د. أيمن يوسف يكتب: مفارقة "عن جعفر العمدة والنبي سليمان وأشياء أخرى"
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
في حي السيدة زينب، على مقربة من الجامع الأثري وفي أجواء تبدو تراثية شابها بعض المظاهر الإلكترونية للألفية الجديدة، جلس "جعفر العمدة" على الكرسي "الأرابيسك" مرتديا عباءته، قابضا على رأس العصا التي ورثها عن أبيه ليحكم بين الناس، أخذ يجادل المتخاصمين بحكمة شديدة للوصول إلى الحقيقة من بين رواياتهم، لم تجذبه أناقة "السرديات" أو انماط الاستعطاف أو تناسق اكاذيب الحواديت المزورة، أصاب الحقيقة بميكانيزمات الرشادة والحكمة والانصاف، بدى هادئا، عادلا، منفتحا على الآخرين، ساعيا لإثبات المعنى والكليات من وراء الحكم الذي يصدره، ولكن حين لفت الدائرة عليه في أزمة عاشها ل 19 عشر عاما؛ غابت البصيرة والحكمة والفراسة، لم يبصر الخائنة التي تنام على فراشة، ولم يتحكم في عواطفه طوال سنوات الأزمة فكان صراخه يسبق رباطة جأشه، غابت الرشادة في حكمه على المحيطين فشك في اقرب المقربين اليه وأكثرهم براءة، لم يتحكم في انفعالاته وكاد يتسبب في مقتل "بلال شامة" الخيط الوحيد للوصول إلى ابنه المفقود ومحطة خلاص "وحلته"، إنها عيناً "مفارقة سليمان"، السلوك النفس- ذهني صاحب الميكانيزم الغامض في أبحاث وادبيات علوم الاعصاب السلوكية حتى الان، لماذا يكون الناس أكثر حكمة عند تعاملهم مع مشكلات وتحديات الآخرين، ويفقدون الحكمة في مداواة أمورهم وتحدياتهم ومشاكلهم الخاصة؟
التعريف الدقيق لمفارقة سليمان هو عدم التناسق في أداء الحكمة بشأن القضايا المتعلقة بنا وتلك المتعلقة بالاخرين، يظهر الناس الحكمة فيما يتعلق بمشاكل حياة الآخرين بينما هم عالقون في مشاكلهم، تتدخل بالطبع ميكانيزمات بيولوجية ونفسية في هذا السياق، على رأسها الجهاز الحوفي في الدماغ المسئول عن التنظيم السلوكي العاطفي، والمتحكم في الانفعالات والغرائز عند التعرض للمهددات، يبدو الجهاز الحوفي من منظور تطوري أسبق في تكوين الدماغ، ما يصبغه بصبغه غرائزية بدائية، ويتصل بملايين الوصلات العصبية مع المهاد والوطاء والحصين واللوزة المخية، وهم أيضا من أكثر المناطق ارتباطا بالعواطف والأحاسيس والخوف والغضب والقلق والذاكرة والتعلم واعادة صبغ المعاني الجديدة على الأفكار والسلوكيات والأحداث الناشئة وفق المشاعر الحالية، كما يرتبط الجهاز الحوفي أيضا بتنظيم الجهاز العصبي اللاارادي ما يعني أن الضغط عليه يؤثر على النبض وضغط الدم ومستويات الأوكسجين والتنفس كاستجابة عاطفية لما يمثل تهديدا للذات، وهو ما يقلل بالضرورة من مستويات الاسترخاء والتنظيم الذاتي والرفاهية والتجاوب المثالي.
يتدخل هذا النسق الوظيفي كثيرا في خسارة الفرد للسمات الكامنة لمكونات التفكير المتعددة المرتبطة بالحكمة، وهي التفكير الجدلي/التواضع الفكري/الانفتاح/البحث عن التسوية/، بل يذهب المنتصرون في تجاوز "مفارقة سليمان" إلى تعزيز قيم نفسية أعظم من هذه أهلتهم للتغلب على مشكلاتهم وتحدياتهم في حياتهم الخاصة، أبرزها "المنظور اللامركزي" وتجاوز الذات والترفع عن "منظور الطرف الاول"، عندما نترفع عن منظور الطرف الأول "الضحية" ونتمركز في موقف او منظور الطرف الثالث في مشكلاتنا ونعبر عن ذواتنا بلغة "هو" بدلا من "أنا"؛ تتقيد تأثيرات الجهازي الحوفي أو الجهاز العاطفي، وتبدو تعليمات نصف الدماغ الأيسر المسئول عن المنطق والتفكير النقدي والاستنتاج حاضرة بشكل أوسع في معالجة المعلومات والمعطيات وتشكيل المدركات الموضوعية بحقيقة التحديات ومواطن الضعف والحل والانتصار.
