من أين جاء هذا الحميدتي؟ (2-2)
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
قال الروائي السوداني الطيب صالح "من أين جاء هؤلاء الناس؟" حين راعه من نظام "الإنقاذ" خروقه لحقوق الإنسان لدى توليه الحكم في السودان عام 1989. ولاحق السؤال النظام كاللعنة لصدوره عن سادن للروحية السودانية.
ويقف كثير من الناس أمام ما راعهم من حرب الدعم السريع الناشبة وقساوتها ليسألوا "من أين جاء هؤلاء الناس؟"
فالدعم السريع، حسب كتاب جولي فلنت عن الجنحويد، منتج شرعي للجفاف والتصحر الذي ضرب شمال دارفور كجزء من الساحل الأفريقي خلال السبعينيات والثمانينيات.
ومن جهة أخرى كانت جماعات من عرب تشاد ممن ضربهم الجفاف والتصحر نفسه وويلات الحرب الأهلية هاجرت إلى السودان. وكانت ذروة تلك الهجرة في منتصف الثمانينيات التي تبنى فيها العقيد معمر القذافي مشروع الحزام الإسلامي العربي إلى داخل أفريقيا بصور شتى. وجاء بعض أولئك العرب بدعوة من أهلهم في السودان يعززون صفهم لغرض أو لآخر. ومع توفر الماء والكلأ لهم حز في نفوسهم أنهم بلا "دار- حاكورة" في مهجرهم، وهذا نقص عظيم يجعلك مواطناً من الدرجة الثانية بين من استضافوك في دارهم وصارت، في قول فلنت، "أسبقية أولئك العرب حيازة حاكورة لقبيلتهم بالنظر إلى غربتهم في دارفور مجردين من الشوكة الإدارية والسياسة التي تأتي من تملك مثل تلك الحاكورة". ورموا لذلك الغرض بعينهم على سكنى وديان شعب الفور الخصيبة في غرب وجنوب جبل مرة. فأخذوا في حلف مع عرب من السودان في طرد الفور من دارهم بحرق بيوتهم. فحرق مسيرية تشاد 10 قرى غرب بلدة كاس في ليلة واحدة خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1987، وأنشأ المحتلون قرى جديدة واحدة باسم إنجمينا عاصمة تشاد.
وجاء الوقت لتستثمر الحكومة في محنة الرعاة العرب الوجودية تلك لمشروعها في تمكين نفسها.وترافقت مع ذلك تطورات في جنوب السودان عام 1991. واحتاجت "الإنقاذ" إلى الرجال لتجنيدهم فيما سمته "كتيبة السلام" لقاء الترخيص لهم باحتلال دار الفور غرب جبل مرة. فاحتل المحاميد من أبالة شمال دارفور غرب الجبل، بينما احتل بني حسين جنوبه وغربه. وكان نصيب السلامات والمهادي من عرب تشاد وادي أزوم المنحدر من الجبل. ثم استباحت الحكومة الجبل لهم باستعمالهم لقتال حركات دارفور المسلحة التي خرجت للمعارضة عام 2003. فاستنوا ممارسة حرق القرى لطرد أهلها نازحين إلى معسكراتهم في أطراف المدن.
وتأتي هنا النقطة التي رغبت فلنت في إثارتها وهي أن حرب العرب والزرقة تزامنت مع حرب للعرب ضد بعضهم بعضاً أيضاً. فكانت تلك الأرض المنزوعة من الفور سبباً للشقاق بين أولئك الأعراب أنفسهم. فصارعت الحوطية، وهم من عرب تشاد، النوايبة من أبالة شمال دارفور حول مثل تلك الأرض عند بلدة زالنجي عام 2007 وسقط 250 منهما صرعى. كما تصارع الترجم ضد الرزيقات الماهرية مما أسفر عن 500 قتيل. وتعاقد المهزومان، الترجم والحوطية، على حلف ضموا إليه البرقو (من الزرقة) والثعالبة من ولاية كردفان. كما ضموا إليه المسيرية من ولاية كردفان من ذوي الصلة القديمة بالحكومة التي أحسنت إعدادهم لحرب الحركة الشعبية في جنوب السودان. ولم تعد بحاجة إليهم بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005.
