراسل للأمن والسلامة الجسدية، مشددة على ضرورة أن يخلق الصحفي مسافة بينه وبين الحدث.

وتضيف السعدي أن المراسل الحربي -على سبيل المثال- يُبقي نفسه منشغلاً هرباً من التفكير، كي لا يتعرض لصدمة نفسية أو « تروما ». وتؤكد ضرورة خضوع الصحفي الحربي لجلسات دعم نفسي، بعد شعوره « بالأمان النسبي »؛ سواء بوقف إطلاق النار أو نزوحه إلى مكان أكثر أماناً، لأنها مرحلة استيعاب ما مر به.

ثنائية مقومات الحياة والأمن

كشف الاستطلاع أيضاً أن 93 من أصل 125مستجيباً فقدوا أفراداً من عائلاتهم، وأن 46 صحفياً/ة تعرضوا للإصابة، في حين واجه أغلب الصحفيين خطر الموت (117 صحفياً/ة).

وكانت أريج قد كشفت في تحقيق سابق أن 72 من أصل 213 صحفياً/ة فقدوا أفراداً من عائلاتهم، من بينهم 49 مستجيباً فقدوا أقارب من الدرجة الأولى، في حين أن 11 شخصاً منهم فقدوا واحداً أو أكثر من أطفالهم.

كما أظهر الاستطلاع، أن كل الصحفيين المُستطلَعين تعرضوا للنزوح؛ 88 صحفياً/ة تعرضوا للنزوح خمس مرات على الأقل، علاوة على ذلك انفصل 81 منهم عن عائلاتهم (64 في المئة).

وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة « فلسطينيات »، وهي مؤسسة أهلية إعلامية عملت على تقديم الدعم النفسي للصحفيين والصحفيات منذ عام 2014، لا تُقلّل من حاجة الصحفيين/ات إلى الدعم النفسي، لكنّها ترى أن هناك حاجات أساسية لكل الفلسطينيين في القطاع، منها تأمين مياه نظيفة، ومكان يلجؤون إليه لحمايتهم وذويهم. تضيف قائلة: « الصحفيون ليسوا منفصلين عن سياقهم وسياق عائلاتهم… بالأول بدي أعيش، أكون قادر على الحياة ».

في السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، أهمية الحاجات الأساسية للإنسان من الطعام، والراحة، والاستقرار، كي يتمكن من أداء مهامه.

يوسف فارس في منزل العائلة بعد أن دُمّر جزء كبير منه في الحرب الإسرائيلية

 

الدعم النفسي خارج حساب المؤسسات

يرى خبراء في الصحة النفسية ضرورة تقديم الدعم النفسي للصحفيين قبل التغطية، كما يتمّ تزويدهم بالدروع الواقية لسلامتهم الجسدية، لا سيّما في مناطق الصراع، إضافة لجلسات التفريغ النفسي، والحديث عن المهام بعد انتهائها.

وفي الاستطلاع الذي أجريناه خلال هذا التحقيق، أكد 57 صحفياً/ة من أصل 125 صحفياً/ة (45.6 في المئة) أن المؤسسات التي يعملون لديها تقوم بالاطمئنان عليهم طوال الوقت.

من جهة أخرى يرى 51 صحفياً/ة أن المؤسسات التي يعملون لديها لا تقدم الدعم النفسي والإرشادات اللازمة للحفاظ على صحتهم النفسية. أما بعد التغطية، فيرى 33 صحفياً/ة فقط (26.4 في المئة) أن مؤسساتهم تطلب الحصول على تقرير مختصر عمّا واجهوه في الميدان.

إلى جانب ذلك، يعمل 83 صحفياً/ة على الأقل لساعات طويلة، إضافة لما ذكر سابقاً من العمل المتواصل من دون الحصول على راحة.

وأخيراً، كشف الاستطلاع أن 25 صحفياً/ة (20 في المئة) فقط يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.

ما يزيد الأمر تعقيداً للصحفيين والصحفيات في غزة، أن غالبية المؤسسات التي يعملون لديها غير قادرة على مساعدتهم في مغادرة مكان التغطية بالقطاع.