إلى جانب "المنظور" للتعامل مفارقة سليمان؛ حقق جروسمان وكروس عام 2014 وتبعهما هاوين عام 2017 في نتائج أخرى حول المنتصرين على مفارقة سليمان، والتي جاءت عكس كافة السياقات المتوقعة، وهو أن السعي وراء الفضيلة يخفف من مفارقة سليمان بشكل أعمق من كافة استراتيجيات الحكمة الأخرى، خرجت دراساتهم بنتيجة واحدة مآلها "أن الباحثون عن الفضيلة العالية حققوا استراتيجيات فعالة في 'التفكير الحكيم" لحل النزاعات في صراعاتهم الشخصية بنفس القدر الذي حققوه في صراعات الاخرين"، إن محاولة "تحقيق الذات" من خلال "نسيان الذات" والدفع نحو القيم العليا عبر مشكلاتنا يؤدي إلى "تحقيق الذات"، يتوافق هذا مع ما أورده فيكتور فرانكل في مؤلفه "الإنسان يبحث عن المعني"، فمن يبحث عن المعنى في مشكلته او قضيته تتعزز معه ميكانيزمات "الإبداع" و"الاستكشاف" و "الانفتاح"، تتعزز قدرته على حل مشاكله، وتتعزز القيم البيولوجية لنصف الدماغ الأيسر مقابل تحييد ميكانيزمات الجهاز الحوفي التي تعطل القدرة على حل مشكلاتنا الخاصة.
إن علوم الاعصاب السلوكية تعزز كل يوم من نتائج الفضيلة على الحياة الخاصة والعامة، وتعزز من محورية الأخلاقيات في صياغة شعوب قادرة على صناعة مستقبلها ورصد مخاطرها ومعالجة تحدياتها، عندما تم وضع نموذج "مفارقة سليمان" في الطب النفسي كان يستند من "وجهة نظره" على المفارقة الشديدة بين حكمة النبي سليمان في إدارة مشكلات الناس وتأسيس مملكته، وبين قدرته على معالجة أموره الذاتية ومشكلاته، وهو ما لا يتفق مع رؤيتنا العقدية في عصمة الأنبياء الكاملة من الزلل، ونرى في نموذج مفارقة سليمان ما هو عكس ذلك وما يؤيد دور الحكمة والفضيلة والتأثير الإيجابي في الإنتصار والتجاوز والارتقاء بالناس والذات إلى حد الحكمة والنبوة والخلود.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
مشروع القانون،، ،وحاجتنا إلى الحكمة وإعادة الثقة ؟
مشروع القانون،، ،وحاجتنا إلى الحكمة وإعادة الثقة ؟
نايف المصاروه.
أُثير بالأمس لغط شعبي عارم، كنوع من الاحتجاج على مشروع قانون ضريبة الأبنية والأراضي لعام 2025، والذي أرسلته الحكومة
إلى مجلس النواب، وما رافق ذلك من حملة للتشكيك بمحتواه.
اولاً نحن دولة لها كيانها واركانها ومؤسساتها، وليس لأي شخص أنى كان مسماه، أن يظهر للناس، ويتحدث في شأن عام، داعياً إليه أو محذراً منه، دون بينةٍ أو دليل، ويُثير بذلك حفيظة المجتمع، ويترك العامة بين التوجس والترقب .
ثم بعد ذلك يعود ذلك الشخص أو الجهة، ليعلن تراجعه عن ذلك التصريح أو البيان، بحجة أنه استند سابقاً، إلى نسخة غير رسمية ومجتزأة من مشروع القانون.
وليتبين له أو لهم أنه وبعد مراجعة الصيغة الرسمية وتفاصيلها، ثبت له بأن مشروع القانون إن إذا طُبق كما هو موضح، فإنه يمثل نقلة تنظيمية ويحقق العدالة الضريبية، ويعيد الثقة ويخفف التكاليف ويدعم الاستثمار.
كان الأولى والأجدى وبعد اللغط الذي أُثير ،وبشكل عاجل أن يقرر النواب وبالأغلبية ، بحفظ مشروع القانون، وعدم الخوض في تفاصيله، لحين توضيح الصورة الجلية للعامة حوله .
لا أن يترك العامة بحالة من الإرباك والتوجس ، يتنقلون بين الغموض والشكوك، بين التصريحات أو التلميحات .
لأن الملدوغ يخاف من جرة الحبل كما يقال، وما أكثر جرات حبالنا؛
نحن نعيش ثورة الإنترنت، وما يرافقها من تطور في وسائل التواصل الاجتماعي، وما جد عليها من استخدامات الذكاء الصناعي وغيره.