وفي فبراير 2007 تصارع أبالة شمال دارفور والترجم حول وادي بلبل الذي هو أصلاً ملك للفور. وكان احتله الترجم، عديمو الدار، داراً في التسعينيات. وكانوا أول من تطوع للتجنيد مع الحكومة عشماً منهم لتمنحهم الحكومة داراً ولدوا من دونها. وجاء لينافسهم على الوادي أولاد منصور من الماهرية أهل محمد حمدان دقلو الذين هاجروا من شمال دارفور نهاية الثمانينيات إلى جنوب دارفور. وعبأ المتصارعون النصراء من تشاد. وهزم الأبالة الترجم هزيمة نكراء ونهبوا آلافاً من سعيتهم مخلفين 70 قتيلاً و50 ألف نازح من 52 قرية حرق الأبالة أربعاً منها. وعاد الأبالة للترجم في يوليو 2007 فقتلوا منهم 172 ودفنوهم في قبر واحد وغنموا محصولهم وسعيتهم.
وفي معركة أخرى قتل رصاص حرس الحدود 30 من الترجم. وزال خطر الأبالة على الترجم حين تمرد حميدتي نفسه على الحكومة وهدد باحتلال مدينة نيالا لتأخر الحكومة في صرف رواتب جنده.
وكشفت الحرب عن حجم الخراب الذي يقع جراء توافر السلاح الحكومي بيد القبائل من مثل الكاتيوشا والقذائف الصاروخية والـ 10 بنادق غير مرتدة ناهيك عن ناقلات الجنود من التاتشرات مما زودتهم به كتيبة مخابرات حرس الحدود. وكان قد أقبل على التجنيد فيها أبالة شمال دارفور ممن صار القتال مهنتهم بعد انسداد أبواب الرزق الآخر في وجههم.
ولم تقف حرب العرب للعرب. فدارت في فبراير عام 2010 حرب المسيرية والرزيقات. ودخلها أبالة الرزيقات الشمالية بأسلحة حرس الحدود وأنواع العتاد الذي تقدم ذكره. فاستدعي المسيرية من جانبهم أقرباءهم من تشاد وبقارة جبل مرة للهجوم على أحياء الأبالة النوايبة الذين استدعوا بدورهم عرب بني حسين والمهادي وأولاد راشد والعريقات والماهرية وأم جلول بقيادة ضباط من حرس الحدود.
ودارت تلك الحرب حول مَن مِن العرب يتملك أرض الفور المنهوبة؟ وذكر شهود نقل أسلحة ثقيلة لحميدتي من حرس الحدود. وجاء في تقارير مؤكدة أن المسيرية استعانوا بجماعة من أهلهم انشقت عن "قوى التغيير والديمقراطية" التشادية.
لن تكون أبعدت النجعة إذا اقتصرت إجابتك عن سؤال من أين جاء هؤلاء العرب الـ "جنجويد"؟ على قولك بمجيئهم من رحم المركز الحكومي. ولكنها إجابة في مثل بحث من أضاع شيئاً عنه تحت عمود النور في حين كان أضاعه في مكان معتم. فإذا اكتفينا بتوزير الحكومة بصناعة الـ "جنجويد" نكون ربما أحسنا المعارضة في حين تقاصرنا عن النفاذ إلى أوضاع في الريف زلزلت زلزالها. فتجاسرت فيه أعراف تملك الأرض مع نازلات الطبيعة وتآكل أساليب حياة مثل الرعي مع وهم حدود الدولة القومية مع زحف اقتصاد السلعة في إنتاج الريف، ليخرج منه مثل أبالة شمال دارفور الذين كان عليهم إعادة إنتاج أنفسهم من فرط وحشتهم وفاقتهم. وجاءتهم الدولة العاقة لا لتزيل الصدأ عن حياتهم بل لتستأجرهم ليقتلوا خصومها بلا غبينة معلومة، مكرهين لا أبطالاً. وغلبت السردية الأخيرة على الأولى. وهو غلب حرمنا من فهم حرب "الدعم السريع"، الدور الثاني من الـ "جنجويدية"، فلا نرى منها سوى خروجها من رحم مركز دولة "الإنقاذ" لا جماع السياسات في الريف والإقليم التي هيأت خروجها من ذلك الرحم. وقيل من جهل تاريخه أعاده وبثمن فادح في غالب الأحوال.
IbrahimA@missouri.edu
/////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حرس الحدود من أین جاء
إقرأ أيضاً:
الجيش السوداني يقصف مواقع الدعم السريع في الخرطوم وشمالي الأبيّض
قالت مصادر محلية للجزيرة إن الجيش السوداني قصف -فجر اليوم- بالمدفعية الثقيلة مواقع قوات الدعم السريع في الخرطوم ومنطقة شرق النيل، وشمال مدينة الأبيّض، في أعقاب احتدام الاشتباكات في محيط القصر الرئاسي وسط العاصمة.
