دمشق-سانا

حجزت حرفة “الزجاج التقليدي” مكاناً لها ضمن الحرف السورية الأصيلة، هذه الصناعة تعود إلى كنعانيي الساحل السوري “الفينيقيين” الذين عملوا على نقلها عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا.

وفي القرن التاسع قبل الميلاد ظهرت في سورية والعراق مراكز لصناعة الزجاج، وتم بعدها التوصل إلى عملية نفخ الزجاج في السواحل السورية، وازدهرت في العصر الإسلامي وخاصة في دمشق، واستمرت يدوياً لتنتشر في معظم المناطق.

وفي ظل الحرب التي تعرضت لها سورية والحصار الاقتصادي الظالم المفروض على شعبها باتت حرفة “الزجاج المنفوخ يدوياً” عنصراً ثقافياً سورياً مهدداً بالاندثار.

حكاية الزجاج السوري المنفوخ يدوياً..

يعود اكتشاف الزجاج إلى قدماء الكنعانيين السوريين وتطور صناعته ودخلت عليه عدة أساليب أبرزها عملية النفخ وتعود هذه العملية حسب المؤرخ منير كيال في كتابه “مآثر شامية في الفنون والصناعات الدمشقية” الصادر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب إلى القرن الأول للميلاد، وقد ساعدت هذه الطريقة في تطور صناعة الزجاج وازدهارها، حيث أتاحت الفرصة لصناعة روائع وتحف تهافتت عليها دول العالم.

كما يعود الفضل في ذلك حسب الكتاب إلى الصناع السوريين على اعتبار أن سورية كانت أيام الإمبراطورية الرومانية المركز الرئيس لهذه الصناعة، ثم ما لبثت هذه الطريقة أن انتقلت إلى إيطاليا ومن ثم أوروبا، مبيناً أن الصناع السوريين كانوا على درجة عالية من اللياقة والبراعة والمران تصعب مجاراتهم في عمليات النفخ.

وذكر الكتاب أن سورية كانت أيام الرومان والبيزنطيين وصولاً إلى العصر الأموي المركز الرئيس في تصدير الزجاج إلى بلدان أوروبا والشرق الأقصى، وكان صناع الزجاج في العصر الإسلامي الأول يمارسون عملهم وفق الأساليب التي توارثوها حتى بلغت هذه الصناعة ذروتها في سورية في القرن السابع للميلاد.

أرق من زجاج الشام….

يقال في الزجاج السوري مثل شعبي متداول “أرق من زجاج الشام” نظراً لدقة ورقة صنعه وحرفية صانعيه، وكان الرحالة ابن بطوطة ذكر في كتابه “رحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” أنه لما نزل إلى دمشق في القرن الرابع عشر للميلاد وجد شوارع مستطيلة فيها حوانيت الجواهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة.

وحسب كتاب “مآثر شامية في الفنون والصناعات الدمشقية” فإن من أشهر من عمل بصناعة الزجاج المنفوخ في تلك الفترة أبو إسحق إبراهيم بن محمد النحوي الملقب بـ ” الزجاج” قبل اشتهاره بالأدب.

العصر الذهبي للزجاج السوري المنفوخ يدوياً…

ويؤكد الكتاب أن صناعة الزجاج السوري بلغت في الفترة الممتدة من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر للميلاد درجة كبيرة من التقدم والازدهار، وكان أبرز ما يميز هذه الصناعة إنتاج الأواني والأكواب الزجاجية ذات الزخارف البارزة والمضافة إلى القطعة أو المضغوطة معها أثناء التصنيع.

وكان من أهم الأعمال التي قام بإنتاجها صناع الزجاج في سورية الأواني المزخرفة برسوم البريق المعدني وألوان الميناء الزجاجية الأمر الذي عده الباحثون عنواناً لمرحلة أطلق عليها “العصر الذهبي للزجاج السوري”.

وبين الكتاب أن دمشق وحلب كانتا أهم مراكز هذه الصناعة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وغدت منتجاتهما في طليعة ما قدمته صناعة الزجاج في هذه الفترة، وغمرت المنتجات السورية من الزجاج المطعم بالميناء أسواق أوروبا وكانوا يطلقون على المذهب منه والمصدر إلى أوروبا ” الزجاج الدمشقي”.

الزجاج المنفوخ يدوياً… عنصر ثقافي سوري..

