الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
الوجه الحقيقي للنظام الدولي الليبرالي
تتزامن وفاة كيسنجر مع دخول النظام الدولي الليبرالي الذي نافح عنه في مرحلة احتضار متقدّمة.
سياسة سحق الحركات الثورية في الجنوب، أو محاولة سحقها تماماً، كانت جزءاً لا يتجزأ من المقاربة «الواقعية» التي بشّر بها كيسنجر.
صعود كيسنجر داخلَ المؤسسة الأميركية الحاكمة واحتلاله مناصب رسمية تمّ في فترة تاريخية تربعت فيها الولايات المتحدة على رأس هرم النظام الدولي.
اعتبر كيسنجر إسرائيل الأداة التي ستتيح، في ظل رئاسة أنور السادات لمصر، إخراج هذه الأخيرة من موقعها كقيادة للنظام العربي، ودخولها المعسكر الأميركي.
ضحايا كيسنجر يُعدّون بالملايين، ومحاولات الدعاية الأميركية والغربية تقديمه كحكيم حريص على تجنيب العالم كارثة هائلة تنجم عن صدام أميركي-صيني لن تنطلي على أحد.
تمحور اهتمامه حول كيفية إدارة الصراع مع السوفيات واستكمال الهجوم في بلدان الجنوب الخارجة من نير القوى الاستعمارية الأوروبية، لبسط الهيمنة الأميركية عليها وترسيخها.
* * *
اسم جديد أضيف إلى اللائحة الطويلة من «عظماء» الغرب، قادة ومستشارين ومفكّرين، بعد أن غيّبه الموت عن عمر تجاوز المئة سنة: هنري كيسنجر.
من الممكن أن يورد اسم كيسنجر إلى جانب أسماء المفكّرين الذين بلوروا الأسس الفكرية المسوّغة لنظام الهيمنة الغربي على بقية المعمورة، من أمثال الفرنسي آرثر دو غوبينو، منظّر التراتبية بين الشعوب في كتابه الشهير «أطروحة عن اللامساواة بين الأعراق الإنسانية» الصادر في 1855، والبريطاني روديارد كبلينغ، الملقّب بـ«نبي الإمبراطورية البريطانية» بسبب كتاباته وقصصه وأشعاره وأبرزها قصيدة «عبء الرجل الأبيض»، والفرنسي ألكسي توكفيل، أبرز رموز الحزب الاستعماري في فرنسا وصاحب كتاب «الديموقراطية في أميركا».
غير أن ما ميّز كيسنجر المفكّر، وأحد أقطاب «المدرسة الواقعية» في السياسة الخارجية، عن نظرائه الذين سوّغوا فكرياً السياسات الإمبريالية، هو التصاقه بصنّاع القرار منذ شبابه الأول، وبشكل خاص بعد أن عيّنه ريتشارد نيكسون في 1969 مستشاراً للأمن القومي ومن ثم في 1973 وزيراً للخارجية، ما خوّله أن يقرن النظرية بالتطبيق، وأن يسهم في هندسة الحروب والمجازر والانقلابات العسكرية في فييتنام وكمبوديا وتشيلي والشرق الأوسط وتيمور الشرقية.
تتيح هذه الحقيقة إدراج اسمه بين أسماء «مستشاري الأمير» الذين شاركوا في صياغة إستراتيجياته، كجورج كينان، صاحب «عقيدة الاحتواء» في عام 1947، المعتمدة من الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، أو زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر الذي أشرف على إدارة هذه المواجهة مع السوفيات عبر توظيف «العامل الديني»، الإسلامي في أفغانستان والكاثوليكي في بولندا.
وحتى بعد أن ترك آخر منصب رسمي له كوزير للخارجية في عام 1977، استطاع كيسنجر أن يحتفظ بقدرة فعلية على التأثير في رؤى صنّاع القرار في بلاده، خاصة في الإدارات الجمهورية المتعاقبة، من خلال شبكات علاقاته الواسعة وشركته الاستشارية «كيسنجر وشركاؤه».
