راب التحرر من الاحتلال.. لوكي ومزيج اللغات وفنون الغناء في فلسطين لن تموت أبدا
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
أطلق مغني الراب البريطاني لوكي، ومواطنته المغنية مي خليل عملا غنائيا لافتا بعنوان "فلسطين لن تموت أبدا" يجمع بين الغناء والراب، والكلمات العربية والإنجليزية، وفنون الكلام والشعر والنثر والأداء الغنائي.
وقال لوكي للجزيرة نت إنهم استلهموا العمل من أعمال الفنان والمغني والمؤلف الموسيقي اللبناني أحمد قعبور المعروف بأعماله التي تحمل آمال الشعب الفلسطيني وآلامه، ومن أشهرها "أناديكم" و"يا نبض الضفة" (في الضفة لي أطفال سبعة) وغيرها.
وأضاف لوكي أن الأغنية -التي تتميز بتعدد الإيقاع والشعر- هي "مساهمتنا المتواضعة لهذه القضية العادلة ومحاولة لتمكين الشباب في الغرب ممن لديهم شغف بتحرير فلسطين"، معتبرا أن الكلمات أصابتهم بالقشعريرة وهي تعكس الواقع الحالي.
وأردف "نتمنى أن تمنح الأغنية شجاعة وجرأة أكثر لمن يتكلمون عن فلسطين فلا يخافون من مواجهة اللوبي الصهيوني في بلدانهم"، معتبرا أن الظروف التي ألهمت الأغنية هي "الإحساس بالعجز والشلل السياسي.. ومن حقنا في الغرب التضامن مع شعبنا".
وأشار لوكي إلى أنهم اختاروا المزج بين العربية والإنجليزية في الأغنية، لأن ذلك المزيج "يعكس الواقع الذي نعيشه"، مؤكدا أنهم استلهموا كلمات تراثية لتفيد الأجيال الجديدة، وتعمق صلتها بماضيها.
مزيج الراب والأداء الغنائيوعن استخدام الأجناس الموسيقية المختلفة في أغنية واحدة اعتبر لوكي أنهم أرادوا إثبات أن "العرب ليسوا في حالة انفصام ثقافي بالعكس تعرضنا لفنون متعددة يؤدي إلى إثراء قدراتنا على توصيف واقعنا المرير".
وقال إنه يرى الراب "جزءا مهما في هذه العملية، خصوصا كيف يجعل الإنسان يتفاعل مع الآخر بشكل مباشر".
وشرح لوكي أن تاريخ الراب انبثق من معاناة الأميركيين الأفارقة "بسبب التفرقة العنصرية"، مشيرا إلى أنه يرى "الاحتلال الصهيوني فرعا من الشجرة نفسها، يعني أنه نظام عنصري أوروبي فرض على أناس من الجنوب العالمي".
وبدأت الأغنية بكلمات عربية أدتها خليل قائلة "وقف الطفل وحده والأغاني، ورصاصٌ من حوله وجنود، وقف الطفل والحجارة أكوام، وعيناه عزمة وصعود"، ثم تحولت للراب بالإنجليزية حيث قال لوكي "من النهر إلى البحر فلسطين حرة"، وتابع بالراب أن صور جثث الأطفال لا تغادر قلبه، ومن الواضح أن هناك حاجة لأكثر من مسيرة آلاف المحتجين وأكثر من خطاب وأكثر من قصيدة أو مقطوعة موسيقية، حتى استدعاء السفراء يعد عديم الفائدة طالما يتم ضخ الوقود لطائرات الأباتشي والدبابات.
