كلام الناس
أوشكت على تجنب تناول كتاب مجدي عزالدين حسن"جدلية الوحي والتاريخ" .. قراءة في مشروع نصر حامد أبوزيد لكنني وجدت فيه إضاءات نحتاجها ونحن مازلنا نعاني من ويلات الإنكفائيين والظلاميين الذين تسلطوا على رقابنا ثلاثين عاما.
قال مجدي في مقدمة الكتاب أن أحسن تكريم يمكن ان نقدمه لمفكر كبير وباحث في قامة نصر أبوزيد أن نقرأ مشروعه قراءة ناقدة حية حتى نكون أوفياء لنهجه الذي لا يميل للتناول الاحتفالي ولا يلجأ للتبجبيل والتعظيم ولا يضفي قداسة على الأفكار والأشخاص.
لن اخوض في المسائل الذي تناولها المؤلف في غالب الكتاب لكنني سأتوقف معكم عتد الفصل الخامس والاخير الذي تحدث فيه حول العلمانية ونقد خطاب الإسلام السياسي.
أشار المؤلف إلى مفهوم الإسلام بوصفه الدين العلماني الذي يتكرر بصيغ مختلفة في كتابات ودراسات نصر أبوزيد الذي قال انه ان الاوان كي نناقش مفهوم العلمانية ومفهوم الاسلام معاً لنجد ان الإسلام دين علماني إذا أحسنا الفهم والتدبر، وبرر أبوزيد توصيفه للاسلام بانه دين علماني بان حركة العلم عند المسلمين والحركة الاستدلالية المعرفية عندهم تبدأ بمعرفة العالم بوصفه دلالة على الله سبحانه وتعالى.
نصر أبو زيد كان يري أن بعض الإنكفائيين كانوا يحورون الصراع الدائر بين أنصارالفهم الديني المواكب للعصر وبين دعاة أسلمة العصر بانه صراع بين العلمانية والاسلام وهذا خطا يتم توظيفه أيدولوجياً واعلامياً من أنصار الاسلام السياسي لضرب خصومهم الذين يتبنون الدعوة لفهم إسلامي مواكب لحركة العصر.
يخلص مجدي عبر قراءته لمشروع نصر أبو زيد إلى ان العلمانية ليست نمطاً معادياً للدين بل إنها تناهض أي محاولة لفرض تأويل ديني من أجل الهيمنة والسيطرة والتمكين، كما ان أبوزيد لايرى ان العلمانية تعني فصل السياسة عن الدين بل تعني فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، لانه لايمكن ممارسة السياسة دون أخلاق مستمدة من الثقافة الدينية.
لذلك يرى المؤلف ان مشروع نصر أبوزيد الفكري في حقيقته مشروع إصلاح ديني لذلك كان يركز في كتاباته على نقد الخطاب الديني من أجل تشييد وعي علمي بالتراث وفهم عقلاني للإسلام.
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
في ذكرى الشهيد الصدر
وأنا أتابع الضجة الكبيرة التي أحدثتها قرارات الرئيس الأمريكي “ترامب” استغربت كثيراً ممن يسمون أنفسهم محللين سياسيين واقتصاديين، فقد اعتبروها من أعمال ترامب نفسه أو زلاته الجنونية، غير مُدركين أن الأمر يخضع للسياسة الأمريكية الشاملة، عندها فقط تذكرت الشهيد العلامة محمد باقر الصدر “طيب الله ثراه” فلقد حذر من هذه الأعمال التي ستقدم عليها أمريكا قبل حوالي نصف قرن من الزمان، وقال إن أمريكا تسير في اتجاهين، الاتجاه الأول الزيادة في امتلاك القوة العسكرية، والثاني محاولة السيطرة على حركة النقد العالمية والهيمنة الكُلية على العملات من خلال فرض الدولار على كل العملات.
