الخرطوم- طغت مواقف الرئيس الكيني وليام روتو ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد تجاه الخرطوم على نتائج قمة زعماء دول اللجنة الرباعية للهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (إيغاد) لحل الأزمة السودانية، وأدت إلى توتر بينهم وتلويح السودان بتعليق عضويته في المنظمة الأفريقية التي كان أبرز مؤسسيها عام 1996.

واستضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أول أمس الاثنين قمة "إيغاد" لحل الأزمة السودانية بحضور الرئيس الكيني وليام روتو ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وغاب عنها رئيسا جييوتي إسماعيل عمر جيلي وجنوب السودان سلفاكير ميارديت.

وانسحب الوفد الحكومي السوداني الموجود في أديس أبابا بقيادة سفير السودان لدى إثيوبيا جمال الشيخ بعد تقديمه طلبا بتغيير رئاسة كينيا للجنة "إيغاد"، بسبب عدم حياد الرئيس الكيني في الأزمة، وفق بيان الخارجية السودانية.

وشارك في الاجتماع يوسف عزت المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وسمح لوفد من قيادات تحالف قوى الحرية والتغيير "الائتلاف الحاكم" في السلطة الانتقالية بالسودان سابقا بحضور الجلسة الختامية للاجتماع.

ودعا البيان الختامي للقمة طرفي الصراع إلى الوقف الفوري لإطلاق النار والاحتكام إلى الحوار، مشددا على أنه لا حل عسكريا للصراع، كما طالب بعقد لقاء مباشر بين قائدي الأطراف المتحاربة يهدف في النهاية إلى وقف العنف بشكل فوري، والتوقيع على اتفاق غير مشروط وغير محدد المدة.

ودعا البيان إلى عقد قمة لدول القوة الاحتياطية لشرق أفريقيا (إيساف) للنظر في إمكانية نشر قوة في السودان لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية.

جدل بالجلسة المغلقة

وعقب القمة، قال الرئيس الكيني إن الوضع في السودان يتطلب بشكل عاجل قيادة جديدة تكون قادرة على إخراجه من الكارثة الإنسانية.

بدوره، قال رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد إن السودان يعاني من فراغ في القيادة، مضيفا "يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي، فالعواقب وخيمة عليه وعلى المنطقة، لذلك نحن في حاجة إلى إجراءات فورية تشمل فرض منطقة حظر طيران ونزع المدفعية الثقيلة".

وكشف مراقب حضر الاجتماع المغلق -الذي استمر 5 ساعات- أن جدلا دار في الجلسة بشأن غياب وفد الحكومة، حيث رأى مشاركون أن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه السابق محمد حمدان دقلو "حميدتي" انقلبا على الشرعية في أكتوبر/تشرين الأول 2012 وأزاحا حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.

وذهبت آراء في الجلسة -حسب المراقب الذي تحدث للجزيرة نت- إلى أن القوى المدنية التي فوضتها قوى الثورة ووقعت الاتفاق الإطاري مع المكون العسكري هي صاحبة الشرعية ويمكن أن تمثل السودان، وتم إقرار مقترح يدعو للسماح لممثلي القوى المدنية "قوى الحرية والتغيير" بحضور الجلسة الختامية للاجتماع.

وأوضح المتحدث أن موقفي وليام روتو وآبي أحمد بشأن وجود فراغ سياسي في السودان والتشكيك في قيادته لم يردا في البيان الختامي للاجتماع، وأنهما موقفان يعبران عنهما ولا يعكسان موقف دول "إيغاد".

نشر قوة أفريقية

وبشأن نشر قوات أفريقية في السودان، قال رئيس أركان القوة الاحتياطية لشرق أفريقيا العميد عثمان محمد عباس إنه تلقى أوامر بالتخطيط لانتشار محتمل لقواته في السودان، واعتبره إجراء روتينيا يحدث عند وقوع أي أزمة في أي من دول "إيساف" العشر، مؤكدا أن هذا الأمر لا يمكن تنفيذه إلا بموافقة الحكومة السودانية.

وأوضح عباس عبر حسابه في تويتر أن إجراءات نشر القوات تمر بـ4 مراحل، هي: عقد اجتماعات للخبراء من الدول الأعضاء للخروج بتوصيات فنية، ثم اجتماع رؤساء الأركان لمناقشة تقرير الخبراء، واجتماع وزراء الدفاع، وقمة رؤساء الدول المعنية لاتخاذ القرار النهائي.