مجرم كبير التحق بأترابه من «عظماء الغرب» ومجرميه، دون أن ينال في هذه الدنيا العقاب الذي يستحقّ، وهو بالتأكيد ليس المثول أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، بل أن يسلّم لضحاياه، أو لأبنائهم وأحفادهم، لكي ينفذوا فيه حكمهم وفقاً لتقاليدهم وأعرافهم. لكنّ ثقتنا بالعدالة الإلهية كبيرة. ما قد يعزّينا اليوم هو أن وفاته تتزامن مع دخول النظام الدولي الليبرالي الذي نافح عنه في مرحلة احتضار متقدّمة.
صعود نجم كيسنجر داخلَ المؤسسة الأميركية الحاكمة واحتلاله مناصب رسمية، كلّ ذلك تمّ في الفترة التاريخية التي كانت الولايات المتحدة تتربّع فيها على رأس هرم النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
تمحور اهتمام «الصبي اليهودي»، كما كان يسميه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، حول كيفية إدارة الصراع مع المنافس الاستراتيجي السوفياتي واستكمال الهجوم في بلدان الجنوب، الخارجة لتوّها من نير القوى الاستعمارية الأوروبية، لبسط الهيمنة الأميركية عليها وترسيخها.
تبنّيه لأطروحات «المدرسة الواقعية» في السياسة الخارجية، رغم عدائه الشديد للسوفيات، دفع به لتبنّي «سياسة الانفراج» تجاههم، التي تُرجمت باتفاقية «سالت 1» للحد من الأسلحة النووية، والسعي إلى تخفيض التوترات المباشرة معهم، أي وقف سباق التسلح النووي الذي كان يثقل كاهل موسكو، مع العمل على استغلال التناقض الصيني-السوفياتي لاستمالة بكين في سياق المجابهة الإستراتيجية بين واشنطن وموسكو في تلك الحقبة.
بكلام آخر، هو حرص على تخفيض جزئي لحدّة الصراع مع الاتحاد السوفياتي مستفيداً من المعطيات المتوفرة لديه عن الأعباء التي بدأ يواجهها اقتصاده نتيجة لسباق التسلح، مع التوجّه لإتمام صفقة شاملة مع الصين تتضمّن مقايضة بين إعادة تموضعها في موقع معادٍ للسوفيات، والانفتاح اقتصادياً عليها ونقل التكنولوجيا المتطورة إليها.
وقد تكلّلت جهوده بالنجاح بعد زيارة نيكسون لبكين، ولقائه مع الرئيس ماو تسي تونغ، التي مثّلت منعطفاً حاسماً في تاريخ العلاقات بين البلدين. وقد نجحت الصين في توظيف هذه الصفقة لصالح مشروعها لتحقيق نهضة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية هائلة، ما يفسر حرص مسؤوليها على تسمية كيسنجر بـ«العزيز هنري» واستقباله المتكرر بحفاوة بالغة حتى قبل أشهر قليلة من وفاته.
غير أن هذه المقاربة الواقعية في التعامل مع قوى كبرى ومتوسطة ترافقت مع توحّش بالغ حيال شعوب وبلدان الجنوب الساعية إلى الاستقلال. فهو الذي أوصى، عندما كان مستشاراً للأمن القومي لنيكسون، بتسعير الحرب ضد فييتنام، وبتوسيعها عبر قصف مواقع ثوارها في كمبوديا ولاوس، ما أدى إلى قتل أعداد هائلة من المدنيين في البلدان الثلاثة.
سياسة سحق الحركات الثورية في الجنوب، أو محاولة سحقها تماماً، كانت جزءاً لا يتجزأ من المقاربة «الواقعية» التي بشّر بها. مسؤوليته المباشرة عن الانقلاب الدامي على الرئيس التشيلي المنتخب سيلفادور الأيندي لم تعد محط جدال، ولا دعمه غير المحدود للطغمة العسكرية في الأرجنتين.
مساندته غير المشروطة لإسرائيل، إضافة إلى ارتباطها بانحيازه المطلق لها كيهودي صهيوني، كلّ ذلك يندرج في نفس سياق سعيه لبسط الهيمنة الأميركية على المنطقة والإجهاز على التوجّهات التحررية فيها.
