الإيغور.. أقدم الشعوب التركية المستوطنة لشرق آسيا
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
أحد أقدم الشعوب الناطقة بالتركية، ومن أكثرها تمدنا وتأثيرا في تاريخ الترك، تعد آسيا الوسطى موطنهم الأصلي، وتدين الغالبية العظمى منهم بالإسلام. يُقدر عددهم بنحو 20 مليون نسمة حول العالم، منهم حوالي 12 مليونا يعيشون في تركستان الشرقية (إقليم شنغيانغ المتمتعة بالحكم الذاتي)، بنسبة تبلغ حوالي 46% من إجمالي السكان.
وتمارس السلطات الصينية تدابير يقول معارضوها إن من شأنها القضاء على الهوية الثقافية للإيغور في إقليم "شنغيانغ"، وتضع قيودا صارمة على ممارسة الشعائر الدينية والتقاليد واللغة، وتهدم المساجد والمواقع المقدسة، فضلا عن الاعتقالات والاختفاء القسري.
أصولهمالإيغور هم أحد أقدم الشعوب التركية التي عاشت حياة البداوة والترحال في السهول والصحاري في مناطق واسعة شمال وغرب الصين منذ القرن الثالث قبل الميلاد، وتعود أصولهم إلى قبيلتي "التوليس" و"التايلي" التركستان، وكان يطلق عليهم في الفترة الممتدة بين القرن الرابع والخامس الميلادي اسم "توليس".
ويُرجع بعض المؤرخين أصول الإيغور إلى قبائل "تورا" أو "طوران" اللتين ترتبطان بوشائج وطيدة في النسب واللغة والثقافة والعادات والتقاليد مع قبائل "الهون"، ويعتقد هؤلاء المؤرخون أن اسم تورا كان هو المعروف في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث قبل الميلاد والسادس الميلادي، وكان ظهور اسم "الإيغور" (أي الاتحاد أو التحالف) متأخرا في القرن السابع الميلادي.
مسلمو مدينة كاشغر القديمة في إقليم شنغيانغ أثناء توجهم إلى صلاة الجمعة تحت مراقبة الشرطة الصينية (غيتي)وتشير المصادر إلى أن الإيغور قد تمكّنوا من تأسيس مجموعة من الإمارات منذ القرن الأول قبل الميلاد، أكبرها: إمارة أورمجي في الشمال، وإمارة طورخان في الجنوب، التي استمرت حتى القرن السادس بعد الميلاد، إضافة إلى 4 إمارات أخرى صغيرة.
وكانت هذه الإمارات لها ارتباطات سياسية وإدارية مع الدول التي حكمت الأراضي المجاورة، مثل الهون والتوبا والدولة التركية "غوك ترك"، واضطروا للخضوع لهذه الدول أحيانا ودفع الضرائب لها، مما حملهم على تشكيل اتحادات مع غيرهم من القبائل التركية لمواجهة الصراعات والتحديات السياسية.
الاستقلال السياسيكان أول استقلال سياسي فعلي للإيغور في القرن الثامن الميلادي، عندما أسسوا مملكة على طول نهر أورخون شمال وسط منغوليا، حيث أتاح لهم ضعف دولة "غوك ترك" فرصة التمرد عليها عام 717 ميلادي، وهزيمة جيوشها بعد سجال طويل، وبعد زوال دولة "غوك ترك" نهائيا، أعلن الإيغور قيام دولتهم عام 740 ميلادي على أنقاضها، وأسسوا حكما قويا في المنطقة.
وشكل الإيغور اتحادا مع القبائل التركية الأخرى، حمل اسم "التسعة الأوغوز- العشرة الإيغور" وكان يتشكل من 9 قبائل من الأوغوز و10 قبائل من الإيغور، واتسعت رقعة الدولة وأصبحت إمبراطورية، وكان يطلق على السلالة الحاكمة اسم الاتحاد نفسه.