مسألة أخلاقية لا قانونية

من خلال تجربته، يشير الصحفي يوسف فارس إلى أن المؤسسات التي يعمل معها بنظام « القطعة » ملتزمة تجاهه بقدر حجم العمل بينهما، وهو عادة يكون أقل من المقدم للموظفين بدوام كلي لدى المؤسسة. لافتاً إلى أنها « غير مُلزمة قانونياً »، وفقاً لطبيعة التعاقد.

في المقابل، أكد فارس أن المؤسسات التي يعمل معها لفترات طويلة قبل بدء الحرب، تلتزم بجملة من الحقوق التي تشمل التعويض وبدل المخاطرة والإجازات، وتغطية تكاليف الإنتاج، وغيرها من الالتزامات؛ على الرغم من طبيعة التعاقد نفسه (بنظام القطعة أيضاً).

وتعلق الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، بأن هذا هو الاختبار الحقيقي لغرف الأخبار اليوم، مضيفة: « زملاؤنا في الميدان الذين يعملون بنظام القطعة، ويشكلون أهمية بالغة لعملنا، ربما لا يتمتعون بمظلة الأمان أو الموارد ذاتها؛ لكنّها تبقى مسألة أخلاقية قبل كل شيء ».

في الاستطلاع الذي أجريناه خلال التحقيق، تبين أن أكثر من نصف الصحفيين المشمولين في الاستبيان (74 صحفياً/ة) يعملون بشكل مستقل. وأكد نحو نصف الصحفيين/ات (واحد وستون صحفياً/ة) عدم تساوي الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحفيين/ات المستقلين، مقارنة بالدعم المقدم للعاملين لديها بدوام كلي.

تقدر وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات، عدد الصحفيين/ات المستقلين/ات بسبعين في المئة في قطاع غزة. وتشير في حديثها إلى أن هناك مؤسسات دولية وعربية تتعاقد مع المراسلين لديها بعقود « فري لانس » ولسنوات طويلة؛ ما يعفيها من الالتزامات القانونية تجاهم. وتضيف قائلة: « أنا لا أتحدث عن مؤسسات محلية تعاني أساساً من قبل ما يحدث الآن من إبادة… أتحدث عما تقوم به بعض المؤسسات الدولية والعربية مستغلة حاجة الصحفيين للعمل ».

ماذا عن دور النقابة؟

تقول شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمتحدثة باسم النقابة إن الصحفيين والصحفيات في غزة يعانون جميعا من « تروما »، مضيفة: « في مكان مثل فلسطين؛ حيث يزداد القتل والاعتقال والإصابة، تصبح السلامة الجسدية أولوية لنا كنقابة… لكنّ يظل موضوع الصحة النفسية أيضاً غاية في الأهمية ».

وتشير إلى أن النقابة قدمت في الحرب الأخيرة على القطاع مساعدات غذائية، ومعدات السلامة الجسدية للصحفيين، وغيرها من المساعدات الطارئة كالخيام، مؤكدة تواصل النقابة يومياً مع الصحفيين والصحفيات في غزة.

وتؤكد شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن الجانب المادي المتاح للنقابة، يُقيد حجم المساعدات المُقدمة للصحفيين: « نحن ملزمون بكل الصحفيين/ات، لكنّنا لا نستطيع أن نوفر الدعم لهذا العدد الهائل من الصحفيين؛ ننهي تقديم الدعم لقائمة، لننتقل بعدها لقائمة أخرى ».

تقول مديرة فلسطينيات، وفاء عبد الرحمن، إن المؤسسة عملت في السابق على تقديم الدعم النفسي من خلال ثلاثة أشكال: جلسات التفريغ النفسي الجماعية، و »الخلوة » التي تتضمن التفريغ والترفيه؛ يبتعد خلالها الصحفي أو الصحفية لبضعة أيام عن عمله، وينفصل تماماً عن ضغوط العمل، وأخيراً الجلسات الفردية مع اختصاصي نفسي.

وترى مديرة مؤسسة فلسطينيات أن جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيرة إلى أن الصحفي لن يقطع تغطيته لساعة أو اثنتين ليجلس داخل حدود خيمته ويشارك في جلسة تفريغ نفسي.