هو اعتبر أن إسرائيل هي بمثابة الأداة التي ستتيح، وفي ظل وجود أنور السادات على رأس السلطة في مصر، إخراج هذه الأخيرة من موقعها كقيادة للنظام العربي، ودخولها في المعسكر الأميركي. وبطبيعة الحال، فإنّ مثل هذا الخروج سيسمح لإسرائيل بالاستفراد بالفلسطينيين وبدول الطوق في المشرق وفي مقدّمتها سوريا.
في سجلّ كيسنجر أيضاً، تشجيعه وتأييده لغزو نظام سوهارتو في إندونيسيا لجزيرة تيمور الشرقية، مع ما تخلّل هذا الغزو من عمليات إبادة لسكانها الأصليين.
ضحايا بطريرك «الواقعية» يُعدّون بالملايين، ومحاولات أجهزة الدعاية الأميركية والغربية بتقديمه بصورة الحكيم الحريص على تجنيب العالم كارثة هائلة قد تنجم عن صدام أميركي-صيني لن تنطلي على أحد.
ربما ستفرج بكين يوماً ما عن مقدار المبالغ التي تقاضاها للإدلاء بمثل هذه المواقف. ما يشفي غليلنا أنه بلا ريب مات والحسرة في قلبه من رؤية انحسار نفوذ الغرب عالمياً وتداعي النظام الدولي الليبرالي الذي سخّر حياته لخدمته.
*وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الغرب كيسنجر إسرائيل الواقعية الحروب المجازر مصر أنور السادات الانقلابات العسكرية الهيمنة الأمريكية النظام الدولی
إقرأ أيضاً:
نجاح أولى جراحات الوجه والفكين في مستشفى الضبعة المركزي
نجح الفريق الطبي في مستشفى الضبعة المركزي بمحافظة مطروح، في إجراء أول جراحة معقدة ودقيقة في الوجه والفكين لمصاب دخل المستشفى في حادث، وجرى تشخيص حالته بكسور متعددة في الأسنان العلوية وعظام الوجه.
أول جراحة للوجه والفكين بمستشفى الضبعةوقال الدكتور إسلام عساف وكيل وزارة الصحة بمطروح، اليوم، إنه جرى إجراء التدخل الجراحي لمعالجة الكسور، في أول جراحة للوجه والفكين في مستشفى الضبعة.
تعاون بين أطباء الجراحة والأسنانوأضاف وكيل وزارة الصحة بمطروح، في بيان، أن العملية تكللت بالنجاح وجرى التدخل الجراحي بالتنسيق بين أطباء جراحة الفم والأسنان والجراحة العامة بالتكامل مع فريق أطباء التخدير والعناية المركزة، وعقب نجاح العملية جرى حجز حالة الشاب في القسم الداخلي بالمستشفى، وحالته الصحية مستقرة.
الفريق الطبي المشارك في الجراحةوأجرى العملية الجراحية فريق طبي يضم الدكتور محمد جاويش مدير مستشفى الضبعة أخصائي طب وجراحة الوجه والفكين، والدكتور علاء الدسوقي أخصائي الجراحة العامة، والدكتور نادر إسماعيل استشاري التخدير، ومتابعة الدكتور رضا عقل أخصائي العناية المركزة، بمعاونة سعيد الصعيدي ممرض.
وقدم وكيل وزارة الصحة بمطروح، الشكر والتقدير للأطباء والتمريض والخدمات الفنية والمعاونة على هذا التناغم والحرص على خدمة أهل مطروح بكل الإمكانيات المتاحة، في ظل حرص المديرية الدائم على تشجيع إجراء مثل هذه التداخلات الجراحية المعقدة والدقيقة بالأساليب العلمية الحديثة، بما يضمن توفير خدمة طبية متميزة علميا وفنيا بالمحافظة.
تشغيل عيادة المخ والأعصابومن ناحية أخرى وجه وكيل وزارة الصحة، إدارة مستشفى الضبعة المركزي، بأهمية الربط مع مستشفى الحمام المركزي، لتنسيق بدء عمل عيادة وجراحات المخ والأعصاب خلال الفترة المقبلة لخدمة أهل مدينة الضبعة.