احذروا الإجماع الجديد بشأن الاقتصاد العالمي
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
خلال الفترة التي سبقت عام 2023، بدت آفاق الاقتصاد العالمي قاتمة. فقد توقع المحللون أن يُـفـضي حرب روسيا على أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة الذي ترتب عليها إلى إشعال شرارة انكماش اقتصادي خطير في أوروبا. وأعلنت منصة بلومبرج إيكونوميكس أن احتمال معاناة الولايات المتحدة من الركود قائم بنسبة 100%. وقليلون هم من تصوروا أن أغلب الاقتصادات النامية قد تكون قادرة على تحمل تركيبة تتألف من ارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة، والانكماش في الاقتصادات المتقدمة.
لو توقع المحللون اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس واحتمالات تصعيدها على المستوى الإقليمي، واشتداد وطيس الحرب الروسية الأوكرانية، والاضطرابات السياسية في بعض الدول الغربية، لكان تشاؤمهم يزداد وضوحا. علاوة على ذلك، كانت التقلبات غير العادية في سوق سندات الخزانة الأمريكية، التي تشكل معيارا أساسيا لعدد كبير من الأسواق المحلية والدولية، لتغذي المخاوف بشأن ركود عالمي يلوح في الأفق، كما كان ليفعل إفلاس البنوك الأمريكية. ولكن في حين كان من المحتم أن تتسبب الاضطرابات السياسية والجيوسياسية والسوقية غير المتوقعة في كبح آفاق النمو العالمي بدرجة أكبر، وجدنا الاقتصاد العالمي يفاجئنا بأداء إيجابي.
فقد تحدت الغالبية العظمى من الاقتصادات المتقدمة كل التوقعات، ونجحت في تجنب الانكماش الاقتصادي. وتجنبت البلدان النامية ككل الضائقة المالية. وحتى الصين، على الرغم من نموها المخيب للآمال، استعرضت مرونة اقتصادها وقدرته على الصمود مع اقتراب العام من نهايته.
دفعت هذه الاتجاهات المشجعة المحللين إلى تبني توقعات متفائلة لعام 2024. فبدلا من الركود، تشير التوقعات الـمُـجـمَـع عليها الآن إلى أن اقتصاد الولايات المتحدة يتجه نحو «هبوط ناعم»، حيث مَـهَّـدَ انحسار التضخم الطريق أمام تخفيضات أسعار الفائدة. ومن المتوقع أن تتمكن أوروبا، بعد أن نجحت في تعزيز احتياطياتها من الطاقة وإعادة هيكلة سلاسل التوريد، من تجنب الركود هي أيضا، وإن كان من المحتمل أن يستمر اقتصاد ألمانيا في التخلف عن الركب.
وفي الصين، من المتوقع أن تعمل حزمة تحفيز كبرى على تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي. ومن المنتظر أيضا أن تعمل التركيبة التي تتألف من أسعار الفائدة الأقل وأسعار الطاقة المستمرة في الهبوط على حماية أغلب البلدان النامية من الارتباكات الاقتصادية والمالية.
ولأني كنت أكثر تفاؤلا من التوقعات الـمُـجـمَـع عليها لعام 2023، فإنني كنت لأود تأييد التوقعات المتفائلة للعام المقبل. ففي نهاية المطاف، لا يستطيع الاقتصاد العالمي أن يتحمل مزيدا من النكسات. ولكن على الرغم من رغبتي في أن أكون متفائلا، فأنا أخشى أن توقعات الإجماع، التي تبين أنها كانت قاتمة للغاية لعام 2023، تأرجحت أبعد مما ينبغي في الاتجاه المعاكس لعام 2024.
السبب الرئيسي وراء هذا القلق هو أن ديناميكيات النمو العالمي اعتراها الضعف مع تسبب التوترات الجيوسياسية وارتباكات السياسية المحلية في تفاقم التطورات الاقتصادية والمالية المؤسفة. ويبدو أن عددا كبيرا للغاية من صناع السياسات يركزون على إعادة تنشيط محركات النمو غير الفَـعّـالة بدرجة أكبر من تركيزهم على التصدي للتهديدات الطويلة الأمد مثل أزمة المناخ والتحول نحو نماذج أكثر استدامة وتطلعا إلى المستقبل.