وأفاد الجيش السوداني في بيان، بأن قوات المهام الخاصة والعمل الخاص بسلاح المدرعات التابع للجيش دمر عددا من مواقع قوات الدعم السريع بمحاور: شارع الصحافة زلط، ومحطة الغالي، ومستشفى الجودة، ومدرسة الخرطوم النموذجية جنوبي العاصمة.
وذكر الجيش السوداني، أن قواته قتلت خلال العملية عددا من "مليشيا الدعم السريع" واستولت على أسلحة، وذلك قبل أن يتحدث الجيش -في بيان لاحق- أنه تقدم على المحاور بمنطقة شرق النيل شرقي العاصمة الخرطوم، واستولى على منظومة تشويش كاملة بالمنطقة.
كما قال مصدر محلي مطلع للجزيرة إن الطيران الحربي وسلاح المدفعية التابعين للجيش السوداني قصفا -فجر اليوم السبت- مواقع لقوات الدعم السريع جنوب وغربي مدينة بارا الواقعة شمال مدينة الأبيض بنحو 60 كيلومترا.
وأضاف المصدر أن الطيران الحربي استهدف أيضا قوات من الدعم السريع غربي مدينة الأبيض كانت قد "تشتت" أمس عقب القصف الجوي على قافلة إمداد بشري للدعم السريع في منطقة أم كريدم متجهة نحو مدينة بارا.
إعلانوكانت قوات الدعم السريع قالت -أمس- في بيان إنها "سحقت" قوات الجيش السوداني التي حاولت السيطرة على مدينة بارا.
وتعتبر مدينة بارا منطقة حيوية في الطريق الثاني الرابط بين ولايات دارفور غربا والعاصمة الخرطوم ومنها لميناء بورت سودان شرقا.
في هذه الأثناء، قال إعلام الفرقة الخامسة مشاة التابعة للجيش بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور إن ما سماها المليشيا استهدفت بالمسيّرات والمدافع عددا من المواقع بالمدينة، من بينها حيي أبوجَربون وباب الحارة "دون وقوع خسائر".
وأوضح إعلام الجيش أن قيام قوات الدعم السريع بقصف الفاشر يأتي بعد أن "منيت بخسائر" يوم أمس بمناطق ودَعه ودارالسلام جنوبي وغربي الفاشر، حسب البيان.
كما أضاف أن الجيش أوقع خسائر بشرية ومادية في صفوف قوات الدعم السريع القادمة من مدينتي نِيالا بولاية جنوب دارفور، والضِعين بولاية شرق دارفور القادمة "بغرض الهجوم على الفاشر".
وتسيطر قوات الدعم السريع على 4 ولايات في إقليم دارفور (غرب) من أصل 5 ولايات، في حين تخوض اشتباكات ضارية مع الجيش في مدينة الفاشر، التي تعد مركز العمليات الإنسانية لولايات الإقليم.
ويأتي ذلك بعد يوم من حديث مصدر عسكري سوداني أن اشتباكات تدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في محيط القصر الرئاسي، وسط الخرطوم والتي تتجدد منذ أيام.
وقال المصدر للجزيرة، إن الجيش استعاد السيطرة على أجزاء واسعة من ضاحية "حلة كوكو"، بشرق النيل شرقي الخرطوم.
وحسب المصدر، فقد هاجم الجيش حلة كوكو من محاور عدة، من بينها محور كافوري ومحور سلاح الإشارة، في حين تداول ناشطون عبر فيسبوك، الخميس، مشاهد لانتشار جنود الجيش السوداني في منطقة "حلة كوكو".
عودة النازحينوأمس الأول، قال مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس، إن عدد العائدين من اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم بلغ نحو مليوني مواطن حتى نهاية فبراير/شباط المنصرم، وفق ما أوردته وكالة أنباء السودان.
إعلانوأوضح السفير السوداني أن تلك العودة جاءت بعد استعادة الجيش السوداني والقوات المساندة له لولايتي الجزيرة وسنار ومعظم مناطق ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض، مشيرا إلى توقعاتهم ارتفاع عدد العائدين إلى 5 ملايين مواطن في نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل.
ويخوض الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، في حين قدّر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين الأشخاص إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.