صورة القائد الذي خلف وراءه ملايين الضحايا والآلاف من كتبة سيرته
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
لم تكن سينما السيرة الذاتية بعيدة عن الجمهور منذ البدايات الأولى، بقي ذلك الولع السردي – القصصي في اقتفاء المحطات الأكثر إثارة في حياة الشخصيات تجتذب الجمهور العريض، ذلك النوع من الاحتفاظ المرئي بتاريخ الشخصية واسترجاع ما كانت عليه في إطار نوع من ثقافة الاكتشاف الماضوي.
السينما وخلال ذلك النمو المتصاعد في توظيف السيرة الذاتية أدخلت العملية في حد ذاتها في نطاق تجاري محض وذلك على مستويين، الأول: إن الشخصية المستهدفة هي شخصية ذات شعبية تستحق ذلك التوثيق، والثاني: هو الاستثمار في الشخصية وظهورها بطريقة جذابة ومعززة بجماليات السينما مما منحها جانبًا تعبيريًا إضافيًا.
ومن هنا كانت بواكير الأفلام وبدايات ظهور السينما قد ارتكزت منذ ذلك الحين على تأسيس ذلك النوعي الفيلمي ولهذا يحمل لنا تاريخ السينما أفلامًا لمخرجين عدة من بينهم توماس أديسون الذي خلّد الملكة الاسكتلندية ماري في فيلم حمل اسمها يعود لعام 1895 بينما خلد الفرنسي جورج ميليه جان دارك في فيلم من إنتاج 1900 ثم شخصية اني بولين التي قدمها الألماني آرنيست لوبيتش في عام 1920 ثم لنكون مع شخصية نابليون بونابرت في فجر السينما مع الفيلم الذي أخرجه أبل جانس في عام 1927 ثم توالت العشرات بل قل المئات من أفلام السيرة الذاتية وحتى يومنا هذا، حيث شاهدنا سيَر سياسيين وفلاسفة ومفكرين ورياضيين وموسيقيين وعلماء في تلك الأفلام.
على أن شخصية الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت كانت لها جاذبية خاصة على صعيد السينما، وحتى على صعيد كتب السير الذاتية، حيث تشير الإحصائيات إلى نشر ما مجموعه 60 ألف كتاب عنه وعن سيرته الذاتية منذ وفاته في عام 1820 وحتى يومنا هذا بينما قارب عدد الأفلام المصنوعة عنه حوالي 180 فيلمًا.
وها هو المخرج البريطاني الشهير ريدلي سكوت، وقد بلغ الخامسة والثمانين من العمر يعود إلى بونابرت ليخلده بفيلم ملحمي تاريخي وفيلم سيرة ذاتية أيضًا بدأ عرضه في الصالات هذه الأيام ولا يزال النقاش حوله محتدما وفي تصاعد.
ريدلي سكوت بعد أن أخرج 30 فيلما وعرف على نطاق واسع بأسلوبه الصارم في الإخراج وفي انتقاء قصصه السينمائية بعناية وعناد مدافعا عن وعيه الخاص وتوجّهه الدقيق وكذلك ولعه بالأفلام الملحمية الضخمة التي يطلق فيها مخيلته في إطلاق الحشود كما في أفلامه المصارع الذي قدمه للسينما في عام 2000 الذي يستعد حاليًا لإخراج جزء ثان منه ثم فيلم مملكة الجنة في عام 2005 وفيلم روبن هود عام 2010 وفيلم بروميثيوس عام 2012 وصولًا إلى أفلام هانيبال ومتسابق المتاهة وايكودوس والمطر الأسود وثيلما ولويس وغيرها وقد توجها بالحصول على تسع جوائز أوسكار.
تثير نسخة ريدلي سكوت وزميله كاتب السيناريو ديفيد سكاربا عن السيرة المتفجرة لنابليون بونابرت جدلًا حادًا بين ثقافتين فكأن الفيلم نسخة أنجلو سكسونية للإمبراطور الفرانكوفوني أو أنها تقدم القراءة البصرية لبونابرت من وجهة النظر الأمريكية وهي نقطة خلافية حساسة لم ترق للفرنسيين كثيرًا بل أثار استياءهم تقديم بونابرت بلكنته الأمريكية – البريطانية وضاع ذلك الإرث الفرنسي إلا من مظاهر قطع رأس ماري أنطوانيت وسط ذلك البهاء الملكي سواء في الأزياء والقصور وإذا بنا أمام ثورة يكون شاهدها ضابط المدفعية قصير القامة ذو القبعة الغريبة بونابرت نفسه.
