في أعقاب الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كقوة عالمية بارزة، وخضعت سياستها الخارجية لتحول عميق شكله شبح الحرب الباردة.

تميزت السياسة الخارجية الأمريكية خلال هذه الفترة، التي تميزت بالتنافس الإيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي، بالالتزام الاستراتيجي بالاحتواء، ومنع انتشار الشيوعية في جميع أنحاء العالم.

  وكانت عقيدة ترومان، وخطة مارشال، وتأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي بمثابة مبادرات محورية، تعكس تصميمًا عميقًا على تشكيل النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب.

  شهدت هذه الحقبة انخراط الولايات المتحدة في مناورات جيوسياسية معقدة، وصراعات بالوكالة، وسياسة حافة الهاوية الدبلوماسية، حيث سعت إلى تجاوز خطوط الصدع الأيديولوجية التي حددت الحرب الباردة، آنذاك والآن.. وكانت تداعيات هذا النهج في السياسة الخارجية واسعة النطاق، حيث أثرت على التحالفات الدولية، والديناميكيات الإقليمية، وشكلت مسار الأحداث العالمية لعقود قادمة.

صعد هنري كيسنجر إلى مكانة بارزة في الولايات المتحدة خلال حقبة محورية في السياسة العالمية، دون علم الكثيرين، ولد هنري كيسنجر في ألمانيا عام 1923، وفر من النازيين، ووجد في نهاية المطاف ملجأ في الولايات المتحدة، حيث انتهى به الأمر إلى أن أصبح أستاذا في جامعة هارفارد.

  ومع ذلك، فقد ترك كيسنجر بصمته حقًا في مجال السياسة الخارجية… صعد كيسنجر إلى مكانة بارزة كمستشار للأمن القومي ولاحقًا كوزير للخارجية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، ولعب دورًا مركزيًا في تشكيل العلاقات الدولية للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة… اشتهر بنهجه السياسي الواقعي، وانخرط في دبلوماسية عالية المخاطر وترك بصمة لا تمحى على المشهد الجيوسياسي.

في سجلات التاريخ، يكشف التأثير الدائم لهنري كيسنجر في تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة عن سرد مقلق للسلطة، والدبلوماسية، والتجاهل القاسي لحقوق الإنسان... ورغم أن اسمه يرتبط غالبًا بجنوب شرق آسيا ومفاوضات الحرب الباردة، فإن الندوب التي لا تمحى من نفوذه في أميركا اللاتينية تظل جانبًا أقل استكشافًا من إرثه.

على خلفية الحرب الباردة، كانت السياسة الخارجية الأمريكية مدفوعة بالهدف الشامل المتمثل في احتواء انتشار الشيوعية على مستوى العالم، وقد وفر هذا السياق الجيوسياسي الدافع للتدخلات والتحالفات التي أعطت الأولوية في كثير من الأحيان للمصالح الاستراتيجية على المُثُل الديمقراطية، والتجاهل الكامل لحقوق الإنسان.

ومن المفارقات أنه في عام 1973، حصل كيسنجر على جائزة نوبل للسلام لدوره في مفاوضات حرب فيتنام.. ويتناقض هذا التكريم بشكل صارخ مع الفصول المظلمة لتورطه في أمريكا اللاتينية، مما يسلط الضوء على الطبيعة المعقدة والمتناقضة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال تلك الحقبة.

وفي عام 1969، كجزء من إدارة نيكسون، بدأ كيسنجر محادثات سرية مع المسؤولين الفيتناميين الشماليين في باريس... وكانت هذه المفاوضات، المعروفة باسم محادثات "باريس للسلام"، تهدف إلى إيجاد حل دبلوماسي للحرب التي طال أمدها.

ومع ذلك، خلف الكواليس، تبنى كيسنجر نهجًا مزدوج المسار... وبينما كان يدعو علنًا إلى السلام، انخرط في استراتيجية سعت إلى الاستفادة من الضغط العسكري على فيتنام الشمالية لتأمين شروط أكثر ملاءمة.

  كان أحد الجوانب الأكثر إثارة للجدل في نهج كيسنجر هو توسيع الحرب إلى كمبوديا في عام 1970.

كان هذا القرار، المعروف باسم التوغل الكمبودي، يهدف إلى استهداف محميات فيتنام الشمالية لكنه أثار احتجاجات واسعة النطاق، وتصاعد الصراع الذي أدى إلى مقتل ما يصل إلى 150 ألف مدني… أدت السرية التي أحاطت بهذه الأعمال العسكرية إلى زيادة السخط العام والمشاعر المناهضة للحرب.

