هل من يتكلم أثناء الأذان تلعنه الملائكة 80 سنة ولا يستطيع نطق الشهادة عند الموت؟، لاشك أنه استفهام ضروري تطرحه مجريات الحياة ومستجداتها ، التي ألهت الكثيرون حتى أنهم آثروا أحاديثهم على سماع الأذان وترديده، وهذا ما يبين أهمية الوقوف على حقيقة هل من يتكلم أثناء الأذان تلعنه الملائكة 80 سنة ولا يستطيع نطق الشهادة بعد الموت؟، لأنها إن صحت فهي تعد عقابًا صعبًا للغاية، وسببًا كافيًا لنوقف أحاديثنا أيًا كانت أثناء سماع الأذان بل وعلينا أن نبادر بترديده دون استهانة ولا تفريط.

كيف تصل سورة الفاتحة إلى الميت في قبره؟.. الإفتاء: بـ7 كلمات تنجيه من صلى ركعة من العصر قبل المغرب وأكملها أثناء الأذان.. هل حاضرا أم قضاء؟ هل من يتكلم أثناء الأذان

قالت دار الإفتاء المصرية ، إنه يستحب الإنصات للأذان والانشغال بترديده وترك الكلام وعدم الانشغال بغيره من الأعمال؛ لأنَّ الأذان يفوت وغيره من الأعمال باقية يمكن تداركها، إلَّا أن تكون هناك حاجة للكلام فإنَّه يجوز حينئذٍ من غير كراهة.

 

وأوضحت " الإفتاء" في إجابتها عن سؤال: ( هل من يتكلم أثناء الأذان تلعنه الملائكة 80 سنة ولا يستطيع نطق الشهادة عند الموت؟)، أنه لا صحة للقول بلعن من يتحدث أثناء الأذان، ولكن المستحب لمن يسمع الأذان أن يردد كلمات الأذان مع المؤذن، وحكاية الأذان مندوبة وليست واجبة، والكلام أثناء الأذان ليس محرماً ولكن تركه أثناء الأذان لغير ضرورة هو من الآداب.

 

حكمة مشروعية الأذان

وأضافت أنه شُرِع الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة؛ فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ».

حكم الترديد خلف المؤذن

وتابعت: قد ورد في السنة المطهرة ما يدل على استحباب متابعة المؤذِّن وإجابته بترديد الأذان خلفه لكلِّ من سمعه؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ» متفقٌ عليه.

كيفية ترديد الأذان خلف المؤذن

وأشارت إلى أنه يُسَنّ لمَن يسمع الأذان أن يقول مثل ما يقول المؤذِّن إلَّا في الحيعلتين، وهي قول المؤذِّن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، فيقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وعند قول المؤذِّن في صلاة الفجر: "الصلاة خير من النوم"، يقول السامع: "صدقت وبررت"، وعند قول المؤذِّن في الإقامة: "قد قامت الصلاة"، يقول السامع: "أقامها الله وأدامها؛ يُنظر: "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني الحنفي (1/ 155، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي المالكي (1/ 233، ط. دار الفكر )، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (1/ 203، ط. المكتب الإسلامي)، و"شرح مختصر الخرقي" للإمام الزركشي الحنبلي (1/ 523-525، ط. دار العبيكان).

 

وأفادت بأنه ذهب بعض الحنفية إلى أن المستمع يقول عند سماعه الحيعلتين: "حي على الصلاة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، "حي على الفلاح، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وفصَّل بعضهم بأن يأتي بالحوقلة مكان "حي على الصلاة"، ويقول: "ما شاء الله كان" مكان "حي على الفلاح"؛ يُنظر: "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين (1/ 397، ط. دار الفكر).

 

حكم الإنصات للأذان والترديد خلف المؤذن عند الفقهاء

وبينت أنه قد نصَّ جمهور الفقهاء؛ من الحنفية والشافعية والحنابلة على أنَّ شأن المسلم حال سماع الأذان أن يكون مُنصتًا له، مُنشغلًا بترديده، وألَّا ينشغل بالكلام ولا بشيءٍ من الأعمال سوى الإجابة؛ لأنَّ الأذان يفوت وغيره من الأعمال باقية يمكن تداركها، وهذا على سبيل الاستحباب.

