يتعلم المرء كلما أوغل زمنه فى المُضى مقتربا من يقين العلم عندما يُغادر الأرض نحو ضفة الأبدية، وأهم ما يتعلمه ألا يتقبل آراء مَن يحبهم ويُسلم بها دون تمحيص أو مراجعة.
وأصل الموضوع أننى واحد من مُتيمى الشيخ محمد الغزالى، رحمه الله، نشأت مسحورا بما يكتب، ورأيت فيه نموذجا فريدا لعالم دين يحاول التماهى مع العصر، والتقارب مع الآخرين، والتوافق مع القيم الليبرالية العظيمة.
غير أن لكل إنسان، مهما حسنت سيرته وعظمت قيمته، سقطات وهنات، وكانت أشد أخطاء الرجل فى تصورى شهادته فى قضية اغتيال فرج فوده، وإقراره بكفر الرجل، واعتبار قتلته مُجرد مفتئتين على حق ولى الأمر فى قتله. لقد أوجعتنى الشهادة، وشعرت فيها بسمات تجار الإسلام الذين يزايدون على الجميع ناصبين أنفسهم قضاة وجلادين، ولا يحتملون حوارا.
وقبل أيام قرأت يوميات المستشرق المجرى العظيم إليجناس جولد تسيهر، والتى ترجمها فى المركز القومى للترجمة كل من مجدى عبدالرءوف، وعبدالحميد مرزوق، وذكرنى ذلك بكتاب هام للشيخ الغزالى صدر منتصف التسعينيات بعنوان «الرد على مطاعن المستشرقين ضد الإسلام» والذى خص فيه المستشرق جولد تسيهر بنعوت قاسية شملت «اليهودى الخبيث»،»الاستعمارى الضال»، «الكذاب المزور»، و»عدو الإسلام».
وأعترف لكم أن صورة جولد تسيهر فى ذهنى ظلت سلبية لعدة سنوات تأثرا بكلام الشيخ الغزالى، الذى لم يكن قد قرأ للرجل شيئا، وإنما كتب كتابه اندفاعا وتأثرا بكلام للشيخ مصطفى السباعى عن كتاب مبكر للمستشرق بعنوان «العقيدة والشريعة فى الإسلام»، أساء «السباعي» فهمه وحمله ظنونا خاطئة، وتسرع باعتباره عدوا للإسلام، يقوم بدراسته ليطعن فيه ويُسيء إليه.
لقد ولد جولد تسيهر سنة 1850 وكان من أوائل المستشرقين فى العالم توغلا فى دراسة الإسلام قرآنا وسنة وسيرة وتاريخا، وقضى سنوات طويلة فى مصر وسوريا وتركيا والجزائر تعلما وتعايشا مع المسلمين،ومات عام 1921، وترك لابنه يومياته لكنها لم تنشر، وورث حفيده اليوميات، وقام فى نهاية السبعينيات بنشرها، حتى ترجمت مؤخرا بمصر.
ويكشف كتاب اليوميات قدرا عظيما من التعاطف والمودة للإسلام والمسلمين من جانب الرجل، الذى وصل به الحال أن يجلس فى صحن الأزهر ضمن طلبته فى القرن التاسع عشر ليدرس التفسير والتوحيد والفقه سنين عددا.
ويفاجئ قراء يوميات المتهم بالطعن فى الإسلام بمحبة غامرة تجاهه، فيقول فى صفحة 60 :»وفى قاعة رئيس الأساقفة ازداد حبى للإسلام أكثر من حبى له عندما أكون بين المسلمين».
وفى صفحة 71 يقول :»التوحيد عندى هو الإسلام، ولم أكن كاذبا عندما قلت إننى أعتقد فى نبوءة محمد، ويشهد على ذلك نسخة القرآن التى أحتفظ بها».
ويقول فى صفحة 72» إننى أرغب جاهدا فى الانحناء مع آلاف المؤمنين والركوع والسجود أمام الله مكررا الله أكبر، بل وأعفر وجهى فى التراب مع الآخرين أمام الله الواحد القهار».
وفى صفحة 185 يكتب» فى مارسيليا اعتقد الرجل الذى يحاورنى أننى مسلم لأننى اتخذت موقف الدفاع عن الإسلام، كما دافعت عن القرآن فيما نسب إليه من نصوص مغلوطة، واستشهدت بالصحيح منه».
يقول محمد عونى عبدالرءوف مترجم اليوميات إنه قام بترجمة يوميات المستشرق ليساعد القارئ العربى على إصدار حكم صادق على الرجل ويتبين ما قدم من جهد فى دراسة العقيدة الإسلامية والحضارة العربية.
