إن طبيعة الهلاوس البصرية نفسها معقدة ومتداخلة، فهي لا تأتي في الغالب بالصورة التي نراها في أفلام مثل "عقل جميل" (Beautiful Mind) أو "آسف على الإزعاج"، فقد تكون بسيطة للغاية وتظهر في: تغيّر في الألوان أو بقع داكنة أو أشكال هندسية، وقد تكون حيوانات أو بشرا، وتختلف وتتنوع كذلك في المدة الخاصة بها، والتي تبدأ من لحظات صغيرة جدا، قد تكون تلك الهلاوس البصرية موجبة في المشاعر التي تقدمها لكنها في الغالب تكون شديدة القسوة، وفي المجمل فهي ليست متكاملة السياق والقصة بالطريقة التي تعرضها تلك الأفلام.

في الحقيقة، فإن طلبة العلوم الطبية أيضا يقعون في الخطأ نفسه، إذ لا يمكن لهم بسهولة فهم الكيفية التي يمكن أن تتمثّل بها الهلاوس بأنواعها للمرضى، دفع ذلك بفريق بحثي من جامعة كاليفورنيا بقيادة بيتر يلوليز - قبل عام من الآن(5) – لابتكار طريقة مثيرة للانتباه يمكن من خلالها تمثيل الهلاوس السمعية والبصرية للطلبة عن طريق الواقع وإدخالهم لواقع افتراضي يختبرون فيه هلاوس شهيرة، كأن يسمع الشخص أصواتا تنتقده، أو يرى كلمة موت كعنوان في الجريدة، أو يرى شخصيات تنزف دماء من عينيها، أو يرى مراسلا في التلفاز يطلب منه أن يقتل نفسه.

لكن أشهر الأخطاء في الفهم التي تسبّبت بها تلك الفكرة الخاصة بالهلاوس البصرية والفصام هي الربط المباشر بين الحالتين لدى الجمهور. 

في الواقع، يمكن أن تكون الهلاوس البصرية عرضا لمشكلات أخرى قد لا تكون بالضرورة مرضية، يظهر ذلك -أكثر ما يظهر- في الأطفال، فحينما يخبر الطفل والديه بأنه يرى أشياء، أو ربما يسمع أصواتا، ليست موجودة فإن كمًّا هائلا من البؤس والحزن والرعب يحطّ على صدورهم فورا لأنهم أصبحوا متأكدين أن هذا الطفل مصاب بالفصام، لكن ذلك في الغالب غير صحيح.

حتى إن دراسة إنجليزية، صدرت قبل عدة أعوام، قد وجدت أن ما يقرب من ثلثي الأطفال يمكن له أن يختبر أعراضا كرؤية أو سماع أشياء غير موجودة بدون سبب مرضي واضح ولا يتطلّب ذلك تدخلا دوائيا، أضف إلى ذلك أنه في حالة الهلاوس البصرية تحديدا فإن الطبيب غالبا ما يذهب إلى تشخيصات أخرى يكون آخرها تماما الفصام، لأنها ليست عرضا مميزا له في غالبية الحالات، ولا بد أن تقترن مع مجموعة أخرى من الأعراض المتنوعة لتشخيص حالة كتلك.

قد توجد أعراض الذهان مع عدة أمراض أخرى مثل الاضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب أو أنواع القلق، كذلك قد تحدث نتيجة لمشكلة في الدماغ، أو نتيجة لاستخدام بعض الأدوية أو المهدئات أو تعاطي المخدرات خاصة الحشيش، أو قد تنتج بسبب الضغط في الحياة أو الصدمات النفسية، بالتالي فإن كل مريض يرى شيئا غير موجود في الواقع ليس بالضرورة مريض فصام، ولكن يجب عند هذه النقطة توضيح أن الهلاوس، في العموم، هي أمر يستدعي الذهاب إلى طبيب متخصص لفهم أسبابها.
وفي الواقع، فإن الفصام -على عكس التصور السائد- هو مرض، رغم قسوته الشديدة، يُمكن علاجه إذا قرر المريض الذهاب إلى طبيب متخصص واتباع خطة علاجية مناسبة، ورغم أن نسب الشفاء التام منه ليست كبيرة، فإن معظم مرضى الفصام يتمكّنون من الاستمرار في حياتهم وعملهم مع برنامج علاج جيد ومتابعة مستمرة، لذلك اسمح لنا أن نقول المرض العقلي يُمكن علاجه أو السيطرة عليه، الطبيب هو الشخص الوحيد القادر على التعامل مع المرض العقلي، وإذا كان العلاج رحلة فإن الطبيب هو الملّاح.

