في حي السيدة زينب، على مقربة من الجامع الأثري وفي أجواء تبدو تراثية شابها بعض المظاهر الإلكترونية للألفية الجديدة، جلس "جعفر العمدة" على الكرسي "الأرابيسك" مرتديا عباءته، قابضا على رأس العصا التي ورثها عن أبيه ليحكم بين الناس، أخذ يجادل المتخاصمين بحكمة شديدة للوصول إلى الحقيقة من بين رواياتهم، لم تجذبه أناقة "السرديات" أو انماط الاستعطاف أو تناسق اكاذيب الحواديت المزورة، أصاب الحقيقة بميكانيزمات الرشادة والحكمة والانصاف، بدى هادئا، عادلا، منفتحا على الآخرين، ساعيا لإثبات المعنى والكليات من وراء الحكم الذي يصدره، ولكن حين لفت الدائرة عليه في أزمة عاشها ل 19 عشر عاما؛ غابت البصيرة والحكمة والفراسة، لم يبصر الخائنة التي تنام على فراشة، ولم يتحكم في عواطفه طوال سنوات الأزمة فكان صراخه يسبق رباطة جأشه، غابت الرشادة في حكمه على المحيطين فشك في اقرب المقربين اليه وأكثرهم براءة، لم يتحكم في انفعالاته وكاد يتسبب في مقتل "بلال شامة" الخيط الوحيد للوصول إلى ابنه المفقود ومحطة خلاص "وحلته"، إنها عيناً "مفارقة سليمان"، السلوك النفس- ذهني صاحب الميكانيزم الغامض في أبحاث وادبيات علوم الاعصاب السلوكية حتى الان، لماذا يكون الناس أكثر حكمة عند تعاملهم مع مشكلات وتحديات الآخرين، ويفقدون الحكمة في مداواة أمورهم وتحدياتهم ومشاكلهم الخاصة؟

التعريف الدقيق لمفارقة سليمان هو عدم التناسق في أداء الحكمة بشأن القضايا المتعلقة بنا وتلك المتعلقة بالاخرين، يظهر الناس الحكمة فيما يتعلق بمشاكل حياة الآخرين بينما هم عالقون في مشاكلهم، تتدخل بالطبع ميكانيزمات بيولوجية ونفسية في هذا السياق، على رأسها الجهاز الحوفي في الدماغ المسئول عن التنظيم السلوكي العاطفي، والمتحكم في الانفعالات والغرائز  عند التعرض للمهددات، يبدو الجهاز الحوفي من منظور تطوري أسبق في تكوين الدماغ، ما يصبغه بصبغه غرائزية بدائية، ويتصل بملايين الوصلات العصبية مع المهاد والوطاء والحصين واللوزة المخية، وهم أيضا من أكثر المناطق ارتباطا بالعواطف والأحاسيس والخوف والغضب والقلق والذاكرة والتعلم واعادة صبغ المعاني الجديدة على الأفكار والسلوكيات والأحداث الناشئة وفق المشاعر الحالية، كما يرتبط الجهاز الحوفي أيضا بتنظيم الجهاز العصبي اللاارادي ما يعني أن الضغط عليه يؤثر على النبض وضغط الدم ومستويات الأوكسجين والتنفس كاستجابة عاطفية لما يمثل تهديدا للذات، وهو ما يقلل بالضرورة من مستويات الاسترخاء والتنظيم الذاتي والرفاهية والتجاوب المثالي.

يتدخل هذا النسق الوظيفي كثيرا في خسارة الفرد للسمات الكامنة لمكونات التفكير المتعددة المرتبطة بالحكمة، وهي التفكير الجدلي/التواضع الفكري/الانفتاح/البحث عن التسوية/، بل يذهب المنتصرون في تجاوز "مفارقة سليمان" إلى تعزيز قيم نفسية أعظم من هذه أهلتهم للتغلب على مشكلاتهم وتحدياتهم في حياتهم الخاصة، أبرزها "المنظور اللامركزي" وتجاوز الذات والترفع عن "منظور الطرف الاول"، عندما نترفع عن منظور الطرف الأول "الضحية" ونتمركز في موقف او منظور الطرف الثالث في مشكلاتنا ونعبر عن ذواتنا بلغة "هو" بدلا من "أنا"؛ تتقيد تأثيرات الجهازي الحوفي أو الجهاز العاطفي، وتبدو تعليمات نصف الدماغ الأيسر المسئول عن المنطق والتفكير النقدي والاستنتاج حاضرة بشكل أوسع في معالجة المعلومات والمعطيات وتشكيل المدركات الموضوعية بحقيقة التحديات ومواطن الضعف والحل والانتصار.