وفي هذا السياق، اعتبر المسؤول السياسي لحزب التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية مبارك أردول حديث وليام روتو وآبي أحمد مدخلا لتدويل الأزمة السودانية وتنفيذ أجندة خاصة بالدولتين.

وتوقع أردول أن تتقدم القوات الإثيوبية شمالا وبمشاركة من القوات الكينية باسم التدخل الإنساني في السودان بطلب من حكومة منفى يفكر تحالف قوى الحرية والتغيير في تشكيلها خلال الفترة المقبلة.

ويرى أن لإثيوبيا وكينيا تاريخ تدخلات في المنطقة، حيث تدخلتا في الصومال خلال عامي 2006 و2011 على التوالي، واحتلالهما جزءا من أراضيه "أوغادين" و"جوبالاند" والتأثير على سيادته وقراره السياسي، مضيفا أن السودان ليس الصومال ولم يتفكك، وجيشه والشعب أكثر وحدة وتماسكا من أي وقت مضى.

استبعاد التدويل

بدوره، استبعد الباحث في شؤون القرن الأفريقي حسن رمضان تدويل الأزمة السودانية، وقال إن مجلس الأمن الدولي اعتبر ما يجري في السودان شأنا داخليا، وأي توصيف مخالف لذلك لن يجد قبولا من المجتمع الدولي.

وفي حديث مع الجزيرة نت، رأى رمضان أن غياب رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلي -الذي ترأس بلاده الدورة الحالية لـ"إيغاد"- ورئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت عن القمة الرباعية يعكس انقساما أو عدم توافق بين الدول الأربع بشأن الأزمة السودانية.

ويعتقد المتحدث أن الانقسام في مجلس الأمن بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية من جهة أخرى يجعل من الصعب تمرير قرار بشأن السودان، ولم يستبعد أن يستغل رئيس الوزراء الإثيوبي ظروف السودان الحالية ومحاولة السيطرة على أراضي الفشقة الزراعية الخصبة التي استعادها الجيش السوداني من بلاده.


مواقف الفرقاء

وتبنى الفرقاء السودانيون مواقف متباينة تجاه ما جرى في أديس أبابا، وقالت وزارة الخارجية إن حكومة السودان "ترفض نشر أي قوات أجنبية في السودان وستعتبرها قوات معتدية"، مستنكرة تصريحات الرئيس الكيني ورئيس الوزراء الإثيوبي.

وأضافت الوزارة "نستنكر دعوة آبي أحمد لفرض حظر جوي ونزع المدفعية الثقيلة خلافا لمواقفه وتفاهماته المباشرة مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان"، واعتبرتها مساسا بسيادة الدولة السودانية.

وفي رسالة إلى قمة "إيغاد"، قالت الخرطوم إن "عدم احترام آراء الدول الأعضاء سيجعل حكومة السودان تعيد النظر في جدوى عضويتها في المنظمة".

في المقابل، رحبت قوى الحرية والتغيير بمخرجات القمة، وتأسفت على قرار وفد الجيش السوداني بعدم المشاركة في الاجتماع.

كما رحبت بتجديد وتأكيد المجتمعين الإقليمي والدولي العمل على إنهاء الحرب، وإشراك المدنيين، وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في استعادة الانتقال الديمقراطي، وتسليم السلطة كاملة للمدنيين.

وجدد التحالف المعارض دعمه مبادرة "إيغاد" وجهود السعودية والولايات المتحدة المنظمتين لمنبر جدة، كما رحبت بقمة زعماء دول الجوار السودان التي تستضيفها القاهرة غدا الخميس، ودعت إلى تكاملها مع الجهود المبذولة لإنهاء الحرب واستعادة الاستقرار في السودان.

من جانبها، رأت قوات الدعم السريع أن غياب الجيش عن مؤتمر أديس أبابا "يعكس عدم رغبته وعدم جديته في وقف الحرب وعدم شعوره بمعاناة المدنيين".