إذا قررت لوهلة أن تتأمل عدد الصفحات التي تقدم مرض الفصام وتداخلاته وأنواعه، في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، الطبعة الخامسة، والذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، وهو أهم كتاب في هذا النطاق، ستجد أن اضطراب الفصام، لأجل أغراض التشخيص فقط، يوجد في أكثر من 40 صفحة، تتكوّن من ملاحظات وتوجيهات كل سطر منها يحتاج بدوره إلى شروحات طويلة من أجل تفصيله في إطار نتائج مشاهدات واسعة من عدد كبير من المرضى، حيث ان المرض العقلي معقد جدا ومتنوع للغاية، ولكل مرض طيف واسع من الأعراض المختلفة وكذلك الشدة والتردد، وتتشابك الأمراض العقلية مع بعضها البعض بصورة لم نتمكّن من تفسيرها بعد، لكننا فقط بإمكاننا التعامل معها، لذلك سوف يكون من الضار جدا للمريض، وللمجتمع في المقابل، أن نعمل على تنميط الأمراض العقلية في صور محددة غالبا ما تكون هي الأقسى والأدعى للفزع. 

ورغم هذا إلا أن دراسة جديدة لباحثين من جامعة فاندربيلت الأمريكية، حددت هدفاً محتملاً يمكن أن يستهدفه علاج جديد لمرض انفصام الشخصية، ويصيب مرض انفصام الشخصية، نحو واحد في المائة من سكان العالم، ومن الصعب علاجه تاريخياً، وتساعد مضادات الذهان الحالية المعتمدة سريرياً في تقليل «الأعراض الإيجابية» مثل الهلوسة والأوهام لدى بعض المرضى، لكنها تفشل في علاج «الأعراض السلبية»، مثل الانسحاب الاجتماعي وقلة الحافز والعجز المعرفي المرتبط بالمرض، ويُعتقد أن الفصام يحدث عندما تصبح منطقة من الدماغ تسمى «قشرة الفص الجبهي» نشطة بشكل غير طبيعي؛ لأن الخلايا العصبية الداخلية، التي تربط الدوائر العصبية أو مجموعات الخلايا العصبية، تصبح غير فعالة وتتوقف عن تنظيم نشاط الخلايا العصبية.

وسعى الفريق من جامعة فاندربيلت، برئاسة جيمس ماكسيمتز، إلى تعديل نشاط تلك الخلايا، وحددوا مستقبلات الجلوتامات الموجهة نحو الأيض، والتي تعرف اختصاراً باسم (mGlu1)، هدفاً محتملاً لدواء يساعد في تحقيق ذلك، وهو ما تأكدوا منه عندما قاموا باختبار مركبات تساعد على تعزيز هذه المستقبلات، تعرف باسم المُعدِلات التعددية الموجبة (PAM) ومن أمثلتها «الديازيبام» و«الألبرازولام» و«الكلورديازيبوكسيد»، حيث وجدوا أنه باستخدام هذه المركبات، تم تعزيز نشاط المستقبلات، وهو ما زاد بشكل انتقائي من نشاط الخلايا العصبية الداخلية المثبطة.

وتشير هذه النتائج التي تم نشرها أمس الأول في دورية «سيل ريبورتيز»، أن استخدام مركبات (PAM) لتعزيز نشاط المستقبلات هو علاج فعّال لمرض انفصام الشخصية.

ويقول ماكسيمتز، في تقرير نشره الموقع الإلكتروني لجامعة فاندربيلت بالتزامن مع نشر الدراسة: «الانفصام مصدر قلق سريري ومجتمعي مهم، والاستجابات غير الكافية للعلاج والفشل في معالجة الأعراض السلبية والعجز الإدراكي يؤدي إلى نتائج سيئة للمرضى، الذين يمثلون عبئاً مالياً كبيراً على الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية».

وما يأمل إليه الباحثون في توفير العلاج الراحة للمرضى في نهاية المطاف، وتسمح لهم بإعادة الاندماج والمساهمة في المجتمع، وتقليل العبء على أنظمة الرعاية الصحية.

ولترجمة هذه النتائج إلى دواء يتوفر في الأسواق، سيحتاج الباحثون إلى التحقيق في فعالية المُعدِلات التعددية الموجبة (PAM) عند استخدامها بشكل مزمن وليس على المدى القصير، وتقييم الآثار الجانبية المحتملة.