إلى جانب "المنظور" للتعامل مفارقة سليمان؛ حقق جروسمان وكروس عام 2014 وتبعهما هاوين عام 2017 في نتائج أخرى حول المنتصرين على مفارقة سليمان، والتي جاءت عكس كافة السياقات المتوقعة، وهو أن السعي وراء الفضيلة يخفف من مفارقة سليمان بشكل أعمق من كافة استراتيجيات الحكمة الأخرى، خرجت دراساتهم بنتيجة واحدة مآلها "أن الباحثون عن الفضيلة العالية حققوا استراتيجيات فعالة في 'التفكير الحكيم" لحل النزاعات في صراعاتهم الشخصية بنفس القدر الذي حققوه في صراعات الاخرين"، إن محاولة "تحقيق الذات" من خلال "نسيان الذات" والدفع نحو القيم العليا عبر مشكلاتنا يؤدي إلى "تحقيق الذات"، يتوافق هذا مع ما أورده فيكتور فرانكل في مؤلفه "الإنسان يبحث عن المعني"، فمن يبحث عن المعنى في مشكلته او قضيته تتعزز معه ميكانيزمات "الإبداع" و"الاستكشاف" و "الانفتاح"، تتعزز قدرته على حل مشاكله، وتتعزز القيم البيولوجية لنصف الدماغ الأيسر مقابل تحييد ميكانيزمات الجهاز الحوفي التي تعطل القدرة على حل مشكلاتنا الخاصة.

إن علوم الاعصاب السلوكية تعزز كل يوم من نتائج الفضيلة على الحياة الخاصة والعامة، وتعزز من محورية الأخلاقيات في صياغة شعوب قادرة على صناعة مستقبلها ورصد مخاطرها ومعالجة تحدياتها، عندما تم وضع نموذج "مفارقة سليمان" في الطب النفسي كان يستند من "وجهة نظره" على المفارقة الشديدة بين حكمة النبي سليمان في إدارة مشكلات الناس وتأسيس مملكته، وبين قدرته على معالجة أموره الذاتية ومشكلاته، وهو ما لا يتفق مع رؤيتنا العقدية في عصمة الأنبياء الكاملة من الزلل، ونرى في نموذج مفارقة سليمان ما هو عكس ذلك وما يؤيد دور الحكمة والفضيلة والتأثير الإيجابي في الإنتصار والتجاوز والارتقاء بالناس والذات إلى حد الحكمة والنبوة والخلود.

المصدر: صدى البلد

إقرأ أيضاً:

د. يوسف عامر يكتب: ابن السبيل

قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].

بدأت الآيةُ الكريمةُ بالأمرِ بعبادَةِ اللهِ سبحانه وتعالى والنهيِ عن الشركِ به، ثم أمرتْ بالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ، وذي القربى [الأقارب]، واليتامَى والمساكينِ [المحتاجين]، ثم بعدَ ذلك جاءَ الأمرُ بالإحسانِ للجار، والجارُ نوعَانِ؛ الجارُ ذو القُربى وهو الجارُ الذي تربطُهُ بجارِهِ قَرابةٌ في النَّسَب، والجارُ الجنُبُ وهو الغريبُ الذي ليسَ له صِلةُ نسَبٍ بجارِهِ.

ثم جاءَ بعدَ هذا الأمرُ بالإحسانِ إلى (ابنِ السبيلِ)، والسبيلُ في اللغةِ هو الطريق، وابن السبيلِ هو المسافرُ الذي انقطعَ عن وطنِهِ، وليسَ في يدِهِ من المالِ ما يُوصّلُهُ إلى حيثُ يريدُ، وقد بيَّن السادةُ العلماءُ أنَّه سُمّيَ بـ(ابنِ السبيلِ) لأنه يلازمُ السبيلَ [الطريق] في سفرِهِ.