واستشهدت بما قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (1/ 89، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [ولا ينبغي أن يتكلَّم السامع في الأذان والإقامة، ولا يشتغل بقراءة القرآن ولا بشيءٍ من الأعمال سوى الإجابة، ولو كان في القرآن ينبغي أن يقطع ويشتغل بالاستماع والإجابة] اهـ.

وواصلت: وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (3/ 118، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: ويستحب متابعته لكلِّ سامعٍ من طاهرٍ ومحدثٍ وجنبٍ وحائضٍ وكبيرٍ وصغيرٍ؛ لأنه ذِكرٌ، وكل هؤلاء من أهل الذكر.. فإذا سمعه وهو في قراءةٍ أو ذكرٍ أو درسِ علمٍ أو نحو ذلك: قطعه وتابع المؤذِّن ثم عاد إلى ما كان عليه إن شاء] اهـ.

واستطردت: وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 310، ط. مكتبة القاهرة): [إذا سمع الأذان وهو في قراءة قطعها، ليقول مثل ما يقول؛ لأنَّه يفوت، والقراءة لا تفوت] اهـ؛ فأفاد أنه إذا ترك القراءة لحرمة الأذان؛ فلأن يترك الكلام من باب أولى.

وأشارت إلى أنه نصَّ المالكية أيضًا على استحباب متابعة الأذان وترديده، إلَّا أنَّهم أجازوا الكلام أثناء سماعه؛ قال العلامة الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 448، ط. دار الفكر): [قال في "الطراز": ويجوز الكلام والمؤذِّن يؤذِّن، وقد كانت الصحابة تفعله، ففي "الموطَّأ": أنَّهم كانوا يصلُّون يوم الجمعة حتى يخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا جلس على المنبر، وأذَّن المؤذنون، جلسنا نتحدَّث فإذا سكت المؤذِّن، وقام عمر يخطب، أنصتنا فلم يتكلم أحد منَّا] اهـ.

ونوهت بأنه قال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح الخرشي لمختصر خليل" (1/ 232، ط. دار الفكر): [يجوز الكلام والمؤذن يؤذن، وقد كانت الصحابة تفعله، نقله البدر] اهـ، وبناءً على ما سبق: فيستحب الإنصات للأذان والانشغال بترديده وترك الكلام وعدم الانشغال بغيره من الأعمال، إلَّا أن تدعو للكلام حاجةٌ فإنَّه يجوز حينئذٍ من غير كراهة.

أدعية الأذان 

1- يقول من سمع الأذان كما قال المؤذن إلا في "حي على الصلاة وحي على الفلاح " فإنه يقول "لاحول ولا قوة إلا بالله "، و الدليل من السنة النبوية : حديث عن عمر بن الخطاب -رضي اللّه عنه- قال: ‏قال رسول الله ‏ -‏صلى الله عليه وسلم -‏ ‏إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن ‏ ‏محمدًا رسول الله ‏ ‏قال أشهد أن ‏ ‏محمدًا رسول الله ‏ ‏ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة. وورد عَنْ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرِو بْنِ العاصِ رضِيَ اللَّه عنْهُما أَنه سَمِع رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقُولُ : « إِذا سمِعْتُمُ النِّداءَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا علَيَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى علَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ بِهَا عشْرًا ، ثُمَّ سلُوا اللَّه لي الْوسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنزِلَةٌ في الجنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلاَّ لعَبْدٍ منْ عِباد اللَّه وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُو ، فَمنْ سَأَل ليَ الْوسِيلَة حَلَّتْ لَهُ الشَّفاعَةُ » رواه مسلم وعن أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضيَ اللَّه عنْهُ أَنَّ رسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « إِذا سمِعْتُمُ النِّداءَ ، فَقُولُوا كَما يقُولُ المُؤذِّنُ » . متفق عليه.