الزجاج المنفوخ يدوياً حسب كتاب “التراث الثقافي اللامادي السوري” بجزئه الأول الصادر عن وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية عنصر ثقافي يصنف على أنه من المعارف والمهارات المرتبطة بفنون الحرف التقليدية نظراً للمهارات والمعارف اللازمة لتصنيع الزجاج بطريقة النفخ اليدوي.

وبين الكتاب أنه كانت تنتشر صناعة الزجاج المنفوخ يدوياً في جميع المناطق السورية، وتشتهر بها مدينة دمشق على وجه الخصوص لما قدمه حرفيوها من أوانٍ زجاجية متقنة ومتنوعة، إضافة الى منطقة ريف دمشق، حيث كانت توجد ورشات التصنيع قبل الحرب على سورية.

العناصر اللامادية المرتبطة بعنصر الزجاج المنفوخ يدوياً…

ترتبط الأواني الزجاجية بثقافة المجتمع في تزيين وتجميل المنزل وتتنوع الأدوات الزجاجية المستخدمة في الطعام والشراب والضيافة، كما ترتبط بالحرفة مهارات الرسم والتلوين على الزجاج، وأيضاً ترتبط بحرفة صناعة الزجاج المنفوخ يدوياً بتقنيات الصهر واختيار المزيج الملائم من السيلكا والصودا، ومهارة الصانع ودقته باختيار الوقت المناسب للنفخ في الأنبوبة الحديدة، إضافة إلى الوقت المناسب في قطع الزجاج المنفوخ وتشكيله حسب الشكل المطلوب.

وأكد كتاب “التراث الثقافي اللامادي السوري” أن هذه الحرفة تشكل مصدر فخر تاريخي لدى السوريين نتيجة تطويرها في سورية وانتقالها إلى أوروبا، وخصوصاً مدينة فينيسيا إذ يمتلك زجاج المورانو المنفوخ شهرة عالمية.

أصل الزجاج المنفوخ كما يراه أصحابه…

ويذكر كتاب “التراث الثقافي اللامادي السوري” أن صناعة الزجاج في سورية تراجعت في العهد العثماني، لكنها عاودت استرداد بعض ما كانت عليه، وحاولت التجديد بقدوم حرفيين من مدينة الخليل الفلسطينية المشهورة بصناعة الزجاج وهم من أصل سوري ذهبوا للعمل في فلسطين وعندما ضاقت بهم الأحوال عادوا إلى دمشق.

وتنحصر ممارسة العنصر حسب الكتاب بعائلة “القزاز” وعائلة “الحلاق” في دمشق، أما بقية الأشخاص الممارسين من غير هاتين العائلتين فهم متعلمون للحرفة، وكانت تمارس هاتان العائلتان العمل في كل من باب شرقي وسوق الزجاج في الإحدى عشرية، والدويلعة ومنطقة السيدة زينب.

الخطر الذي يهدد الزجاج المنفوخ يدوياً…

إن أبرز ما يهدد عنصر الزجاج المنفوخ حسب رئيس الاتحاد العام للحرفيين في سورية ناجي الحضوة ما تعرضت له هذه الحرفة السورية العريقة اقتصادياً من الأذى جراء الحرب على سورية والحصار الجائر عليها، والتي تتمثل بأبرز أشكالها صعوبات تأمين حوامل الطاقة “كهرباء ومازوت” التي تعتمد عليها الحرفة في تشغيل الأفران المخصصة لها والتي بدورها تؤثر على ديمومة عمل هذه الأفران التي يتطلب تشغيلها على مدار الساعة التي قد يسبب توقفها أو عملها المتقطع إلى تحطم الفرن والذي يكلف مبالغ مادية عالية عند إعادة بنائه من جديد.

ومن الصعوبات التي تواجهها الحرفة وصناعها أيضاً، قال الحضوة في تصريح لسانا: “قلة الأيدي العاملة وعدم الإقبال على المهنة نتيجة انخفاض الطلب على منتجاتها ومنافسة المنتجات المصنّعة آلياً وإغلاق العديد من المعامل وورشات التصنيع، وتوقف الحركة السياحية، ما أدى إلى تراجع طلب الشراء على الزجاج المنفوخ”.

وأكد الحضوة أن هذا العنصر الثقافي المهم مع الموارد المادية المرتبطة به مهدد أيضاً، وذلك لارتفاع تكاليف الإنتاج وصعوبة الترويج له داخلياً وخارجياً، وعدم التدريب عليها بشكل محترف، وعدم وجود ربط لهذه الحرفة بالتطور العلمي والحرفي في صناعة الزجاج الحاصلة في مناطق أخرى من العالم”.