ولا شك أن تسرع الشيخ الغزالى فى تصنيف المستشرق العظيم باعتباره عدوا وطاعنا هى واحدة من أخطاء عالم الدين المدفوع بالحماس قبل العقل، والمنتفخ بالثقافة السمعية الغالبة على ساحة الفكر للسير قطيعا فى طريق واحد دون تفكر.
وما يُستفاد من الحكاية هو أننا (وأنا معكم) يجب ألا نقبل أفكار مَن نُحب دون دراسة وشك، وأن علينا أن نصيغ مواقفنا تجاه الآخرين بأنفسنا بدلا من التقليد والمسايرة.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المرء ي غادر الأرض رحمة الله العصر
إقرأ أيضاً:
تعلم فن الخط بعد السبعين.. تركي خطّ بيده مصحفا يورّثه
تركيا – تعلم المواطن التركي حلمي شهيد اوغلو البالغ من العمر 84 عاماً فن الخط العربي في سن الـ71، بدافع ترك إرث دائم لأبنائه، فكتب نسخة من القرآن الكريم بالكامل بخط يده، ليعيش بعدها سكينة فريدة نابعة من شعوره بترك أثر ينير درب الأجيال القادمة.
شهيد أوغلو المولود في قضاء تورطوم التابع لولاية أرضروم شرق تركيا، كان يقطع يومياً 10 كيلومترات للوصول إلى مدرسته، وتخرج عام 1966 في أكاديمية العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة أنقرة بفضل اجتهاده وطموحه.
لم تفارق الكتب شهيد أوغلو يوماً، حتى بعد تقاعده، إذ واصل القراءة وقرر أن يفتح صفحة جديدة في حياته بتعلّم التركية العثمانية من خلال دورة متخصصة.
وفي الوقت ذاته، بدأ يُبدي اهتماماً كبيراً بفن الخط العربي بعد أن بلغ من العمر 71 عاماً، ليشرع في مشروعه الكبير وهو نسخ القرآن الكريم بخط يده.
ووصف شهيد أوغلو القرآن الذي نسخه بـ”أقدس إرث أتركه لأبنائي”، إذ استغرق في كتابته ست سنوات عمل فيها ليلاً ونهاراً، معتبراً ما قام به عبادة وهدية تنير طريق الأجيال القادمة.
– تعلم فن الخط بعد سن السبعين
وفي حديث للأناضول، أشار شهيد أوغلو إلى أنه أدرك جيداً قيمة التعليم والكتب خلال طفولته، وعاش عمره ملازماً للقراءة.
وأضاف: “بعد سن السبعين بدأت أقرأ وأكتب الأحرف العربية. أخبرني من حولي أن خطّي جميل وشجعتني زوجتي التي فقدتها فيما بعد، فبدأت أتساءل، هل يمكنني أن أكتب القرآن الكريم؟ فبدأت بكتابة بعض السور القصيرة”.
وأشار إلى أن رحلة كتابة القرآن استغرقت 8 أعوام، بدءاً من إيجاد الورق المناسب، وحتى مراحله النهائية من التدقيق والمراجعة.
– عزيمة لا تلين
وتحدث شهيد أوغلو عن صعوبات واجهها قائلاً: “لا أنسى أبداً، كنت قد وصلت إلى الصفحة 240، وكان قد مرّ نحو ثلاث سنوات ونصف إلى أربع سنوات، وقلت، لن أستطيع إكماله، فتوقفت. لكنني عدت مجدداً وواصلت العمل”.
واستطرد: “بدأت كتابة القرآن الكريم في سن الـ71، وأتممته بالكامل في سن الـ76. لكن بعدها بدأت مرحلة تدقيق طويلة، وكتبت من جديد نحو 400 إلى 450 صفحة. وبعد الانتهاء، لاحظت أن شكل الخط في بداية بعض الصفحات يختلف عن الخط في آخرها فأعدت كتابة 150 صفحة إضافية”.
وأردف: “لم تكن هناك أخطاء، لكن شكل الخط تغيّر. في البداية، كنت أستغرق من 3 إلى 5 أيام لإنهاء صفحة واحدة، أما في النهاية فكنت أنتهي من الصفحة خلال ساعة إلى ساعة ونصف”.
– “إرث خالد”
وأوضح أن الدافع الأكبر الذي منحه الطاقة للاستمرار في كتابة نسخة من القرآن الكريم، هو رغبته في ترك “إرث خالد”.
وتابع: “كتابة القرآن وما يمنحه من سكينة روحية تركت أثراً عظيماً في نفسي، ومنحتني سكينة لا توصف”.
وختم قائلا: “لقد تركتُ إرثاً روحياً سيبقى إلى الأبد. طبعت نسخة لكل واحد من أبنائي الثلاثة، أما النسخة الأصلية فهي معي. أقرأ فيها وأختم بها، وأجد فيها راحتي. هذا هو أعظم ما أنجزته في حياتي”.
الأناضول