وكانت ذروة الجهود الدبلوماسية التي بذلها كيسنجر هي التوقيع على اتفاقيات باريس للسلام في عام 1973، والتي وضعت ظاهريًا حدًا لتورط الولايات المتحدة في فيتنام… ومع ذلك، فإن شروط الاتفاق تركت العديد من القضايا دون حل، ولم يحقق انسحاب القوات الأمريكية السلام الدائم في المنطقة.

  وكان سعي كيسنجر إلى تحقيق "فترة فاصلة لائقة" ــ وهي الفترة بين انسحاب الولايات المتحدة والانهيار النهائي لفيتنام الجنوبية، يهدف إلى الحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة، وساهم في استمرار المعاناة وعدم الاستقرار في المنطقة.

  امتد نفوذ كيسنجر الدبلوماسي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير... وأظهرت تدخلاته في دول مثل كمبوديا ولاوس نمطا ثابتا من تحديد أولويات الأهداف الجيوسياسية، وغالبا على حساب الاعتبارات الأخلاقية… وقد خلف هذا النهج الواقعي السياسي الاستراتيجي سلسلة من العواقب التي ترددت أصداؤها على مستوى العالم.

إن تأثير هنري كيسنجر على السياسة الخارجية الأمريكية في أميركا اللاتينية هو فصل يتسم بمناورات جيوسياسية معقدة، وتحالفات مثيرة للجدل، وتداعيات مستمرة…ولعب دورًا محوريًا في تشكيل نهج الأمة تجاه دول أمريكا اللاتينية.

إن تأثير كيسنجر في أمريكا اللاتينية، الذي غالبًا ما طغت عليه مشاركته في فيتنام ودبلوماسية الحرب الباردة، يكشف عن استراتيجية متناقضة - حيث تعتبر المنطقة ذات أهمية عالمية قليلة بينما تكرس اهتمامًا غير مسبوق لها… وقد خلفت تفاعلاته مع الأنظمة الاستبدادية، مثل تشيلي في عهد بينوشيه والأرجنتين فيديلا، إرثًا دائمًا من الاضطرابات السياسية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والعلاقة المشحونة بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية.

خلال فترة توليه إدارة العلاقات بين الدول الأمريكية من عام 1969 إلى عام 1977، كان نهج كيسنجر في أمريكا اللاتينية متناقضًا… وكان لتعامله مع الديكتاتوريين، وحكم القلة، والجنرالات العسكريين في أمريكا اللاتينية عواقب مدمرة… ومن خلال التعاون مع الأنظمة الوحشية، مثل نظام تشيلي في عهد بينوشيه والأرجنتين في عهد فيديلا، ساهم دعم كيسنجر في عمليات القتل الجماعي وانتهاكات حقوق الإنسان خلال السبعينيات.

  امتد دور هنري كيسنجر في أمريكا اللاتينية خلال السبعينيات إلى ما هو أبعد من تشيلي والأرجنتين، ليشمل مشهدًا إقليميًا أوسع يتميز بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، والقمع السياسي، والتحالفات المثيرة للجدل. 

وامتد تأثير كيسنجر إلى أمريكا الوسطى، حيث أدى التدخل الأمريكي إلى زعزعة استقرار الحكومات وأدى إلى تحالفات مزعجة مع القادة المعروفين بإعدامهم بإجراءات موجزة.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: احمد ياسر غزة فلسطين اخبار فلسطين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الاحتلال الاسرائيلي نتنياهو حماس طوفان الاقصي انتخابات الرئاسة المصرية الاتحاد الاوروبي هنري كيسنجر الخارجية الأمريكية بايدن الإمارات حقوق الإنسان مصر فی أمریکا اللاتینیة الخارجیة الأمریکیة السیاسة الخارجیة الولایات المتحدة الحرب الباردة هنری کیسنجر کیسنجر إلى کیسنجر فی فی عهد فی عام

إقرأ أيضاً:

عادل الباز يكتب: إلى ظلٍّ ممدود.. عم أحمد (2/2)