وأشار إلى أنه بفضل الحرفيين السوريين العاملين في هذه الحرفة الأصيلة وسعيهم للحفاظ عليها من الاندثار مع تضافر جهود جميع الجهات المعنية من حكومية وغير حكومية ومجتمعية ستتجاوز الصعوبات والخطر المحدق بها، مبيناً أن الاتحاد مع الشركاء المعنيين يعملون على تركيب أفران جديدة للزجاج المنفوخ في معمل دمر بدمشق وحمص، وإقامة ورشات تدريبية مجانية لتعلم الحرفة لمن يرغب من الشباب في محاولة لتجاوز الصعوبات، لكون الرهان عليه متمثلاً بكون الزجاج السوري المنفوخ يدوياً من العناصر التراثية المرغوبة والطلب عليها كبير في الأسواق الخارجية.

رشا محفوض

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

كلمات دلالية: هذه الصناعة هذه الحرفة الکتاب أن الزجاج فی فی القرن فی سوریة

إقرأ أيضاً:

المسيَّرة يافا… واليمن الجديد

 

 

يبدو واضحاً أن يمناً جديداً يولد منذ تفعيل أنصار الله دورهم في الحياة السياسية اليمنية. وقد جاء اتخاذ قرار إطلاق جبهة الإسناد لغزة من صنعاء كمؤشر إضافي على التحولات الكبرى التي يعيشها اليمن.
شكلت هذه الجبهة علامة فارقة في معركة طوفان الأقصى، إلا أن استهداف مسيرة يمنية لـ”تل أبيب” خلال الأسبوع الماضي اعتبر حدثاً مفصلياً، إلى درجة أن مصدراً في الجيش الإسرائيلي وصف هجوم المسيرة التي سميت يافا بأنها “بمنزلة 7 أكتوبر جديد لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي”، وأن هذه العملية تنذر بانتهاء عصر “السماء الصافية”، في إشارة إلى طبقات أنظمة الدفاع الجوي التي تحمي “إسرائيل”.
قبل طوفان الأقصى، لم يكن اليمن بعيداً عن الاهتمام الإسرائيلي ربطاً بالاستراتيجية الإسرائيلية التي تنص على الهيمنة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
الأطماع الإسرائيلية التي تُرجمت خلال سبعينيات القرن الماضي بسيطرة “إسرائيل” على عدد من الجزر الإثيوبية جنوب البحر الأحمر، دفعت اليمنيين إلى نشر قوات في جزيرتي حنيش الكبرى وجبل زقر عام 1977.
العام 1995 شهد تطورات لافتة على هذا الصعيد. قامت البحرية الإريتيرية، وبإشراف خبراء إسرائيليين، بمهاجمة جزر حنيش اليمنية بزوارق بحرية إسرائيلية وطائرات إسرائيلية. وقد سجل أن تحركات أرتيريا في البحر الأحمر تأتي بالتنسيق مع “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية، وصولاً إلى تحول منطقة جنوب البحر الأحمر إلى مجال نفوذ أميركي إسرائيلي.
في تلك المرحلة، لم يصدر أي رد فعل يمني كبير إزاء هذه الإجراءات الإسرائيلية. بقيت الأمور على حالها إلى حين دخول أنصار الله إلى المشهد السياسي اليمني، والذي وصل إلى ذروته عام 2014. لم يكن إطلاق أنصار الله صرختهم الشهيرة “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل” مجرد عمل إعلامي استعراضي. أدرك الإسرائيليون أن اليمن يمر بتحولات كبيرة.
مع بداية العدوان السعودي على اليمن، تعاطى الإسرائيليون كأن الحرب حربهم. كتبت صحيفة يديعوت أحرونوت في تلك الفترة أن الحرب في اليمن تدخل في “مصلحة إسرائيل، وهي فرصة لقطف الثمار”.
في آب 2020، نُشرت دراسة في مجلة “معراضوت” الإسرائيلية تظهر الاهتمام الإسرائيلي باليمن وحيثياته. ذكرت الدراسة أن المعركة في اليمن جزء من الصراع الإقليمي على الهيمنة على الشرق الأوسط بين إيران و”الائتلاف العربي السني”، و”أن انتصار الحوثيين سيمنح طهران سيطرة على معبري المياه الاستراتيجيتين من مضائق هرمز ومضائق باب المندب”.