ولأن الدولة هي المعنية بالتأكيد أو النفي الأكيد، وذلك من صميم واجباتها ومسولياتها، فحفظ الأمن المجتمعي مقدم على كل ما دونه أو سواه ، ويجب أن تحرص عليه الدولة أولاً، وبكل أركانها التنفيذية والتشريعية والقضائية .
ولأنه مطلب وغاية لكل غيورو، بالتعاون معها، يجب ثم يجب أن نحرص عليه كأفراد ومجتمع، لأنه مطلبنا وغايتنا،وبه نأمن ومعه يكون النماء.
كما يجب على الدولة بكل أركانها واذرعها مراقبة التفلت، وعدم التهاون ومحاسبة كل مخالف.
نحرص من الفتن والتفلت، ونحذر من تنامي خطاب الكراهية، ومن دعوات التظليل والضلال، ونشير باصبع الاتهام إلى جهة أو أكثر داخلياً وخارجياً تقف خلفها، تستغل كل حدث أو طارئ، لتُثير الرأي العام، بدوافع شتى… .
ثم نصمت إذا اشتد الخطب، أو لاح في الأفق بعض سنا البرق ، ونترك الناس حيارى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
جملة من الأسئلة تطرح..
لماذا يُترك الناس، يصدرون عن رأي شخص أو أكثر؟
أين تعزيز الثقة بالمؤسسات وشخص المسؤول؟
ولماذا الاضطراب والشهقةُ والشرّقة، عندما يُثار الرأي العام ويُطلبُ التوضيح ؟
أين إعلام الدولة المهني، وسلاحها في ميادين التنوير والتصريح بالحق ، ووأد التلميح بالباطل ؟
وأين الإعلام بكل مسمياته العام والخاص، ومسؤولياته المهنية والوطنية؟
نعم ندعو للحياء والحياد في بعض القضايا الخلافية، لكن، لكن عندما يتعلق الأمر بسلامة الوطن وأمنه المجتمعي، لا يُقبل الحياد ويُنتفى الحياء، فقد قالوا.. ” الليّ يستحي من بنت عمه ما يجيب منها عيال” ، واللبيب من الإشارة يفهم.
ما جرى بالأمس وكثيرا سابقاً من تهويل، يستحق الوقوف عنده ولو للحظات، لنعرف في أي إتجاه نسير، ولماذا.. ومن معنا،
ختاماً.. يُحكى أنه في قرية ريفية صغيرة، كان هناك راعٍ يأخذ أغنام أهل القرية إلى المراعي المجاورة في الصباح الباكر ويعيدها في المساء.
وذات يوم، خطر في بال ذاك الراعي، إخافة أهل قريته، فصعد على مرتفع يطل عليهم، ونادى بأعلى صوته: الذئاب والوحوش تحاصرني، أسرعوا لنجدتي!
ما إن سمع اهل القرية نداء الاستغاثة، حتى تركوا جميع أعمالهم وحملوا أسلحتهم وذهبوا إليه، ولمّا وصلوا ، بدأ الراعي يضحك ويهزأ بهم فعادوا إلى بيوتهم غاضبين.
وبعد عدّة أيام كرّر الراعي فعلته نفسها، وهرع إليه من سمع نداء الاستغاثة، ولما علموا بكذبه عليهم، غضبوا منه، وقال له بعضهم، ” لو اشوف الذيب.. يشق بطنك ما فزعتلك”!!
وفي أحد الايام، وفيما كان الراعي يرعى الأغنام كعادته، وصل إليه قطيع من الذئاب الضارية ، وبدأت تطارد وتفتك باغنامه.
وبدأ الراعي يصيح بأعلى صوته :طالباً النجدة.. أنقذوني أرجوكم،أنا لا اكذب هذه المرة .
سمع أهل القرية نداء الراعي، ولكنهم لم يكترثوا له، لأنهم ظنّوا أنه يكذب كعادته.
غابت شمس ذلك اليوم وحان موعد عودة الراعي والأغنام إلى القرية، لكنّه لم يعد، فاجتمع الأهالي وتوجهوا إلى المرعى فلم يجدوا سوى ملابس الراعي الممزّقة وبعض العظام!
اخشى على وطني من الكثير، وأشد ما أخشاه هو العبث في مسالة الثقة،التي أرى أنها شارفت على النضوب إن لم تكن نضبت، وأخشى جداً من تتابع من يتولون مواقع المسؤولية وهم ليسوا بأهل لها .
المشكلة ليس بمشروع القانون، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن بغياب الحكمة وإنعدام الثقة.
كاتب وباحث أردني.