وتحول الإيغور من حياة البدو والارتحال إلى الاستقرار، وأنشؤوا حضارة مزدهرة، وبنوا المدن وشقوا الطرق والقنوات والترع، وفي عهدهم تطورت الزراعة والصناعة، وانتعشت التجارة، وبرزت فنون العمارة، وانتشرت العلوم والآداب والفلسفة والفنون، واشتهرت أحرف اللغة الإيغورية، وهي إحدى اللغات التي تنتمي للعائلة التركية الألتائية، وبدأت لغتهم تستخدم من قبل الأقوام الأخرى.
وبدأت الإمبراطورية بالتراجع مع عشرينيات القرن التاسع، بسبب التدخلات الصينية المستمرة، وقد أسهمت الديانة المانوية في خفض روح القتال لدى الإيغور، وأدى اجتياح القرغيز عام 840 إلى نهاية الإمبراطورية، وانهار الاتحاد الذي كان بينهم وبين القبائل التركية الأخرى.
وأُجبر الإيغور على الهجرة إلى مناطق أخرى، فتوجه بعضهم غربا إلى مناطق القارلوق، وارتحل "الإيغور الأصفر" إلى شمال الصين، وأسسوا دولة إيغورية في مدينة قانسو، كما اتجه بعضهم إلى الحدود الجنوبية للصين.
وهاجرت قبائل أخرى كانت تعد من أكبر مجتمعات الإيغور، إلى تركستان الشرقية واستقرت في مدن تورفان وكوتشا وكراشار وضواحيها، وأسسوا مملكة صغيرة، واندمجوا مع السكان المحليين، وتأثروا بالديانات المنتشرة.
وكانت دولة تورفان الإيغورية تقع على طرق التجارة الرئيسية، فانتعش اقتصادها، وازدهرت فيها مجالات الفن والأدب، وتركت تراثا غنيا وافرا. كما أبقت على علاقة ودية بالصينيين، لذلك اعترفوا بها، ولم يتدخلوا كثيرا في توسعها.
وفي منتصف القرن العاشر الميلادي، انتقلت السيادة التركية لدولة القراخانيين المسلمين، الذين وسعوا حدود دولتهم وأنشؤوا إمبراطورية عظيمة، وتراجع دور الإيغور سياسيا وعسكريا إلى حد كبير، حيث اقتصر حكمهم على دويلات صغيرة أسسوها في مدن تركستان الشرقية.
السيطرة المغوليةفي منتصف القرن الثالث عشر تقريبا انتهى حكم الإيغور في تركستان الشرقية، وأطيح بهم على يد جنكيز خان، وخضع الإيغور للحكم المغولي، الذي سيطر على المنطقة نحو 3 قرون.
وفي عام 1514 تولت الدولة السعيدية المغولية "مملكة ياركند" حكم البلاد، واستمر حكمها لأكثر من قرن ونصف القرن، حرصت فيه الدولة على تبني قيم الحضارة الإسلامية وتقاليدها الثقافية.
متظاهر بواشنطن في احتجاج عام 2019 ضد انتهاكات الصين لحقوق الإنسان لمسلمي الإيغور (غيتي)وكان الإسلام قد بدأ ينتشر بين الإيغور منذ بداية القرن التاسع، وكانوا قبل ذلك يدينون بعقائد شتى منها البوذية والمانوية والزردشتية والمسيحية، ومن قبلها الشامانية. وفي القرن العاشر الميلادي، ومع قيام الدولة القراخانية انتشر الإسلام بصورة أكبر، ثم كان اعتناق المغول للإسلام في القرن الرابع عشر النقطة التي تداعت فيها البوذية وغيرها من الديانات أمام الإسلام عند الإيغور.
وفي عام 1679 سيطرت خانات زونغار "دولة القالموق" المغولية على شمال تركستان الشرقية، ولكن الصراعات الداخلية على السلطة في الدولة أدت إلى إفساح المجال للتدخلات الصينية.