وحسب مسؤول في إعلام الدعم السريع (رفض الكشف عن هويته) تحدث للجزيرة نت، فإن تعدد المنابر يطيل أمد الحرب ويؤدي إلى المنافسة بين الوسطاء، ودعا إلى توحيد المنابر، مؤكدا استعدادهم للمفاوضات من أجل اتفاق لوقف الحرب واستعادة التحول الديمقراطي والحكم المدني.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الأزمة السودانیة الرئیس الکینی فی السودان أدیس أبابا آبی أحمد

إقرأ أيضاً:

ذكريات د. إحسان عباس في السودان

عبد المنعم عجب الفَيا

أصدر الدكتور إحسان عباس الأستاذ الجامعي والباحث والمحقق والناقد الأدبي المشهور كتابا في سنة ١٩٩٦ عن سيرته الذاتية اختار له عنوان: (غربة الراعي).
ولد إحسان عباس في قرية عين غزال، بريف حيفا، سنة ١٩٢٠ وتلقى تعليمه المدرسي بقريته وبحيفا ثم انتقل الى الكلية العربية بالقدس والتي كانت أعلى مرحلة تعليمية في فلسطين في ذلك الوقت. وبعد تخرجه من الكلية العربية، عمل بالتدريس فترة بصفد، ثم ابتعث للدراسة بجامعة القاهرة بمصر وتخرج فيها سنة ١٩٤٩ بدرجة الليسانس في اللغة العربية.
مكث بالقاهرة فترة قصيرة بعد تخرجه من الجامعة، ثم سافر الي السودان للعمل استاذا للغة العربية بكلية غردون التذكارية بالخرطوم التي اسسها الانجليز في ١٩٠٢ تخليدا لذكرى الجنرال البريطاني الشهير غردون الذي عين حاكما عاما على السودان من قبل الإدارة التركية الخديوية مرتين، وقتله ثوار الثورة المهدية في معركة تحرير الخرطوم سنة ١٨٨٥ وعندما نال السودان استقلاله سنة ١٩٥٦ صار اسم الكلية، جامعة الخرطوم.
قضى احسان عباس في السودان عشر سنوات في التدريس الجامعي. وذلك من سنة ١٩٥١ الي سنة ١٩٦٠ . وقد توفي إحسان عباس في سنة ٢٠٠٣ . وفيما يلي ابرز ذكرياته في السودان خلال تلك الفترة نوردها على لسانه مقتبسة من كتاب سيرة حياته المذكور.
**
"قرأت انا ومحمود الغول، إعلانا يفيد ان كلية غردون التذكارية في الخرطوم تحتاج إلى مدرس للغة العربية، فكتب محمود طلبين واحدا له و واحدا لي، وقلت له: لماذا تفعل ذلك؟ قال، اي واحد نالها منا كان ذلك خير. ولم أكن أعلم أن الأستاذ أحمد أمين كان قد سيل، من يرشح لهذا المنصب فذكر اسمي وكان ريس قسم اللغة العربية في تلك الكلية هو تلميذه محمد النويهي. فلما وصلتني برقية من المستر بيل Bell وكيل حكومة السودان بمصر يسالني فيها ان كنت لا ازال اقبل بالذهاب الي السودان رحبت بالعرض، وذهبت الي حي غاردن سيتي بالقاهرة، وقابلت المسؤول، واتفقت معه على موعد للسفر إلى الخرطوم.
"كانت السفرة تعني ان اركب القطار من القاهرة إلى اسوان، ثم الباخرة النيلية إلى ما بعد الشلال الي حلفا، ثم القطار من حلفا إلى الخرطوم. وهنا اعترضت مسألة جواز السفر وكنت احمل جواز سفر حكومة عموم فلسطين الذي صدر في القاهرة، وتلفن المسؤول الانجليزي الى الخرطوم وسال الموظف السوداني، هل يقبل مثل هذا الجواز، فاعلمه انه مقبول، على ان يسحب مني لدى وصولي وأعطى بدله وثيقة سفر. فاستبشرت خيرا وخيل الي ان السودانيين صنف مختلف عن ساير العرب الذين قست قلوبهم حتى عادت أشد قسوة من الحجارة، واحمد الله اني وجدت مصداق ما خيل الي حين استوطنت السودان".