الهامشي الذي صعد إلى القمة هي واحدة من استدراكات المنطق الفرنسي الذي يرفض ذلك النزول بشخصية تنحدر أصلًا من عائلة ارستقراطية كما أن صعوده لم يكن بتلك الصورة وغير ذلك كثير مما حفلت به الصحف الفرنسية في تصديها للفيلم لكن ها هو سكوت يرد بكل برود إنكليزي معهود قائلا: "الفرنسيون لا يحبون حتى أنفسهم، والجمهور الذي شاهد الفيلم في باريس أحبه، وأنا أميل أن أكون بصريًا خلال مشاهدة الفيلم قبل الكلمة المكتوبة"، وهنا قالت مجلة "جيه كو" الفرنسية إن هنالك شيئا" مربكا للغاية وغير طبيعي ومضحكا في هذا الفيلم وذلك من خلال رؤية الجنود الفرنسيين عام 1793 وهم يهتفون "تحيا فرنسا" بلهجة أمريكية.
وهنا يقول سكوت: "إنه (نابليون) رائع للغاية. محترم ومكروه ومحبوب... أكثر شهرة من أي رجل أو زعيم أو سياسي في التاريخ. كيف لا تريد العودة إلى هذا العصر؟".
على وفق هذه الأرضية انطلق سكوت في رسم خطته الإخراجية ابتداءً من اختيار الممثل الأمريكي جواكيم فوينكس لأداء شخصية الإمبراطور وهو الدور الذي لعبه عشرات الممثلين قبله، بمن فيهم: مارلون براندو، رود ستيغر، داني ديفيتو، جروتشو ماركس، وروان أتكينسون وغيرهم في مقابل حبيبته وزوجته جوزيفين – قامت بالدور الممثلة فانيسا كيربي، وهي المحطة الأكثر أهمية التي توقف عندها الفيلم بحسب رؤية سكوت، وذلك ما يكرس الثلاثية التي آمن بها نابليون وهي الشعب والحرب وجوزيفين، فهو الذي جعله ذلك الحب يغادر ساحة الحرب لتفقد جوزيفين متحملا خيانتها العلنية له، وهو الذي غير خططه الحربية من أجل لقاء معها وهو الذي ما انفك يكتب لها الرسائل من الخطوط الأمامية للمواجهات الدامية، كل ذلك تم تكريسه في هذا الفيلم بما يجعل لحياة بونابرت الخاصة مساحة بالغة الأهمية في تلك السيرة.
على الجانب الآخر وبسبب السيرة المتشعبة لبونابرت التي قد تحتاج إلى ساعات من التوثيق الصوري، فقد بدا سكوت انتقائيا في إبراز أهم المحطات والأكثر تفجرا في حياة بونابرت ولهذا لن نستغرب ذلك المرور العابر لبونابرت وهو يغزو مصر بجيوشه ومؤرخيه وعلمائه وإذا هي بضع دقائق عابرة تم تصويرها في مدينة صحراوية بالمغرب وليس في مصر وتوجت بقذائف نابليون التي ضرب بها الأهرام وهو حدث لم يتيقن أحد من كتاب سيرته أنه فعلها.
واقعيا كانت الثورة الفرنسية وارتداداتها وحروب نابليون وآثارها هما البؤرتان السرديتان الأساسيتان اللتان ارتكز عليهما الفيلم، فهو على صعيد الثورة مال إلى السخرية كثيرا وإلى هشاشة صانعيها والتقلبات التي شهدتها قيادة البلاد من خلال جمعية وطنية انتهى بها الامر الى عزل نابليون واذا به يعود من جديد ليصبح امبراطورا مع أنه أوجد توازنا موضوعيا على صعيد الشخصيات عندما جاء بالممثل الفرنسي من أصول جزائرية طاهر رحيم الذي لعب دور الجنرال بول باراس تلك الشخصية المنسية في التاريخ، التي أزاح عنها سكوت الستار بمعالجة مختلفة.
أما إذا انتقلنا إلى إشكالية الحرب باعتبارها بؤرة سردية أساسية في هذه السيرة فإننا في مواجهة ست حروب خاضها نابليون جسدها الفيلم انتقائيًا أيضًا وحيث نابليون هو ذلك القائد الذي ازهقت في حروبه ملايين الأرواح فإن معركتين طاحنتين عني بهما الفيلم عناية خاصة وهما المعركة ضد الروس في تلك الأجواء المتجمدة القاسية ومعركة واترلو الشهيرة التي أنهت مجد نابليون.
في كلتا المعركتين وجد ريدلي سكوت ضالته في قيادة الحشود وهي لعبته المفضلة وهو يقود مئات الكومبارس، ويستخدم العديد من الكاميرات لتصور كل حركة بدقة حتى تراكم ذلك التدفق الصوري على طاولة المونتاج ليقدم لنا تلك الوفرة البصرية المبهرة وبخاصة المعارك مع الروس في ذلك المدى المتجمد وكيف جسد تساقط الجنود والخيل وهي تطفو تحت الثلج في المياه المتجمدة في مشاهد شديدة الابهار.