وابنُ السبيلِ يعاني الغربةَ والوحشةَ وقلةَ مَن ينصرُهُ ويؤازرُهُ، وقد راعَى الشرعُ الشريفُ حالَةَ ابنِ السبيلِ النفسيَّةَ والماديَّةَ، فمن حيثُ الحالةُ النفسيةُ أمرَ بالإحسانِ إليه، والإحسانُ إليهِ يشملُ حسنَ المعاملةِ والمحافظةَ على شعورِهِ، فهو يُعاملُ معاملةَ الضيفِ الكريمِ، وللضيافةِ عندنا في الإسلامِ آدابٌ، منها أنه يُستحبُّ للمُضيفِ أن يُؤنِسَ ضيفَهُ بالحديثِ الطيبِ المناسبِ ولا يطيلُ السكوت عندَه، وأن يلقاهُ بطلاقةِ وجهٍ.

وألَّا يغيبَ عنه، وأن يقومَ على خدمتِهِ بنفسِهِ فهذا من إكرامِه، وأَلَّا يجلسَهُ مع مَن يتأذَّى بالجلوسِ معَهم، وأنْ يَخرجَ معه إلى بابِ الدارِ إذا أرادَ الخروجَ، يقولُ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانَ يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فَلْيُكرمِ ضيفَهُ» [متفق عليه]. والضيافةُ سُنةٌ نبويةٌ كريمةٌ، ومن العلماءِ مَن صرَّح بأنَّها تصيرُ واجبةً إذا لم يكن مع هذا الغريبِ مالٌ يكفيهِ لسفرِهِ وخشِيَ على نفسِهِ الهلاكَ.

ومن الناحيةِ الماديةِ فإنَّ ابنَ السبيلِ أحدُ مَن تُصرفُ لهم زكاةُ المالِ المفروضةِ على القادرِ مِن المسلمينَ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

وقد اتفقتْ كلمةُ السادةِ الفقهاءِ على أنَّ ابنَ السبيلِ إذا أرادَ الرجوعَ إلى وطنِه ولم يكنْ معه من المالِ ما يُبلغُهُ موطنَهُ فإنَّه يُعطَى من الزكاة بحسَبِ حاجتِهِ، حتى لو كان ابن السبيل غنيًّا في بلده، لكنَّه لما نفَدَ ما معه مِن مالٍ في سفرِهِ، فإنه صارَ مستحقًّا للزكاة بقدرِ ما يُبلغُه وطنَهُ، ولا يحلُّ له ما يزيدُ على ذلك.

وهذا يبين كيفَ يعتني الشرعُ الشريفُ بالمسلمين حين يجعلُهم أسرةً واحدةً، فيعلمُ الغريبُ أنه سيجدُ ممّن يمرُّ به إكرامًا وبذلًا، وأنَّ الله تعالى جعل له حقًّا في مال الأغنياء، وأنه ندبَ للمسلمينَ جميعًا ضيافتَه وإكرامَه، وأنه رقيَ بمشاعرِ المسلمينَ حينَ أمرَهُم أن يتفقدُوا أحوالَ بعضِهم، حتى الغريبَ عنهم.وقد قاسَ بعضُ العلماءِ على ابنِ السبيلِ مَن فقدُوا المأوَى بسببِ سيولٍ أو زلازلَ أو غيرِها من الكوارثِ، فإنهم بِفقدِهم المأوى صاروا في حكمِ ابنِ السبيلِ، وصاروا مستحقين لما استحقَّه.

مقالات مشابهة

  • الصندوق السيادي: بدء الطروحات الحكومية في البورصة أكتوبر المقبل
  • محمد رمضان يكشف عن عمل سينمائي جديد مع سعد لمجرد
  • أمير هشام يكشف تفاصيل صفقة يوسف أيمن مع الأهلي
  • اليوم.. محمد رمضان يحيي أحدث حفلاته الغنائية في مهرجان موازين بالمغرب (تفاصيل)
  • كريم العمدة يكتب: فنكوش برنامج الـ100 يوم وعود زائفة تطيح بالجماعة
  • أيمن عقيل يكتب: ثورة 30 يونيو.. ما الذي تغير؟
  • سليمان وهدان يكتب: ثورة الضرورة للمصريين
  • عاجل| "تم التوقيع الرسمي".. الأهلي يضم أول صفقات الصيف لمدة موسم
  • محمد رمضان ينشر صور من رحلته للمغرب
  • د. يوسف عامر يكتب: ابن السبيل