"وصلنا الخرطوم يوم ١٨ يناير ١٩٥١ .. ووجدت الكلية استاجرت الي منزلا بالخرطوم بحري.. وعندما ذهبت ثاني يوم إلى الكلية قيل لي أن العام الدراسي على وشك الانتهاء ولهذا لم نخصص لك برنامجا، وتركنا لك الحرية في التعرف على طبيعة الدورس وتحضر بعض الدروس مع زملائك في الوقت نفسه.. بعد انتهاء بقية الفصل عدنا الي القاهرة.. وعندما رجعنا في السنة الدراسية التالية إلى الخرطوم وجدت الكلية قد خصصت لي منزلا في حي المطار بالخرطوم، وكانت دارا جميلة حولها حديقة تضم أشجار الموز والباباي والنيم والليمون وغيرها. فهاجرنا إليها من الخرطوم بحري وسكنا فيها طول اقامتنا في السودان، اي حوالي عشر سنين".
" كذلك وجدت الدكتور محمد النويهي قد حدد لي ما ادرسه في الأدب العربي.. وكان النويهي خريج مدرسة الدراسات الأفريقية والشرقية بلندن وقد نال منها شهادة الدكتوراة في موضوع "الحيوان في الشعر الجاهلي" ولذلك كان ميدان تدريسه قصايد مختارة من الشعر الجاهلي.. وكان النويهي يدرس في الجامعة موضوعا اخر هو "ابن الرومي" وانفق وقتا غير قليل يؤلف كتابا في الرد على العقاد، في ما كتبه عن ابن الرومي، فلما أصبحت مدرسا في قسم اللغة العربية وكل لي تدريس هذا الموضوع، وكان كتابه مقررا على الطلاب، فقلت له: ان من الانصاف ان يطلع الطلاب على الكتابين معا، ونتوسع في دراسة شعر ابن الرومي نفسه، لان الأصل والرد يمثلان قضية جدلية، وخير للطلاب ان يتمرسوا بدراسة شعر ابن الرومي قبل أن ندخلهم في حومة الجدل حوله. وقد ترك لي الحرية في توجيه الدرس".
"كانت كلية غردون الي حد ما، تشبه الكلية العربية في القدس، تختار ان يكون طلابها هم النخبة في المدارس السودانية. ولذلك كانت مهمة المدرس أكثر صعوبة وأكثر مسؤولية وأكثر امتاعا. لكن هناك فرق اساسي بين طلاب الكلية العربية وطلاب الكلية السودانية، وهو انغماس الطلبة السودانيين في الحزبية، وبعد طلاب الكلية العربية عن الانتماء إلى أحزاب. وكان الحزب الشيوعي في السودان قويا حسن التنظيم، كما كان العمال السودانيون فية يحسب حسابها، وكان تنظيم الإخوان المسلمين قد استقطب عددا غير قليل من الطلاب، ولهذا كانت روح التدين ذات نسبة عالية في الكلية السودانية".
" وكان اول شي كلفت به الطلاب، خارج حدود الدراسة، أن يكتب لي كل واحد منهم بيانا عن بلدته، مميزاتها عاداتها، وكان ذلك لفايدتي الخاصة في فهم الجو العام الذي نشأ فيه كل طالب، واذكر ان واحدا من منطقة غرب السودان، كتب يصف أحد المتميزين في بلده، وقال فيه انه عاش ثلاثين خريفا، فلما سالته لم يقول ذلك؟ اجابني لأن الخريف هو الفصل الأخضر البهيج بنباتاته وازهاره، والربيع فصل شديد الوطاة". (لا وجود لفصل الربيع في السودان وشهر مارس هو بداية الصيف، والخريف موسم الأمطار يبدأ في يونيو وينتهي في اواخر سبتمبر: كاتب المقال).
"وكان صديقي من السودانيين في الكلية، جمال محمد أحمد، وسعد الدين فوزي، اما الأول فمن أكبر ادبا السودان، وأما الثاني فكان من طليعة المفكرين السودانيين، درس في جامعة لندن الاقتصاد، وتمكن من التحصيل الفلسفي. وكان لنا زميل سوداني آخر يعيش فالقسم الداخلي، فكان يدعونا أحيانآ مشاركته في طعام الفطور، فكنا الأربعة نجتمع حول صحن من الفول، لا نطلب غيره. أعجبتني هذه القناعة، ووجدتها تصور حقيقة مهمة من واقعية المثقف السوداني الذي لا يترفع متعالا عن واقع الناس البسطا ".