 2-يقول بعد تشهد المؤذن (وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا) ، الدليل :  ‏عن ‏ ‏سعد بن أبي وقاص  عن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أنه قال ‏ ‏من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن ‏ ‏محمدًا عبده ورسوله ‏ ‏رضيت بالله ربًا ‏ ‏وبمحمد  ‏رسولا وبالإسلام دينًا غفر له ذنبه ، و‏ قال ‏ ‏ابن رمح ‏ ‏في روايته من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد ‏ ‏ولم يذكر ‏ ‏قتيبة ‏ ‏قوله وأنا. صحيح مسلم .

3- ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : « اللهم صلي على محمد وعلى آل كما صليت على ابراهم وعلى ابراهيم انك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد »، من قالها تُحط عنه 10 خطيئات ويرفع له عشر درجات ويصلي الله عليه عشرًا وتعرض على الرسول. 

4- أما قوله بعد الفراغ من إجابة المؤذن «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت ‏‏محمدًا‏ ‏الوسيلة‏ ‏والفضيلة‏ ‏وابعثه ‏‏مقامًا محمودًا ‏ ‏الذي وعدته»، الدليل من السنة النبوية  : وَعنْ جابرٍ رضَي اللَّه عنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « من قَال حِين يسْمعُ النِّداءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعوةِ التَّامَّةِ ، والصَّلاةِ الْقَائِمةِ، آت مُحَمَّدًا الْوسِيلَةَ ، والْفَضَيِلَة، وابْعثْهُ مقَامًا محْمُودًا الَّذي وعَدْتَه ، حلَّتْ لَهُ شَفَاعتي يوْم الْقِيامِة » رواه البخاري.

 5- أما الدعاء بين الأذان والإقامة فإنه مستجاب فيمكنه من الدعاء لنفسه الدليل من السنة النبوية : تعود على من يرددهها فإن دعائه لا يرد كما ورد في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :" الدعاء لايرد بين الأذان و الإقامة " عن عبد الله بن عمرو :قال رجل : يا رسول الله ! إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط رواه أبو داود بسند صحيح.

 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الله أکبر الله أکبر صلى الله علیه وسلم من الأعمال رسول الله دار الفکر ع الأذان ى الله ع رضی الل قال لا قال حی محمد ا ن یسمع ثم قال

إقرأ أيضاً:

مِنَ الزُّهد إلى الأدب

تَبلوَر الزُّهد بادئ أمره بوصفه ردَّ فعل "الدين المُجرَّد" -إبَّان قرون الإسلام الأولى- على تشوه التركيبة النفسية، وانحراف وجهة الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة في مُجتمعات الأمويين ثم العباسيين، التي ولغت في الترف المفسد. ورويدا رويدا، نَضجَت ممارسات هذا الزهد نُضجا إسلاميّا مُركَّبا؛ فتحوَّلت إلى ظاهرة صوفيَّة، وانطوى هذا الزهد نفسه تدريجيّا حتى أمسى عُنصرا مهمّا من عناصر الظاهرة الاجتماعيَّة الجديدة، حين ترسَّخ المركَّب الجديد بوصفه نمطا معيشيّا إسلاميّا فريدا، وشبه مُتكامل. هذا النمط الجديد هو ما اصْطُلحَ على تسميته بـ"التقليد الصوفي".

لم يؤدِّ نُضج التقليد الصوفي إلى نبذ الزُّهد، بل صار رد الفعل الأحادي المبكر -الأقرب إلى الرهبنة في أصله- عُنصرا داعما من عناصر اتزان المركَّب الجديد، بعد أن كان عُنصر "غُلوٍّ" مُضاد -للغلو في الترف- مبدأ ظهوره. صار عُنصرا لا يُهيمن على المركَّب الجديد ولا يحرفه عن اعتدال الإسلام؛ وإنما يزنه بميزانه التركيبي، ويُفيد من فعاليته. وبعد جنوح أهل الزهد -بادئ ذي بدءٍ- إلى التنفير من أكثر الطيبات تورُّعا -على النمط المسيحي- لم يَعُد الطعام أمرا مُنفرا للوجدان الصوفي وتقليده الناضج؛ إذ صحَّ تعبيره عن الإسلام. وباعتدال الكفَّة، جرى إعادة استيعاب الطيبات الحقَّة ثانية داخل النمط الإسلامي المتكامل، ودُمجت طيبات المأكل في منظومة التصوف الآخذة في التطور، وذلك بوصفها عُنصرا تأسيسيّا من عناصر الآداب الإسلاميَّة؛ أي سُنَّة من سنن تزكية النفس وأبواب رياضتها وتهذيبها.