وبالحديث عن دور المؤسسات التي يعمل بها الصحفيون، تقول المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إن هذه المؤسسات لا تعدّ الصحة النفسية أولوية لها، إلا حين تُفرض عليها من قبل مؤسسات أخرى، ضمن برامج تدريبية، أو بأيّ وسائل دعم أخرى.

تصوير محمد بعلوشة

 

يرى خبراء في الصحة النفسية ضرورة تقديم الدعم النفسي للصحفيين قبل التغطية، كما يتمّ تزويدهم بالدروع الواقية لسلامتهم الجسدية، لا سيّما في مناطق الصراع، إضافة لجلسات التفريغ النفسي، والحديث عن المهام بعد انتهائها.

وفي الاستطلاع الذي أجريناه خلال هذا التحقيق، أكد 57 صحفياً/ة من أصل 125 صحفياً/ة (45.6 في المئة) أن المؤسسات التي يعملون لديها تقوم بالاطمئنان عليهم طوال الوقت.

من جهة أخرى يرى 51 صحفياً/ة أن المؤسسات التي يعملون لديها لا تقدم الدعم النفسي والإرشادات اللازمة للحفاظ على صحتهم النفسية. أما بعد التغطية، فيرى 33 صحفياً/ة فقط (26.4 في المئة) أن مؤسساتهم تطلب الحصول على تقرير مختصر عمّا واجهوه في الميدان.

إلى جانب ذلك، يعمل 83 صحفياً/ة على الأقل لساعات طويلة، إضافة لما ذكر سابقاً من العمل المتواصل من دون الحصول على راحة.

وأخيراً، كشف الاستطلاع أن 25 صحفياً/ة (20 في المئة) فقط يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.

ما يزيد الأمر تعقيداً للصحفيين والصحفيات في غزة، أن غالبية المؤسسات التي يعملون لديها غير قادرة على مساعدتهم في مغادرة مكان التغطية بالقطاع.

مسألة أخلاقية لا قانونية

من خلال تجربته، يشير الصحفي يوسف فارس إلى أن المؤسسات التي يعمل معها بنظام « القطعة » ملتزمة تجاهه بقدر حجم العمل بينهما، وهو عادة يكون أقل من المقدم للموظفين بدوام كلي لدى المؤسسة. لافتاً إلى أنها « غير مُلزمة قانونياً »، وفقاً لطبيعة التعاقد.

في المقابل، أكد فارس أن المؤسسات التي يعمل معها لفترات طويلة قبل بدء الحرب، تلتزم بجملة من الحقوق التي تشمل التعويض وبدل المخاطرة والإجازات، وتغطية تكاليف الإنتاج، وغيرها من الالتزامات؛ على الرغم من طبيعة التعاقد نفسه (بنظام القطعة أيضاً).

وتعلق الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، بأن هذا هو الاختبار الحقيقي لغرف الأخبار اليوم، مضيفة: « زملاؤنا في الميدان الذين يعملون بنظام القطعة، ويشكلون أهمية بالغة لعملنا، ربما لا يتمتعون بمظلة الأمان أو الموارد ذاتها؛ لكنّها تبقى مسألة أخلاقية قبل كل شيء ».

في الاستطلاع الذي أجريناه خلال التحقيق، تبين أن أكثر من نصف الصحفيين المشمولين في الاستبيان (74 صحفياً/ة) يعملون بشكل مستقل. وأكد نحو نصف الصحفيين/ات (واحد وستون صحفياً/ة) عدم تساوي الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحفيين/ات المستقلين، مقارنة بالدعم المقدم للعاملين لديها بدوام كلي.

تقدر وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات، عدد الصحفيين/ات المستقلين/ات بسبعين في المئة في قطاع غزة. وتشير في حديثها إلى أن هناك مؤسسات دولية وعربية تتعاقد مع المراسلين لديها بعقود « فري لانس » ولسنوات طويلة؛ ما يعفيها من الالتزامات القانونية تجاهم. وتضيف قائلة: « أنا لا أتحدث عن مؤسسات محلية تعاني أساساً من قبل ما يحدث الآن من إبادة… أتحدث عما تقوم به بعض المؤسسات الدولية والعربية مستغلة حاجة الصحفيين للعمل ».