يتجلى هذا بوضوح في الصين، وأوروبا، وكثير من البلدان النامية حيث فشلت الحكومات في تنفيذ الإصلاحات البنيوية اللازمة لتعزيز الإنتاجية وإمكانات النمو. ورغم أن الولايات المتحدة في وضع أفضل نسبيا بفضل مشاريع القوانين الاقتصادية الكبرى التي أقرتها إدارة الرئيس جو بايدن، فإن تضاؤل مدخرات الأسر، فضلا عن ارتفاع الديون، يلقي بظلال قاتمة على توقعات النمو للعام المقبل.
لا يزال الاقتصاد العالمي يتصارع مع التأثيرات التي خلفتها الزيادات الكبيرة في تكاليف الإقراض. وفي بيئة حيث من المتوقع أن تظل أسعار الفائدة مرتفعة لفترة مطولة، تصبح إعادة تمويل بعض عقود الديون ــ وخاصة في قطاع العقارات التجارية ــ أمرا متزايد الصعوبة.
الواقع أن التحول بعيدا عن عشر سنوات من أسعار الفائدة المنخفضة بشكل مصطنع وعمليات ضخ السيولة السخية من قِـبَـل البنوك المركزية عملية تدريجية وقد تكون مؤلمة لبعض الأطراف، وخاصة مع اقترابنا من «جدار استحقاق السداد» الذي يواجه قطاع الشركات في عام 2025.
تهدد هذه الشكوك بزعزعة استقرار سوق تتعامل في صميمها بالفعل مع تقلبات عالية إلى حد غير عادي. في غياب ركائز اقتصادية وسياسية وفنية قوية، ظلت عائدات سندات الخزانة الأميركية شديدة التقلب. وكلما طال أمد هذه الحالة من عدم الاستقرار، كلما ارتفعت احتمالات تسبب مخاطر أسعار الفائدة في إشعال شرارة الذعر في ما يرتبط بالائتمان والأسهم والسيولة.
وقد تؤدي التحولات الجيوسياسية والمحلية أيضا إلى تفاقم نقاط الضعف الاقتصادية والمالية والسوقية، مع تسبب الخسائر البشرية الهائلة والمروعة الناجمة عن الصراعات الجارية، وخاصة في غزة، في تعظيم خطر التصعيد وتقويض الاستقرار العالمي. علاوة على ذلك، يهدد الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة إزاء الصراع الدائر في الشرق الأوسط بالتعجيل بتفتت النظام الاقتصادي الدولي وتقليص مكانة أميركا ونفوذها العالمي بدرجة أكبر.
قد يُـفضي هذا، جنبا إلى جنب مع الثقة المتنامية التي تكتسبها «الدول الـمُـرَجِّـحة» المتوسطة القوة، إلى إعاقة عملية تنسيق السياسات الدولية التي تشكل أهمية بالغة في التصدي للتحديات العالمية مثل تغير المناخ، ونقص النمو، والديون المفرطة، واتساع فجوات التفاوت، ونقاط الضعف التي تعيب سلاسل العرض والتوريد، والحاجة إلى إزالة المخاطر عن علاقات اقتصادية بعينها دون التسبب في إحداث انفصال مؤلم. وقد تفرض الانتخابات في بلدان مستقطبة مثل الولايات المتحدة عقبات تحول دون التحرك العالمي في الوقت المناسب.
على الرغم من المشهد السياسي والجيوسياسي الأكثر صعوبة من أغلب التوقعات، فاق الاقتصاد العالمي التوقعات في عام 2023. ولكن في حين قد يكون من الـمُـغري الاستقراء من هذه التجربة والتنبؤ بأداء أقوى في عام 2024، فمن الأهمية بمكان أن نتعامل مع مثل هذه التوقعات بجرعة صحية من الحذر. فمن المحتمل بدرجة كبيرة أن يطيش سهم التوقعات الـمُـجـمَـع عليها مرة أخرى، وقد تكون العواقب أوخم هذه المرة.