1 تموت الرجال، وتبقى المآثر… مات عم أحمد وتوسَّد الباردة بعيدًا عن وطنه الذي أحبَّ، وعمل لرفعته طوال حياته. رحل، ولكن مآثره ستبقى شاخصة لزمن طويل، تُلهم أجيالًا من السودانيين الذين سيجدون فيها كل ما تمثِّله الشخصية السودانية من تواضع، وتسامح، وحب للناس، وقدرة على التضحية، وعفَّة يدٍ ولسان، وكل الطبائع السمحة التي عاش بها، وتربَّى عليها، وأحبَّها السودانيون طوال تاريخهم.
2
حين يكتب عم أحمد عن الصراعات السياسية التي شهدها، وكان طرفًا فيها منذ الثانويات، مرورًا بالجامعة وساحات العمل العام، تشعر بتلك السماحة والمحبة التي يكنُّها لخصومه السياسيين وفي كل المراحل. لا تجد في حديثه عبارةً واحدةً تدين تيارًا سياسيًا أو رمزًا من رموز السودانيين، بل كلما ورد اسم علمٍ من أعلامهم، مهما عظمت خصومته مع الإسلاميين، وجدتَ عبارات التوقير والاحترام، من السيد علي، والأزهري، إلى السيد الصادق المهدي.
لاحظتُ فيه هذه القدرة المدهشة على التعامل مع الخصم بسماحة، وكأنه وليٌّ حميم، وظهر ذلك في كثير من المواقف، خاصةً في علاقته برفيق دربه عمر نور الدائم. فقد كنا نراه في البرلمان أقرب ما يكون إلى عمر نور الدائم من أعضاء حزبه، يصطحبه معه في عربته جيئةً وذهابًا، وهو جليسه المفضَّل. وكنا إذا لم نعثر على عم أحمد في منزله، نعرِّج مباشرةً إلى ناصية الشارع الثاني، فنجدُه في منزل عمر نور الدائم، هاشًّا، باشًّا، ضاحكًا، فنستغرب؛ إذ إن حريق خلافاتهما في جلسة البرلمان لم يخمد بعد، وها هما هنا كأن شيئًا لم يكن!
أذكر أنه حين عاد نميري من منفاه الاختياري إلى السودان، كان في طلائع مستقبليه، وقد نسي كل ما كان بالأمس من سجون وعذابات لا حدَّ لها، تسبب فيها له نميري. كانت مسيرته المميزة في قدرته على التسامح والتجاوز، فهو رجل بلا ضغائن ولا أحقاد، سمح النفس، بسَّام العشيات، وفيٌّ.
3
منذ أوائل الأربعينيات، خاض عم أحمد غمار العمل العام في الحركة الإسلامية، التي أصبح جنديًا في صفوفها بفضل خاله الصائم إبراهيم موسى. ومنذ ذلك الوقت، ظلت حياته سلسلة من التضحيات المستمرة، تضحياتٍ بكل شيء: بالوظيفة، والوقت، والجهد، وحتى الأسرة، التي لم تعرف الراحة والهدوء لعقود، كان فيها عم أحمد إما في السجن، أو في غمار معارك السياسة، فلا يجد وقتًا للأسرة.
يقول عم أحمد في مذكراته: “لقد كان للتضحيات والمجاهدات التي قدَّمتها الأسرة دورٌ عظيم في مساندتي، وخاصةً زوجتي نور، التي حُرمت من السفر هي وأبناؤها، فتخلَّفت عن رفقتي لعدة سنوات”.
وهب عم أحمد حياته كلها للدعوة في الحركة، وقدم التضحيات برضىً تام، منذ بواكير شبابه حتى أواخر أيامه، وسجَّلها بتواضع شديد في مذكراته.
4
حين أطلت الثروة في عالم الإسلاميين منذ أواخر السبعينيات، بعد ظهور البنوك الإسلامية التي ساهمت في خلق طبقة أثرياء في صفوفهم—وهي ظاهرة لم تكن معروفةً بينهم منذ أربعينيات القرن الماضي، حين تأسست أول خلايا جماعة الإخوان المسلمين—كان عم أحمد زاهدًا في كل شيء.
لم يزاحم على بنك، ولم يهرول تجاه المرابحات، ولم يسعَ وراء الثروة. ظلَّ نظيف اليد، لم تعلق به شبهة استغلال للنفوذ، ولم تُغره مغريات الدنيا. بقي كما هو، رغم تنسُّمه المناصب، ورغم علاقاته الممتدة، ورغم ثراء رفاقه، زاهدًا في كل شيء.
5
أمس الأول، اجتمعنا لفيفًا من أصدقاء، وتلاميذ، وأحبَّاء، وجمهرة من عارفي فضله، في النادي السوداني، نعزِّي بعضنا بعضًا، ونتذكَّر مواقفه، وتضحياته، وحكاياته. ويا لها من مواقف وأيام عاشها عم أحمد في طاعة ربه، وخدمة شعبه!
حين يُكتب تاريخ السودان على نحوٍ أكثر إتمامًا، سيجد السودانيون “عم أحمد” رجلًا يجسِّد كل أخلاقهم: السماحة، والكرامة، والعفَّة. وما إن يفتحوا كتاب التاريخ، حتى يجدوا جهاده في سبيل ما آمن به، مدوَّنًا بتاريخٍ ناصعٍ في مجال الدعوة، ومُثبتًا في مجهوداته في الحكم والإدارة، ومسجَّلًا في مئات الصفحات التي توثِّق مواقفه السياسية، حاكمًا ومعارضًا.
يا إلهي… وفد إليك رجل كريمٌ عفيف، وأنت أكرم، فأَجْزِهِ عن شعبه وأمته، التي أفنى عمره في خدمتها، خير الجزاء، واجعل مثواه الجنة، واجعل البركة في ذريته.
وداعًا، عم أحمد
ملحق
طلب مني أستاذي عبد الله علي إبراهيم أن أسرد ما جاء في المذكرات عن موقف أحمد عبد الرحمن من قضية التمثيل النسبي في جامعة الخرطوم، وهو يعتبرها من مآثره الكبرى. وقد أفرد عم أحمد صفحتين لتلك القصة، وها أنا أنقلها كما جاءت في المذكرات. يقول عم أحمد:
“إن فكرة التمثيل النسبي في اتحاد جامعة الخرطوم جاءت بإيحاءٍ من الأستاذ سعد الدين فوزي. التقينا بالدكتور فوزي مع صديقي الزعيم الطلابي قريب الله الأنصاري، الذي عرفته من الدويم، وكان لقاءً مثمرًا. لفت الدكتور فوزي نظرنا إلى أن السودان في حاجةٍ ماسَّة إلى بناء مستقبله بكوادر متخصصة لمواجهة الكثير من القضايا المستقبلية.
وقال: إنكم تتحملون المسؤولية؛ إذ كيف تتحكمون في مصير غالبية الطلاب، وأنتم، سواء كنتم يسارًا أو يمينًا، لا تمثلون أكثر من 10% من الطلاب؟ فحرامٌ عليكم أن تعطلوا تطلعات وأشواق من يرغبون في العمل والتعليم والتخصص، وأن تفسدوا المناخ باستدامة الصراعات. فأشفقوا على السودان.”