وأضاف لوكي -بينما يعرض الفيديو صور القصف والدمار في غزة- وهو يغني "أصابعي تشير إلى تلك الحكومة، أنتم قتلتموهم جميعا.. أخبرني أنك لن تحمل السلاح لو كان هؤلاء أطفالك، الحقيقة هي أن القنابل يتم تصنيعها هنا، أشعر بالموت يملأ الهواء، بينما نحن نقف ونتفرج، وطفل صغير يطلب خصلة شعر أخيه.. لا أعرف كيف يمكن لأي شخص أن يعيش بعد ذلك.. إسرائيل دولة إرهابية والتلفزيون ينقل الأكاذيب.. هذه ليست حرب إنها إبادة جماعية ممنهجة، ولكن مهما فعلوا فلسطين لن تموت أبدا".
وأكملت خليل -المولودة في سوريا- وصلة الغناء بكلمات الشاعر الفلسطيني توفيق زياد "أناديكم وأشد على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم"، وختمت الأغنية بكلمات (غير غنائية) لأحد الآباء المكلومين في غزة يؤكد أنهم لن يستسلموا ولن يرحلوا من بلادهم وأرضهم.
ورغم أن موسيقى الراب ليست جديدة على الساحة الشبابية العربية، إذ يعود تاريخها لمطلع الألفية تقريبا، فإنها تعززت في السنوات الأخيرة بسبب تطور علاقة الأجيال الشابة بمواقع التواصل الاجتماعي لتجاوز تعتيم وسائل الإعلام التقليدية والتعبير عن تسارع وتيرة الأحداث، كما يقول ناقدون موسيقيون.
وفي كتابه "موسيقى المتمردين: العرق والإمبراطورية وثقافة الشباب المسلم الجديد"، اعتبر المؤلف هشام عيدي أن بعض أنواع الموسيقى -مثل الهيب هوب والجاز والألحان الأندلسية و"الكناوة" المغربية- أصبحت تتقاطع معا لتمثل هوية، ووسيلة احتجاج على "سياسات الحرب الغربية".
وفي حواره السابق للجزيرة نت قال لوكي "عندما بدأت مشوار الموسيقى، كنت أقدم كثيرا من التفاهات، ولم يكن ما أقدمه له علاقة بالسياسة، ولم يكن لدي هدف من الأساس. لكن بعد مدة، أدركت أنني ينبغي أن أستخدم الموسيقى لهدف أكثر سموا ونبلا وقوة. في ذلك الوقت، انشغلت بطغيان الثقافة الأميركية على المجتمع البريطاني، ورأيت أن "الهيب هوب" وسيلة للتعبير عن الذات، خاصة في مرحلة المراهقة، وحاولت التعبير عن مشاعري من خلال الراب، لكن مع الوقت رأيت أيضا أنه يصلح كأداة من أدوات العمل السياسي".
وأردف لوكي "جاء الإلهام الأعمق من القضية الفلسطينية والأبطال الذين ناضلوا من أجل الحرية والمستقبل، ورأيت كثيرا من المشتركات بين الفلسطينيين والشعوب التي ناضلت من أجل التحرر من الاستعمار، وتجلت المعاناة الفلسطينية أمامي كمرآة لمعاناة البشرية كلها من الظلم".