ماذا عن دور النقابة؟

تقول شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمتحدثة باسم النقابة إن الصحفيين والصحفيات في غزة يعانون جميعا من « تروما »، مضيفة: « في مكان مثل فلسطين؛ حيث يزداد القتل والاعتقال والإصابة، تصبح السلامة الجسدية أولوية لنا كنقابة… لكنّ يظل موضوع الصحة النفسية أيضاً غاية في الأهمية ».

وتشير إلى أن النقابة قدمت في الحرب الأخيرة على القطاع مساعدات غذائية، ومعدات السلامة الجسدية للصحفيين، وغيرها من المساعدات الطارئة كالخيام، مؤكدة تواصل النقابة يومياً مع الصحفيين والصحفيات في غزة.

وتؤكد شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن الجانب المادي المتاح للنقابة، يُقيد حجم المساعدات المُقدمة للصحفيين: « نحن ملزمون بكل الصحفيين/ات، لكنّنا لا نستطيع أن نوفر الدعم لهذا العدد الهائل من الصحفيين؛ ننهي تقديم الدعم لقائمة، لننتقل بعدها لقائمة أخرى ».

تقول مديرة فلسطينيات، وفاء عبد الرحمن، إن المؤسسة عملت في السابق على تقديم الدعم النفسي من خلال ثلاثة أشكال: جلسات التفريغ النفسي الجماعية، و »الخلوة » التي تتضمن التفريغ والترفيه؛ يبتعد خلالها الصحفي أو الصحفية لبضعة أيام عن عمله، وينفصل تماماً عن ضغوط العمل، وأخيراً الجلسات الفردية مع اختصاصي نفسي.

وترى مديرة مؤسسة فلسطينيات أن جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيرة إلى أن الصحفي لن يقطع تغطيته لساعة أو اثنتين ليجلس داخل حدود خيمته ويشارك في جلسة تفريغ نفسي.

وبالحديث عن دور المؤسسات التي يعمل بها الصحفيون، تقول المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إن هذه المؤسسات لا تعدّ الصحة النفسية أولوية لها، إلا حين تُفرض عليها من قبل مؤسسات أخرى، ضمن برامج تدريبية، أو بأيّ وسائل دعم أخرى.

تصوير محمد بعلوشة اليوم التالي للحرب

تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، 165 صحفياً/ة وفق أرقام نقابة الصحفيين الفلسطينية؛ ضمن حصيلة إجمالية تُقدر بنحو أربعين ألف مدني.

حتى الذين نجوا -حتى الآن- من الصحفيين، ما زالوا يعانون آثاراً نفسية قاسية. يقول بعضهم، معلقين على مقتل زملائهم، إنهم أصبحوا أكثر خوفاً وقلقاً على أنفسهم وعائلاتهم، في المقابل يرى آخرون أن استهداف الصحفيين زاد إصرارهم على مواصلة تغطية « الجرائم الإسرائيلية » في القطاع.

تشير منسقة البرامج لدى مؤسسة فلسطينيات، منى خضر، إلى أهمية أن يصبح الدعم النفسي والرعاية الذاتية نهجاً داخل كل مؤسسة إعلامية، لافتة إلى أن بعض المؤسسات تعد هذا الأمر « رفاهية »، حتى إن بعض هذه المؤسسات تطلب من صحفييها تقديم طلب إجازة لحضور ورشة « تفريغ نفسي »؛ ما يشكل عبئاً إضافياً على الصحفيين، وبالتالي يعزفون عن حضور هذه البرامج.

الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، تؤكد أن الصحفيين/ات يُظهرون الكثير من الصمود أثناء عملهم، لكن ذلك لا يعني أنهم محصنون أو أن بإمكانهم الاستمرار على هذا النهج إلى الأبد.

من جهتها، تؤكد المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، شروق أسعد، أهمية الحفاظ على الصحة النفسية من أجل استمرارية عمل الصحفيين: « السلامة النفسية توازي السلامة الجسدية، قد نخسر صحفيين/ات من دون أن يتعرضوا للقتل أو الإصابة، لكن بسبب الصحة النفسية فقط ».

ووفقاً للمتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فإن ما تقدمه المؤسسات غير المحلية، لا يتناسب مع حجم الدعم المطلوب لصحفيين يعملون تحت وطأة الحرب طيلة الوقت، مقارنة مع ما يُقدم للصحفيين في أوكرانيا وأفغانستان والعراق على سبيل المثال.