..
إخراج: ريدلي سكوت
تمثيل: خواكين فينيكس، فانيسا كيربي، طاهر رحيم، روبرت إيفريت.
سيناريو: ديفيد سكاربا.
تصوير سينمائي: داريوش فولسكي.
مونتاج: كلير سيمبسون وسام ريستيفو.
موسيقى: مارتن فيبس. مدة العرض: 158 دقيقة.
التقييمات آي ام دي بي 7من 10، موقع روتين توماتو 60 من 100، صحيفة الغارديان البريطانية 4 من 5، صحيفة تايمز 4 من 5
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ریدلی سکوت على صعید فی عام
إقرأ أيضاً:
كيف استطاع الشهيدُ القائد حسين بدر الدين الحوثي كسرَ حاجز الخوف من أمريكا؟
يمانيون../
استطاع الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- من خلال مشروعه القرآني كسرَ حاجز الخوف والصمت من أمريكا.
وأعاد -رحمه الله- للأُمَّـة الأمل في النصر، والطموح في التغيير، والشعور بضعف العدوّ، والإحساس بقوة الإيمَـان، وجسّد القرآن عملًا وسلوكًا، وقدمه كثقافة تمثل الحل الوحيد للأُمَّـة، لبنائها وتطورها، وقوتها في مواجهة أعدائها.
وفي هذا الشأن يقول أُستاذ علم الاجتماع السياسي المشارك عبد الملك محمد عيسى: إن “الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي – رضوان الله عليه – استطاع كسر حاجز الخوف من أمريكا من خلال إحياء الثقة بالله، والإيمان بالوعد والوعيد الإلهي وهي مفاهيم محورية ركز عليها في ملازم “في هدى القرآن”، وقدم رؤية قرآنية متكاملة تعالج الخوف كحالة نفسية تفرضها قوى الاستكبار، وعمل على ترسيخ منهجية تعتمد على العقيدة الصُّلبة، في مواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية، فبدأ بترسيخ الثقة بالله كقوة عليا فوق كُـلّ القوى”.
ويضيف عيسى أن “الشهيد القائد أكّـد أن منطلق الثقة بالله هو مفتاح التحرّر من الخوف الذي تسعى أمريكا والكيان الإسرائيلي إلى زرعه في قلوب المسلمين”، موضحًا أن “الإيمان الحقيقي بوعد الله ونصره يمكّن الإنسان من تجاوز الخوف من أية قوة مادية؛ إذ إن الله هو القادر على تغيير موازين القوى لصالح المستضعفين”.
وعن تحرير الإنسان من الخوف، يؤكّـد عيسى، أن “الشهيد القائد ركّز على تحرير الإنسان من الخوف بالمبادرة في المواجهة، حَيثُ وضح أنه بمُجَـرّد التصدي والمواجهة ضد الظلم والاستكبار العالمي، يعد خطوة في كسر حاجز الخوف، وأن الشجاعة المستمدة من الإيمان، تقود إلى النصر”، موضحًا أن “القعود والانتظار هو ما يجعل العدوّ أكثر قدرة على التحكم في الشعوب”.
ويتابع حديثه بالقول: “الوعي القرآني بمفهوم العداء للأُمَّـة الإسلامية ضروري للمواجهة؛ لأَنَّ الخوف من أمريكا والغرب ينبع من ضعف الوعي القرآني وفهم طبيعة الصراع بين الحق والباطل”، موضحًا أن أمريكا “تمثل أنموذجًا للطغيان الحديث مثل فرعون وأنه لا يمكن مواجهتُها إلا بالإيمان الصادق المستمد من القرآن”.
ويتطرق الدكتور عيسى إلى الهيمنة الأمريكية، مؤكّـدًا أن الشهيد القائد “أظهر الهيمنةَ الأمريكية كقوة وهمية من خلال تحليل الواقع”، لافتًا إلى أن أمريكا تعتمد في سيطرتها “على الحرب النفسية والإعلامية وليس على القوة المطلقة، حَيثُ تزرع الخوف والرهبة في قلوب الشعوب؛ بهَدفِ إخضاعهم دون مقاومة فعلية، ولهذا ركز الشهيد على أن القوة الحقيقية تكمن في التمسك بالمبادئ القرآنية والثقة بالله، والعمل على إحياء ثقافة الجهاد والتصدي للطغيان وتحمل المسؤولية”.