هكذا قال الشهيد الصدر الرجل الحجة الذي استطاع أن يقتحم عقبة كأدا، ظلت كذلك على مدى قرون من الزمن وكان العلماء المسلمون يعتبرون حتى مجرد الحديث عنها مروقاً عن الدين، ألا وهي الاقتصاد والفلسفة، فمن كان يقتحم أو يتحدث عن هاتين القضيتين كان يُتهم بالردة، إلى أن جاء الشهيد الصدر وكانت الظروف المحيطة صعبة، فالاتحاد السوفييتي في أوج عظمته، والشيوعية تحاول فرض منهجها الوجودي الإلحادي وتعتبره هو المنهج الصالح للحياة، وأمريكا ودول الغرب تحاول أن تجعل من الرأسمالية خياراً وحيداً لا بديل عنه، واتهام الإسلام بالجهل وعدم الإلمام بهذه القضايا، فتصدى للأمر بقوة ودراية ومعرفة كاملة بأحكام الدين، قال عنها في ذلك الوقت شيخ الأزهر علي جاد الحق بأنها أفضل رؤية أكسبت الإسلام القدرة على التحدي والصمود أمام المناهج الأخرى، فكتاب “فلسفتنا” مثلاً وضح الصورة الحقيقية لمعنى الفلسفة في الإسلام وارتباطها بسياسة الحكم وبناء الدولة، وكتاب “اقتصادنا” أيضاً قدم رؤية حقيقية عن الاقتصاد في الإسلام وأسقط تماماً الرؤيتين المقابلتين الممثلة في الشيوعية والرأسمالية، باعتبارهما رؤى بشرية غير قابلة للاستمرار، كما هو حال المنهج الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان، وتحدث طويلاً في هذا الجانب عن الأشياء التي لا يزال المسلمون عالقين في فهم أبعادها واتباع طريقة التعامل معها، مثل الربا وما يرتبط به وحدد صيغة المعاملات التي يمكن أن تنافس ما يجري في الغرب والشرق برؤية إسلامية حقيقية بعيدة عن التزمت والتطرف أو التعصب لأفكار ضيقة، كما هو حال بعض علماء الإسلام للأسف الذين يتعاطون مع آيات القرآن الكريم بنقص في الفهم وعدم إدراك لما تحتويه النصوص من معانٍ ومفاهيم أزلية تؤكد الصلاحية الزمانية والمكانية، وكل ذلك لأن الشهيد الصدر كان على دراية كاملة بأحكام الشرع ولديه أسلوباً جيداً في استنباط الأحكام بعيداً عن التأويل أو الأفكار الضالة من منطلق رؤيته الحقيقية لما ذهب إليه المفسرون، فلقد جزم منذ بداية الأمر أن مشكلة الإسلام والمسلمين تكمن في كون التفاسير التي تولت تفسير الإسلام تمت برؤية الحُكام والدول، لا على ما تشتمل عليه النصوص والمنهج الرسالي.
وهنا اتضحت المشكلة الأساسية لأن الحُكام كانوا يحاولون توظيف النصوص لخدمة بقائهم واستمرارهم في الحكم كيفما كان الأمر ومهما كانت النتائج مخلة ومجحفة بالعقيدة والمنهج، ومن هذا المنطلق عالج أهم مشكلتين، كما قُلنا، الفلسفة التي كان يحرم مجرد الحديث عنها في نظر العُلماء المنغلقون على ذاتهم غير القادرين على فهم شمولية الدين وقوة أحكامه وقدرتها على معالجة شؤون البشر حتى قيام الساعة .
وهكذا الأمر بالنسبة للاقتصاد فقد حدد ما هو الربا وكيف يمكن التعاطي معه برؤية حديثة تعكس حضارة الإسلام واتساع نطاق فهمه لجوانب الحياة المختلفة، وكما قال في إحدى محاضراته فإن من المسلمين من أساء إلى الدين وإلى العقيدة من خلال ضيق أفقه ومحدودية فهمه للنصوص .
أخيراً وهو الأهم، حذر الصدر من استمرار الانصياع للإرادة الأمريكية والغربية معاً، وقال إن الغرب المخدوع سيصبح ضحية الرؤية الأمريكية الشمولية التي تحاول من خلال الهيمنة المادية أن تُسيطر على العالم وعلى عملاته وتجارته ويصبح كل شيء بيدها، وهُنا أطلب ممن تعاملوا بسذاجة وفهم قاصر مع قرارات ترامب أن يعودوا إلى ما كتبه الشهيد الصدر وسيعرفون أن الأمر ليس ابن اللحظة وإنما تمت دراسته ووضعه في رفوف خاصة إلى اللحظة المناسبة التي تمكنهم من إخراجه إلى الوجود .
الموضوع يطول ولكن نقول رحم الله الشهيد الصدر، وكم أتمنى لو أن أطروحاته تلك أخذت حقها من الاهتمام، وتحولت إلى مناهج تُدرس في الجامعات الإسلامية بشكل عام، وإن شاء الله لنا عودة إلى الموضوع لتوضيح رؤية هذا العالم الجليل، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، والله من وراء القصد ..