لُقِّبَت آداب الحياة الاجتماعية ورياضتها هذه بآداب الظاهر، وصارت آداب السلوك والذكر والرياضة الروحية هي آداب الباطن. هذه اﻵداب الشرعيَّة -في تنظيم نعمة الأخذ من الطيبات- هي الموجِّه الأساس للحياة البرانية للصوفي، بالتوازي مع المقامات والأحوال الجوانيَّة للطريق الصوفي
وقد لُقِّبَت آداب الحياة الاجتماعية ورياضتها هذه بآداب الظاهر، وصارت آداب السلوك والذكر والرياضة الروحية هي آداب الباطن. هذه اﻵداب الشرعيَّة -في تنظيم نعمة الأخذ من الطيبات- هي الموجِّه الأساس للحياة البرانية للصوفي، بالتوازي مع المقامات والأحوال الجوانيَّة للطريق الصوفي. وفيهما معا لا قدوة إلا الأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفه مجمع اﻵداب والأخلاق الربانية، والإنسان الكامل. فعلى المسلم -بله السالك المريد- أن يكون كل تخلُّقه -من معاملة البشر إلى أكل طعامه- احتذاء لسنَّة حضرته، ولمثاله النماذجي. ولذلك؛ صار الصوم والفطر، والأكل والإمساك، والنوم والقيام؛ بذات القدر من الأهميَّة(1).

وفي هذا الإطار، عادت وجبة الطعام زادا لا غنى عنه للجسد العابد والعقل المتفكِّر؛ إذ تُخفِّف عن الروح أثقال حاجات الجسد وضغط إلحاحها، ما تقيَّدت بالقيود الشرعيَّة في نبذ التكلُّف وعدم الإفراط؛ أي صارت عبادة إسلاميَّة، فإن الإسلام لا يحضُّ -مثل الدين المجرَّد- على الامتناع التام عن الطعام، وإنما يأمرُ بعدم الإسراف، وبأكل الطيب، وبالصوم، وبإطعام الطعام؛ لئلا تصير نعمة تناول الطعام (وتلبية الشهوة) لهوا مُحرَّما صارفا عن السلوك وعن التكليف، بالإفراط فيه، أو البخل به، أو تناول الخبيث منه. وعليه، فإن الصوم عندنا ضرورة؛ لأن دوام إشباع الشهوة الحلال امتلاءٌ يُقعِدُ عن العبادة ويورِث الوهن، بل وقد يزيد الشبق إلى الشهوات والانشغال بها. ومن ثم؛ صار الصوم استعادة لتوازُن النفس كما هو استعادةٌ لتوازُن الجسد. فيجب على المؤمن رياضة نفسه وجسده ليستقيم جوانيه(2). والصوم بذلك ليس غاية، وإنما وسيلة، مثله في ذلك مثل الخلوة؛ فإنما تُخلى الروح من الشواغل والصوارِف بحفظ الجسد وعدم بث الوهن في أوصاله بتلبية كل شهوة يجنح إليها، وذلك إذ يُحفظ الجسد والروح بالتوسُّط في التلبية والإشباع.