فإن دور المجتمع في احتضان المريض العقلي لا يختلف عن دور الأسرة أو دور الدواء، لكن إن كان المجتمع يُعادي المريض، الذي يكون بدوره هشًّا جدًّا تجاه التنميط، فإننا سوف نفقد الكثيرين مبكرا، فقط بمجرد نظرة مرتعبة لشخص يمر إلى جوارك.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الخلایا العصبیة

إقرأ أيضاً:

إلهام أبو الفتح تكتب: مربع الوزارات ..سياحة وثقافة

تطوير منطقة وسط البلد لتصبح منطقة سياحية، بها مساحات كبيرة خضراء وشوارع للمشاة ..
هذا ما أعلنه الدكتور مصطفي مدبولي رئيس مجلس الوزراء.. وهذا ما عشنا نحلم به، وسط بلد يليق بمصر التاريخ والحضارة بلا زحام ولا ضغط خاصة بعد إخلاء الوزارات من الموظفين والمواطنين أصحاب المصالح.. مشروع  التطوير يحول المنطقة إلى منطقة سياحية مع الحفاظ علي شكلها الأثري وعدم السماح بارتفاعات أو الضغط علي البنية التحتية وتحويل مباني الوزارات إلى فنادق عالمية تحتفظ بواجهاتها التراثية.. المشروع رائع سوف يحول المنطقةإلى واجهة حضارية سياحية ويدر عائدًا كبيرًا من العُملة الصعبة. 
المباني التي تم طرحها للاستثمار هي وزارة العدل ووزارة التربية والتعليم  ووزارة الإسكان والهيئة العامة للتخطيط العمراني.
وقال الدكتور مصطفي مدبولي إن هذا يأتي في إطار رؤية الدولة للاستغلال الأمثل لكل المناطق السياحية، وأنه يتم العمل حاليًا بعد إخلاء منطقة وسط البلد من الوزارات، على إعادة استغلالها كفنادق، والتطوير يرتبط بتخصيص بعض الشوارع للمشاة فقط.. 
نحن نرحب بالتطوير وأن تستعيد مصر الخديوية رونقها وسحرها ومن وجهة نظري هي خطوة كبيرة وكنا بحاجة إليها ولكن لديّ بعض التساؤلات عن باقي الأماكن الأثرية مثل مبني جامعة الدول العربية والبرلمان وهي أماكن تاريخية أتمني أن تعلن الدولة عن تحويلها إلى متاحف تحكي هذا التاريخ والتراث العريق الذي شهدته.  
هذه المنطقة جزء كبير من تاريخ مصر ولابد من التركيز علي الثقافة وأن يكون كل مبنى مكتوب عليه تاريخه ومطبوعات وأفلام تسجيلية تشرح تاريخ المبني
سمعنا من قبل عن بيع مجمع التحرير وتحويله إلى فندق وسمعنا عن شركة عالمية مع شركة مصرية ماذا حدث فيهم الآن لأنه المفروض أن يكون هناك وقت زمني محدد وخطة واضحة لهذه المباني التاريخية .
ما أعلنه الدكتور مصطفي هو تخطيط جيد جدًا ولكن نريد أن نعرف التفاصيل بشكل واضح، وطرح مخطط عام للمنطقة بكل التفاصيل وأيضاً تجربة شركة العاصمة الإدارية تجربة ناجحة فياريت لو شركة أو مجلس تابع للحكومة يدير المنطقة بشكل مُتناسق.

مقالات مشابهة

  • منى أحمد تكتب: بشروا ولا تنفروا
  • شاهد بالصورة.. زوجة الحرس الشخصي لقائد الدعم السريع تظهر بإطلالة مثيرة وتتغزل في نفسها: (أنا الحرب التي لا يمكن الفوز بها)
  • جمهورية إيران التي أرجو لها أن تكون إسلامية!
  • فقدت أكثر من 50 كيلو.. شيماء سيف تفاجئ الجمهور بوزنها
  • محافظ الدقهلية: تحصين وكشف وعلاج أكثر من 4 آلاف رأس ماشية وطيور وأشعة سونار
  • والي نهر النيل يكرم الطالبة شمس الحافظ عبدالله التي قطعت أكثر من 2000 كيلومتر من تشاد لأداء امتحانات الشهادة السودانية
  • شيخة الجابري تكتب: البرامج المفتوحة وغياب الرقابة
  • إبداع|| جني طيرة تكتب: دموع بلا لقب
  • عودة: سيف الكلمة هو الأمضى بين كل الأسلحة
  • إلهام أبو الفتح تكتب: مربع الوزارات ..سياحة وثقافة