الجهاد كموقف شامل:
وبحسب أُستاذ علم الاجتماع السياسي المشارك الدكتور عبدالملك محمد عيسى، فَــإنَّ الشهيد القائد – رضوان الله عليه – عمل من خلال ملازمه على “إعادة مفهوم الجهاد إلى الواجهة ليس فقط كمواجهة عسكرية ولكن كموقف شامل يتضمن مقاومةَ الاستعمار بكل السبل (الثقافية، الاقتصادية، والسياسية… وغيرها) “، مذكرًا بأهميّة الصبر والتضحية في سبيل مواجهة الظلم.
ويشير إلى أن “الشهيد القائد عمل على تقديم أمريكا كعدوٍّ رئيس للأُمَّـة الإسلامية، وأظهرها بوضوح أن أمريكا ليست مُجَـرّد دولة عادية، بل هي رأس الاستكبار العالمي، والشيطان الأكبر الذي يقود حروبًا ضد الإسلام والمسلمين عبر أدواتها المختلفة، مثل “إسرائيل” والأنظمة العميلة، محذرًا من خطر التطبيع والاستسلام لها، فأطلق الشعار القرآني كسلاح نفسي وسياسي وإيمَـاني شعار [الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لـ”إسرائيل”، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام] كوسيلة لكسر حاجز الخوف وتحفيز الأُمَّــة على التصدي المباشر لأعدائها دون رهبة أَو تردّد”، معتبرًا أن “الشعار ليس مُجَـرّد كلمات بل هو موقف عملي يعبّر عن رفض الاستكبار”.
الصرخة ثورةٌ أرعبت أمريكا:
ولأن الشهيدَ القائدَ عرف اللهَ حقَّ معرفته من خلال التدبر العميق في القرآن الكريم وفي السيرة النبوية الصحيحة، يقول الكاتب والإعلامي سند الصيادي: إن “الشهيد القائد – رضوان الله عليه – عاش في ذاته عظمةَ الإيمَـان بالله وَعظمة التمسك به، وكيف أن جبابرةَ العالم وطواغيته يتضاءلون ويتلاشون في ترغيبهم وترهيبهم أمام هذا الإيمَـان والمعرفة الحقة بالله، وَمن خلال هذا الإيمَـان انطلق الشهيد القائد يحاضر الناس من حوله، ويشاركهم هذا الوعي، وَيعيد في أذهانهم رسمَ القيمة العظيمة للدين الإسلامي التي أسقطها دعاة التدين من علماء السوء وعلماء المنفعة”.
ويضيف: “لقد استلهم الشهيدُ القائد تلك الدوافعَ من وحي المسيرة المحمدية، واستطاع الرسولُ الأعظمُ كقائد والقرآن كمنهج، أن يصنعا أُمَّـةً كانت في هامش التاريخ الإنساني قبل أن تتمكّن من أن تهزم الممالك العظيمة وتتوسع في أقطار الأرض بفعل هذا التأثير العظيم للمنهجية الالهية في نفوس من يعتنقها ويفهمها ويبلغ بها أكمل الإيمَـان”.
ويؤكّـد الصيادي في حديثه أن “الشهيد القائد تحَرّك من قناعات ودوافع إيمَـانية صادقة، غير آبهٍ بالمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها، وفوارق العدة والعتاد التي يتسلح بها أعداؤه، وكان يرى في أمريكا مُجَـرّد قشة أمام هذا المشروع العظيم، وكان يراهن أن بإمْكَان الأُمَّــة هزيمتها إذَا ما امتلكت الإيمَـان كسلاح وتحَرّكت عمليًّا لتوفر كُـلّ أسباب التدخل والإسناد الالهي لها في المواجهة”.
ويرى الصيادي في منهجية الشهيد القائد يكونُ “الموتُ في سبيل الله نصرًا عظيمًا، وانتصارًا للنفس البشرية في أن تظفر بحياة الخلود، وانتصارًا للمجتمع والأمة في أن يجني ثمار تلك التضحيات، وانحسارًا لمشاريع الأعداء، وهم يرون أُمَّـة مستعدة لأن تفنى دون مبادئها”.
وفي ختام حديثه يؤكّـد الصيادي أن “الشهيد القائد شخّص طواغيت هذا الزمن وأحسن التصويب إليهم بأسمائهم، وكان شعار الصرخة بمثابة ثورة أرعبت أمريكا، وهي لا تزال في مهدها، فما بالنا ونحن اليوم نرى الصرخة وقد أثمرت وشكلت هزائمَ متلاحقة لأمريكا و”إسرائيل”، وأفرزت تحولاتٍ جيوسياسية ملموسةً تبشّر بالمزيد من الدعم والإسناد الالهي، وبصوابيه المنهج وقادته الإعلام”.
المسيرة: عباس القاعدي