ومما يُسهم في تحقُّق هذا التوسُّط الإسلامي ألا يُكثر الإنسان الاشتغال بمعاشه ومأكله، والكلام عنه، والتكلُّف فيه؛ فهذا نهمٌ مذموم، وشبقٌ مؤذ، وانصرافٌ عن المنعم إلى النعمة. وهذا غير التحدُّث بنعمة الله، وذكر فضله تعالى. إذ أن الطعام عند المسلم -والصوفي خصوصا- سدٌّ للجوع وتسكينٌ للروح، لا التذاذٌ حيواني وتُخمة تُفضيان إلى وَهَن. وقد كان بعضهم يَعُدُّ مائدته ساحة جهاد؛ يحذر فيها الزلل إلى دَرَك الالتذاذ الحيواني بإشباع كل شهوات النفس، والذي قد يَقلِبُ كل رياضته رأسا على عقب؛ فيصير سيره لنفسه وشهوته لا لله. وفي هذا السياق، نُدرِك لِمَ كان بعض الصوفية والأولياء الكبار يُحجمون أحيانا عن أكل ما يشتهون رياضة لأنفسهم، وتأديبا لها؛ فعندهم أن آدم عليه السلام إنما غوى بمأكله، الذي حسب أنه يُبلِّغه ما لن يُبلِّغه إياه الامتناع لله. فإن كان لا بُد مُنشغلا؛ فليكُن ممن يُطعمون الطعام، ويتقرَّبون إلى الله تعالى بما لا حيلة له في دفعه من هذا الجنوح النفسي(3).

***

وإذا كان التصوف قد بدأ زُهدا مُجرَّدا، يتغيَّا تجريد التوحيد من غواشي الترف؛ فإن سلامة التوحيد نفسه هي باب الزُّهد، وأهم مفاتحه الزهد في الصور والأشباح، التي يصطنع منها الإنسان غشاوة تحجبه عن الحق سبحانه. لكنَّ كمال التوحيد نفسه لا يُفضي إلى الزُّهد وإنما إلى الأدب، ومن الأدب عدم الإسراف، والحذر من الغفلَة التي يؤدي إليها الإفراط.

فالطعام الحلال الطيب ليس مذمَّة وإنما يصيرُ الإفراط فيه كذلك. وإن من الأدب تناول الطعام تناولا يُذكر بالصلاة؛ ففيه عبادة مثلها في الأهمية مثل عبادة النكاح(4)، عبادة يجب أن تُزكِّي لا أن تُنسي. فإن أُنسي الإنسان سبب أكله وغرض شهوته ووجهتها؛ فقد انقلب ما أحلَّه الله حراما عليه، لأنه يصرفه عن الغاية، ويشغله بشهوته عن الذكر والشكر. وقد اشتهر عن بعض السلف قولهم: إن الطبيخ طعام الغافلين! وذلك لما فيه من دسمٍ قد يُثقِلُ البدن ويُشوش الذهن، ويُفضي غالبا إلى الغفلَة، والغفلة مضيعة للشُّكر، والإنسان أحوج ما يكون إلى الشكر خصوصا في الموطن الأشد جلاء لفضل الله ونعمه: نعمة تلبية الشهوات من حلال.

باستعادتنا الآداب الشرعيَّة القويمة للتعاطي مع النعم، والتقاليد المحليَّة في مُعالجتها إلى بؤرة الطرح، استنقاذا للذائقة المصريَّة التي فسدت وكرَّس فسادها المطاعم الرديئة المتكاثرة، والأنماط الاستهلاكيَّة الرأسماليَّة المدمِّرة؛ فإننا نؤكد بذلك على أن نقيض هذا الفساد والانحطاط ليس الزُّهد المطلَق، وإنما هو الأدب الرباني في التعاطي مع النعم
إن استيعاب السالك للتوحيد، يُفضي به إلى القبض على بعض زُهده في الدنيا استبقاء للمعيَّة. فإن المعيَّة الإلهيَّة للسالك لا تجتمع مع غفلة، والغفلة لا تتسلَّط إلا بالولوغ في تلبية كل ما أحلَّ للبشري من الشهوات، والانشغال بها وبإشباعها حتى الثمالة. وهذا ليس إنكارا للشق المادي في الإنسان -فهو شقٌّ لا يُنكره إلا كافر- وإنما ضبطٌ له على مراد الله، وعدم انشغال بما خُلِقَ لك عمَّا خُلِقْتَ له، وإنما أخذ منه بحق؛ إلى الدرجة التي تكفي حاجة الحركة الإنسانيَّة ولا تُلهي عنها(5). والصوفي في هذا كله مجاهد، وميدان جهاده هو النفس الأمَّارة بالشهوات (السوء). وإن غفلة النفس عن نعيم اﻵخرة وانصرافها عنه لا يتجلَّى في مثل تهالُكها على ملذَّات الحياة الدنيا وتمام انشغالها بألوانها.