" وبدات ادرس ما يمكنني أن أقدمه خارج نطاق التعليم في الكلية، فوجدت ان في السودان ادبا غزيرا وبخاصة في الشعر، وان الدراسات حوله قليلة أو بدائية، فشرعت اكتب الي بعض المجلات اعرف بالادب السوداني، حتى استوقفني يوما زميلي الدكتور عبد المجيد عابدين (الأكاديمي المصري المعروف، وضع أكثر من كتاب عن الأدب السوداني وكتاب في الأصول العربية للعامية السودانية: كاتب المقال)، وسألني: هل ستطول بك الكتابة عن الأدب السوداني؟ قلت: انك لا تسالني هذا السؤال الا ولديك مشروع في هذا الميدان نفسه. فقال: هذا صحيح. وبعد مدة قليلة ظهر كتابه (الثقافة العربية في السودان).. فاخذت اشجع نشر الشعر السوداني والقصة القصيرة السودانية في بيروت، وكان من ثمرة هذا الجهد، ظهور ديوان غابة الابنوس لصلاح أحمد إبراهيم، ومجموعة قصص لصلاح وصديقه، علي المك، ثم غضبة الهبباي لصلاح، وديوان الصمت والرماد للشاعر كجراي".
"أصبح احد طلابي وهو محمد ابراهيم ابو سليم مسؤولاعن المحفوظات والوثايق السودانية، فتمكنت بواسطته من الاطلاع على كثير من الوثائق الخاصة بتاريخ المهدية، ونسخت كثيرا منها، ودرست منها أساليب الكتابة في ذلك العصر، وكنت اعد نفسي لاستغلالها في دراسة التاريخ، ولكن ذلك كان في السنوات الأخيرة من اقامتي في الخرطوم، ثم اضطررت لمغادرة السودان قبل أن أحقق ما كنت انوي عمله، لكني اعتقد خلفت من الطلاب من يحسنون القيام بتلك المهمة على نحو افضل".
"ورغبة مني في معرفة مناطق أخرى من السودان خارج العاصمة المثلثة، قمت برحلتين واحدة الي الغرب زرت فيها مدينه الأبيض (تصغير الابيض وهي عاصمة إقليم كردفان: كاتب المقال) والدلنج. وواحدة الي الشرق زرت فيها كسلا، ولكني لم ازر الجنوب، وهي منطقة تستحق الزيارة غير اني لم احسن التوقيت المناسب لزيارتها".
" وقد فكرنا في قسم اللغة العربية بفتح مدارس لتعليم الكبار، فشاركت في هذا النشاط ووجدت فيه متعة فايقة. ودعيت إلى معظم النوادي في الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري والقيت فيها محاضرات، ولم اعتذر في أية مرة عن اية محاضرة، الا محاضرة واحدة كان القاوها مقررا في سنة ١٩٥٨ بعد الانقلاب العسكري الأول، في ام درمان، فوجدت الشرطة قد اغلقت النادي وحيل بيني وبين المحاضرة" .
"ومنذ ان بدأت نشاطي في الكلية السودانية، اصطفيت أربعة عشر طالبا، وكنا نجتمع في اتحاد الطلبة أو في بيتي، ونتحدث في شتى الموضوعات بشكل عفوي، وكانوا مختلفين في الانتماء بعضهم من اليساريين، وبعضهم الاخر من الاخوان المسلمين، وكان الحوار بينهم يشتد احيانا وترتفع درجته، ولكن سرعان ما كانوا يفييون للهدوء ويغادرون المجلس وليس بينهم سو تفاهم. وكانت هذه الظاهرة يوميذ تمثل السودانيين في أعلى مستويات الحوار وبخاصة في البرلمان بعد الاستقلال، إذ كانوا في قاعة البرلمان يمثلون الحكم والمعارضة، وهم بعد الجلسة الرسمية اخوان متحابون، وكنت اقول لنفسي حقا الديمقراطية تليق بهم ولهم".
"في خلال عشرة أعوام، كان لا بد أن اتعرف الي كثير من السودانيين خارج نطاق الكلية، من فيات مختلفة، وقد وجدت فيهم النموذج الذي ارنو اليه من الإخلاص والتواضع وتقدير رابطة الصداقة، وعدم التكلف في الخطاب، لولا ان أحيل بعض الصفحات هنا الى جرايد من الاسماء، ولولا خوف السهو عن ذكر بعضهم، لعددت كثيرا أو لعددتهم جميعأ ".