تواصلنا مع مؤسسات صحفية إقليمية ودولية؛ لنعرف أكثر عن خططها في التعامل مع الصحفيين والصحفيات في غزة؛ من بينها دويتشه فيله DW، التي نفت وجود طاقم لها حالياً في قطاع غزة.

وجاء في ردها أنها تتعامل حالياً مع صحفيين مستقلين في القطاع، مضيفة: « بشكل عام، نحن على استعداد لتقديم أيّ نوع من المساعدة والدعم للمراسلين المستقلين، بما في ذلك الدعم النفسي، على الرغم من الإمكانيات المحدودة للغاية حالياً ».

وعن الفروقات في الدعم المقدم للصحفيين/ات بحسب طبيعة تعاقدهم، أكدت دويتشه فيله DW أنها تدفع أجوراً تتناسب مع حجم العمل المُقدم؛ ورغم ذلك تقدم المؤسسة خدمات الاستشارات والدعم.

أما هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي BBC، جاء في رد مسؤول التواصل بها، روبن ميلر، أن موظفيها في غزة تلقوا تدريباً على البيئة المعادية والإسعافات الأولية. شمل التدريب جلسة بشأن الوعي بالصدمات والرعاية الذاتية. أما بعد بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023، قد تلقى الموظفون دعماً نفسياً من مديريهم المباشرين مع نصائح للتعامل مع المخاطر الأمنية، كما تلقوا جلسات فردية مع معالج متخصص في الصدمات يتحدث اللغة العربية، وفق رد بي بي سي.

« إضافة إلى ذلك، حصل المديرون المباشرون للصحفيين والمراسلين على جلسة مع طبيب نفسي، كان يعمل مع أشخاص في مناطق الصراع؛ لمناقشة كيفية دعم الموظفين في غزة، والعناية بأنفسهم أيضاً ».

كما أكدت هيئة الإذاعة البريطانية أنها تقدم معلومات وموارد لدعم الصحة النفسية لموظفيها، الذين بإمكانهم الوصول إلى برنامج مساعدة الموظفين السري التابع لها على مدار الساعة، طوال أيام الأسبوع.

لكن لم تتطرق البي بي سي في ردها إلى عدد الصحفيين المستقلين المتعاونين معها في قطاع غزة، ولم توضح أيضاً ما إذا كانت هناك فروقات في طبيعة الدعم المقدم بحسب طبيعة العقد أو العمل.

باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، ودويتشه فيله DW، لم نتلقَ أيّ رد من عدة مؤسسات إقليمية ودولية أرسلنا لها، حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.

يعلق الصحفي يوسف فارس -الذي لم يتمكن من رؤية زوجته وأبنائه الثلاثة منذ الشهر الأول من الحرب- على الأسباب التي تدفعه لمواصلة التغطية: « قدمت لنا الصحافة كثيراً، ليس من المنطق حين نُمتحن في إخلاصنا لهذه المهنة أن نخونها ». مؤكداً أنه بتوقفه عن التغطية لا يخون المهنة فقط، بل يخون « الضحية التي لا ترغب أن تموت في الظلام ».

كلمات دلالية الصحة النفسية، صحافيو غزة، فلسطين، طوفان الأقصى

مقالات مشابهة

  • البرهان في الكدرو. أين حميدتي؟
  • عن كثب.. ما هي جرائم الحرب التي ارتكبتها اسرائيل؟
  • حرب شاملة ولكن بالقطعة! كيف تدير أمريكا هذه الحرب؟
  • عن حرب الكذبة والفجار (لعنة الكيزان)!!
  • الامارات والمواجهة مع البرهان واخوان السودان يجب ان يذهب احدهم ليبقي الاخر
  • جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة
  • نقول لأصحاب الفيل: لا منتصر في هذه الحرب اللعينة..!
  • ياسر العطا يتفقد الخطوط الأمامية للجيش ببحري
  • دعاء زهران: القيادة السياسية قادرة على اتخاذ القرارات التي تحمي وتحافظ على أمن مصر القومي
  • البرهان و”الملكية الوطنية للحلول” للحرب