إننا باستعادتنا الآداب الشرعيَّة القويمة للتعاطي مع النعم، والتقاليد المحليَّة في مُعالجتها إلى بؤرة الطرح، استنقاذا للذائقة المصريَّة التي فسدت وكرَّس فسادها المطاعم الرديئة المتكاثرة، والأنماط الاستهلاكيَّة الرأسماليَّة المدمِّرة(6)؛ فإننا نؤكد بذلك على أن نقيض هذا الفساد والانحطاط ليس الزُّهد المطلَق، وإنما هو الأدب الرباني في التعاطي مع النعم، والمشتمل على زهد نسبي في هذا الغثاء؛ يُعيده إلى حجمه الحقيقي منبوذا، ويستنقذ منه النفوس والعقول والأرواح قبل الأجساد. وتخيَّل أكرمك الله أن هذا الأدب والزُّهد النسبي محمودٌ مطلوب مأمور به في الطيبات التي أحلَّها الله، فكيف بالرديء الذي حفَّته الشبهات، وعجزت عنده الاجتهادات بسبب صدِّ أهل السلطة والمال -المنتفعين- عن ذلك السبيل؟!
__________
الهوامش:
(1) وهذا لما رواه البخاري، من حديث طويل لأنس بن مالك؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له؛ لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي".
(2) وثمَّ أثر ماتع يُفيد في توجيه هذه الرياضة، وهو منسوب إلى عمر بن الخطاب: "اخْشَوْشِنوا؛ فإنَّ النِّعمَةَ لا تدومُ".
(3) وقد روى ابن ماجه، من حديث طويل لعبد الله بن سلام؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلام".
(4) روى مسلم، من حديث طويل لأبي ذر الغفاري؛ أن حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: ".. وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، قالوا: يا رَسولَ اللهِ؛ أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: "أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ".
(5) وفي ذلك يحكمنا ناموس نبوي، مما أخرجه ابن حبان وأحمد (واللفظ له) والبيهقي في الشُّعَب، من حديث أبي الدرداء؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "ما طَلَعَتْ شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبتَيها ملَكانِ يُناديانِ؛ يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلَينِ: يا أيُّها النَّاسُ، هَلُمُّوا إلى ربِّكم؛ فإنَّ ما قَلَّ وكَفى، خيرٌ ممَّا كَثُرَ وألْهى، ولا آبَتْ شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبتَيها ملَكانِ يُناديانِ؛ يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلَينِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنفِقا خَلَفا، وأَعْطِ مُمسِكا مالا تَلَفا".
(6) راجع مقالينا السابقين على هذا الموقع نفسه: "كيف فسدت الذائقة المصريَّة؟"، و"لماذا تنتشر المطاعم الرديئة في مصر؟".

مقالات مشابهة

  • حمدوك، حميدتي والبرهان !!!
  • مِنَ الزُّهد إلى الأدب
  • وزارة التربية: نتائج الشهادة الثانوية العامة والمهنية بفروعها المختلفة ستصدر صباح يوم الأحد الموافق لـ7 تموز الساعة العاشرة صباحاً
  • نجم الأهلي السابق: زيزو رقم 1 في مصر
  • 7 علامات تحذيرية تخبرك بأن التكييف يحتاج إلى صيانة وتنظيف.. انتبه لها
  • الإعدام لشخصين قتلا مزارعا أثناء سرقة زواية حديد من أرض بالقناطر الخيرية
  • أحمد حسن الزعبي .. عندما يتكلم الرجال في حضرة الاستبداد
  • حكم قراءة القرآن من خلال مكبر الصوت قبل الأذان لصلاتي الفجر والجمعة
  • التربية والتعليم الخرطوم توضح حول إستئناف الدراسة لطلاب الشهادة السودانية
  • مصرع خمسيني سقط عليه حائط أثناء قيامه بهدم منزل بالمنشأة