" كانت الحياة في الخرطوم مريحة، بدقة ما فيها من نظام في جميع الشؤون والمجالات، وتوافر كل ما يحتاجه المرو من لباس ودوا وطعام، فإذا جمعت الي ذلك لطف الشعب السوداني ودماثة ابنايه وصدق العلاقات بين الناس، كنت تصف جوا مثاليا للعيش. وحين دخل السودان في عهد الاستقلال سنة ١٩٥٦ استبشرنا خيرا، ووافق هذا العام صد العدوان الثلاثي على مصر، وكانت عواطف السودانيبن جياشة، بالغيرة على مصر وشعبها حتى لقد تطوع بعض السودانيين ليشاركوا اخوانهم ابنا مصر في وقفتهم ضد العدوان.
وقد أصبح واضحا الميل إلى "سودنة" المناصب الإدارية فيها، فاستقال محمد النويهي من رياسة قسم اللغة العربية وعاد إلى مصر، وعين خلفا له الدكتور عبد الله الطيب، وأصبح نصر الحاج علي ريسا للجامعة. وكان صديقاي جمال محمد أحمد وسعد الدين فوزي، ينصحاني بالحصول على الجنسية السودانية واستخراج جواز سفر سوداني، وكنت اقول لهما، لا يراني الله انتهازيا، هذه المناصب الإدارية لكم ولا انافس أحدا فيها وانا راض ان اظل استاذا، فذلك حسبي".
" وفي السنة التالية اي ١٩٥٧ انشيت جامعة القاهرة فرع الخرطوم، واتصل بي المسؤولون فيها لادرس الأدب الأندلسي، فاعتذرت عن ذلك لانه لم تكن لي علاقة بذلك الأدب، ولكن اعتذاري لم يقبل، فانصرفت إلى المصادر الأندلسية واخذت اهيي محاضرات صالحة لهذه الغاية".
"وفي هذه السنة نفسها كتب الي اخي بكر من بغداد يذكر انه يقضي اوقات صعبة في السجن أو في المنفى دون تهمة توجه اليه، وقدرت ان الحكومة العراقية غضبت عليه بسبب كتابي عن البياتي، ولم يكن تقديري صحيحا. وكان جمال محمد أحمد قد أصبح سفيرا للسودان في البلاد العربية المشرقية ومركزه بغداد، فكتبت اليه ان يمنح اخي تأشيرة دخول إلى السودان، ففعل، وجا بكر فقضي سنتين مدرسا في مدارس الأحفاد الأهلية بام درمان، وكان مديرها الصديق، يوسف بدري. وكانت صحبة بكر في هاتين السنتين رفقة محببة لدينا معا، ساعدتني السيارة في ان اتردد الي ام درمان لازوره، وكان هو يجي الخرطوم في نهاية الأسبوع".
"وما كادت السنة الدراسية ١٩٥٩- ١٩٦٠ تنتهي حتى واجهتني مشكلة تجديد العقد. كان العقد مع الجامعة يجدد كل خمس سنوت، وقد اتممت عشرا وأصبح بقايي في السودان مرهونا بتجديد العقد لخمس سنوات أخرى... حزمت أمري على أن أغادر الخرطوم، وحرصت ان اشحن كتبي معي إلى بيروت.. وأخذت كتبي لاستصدار إذن بشحنها، وكان المسؤول عن ذلك فتى سودانيا لا تسمح سنه بأن يكون من خريجي الجامعة. وبعد انتظار غير قصير لم أحصل على الأذن، فقلت للفتى: ليتك توقع لي الأذن لانصرف إلى عملي، فقال: هل افهم من ذلك انك مغادر بلدنا نهاييا؟ قلت: لا أظن ذلك، وإنما انا انقل عايلتي ومعها كتبي لكي يدخل ابنايي مدارس لبنانية. عندها تنهد هذا الفتى بارتياح وقال: الحمد لله. قلت ومن أين تعرفني مع انك لم تكن احد تلاميذي في الجامعة؟ قال: لم تفتني اية محاضرة من محاضراتك في العاصمة المثلثة. تأثرت كثيرا بكلام هذا الفتى وحمدت الله اني اخفيت عن أصدقائي السودانيين الكثيرين خبر مغادرتي النهائية. وحين وصلنا إلى بيروت انا وعايلتي ارسلت إلى رئيس الجامعة، رسالة أخبره فيها باستقالتي من الجامعة".
"كان في استقبلنا حين وصلنا مطار بيروت الدكتور محمد نجم وريس دايرة اللغة العربية الدكتور انيس فريحة، وطالت إجراءات الدخول حتى كدنا نياس من الأذن لنا بذلك..