مع تصاعد وتيرة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعج مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من المبادرات الغنائية والأعمال الفنية والإبداعية للتضامن مع سكان القطاع المحاصر ضد القصف واستهداف المدنيين والتهجير القسري.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
عشنا وشفنا دكاترة موية
في مطلع عام 2009، كنت ضمن فريق بحثي مكوّن من طبيبين متخصصين؛ أحدهما في طب المجتمع والآخر في الصحة العامة، وكلاهما أستاذان في كلية الطب بجامعة الخرطوم. كُلِّفنا من قِبل احدي المنظمات العالمية بتقييم أثر مشروع المياه والصحة العامة والصرف الصحي، الذي نفذته المنظمة في قرى محلية الدويم بولاية النيل الأبيض. وكعادة الأطباء، لم يقتصر دور زملائي على التقييم البحثي فحسب، بل كانوا يقدمون الخدمات العلاجية والاستشارات الطبية لسكان القرى التي نزورها. كانوا يحملون معهم أدواتهم الطبية، من سماعات وأدوية إسعافية، كجزء من التزامهم الإنساني والأخلاقي تجاه المجتمع. ونتيجة
لذلك، تحوّل مقر إقامتنا إلى عيادة ميدانية مؤقتة، يقصدها المواطنون طلبًا للعلاج أو المشورة الصحية. بمرور الوقت، بدأ البعض يظن أنني طبيب أيضًا، خاصة عندما يسمعونني أنادي بـ “الدكتور حامد” بين الحين والآخر، رغم أن تخصصي بعيد كل البعد عن الطب. كان هذا اللبس يضعني في مواقف محرجة، خصوصًا عندما يأتي البعض شاكيًا من أعراض وأمراض يتوقعون مني علاجها! . وذات يوم، بينما كنت مستغرقًا في عملي، دخل عليَّ رجلان دون مقدمات، وشرعا في الحديث عن حالتهما الصحية، وكأنني الطبيب ! . شعرت بشيء من الضيق، وبنبرة حادة بعض الشيء، قلت لهما: " أنا لست طبيبًا… أنا دكتور موية!” . توقف الرجلان للحظة، وتبادلا النظرات بدهشة، قبل أن يعلّق أحدهما بسخرية:
“والله عِشنا وشُفنا… دكاترة موية كمان!”. ورغم أن الحديث كان بينه وبين زميله، إلا أنني شعرت بأنه يقصدني تحديدًا . ابتسم الآخر وردّ على صاحبه بنفس النبرة الساخرة: " وليه؟ هي بقت على الموية؟ حتى الغنا بقى فيه دكاترة! ما سمعت عبد القادر سالم عمل دكتوراه في الغناء؟ والله لو عشت، تشوف أكتر!”. ضحكت من تعليقهم العفوي، لكنه دفعني إلى التأمل في مفهوم التخصصات، وكيف أصبحت درجات الدكتوراه تُمنح في كل المجالات، حتى كادت ان تصبح سلعة تُباع وتُشترى في سوق الله أكبر!. كم مرة سمعنا عن مكاتب تعرض خدماتها لمن يريدون الحصول على لقب “دكتور” فقط للمكانة الاجتماعية أو “البرستيج”؟ ليصبح مجرد لقب يسبق الاسم، دون أن يكون له أي علاقة بالمعرفة أو التحصيل الأكاديمي! بل وصل الأمر إلى حد أن بعض هذه المكاتب - كما يقال - انها تكتب الأبحاث بالكامل لمن يرغب في الحصول على الدرجة مقابل مبلغ متفق عليه، في ظاهرة تعكس وجود شبكة متكاملة قد تمتد حتى إلى بعض الجامعات التي تمنح هذه الدرجة الأكاديمية “الرفيعة”. هذا العبث الأكاديمي أفقد درجة الدكتوراه معناها الحقيقي، حتى كادت أن تصبح سُبّة لمن يحملها، باستثناء من نالوها بجدارة واستحقاق عبر بحوثهم المتميزة. لذلك، لم يكن مستغربًا أن تتخذ بعض الدول العربية قرارات بعدم الاعتراف بشهادات الدكتوراه الصادرة عن بعض الجامعات السودانية. لذلك، لم يكن غريبًا أن يُدهش الرجلان عندما سمعا عن “دكتوراه في الموية”… بل في الإبداع ( الغناء) علي حد قولهما!