محمد العريان رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج، وأستاذ بكلية وارتون بجامعة بنسلفانيا ومؤلف كتاب «اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي».
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاقتصاد العالمی الولایات المتحدة أسعار الفائدة عام 2023
إقرأ أيضاً:
في خطوة تتماشى مع التوقعات.. المركزي المصري يثبت الفائدة
الاقتصاد نيوز - متابعة
أبقت لجنة السياسة النقدية لدى البنك المركزي المصري على معدلات الفائدة دون تغيير، في خطوة تتماشى مع التوقعات.
وقرر البنك المركزي المصري، الخميس، الإبقاء على سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند 27.25 بالمئة و28.25 بالمئة و27.75 بالمئة على الترتيب.
كما قررت اللجنة أيضا الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند 27.75 بالمئة.
وبحسب بيان للمركزي المصري، فإن هذا القرار يأتي انعكاسا لآخر المستجدات والتوقعات على المستويين العالمي والمحلي منذ الاجتماع السابق للجنة السياسة النقدية.
وقالت اللجنة إنه على الصعيد العالمي، فقد ساهمت السياسات النقدية التقييدية التي انتهجتها اقتصادات الأسواق المتقدمة والناشئة في انخفاض التضخم عالميا، وعليه اتجهت بعض البنوك المركزية إلى خفض أسعار العائد تدريجيا، مع الإبقاء على المسار النزولي للتضخم للوصول به إلى مستوياته المستهدفة.
وأكدت أنه على الرغم من زيادة التوقعات بانخفاض الأسعار العالمية للسلع الأساسية، خاصة الطاقة، فإن المخاطر الصعودية المحيطة بالتضخم لا تزال قائمة، حيث تظل أسعار السلع الأساسية عُرضة لصدمات العرض مثل الاضطرابات العالمية وسوء أحوال الطقس.
وقال البنك: "على الجانب المحلي، توضح المؤشرات الأولية للربع الثالث من عام 2024 نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بوتيرة أسرع من 2.4 بالمئة المسجلة خلال الربع الثاني من العام نفسه".
وأضاف: "تشير توقعات النشاط الاقتصادي للربع الرابع من عام 2024 إلى استمرار اتجاهه الصعودي، وإن لم يحقق طاقته القصوى بعد، مما يدعم المسار النزولي للتضخم على المدى القصير، ومن المتوقع أن يتعافى بحلول السنة المالية 2024/2025".
وحول معدلات التضخم، قال المركزي المصري إن التضخم السنوي العام ظل مستقرا إلى حد كبير للشهر الثالث على التوالي، عند 26.5 بالمئة في أكتوبر 2024، مدفوعا بشكل أساسي بارتفاع أسعار السلع غير الغذائية المحددة إداريا مثل غاز البترول المُسال (أسطوانات البوتاجاز) والأدوية.
وتشير التوقعات، بحسب البنك، إلى استقرار التضخم عند مستوياته الحالية حتى نهاية عام 2024 وإن كانت تحيط به بعض المخاطر الصعودية.
"ومع ذلك، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم على نحو ملحوظ بدءا من الربع الأول من عام 2025 مع تحقق التأثير التراكمي لقرارات التشديد النقدي والأثر الإيجابي لفترة الأساس"، وفق البيان.
وأشارت اللجنة إلى أنها ستواصل اتباع نهج قائم على البيانات لتحديد مدة التشديد النقدي المناسبة، وذلك بناء على تقديرها لتوقعات التضخم وتطور معدلات التضخم الشهرية وفعالية آلية انتقال السياسة النقدية.
كما ستواصل متابعة التطورات الاقتصادية والمالية عن كثب وتقييم آثارها على التوقعات الاقتصادية، ولن تتردد في استخدام جميع الأدوات المتاحة لديها لكبح جماح التضخم.