كان راتبي بالجامعة الأمريكية ببيروت لا يبلغ ثلث راتبي في الخرطوم... وكانت النقلة من بالخرطوم الي بيروت ومن جامعة الخرطوم إلى الجامعة الأمريكية، نقلة من الهدوء السكوني إلى الحركة الدينامية المتفجرة. كانت الجامعة الأمريكية ملتقى لمختلف الجنسيات القوميات العربية وغير العربية. وكانت بيروت مركزا ثقافا.. كان تضم نخبة من المثقفين من مختلف الاقطار العربية ودور نشر تعد بالعشرات، ومجلات وصحفا أدبية فكرية ومقاهي يلتقي فيها المفكرون والنقاد والمبدعون.
وكنت قد الفت حياة الهدوء والبعد عن الصخب، وفي الخرطوم اعترف بي الناس وبدوري فيهم وانكرني شخص واحد، وفي بيروت اعترف بي شخص واحد هو الدكتور حليم بركات الروايي المشهور وعالم الاجتماع من بعد، اخذني إلى الاذاعة اللبنانية وسالني بعض اسيلة اجبت عليها، وانكرني الجمهور، وحين وجدت الأمر كذلك اثرت الابتعاد والعمل في ما هيت له، من تدريس الطلبة وتخريحهم وكتابة البحوث، وعدم التدخل في اي امر لا أحسنه، مثل العمل في السياسة أو معالجة القضايا التي تشغل بال الجماهير، في الصحافة، والاكتفاء بدور المتفرج على تلك البانوراما العجيبة دون الانزلاق إلى تضاعيفها ".
وكانت اول مشكلة واجهتني في بيروت "ولم أكن احسب لها حسابا وهي أنني لا أملك جواز سفر وإنما اتنقل بموجب وثيقة سفر سودانية (ليسه باسيه) صالحة لستة أشهر. هنا سعيت الي السفارة السودانية في بيروت، وعرضت الأمر على السفير الصديق، مصطفى مدني، فقال: ساجدد لك وثيقة السفر ستة أشهر أخرى، وان كان هذا ممنوعا، ومن ثم تحاول أن تتدبر امرك. هنا نظرت في الأمر فوجدت ان الجهة الوحيدة التي يصدر عنها الضوء هي الأردن، فكتبت إلى صديقي ابراهيم القطان والمحامي محمد اليحيى، رحمهما الله، فكان لجهودهما الخيرة ان حصلت على جواز سفر، وبذلك حلت مشكلة الإقامة في لبنان".
**
تضمنت سيرة إحسان عباس بعض المواقف الطريفة، نذكر منها طرفتين، الأولى حدثت مع المؤلف في جامعة القاهرة والثانية حدثت له بجامعة الخرطوم.
يقول :" عندما نجحت عام ١٩٤٩ في نيل شهادة الليسانس، كان الذي يقرأ الاسماء هو الاستاذ محمد عبد الهادي ابو ريدة، الذي درسنا الفلسفة الإسلامية، اقتربت منه وقلت له: انا تلميذك إحسان عباس، فإذا قرأت اسمي فارجو الا تقرن به لفظة الآنسة. وبعد تردد يسير قرأ اسمي صحيحا".
وهذا يدل على أن الاسم إحسان يطلق في البلدان العربية عادة على الاناث، وإطلاقه على الذكور نادر.
اما في جامعة الخرطوم فيحكي إحسان عباس هذه الطرفة: "دخلت ذات يوم عرفة الدراسة الخاصة بطلاب السنة الثانية، وكان من عادتي ان الا ابدا الدرس الا بعد أن يسيطر السكون تماما، وتلكات في البد لاني سمعت الطلاب في الصف الاخير يتحدثون، دون أن افهم الموضوع الذي يشغل بالهم. وبعد انتهاء الحصة عدت إلى مكتبي، ورأيت كوكبة من الطلبة يدفعون الطالب، عبد الكريم، احد الذين يجلسون في آخر الصف، ويوجهونه الي باب مكتبي. فدخل عبد الكريم وخاطبني بلهجة غريبة وقال لي :" إياك أن تكون تعقدت". قلت وانا لا أفهم ما يعنيه: ليس من السهل أن اتعقد، فكن مطمينا، وبقي هذا كله في نفسي اشبه باللغز. حتى اقيم في اتحاد الطلبة أمسية ترفيهية وقام احد الطلاب يروي ما حدث من نكت بين الطلاب و الأساتذة واحدا واحدا. فقص كيف انني دخلت غرفة الدرس، وكان عبد الكريم يقول في الصف الاخير: هذا الفلسطيني ماله ومالنا؟ لماذا يشغل نفسه بتدريسنا ابن الرومي، لو كان ذا قدرة لبقي في وطنه يدافع عنه، وراني الطلبة ساكتا، فظنوا اني سمعت ما قاله فادركني الاستياء مما سمعت، فاصروا عليه أن يدخل مكتبي ويعتذر الي، وكانت كلماته "إياك تكون تعقدت" هي التعبير الذي وجده ملايما للاعتذار. وعندما سمعت هذه الحكاية اكبرت هذا الأدب لدى الطلاب، ولكني قلت لنفسي، صدق عبد الكريم في كل ما قاله، ولم يكن له حاجة إلى الاعتذار، ولو كنت عرفت يوميذ معنى اشارته، لانصفته اكثر".
**
في ثنايا سرده لذكرياته عن حياة الطفولة في القرية، أدخل الدكتور إحسان عباس كثيرا من المفردات من اللغة العامية الفلسطينية. وقد لفت نظرنا ان بعض هذه المفردات مشترك بين العامية السودانية والعامية الفلسطينية. ومما ورد من المشترك، على سبيل المثال :
ديوان (صالون استقبال الضيوف في البيت)، مصطبة، طاقة (نافذة غرفة الطين)، صينية (الصحيفة المعدنية التي يقدم فيها الطعام والمشروبات)، صحن، سلطة، لبن رايب وروب، بيض مسلوق، صحارة (تنطق سحارة في العامية السودانية وهي عندنا خزانة لحفظ الاشياء والمقتنيات الثمينة، لم يعد لها وجود)، كيس، جبة، جلابية، جيب، دكان، فرن (مخبز الرغيف)، عجين، بندورة، سخينة (نوع من الادام من البصل المحمر)، مطمورة ومطامير (حفرة في الأرض بمثابة مخزن لتخزين الغلال وهي فصيحة). جرن (بالضم. مكان تجميع سنابل الحبوب عند الحصاد)، علف، تبن، بطيخ. وادي (نهر صغير أو خور)، شاطر (شجاع)، حجاب (بالكسر تميمة قرانية تكتب على ورق وتجلد وتعلق أو تلبس). فلقة (الة لتاديب التلاميذ في الكتاتيب والمدارس في ذلك الوقت) فراش (على وزن فعال، ساعي المدرسة أو المكتب ونحوه). ولاعة السجاير، قرش، جنيه، وغيرها.
**
هناك أيضا تشابه بين فلسطين والسودان، في بعض المعتقدات مثل اعتقاد عامة الشعب في شيوخ الطرق الصوفية والتعلق بهم والإيمان بكراماتهم. كما يوجد تشابه في الاحاجي الشعبية وبخاصة احاجي الغيلان، مثل حكاية الشاطر حسن والغول، وفاطمة السمحة والغول. إضافة إلى الاشتراك في أسماء العاب التسلية، ومن ذلك لعبة "سيجة" للكبار والتي تستعمل فيها حجار صغار أو نحوها توضع على حفر صغيرة مصطفة، وتنقل على طريقة قطع الشطرنج ولكنها ابسط كثيرا من الشطرنج.

*المصدر :
إحسان عباس، غربة الراعي: سيرة ذاتية، دار الشروق، عمان، الأردن، الطبعة الثانية، ٢٠٠٦

abusara21@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • مطابع العملة السودانية تدفع بقافلة دعما لمواطني شرق الجزيرة وتوتي
  • الأزمة الغذائية في السودان تتفاقم.. 24.6 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات عاجلة
  • قبيل صدور تقرير عن المجاعة .. الحكومة السودانية تنسحب من نظام عالمي لمراقبة الجوع
  • رئيس مركز دراسات: نهاية أزمة اليمن تلوح في الأفق!
  • ذكريات د. إحسان عباس في السودان
  • رغم الاعتذار.. قائد جيش أوغندا يهدد مجددا بـ”غزو الخرطوم”
  • قائد الجيش الأوغندي يهدد بغزو الخرطوم
  • رغم الاعتذار.. قائد جيش أوغندا يهدد مجددا بـ"غزو الخرطوم"
  • قائد القوات الأوغندية يهدد السودان بعد اعتذار بلاده
  • الخارجية السودانية ترحب باعتذار أوغندا بعد تصريحات قائد قوات الدفاع