ورغم نبرة السخرية التي حملها تعليق الرجلين، حين علما أنني أحمل “دكتوراه في المياه”، وأن هناك من نال “دكتوراه في الغناء” كالفنان عبد القادر سالم، فإنني لم أجد في كلامهما إلا مدخلًا للتأمل في اتساع دائرة المعرفة، وامتدادها لتشمل مجالات قد تبدو متباعدة ظاهريًا، لكنها تلتقي في جوهرها حين تُخدم بصدق وتُمارس بإخلاص. عندها، استحضرت سيرة الدكتور عبد القادر سالم، هذا الفنان الفذ الذي لم يكتفِ بموهبته، بل جعل من الفن علمًا، ومن الغناء أطروحة أكاديمية. فقد نال درجة الدكتوراه في الفنون (الموسيقى) من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا عام 2005، عن أطروحته: “الأنماط الغنائية بإقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها”، وكان قد سبقتها أطروحته للماجستير عام 2002 عن: “الغناء والموسيقى لدى قبيلة الهبانية بشمال كردفان”. لم يكن مغنيًا عاديًا، بل باحثًا نحت من التراث السوداني مادةً علمية، فعرّف العالم بجماليات الموسيقى السودانية، خاصة تلك القادمة من غرب السودان، حيث امتزج الإيقاع التقليدي بالموسيقى الحديثة، في أعمال خالدة تجاوزت حدود الزمان والمكان.
كثيرًا ما أجدني أستعيد تلك اللحظة البسيطة، التي علّق فيها رجلان — بدهشة لا تخلو من الطرافة ، ومن مفارقة عابرة إلى تساؤلات عميقة — وهي أن نظرة كثير من أبناء الريف — تنحصر في أن “الدكتور” لا يكون إلا طبيبًا يصف الدواء ويضمد الجراح. لذلك بدا غريبًا أن يُطلق اللقب على شخص “يتحدث عن الموية”، لا عن العلاج. وما لم يدركاه — وهما في ذلك معذوران — أن “الموية” وحدها، إن لم تكن نظيفة وآمنة، تتسبب في مآسٍ تفوق ما تسببه بعض الأمراض المعروفة. فقد أشارت منظمتا الصحة العالمية واليونيسف إلى أن الأمراض الناتجة عن شرب المياه الملوثة او نقصها ، وسوء الصرف الصحي ، تتسبب في وفاة نحو 1.4 مليون شخص سنويًا حول العالم، خاصة في البلدان النامية، وتحديدًا بين الأطفال دون سن الخامسة. أرقام صادمة تُبرز أن تحسين الوصول إلى المياه النقية وخدمات الصرف الصحي، لا يقل أهمية عن الدواء والمستشفيات، بل قد يكون الوقاية الأولى. وقد تضاعف استغراب الرجلان حين اكتشفا أن الدكتوراه لا تُمنح في “الموية” فحسب، بل حتى في “الغناء”! . لكن خلف هذه الدهشة البسيطة تكمن أسئلة جوهرية عن قيمة كل علم، وجدوى كل تخصص، حين يُسخّر لخدمة الناس. وقد علّمني هذا الموقف — كما علّمتني تجارب كثيرة - أن قيمة الدكتوراه لا تُقاس بشهرة التخصص، ولا بمدى فهم الناس له، بل بعمق أثره في الواقع، وصدق نفعه للمجتمع. في زمن كثرت فيه الألقاب وقلّت فيه المعاني، تبقى القيم الأصيلة: أن يخدم الإنسان مجتمعه بما يعرف، وأن يؤمن بأن المعرفة — أيًّا كان مجالها — يمكن أن تكون بابًا للإبداع، وموردًا للعطاء، ومصدر إلهام. أدركت، وأنا أبتسم لتعليق الرجلين، أن الدكتوراه ليست ترفًا ولا امتيازًا نفاخر به، بل مسؤولية ننهض بها، وأن الفن، مثل العلم، قد يكون وسيلة لتغيير الوعي، إذا خرج من الأرض ولامس الوجدان… كما فعل عبد القادر سالم و فنانون اخرون ، الذين جعلوا من الغناء علمًا، ومن التراث رسالة. فليغنِّ الدكتور عبد القادر سالم “جيناكي”، ما دام في الغناء إبداعٌ يلامس الوجدان، ولأحمل أنا وغيري لقب “دكتور موية”، ما دام في الماء نماء، وحياةٌ تزدهر، وأثرٌ يُخلِّد. فالصدق وحده هو ما يبقى، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، أما الزبد فيذهب جفاء.
د. حامد عمر
25 مارس 2024
hamidomer122@gmail.com