وفي سياق الربط بين أنصار الله وحزب الله، طرحت الدراسة السؤال التالي: “ماذا يستطيع الحوثيون تعلمه من حزب الله؟ وماذا يستطيع حزب الله أن يتعلم من تجربة اليمن؟”.
مجالات الاستفادة والدروس المستقاة من قبل الطرفين تتعدد وتتوزع بحسب الدراسة الإسرائيلية بين “الساحة البحرية واستخدام المسيرات والدفاع الجوي”. وتقول المجلة الإسرائيلية: “إضافة إلى المعلومات والتجربة التي راكمها حزب الله، تراكمت تهديدات مباشرة لإسرائيل ومصالحها من جانب الحوثيين”.
وتخلص الدراسة إلى أن المعركة على الهيمنة على الشرق الأوسط في اليمن قد تجر “إسرائيل” إلى داخل قلب المعركة، وتوصي أصحاب القرار في “إسرائيل” بأن يتابعوا التطورات في ساحة القتال في اليمن.
ولكن يبدو أن المتابعة لم تؤتِ ثمارها، يظهر الأداء الإسرائيلي، كما التطورات اللاحقة، أن الفهم الإسرائيلي لليمن لم يكن دقيقاً، ما يشير إلى ضعف في التحليل وفي تفهم المعطيات اليمنية. سوء الفهم والتقدير وصل إلى ذروته بعد طوفان الأقصى.
أفاد تقرير نشره معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة “تل أبيب” في شهر كانون الأول من العام الماضي بأنَّ “عدة عوامل قد تجعل الحوثيين يقلصون استهدافهم لإسرائيل”، وأضاف أن المسافة بين اليمن و”إسرائيل” التي تصل إلى نحو 2000 كلم حتى إيلات في أقصى جنوب “إسرائيل” هي العامل الأول الذي سيدفع بهذا الاتجاه.
التقدير ذاته تكرر في موقع ماكو العبري الذي حسم أنّ “جماعة أنصار الله غير مهتمة بفتح جبهة مع إسرائيل”، أما صحيفة معاريف، فذهبت إلى حد طمأنة الجمهور الإسرائيلي إلى أن “مدى الطائرات التي يمتلكها الحوثيون يبلغ 800 كيلومتر، وأنها لن تتمكن من حيث المبدأ من استهداف إسرائيل”.
جاءت الطائرة يافا لتظهر الخلل في التقديرات الإسرائيلية، قد يكون أحد أسباب عدم الفهم هو التغيرات الكبيرة التي شهدتها الساحة اليمنية، لقد أخرجت الرمال اليمنية المتحركة الكثير من المفاجآت، وصولاً إلى تحول قضية التخلص من التبعية الخارجية إلى خيار شعبي ومصيري.
أظهر اليمنيون شجاعة في الدفاع عن أرضهم وكرامتهم، ما أطاح الكثير من التصورات والمسلمات التي سادت في العقود الماضية.
خاض اليمنيون ما يشبه حرب التحرير الوطنية التي أدت إلى خلق ديناميات أهلية ولدت الكثير من عناصر القوة والاقتدار، وأثبتوا أن العداء لإسرائيل ودعم القضية الفلسطينية مسألة ترقى إلى مستوى الالتزام العقائدي والأخلاقي والوطني، وأن قرار دعم غزة لا تراجع عنه، وأن سقوف الدعم أعلى مما يتوقعه كثيرون.

مقالات مشابهة

  • إيطاليا أول دولة اوروبية في مجموعة السبع تستأنف العلاقات مع سوريا
  • دولة أوروبية تستأنف علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا
  • افتتاح ثقافي جرش بمشاركة 89 أديباً أردنياً وعربياً
  • مفاوضات سويسرا السودانية… هل من أمل؟
  • الفدرالي الأميركي يتبنى ستراتيجية جديدة تجاه العراق.. الدولار مهدد بالارتفاع لمستويات غير مسبوقة
  • تركيا جاهزة لبدء عملية التطبيع مع بشار الأسد
  • الكرملين يكشف عن أبرز محادثات الرئيس الروسي مع نظيره بشار الأسد
  • المسيَّرة يافا… واليمن الجديد
  • اعتقال رسام كاريكاتير سوري بمناطق المعارضة ومطالبات بإطلاق سراحه
  • هل تعرقل إيران لقاء أردوغان بالأسد في موسكو؟