اقترح علينا التفكير في نظام انتخابي مناسب يتيح مشاركة أوسع عن طريق التمثيل النسبي، وبعد لقاء الدكتور، تم التفاهم في اجتماعات أوسع مع الطلاب من اليسار واليمين، وأذكر منهم: دفع الله الحاج يوسف، ومحمد هاشم عوض، وإبراهيم الحاردلو، وعمر محمد سعيد، وعمر مصطفى مكي، وسعاد إبراهيم أحمد، وعبد الحفيظ باشري، وموسى عبد الغفار، وعلي يس فهمي، وآخرين.

وقد لقيت الفكرة قبولًا، وبدأ تطبيقها في عام 1957، فساهم هذا النظام في استقرار الوسط الجامعي لأكثر من عقد من الزمان. وانتهى العمل به في ظل قيادة الإسلاميين، بعد أن استوى اليسار بسلطة مايو، وشجَّعوا دخول الجيش إلى الجامعة بقيادة أبو القاسم محمد إبراهيم، مردِّدين هتافهم الشهير: “حاسم، حاسم، يا أبو القاسم!”

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • كاريكاتير ياسر أحمد
  • عادل الباز يكتب: إلى ظلٍّ ممدود.. عم أحمد (2/2)
  • السفير البرازيلي: علاقاتنا مع الولايات المتحدة تاريخية وسياستنا الخارجية تقوم على التوازن والاستقلالية
  • وزير الخارجية الأمريكي: اجتماع واحد فقط لن ينهي الحرب في أوكرانيا
  • الدوري المصري.. أحمد ياسر ريان يقود البنك الأهلي لمواجهة سموحة
  • القناة الناقلة لمسلسل جودر بطولة ياسر جلال في رمضان 2025
  • أمريكا اللاتينية تواجه ضغوطاً للاختيار بين الولايات المتحدة والصين
  • زيلينسكي: الولايات المتحدة لا ترغب في انضمام أوكرانيا إلى الناتو
  • وزارة الخارجية: المملكة تشيد بالمكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي وما تم الإعلان عنه من إمكانية عقد قمة تجمع فخامتيهما في المملكة
  • الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: جاه سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم (1)