سيطرة صينيةعلى إثر استنجاد بعض القالموق بالصينيين خلال نزاعاتهم الداخلية، اجتاحت سلالة مانشو الصينية عام 1758 البلاد وقوضت دولة زونغار، واستمر آل مانشو في حروبهم حتى استطاعوا الاستيلاء على الأجزاء الجنوبية من البلاد عام 1760.
ولم يستسلم الإيغور وشعوب المنطقة للسيطرة الصينية، وثاروا مرات كثيرة، وفي غضون سنوات تمرد يعقوب بك على الصينيين وأنشأ عام 1865 دولة مستقلة في تركستان الشرقية، ولم يستمر حكمه طويلا، إذ تم اغتياله عام 1877، وخضع الإيغور من جديد لحكم المانشو، وبعد صراع دام سنوات ضمت إمبراطورية المانشو تركستان الشرقية إلى أراضيها عام 1884 وحولتها إلى إقليم تحت اسم "شنغيانغ" أي "الإقليم الجديد".
وفي عام 1911 تولى القوميون الصينيون الحكم بعد الإطاحة بدولة المانشو، وثار الإيغور للتخلص من الحكم الصيني ونجحوا عام 1933 في إنشاء "جمهورية تركستان الشرقية الإسلامية"، التي لم تستطع أن تنعم بالوجود طويلا، حيث غزاها الصينيون وإلى جانبهم الجيش الروسي، وأُعدِم جميع أعضاء الحكومة مع 10 آلاف مسلم، وحصل الروس مقابل دعمهم على حق التنقيب عن الثروات المعدنية، والحصول على الثروات الحيوانية.
واستمرت ثورات الإيغور المناهضة للاحتلال، بالتزامن مع سياسة التنكيل التي كانت تنتهجها السلطات الصينية، وفي عام 1944 اندلعت ثورة في شمال ترکستان الشرقية، وأعلن زعماء الثورة قيام جمهورية مستقلة، غير أن الضغوطات السوفياتية أجبرت الدولة المستقلة حديثا على الدخول في مفاوضات مع حكومة الصين، والتي أسفرت عن حل توافقي، يقضي بتشكيل حكومة ائتلافية تضم ممثلين عن جمهورية ترکستان وممثلين عن حكومة الصين، ومنح ترکستان حكما ذاتيا، لا استقلالا تاما.
وعقب سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على مقاليد السلطة في البلاد، هجم "جيش التحرير الشعبي" الصيني على تركستان الشرقية عام 1949، وفرض عليها التبعية السياسية مرة أخرى. وتجدد النضال الشعبي في تركستان الشرقية، وتمكنت المنطقة من الحصول على حكم ذاتي عام 1955، وأصبح يُطلق عليها "إقليم شنغيانغ الإيغورية المتمتع بالحكم الذاتي".
أهمية تركستان الشرقية (شنغيانغ)يقع الإقليم في أقصى الشمال الغربي من جمهورية الصين الشعبية، على طريق الحرير التاريخي، الذي يعتبر من أهم الممرات التجارية والعسكرية منذ القدم، ويمثل كذلك بوابة الصين إلى أوراسيا والشرق الأوسط.
ويتربع الإقليم على ما يقارب سدس إجمالي مساحة الصين، ويتميز بغناه بالمعادن، لا سيما اليورانيوم والذهب، ويمتلك أكبر احتياطي من الفحم والغاز الطبيعي في الصين، وخمس احتياطاتها من النفط، وينتج أكثر من 80% من القطن فيها حسب خدمة أبحاث الكونغرس للعام 2023.
ويمثل إقليم "شينغيانغ" كذلك مركزا أساسيا لمبادرة الحزام والطريق الصينية التي تتضمن مشاريع البنية التحتية المدعومة من الصين، وتطوير الطاقة في وسط وجنوب آسيا المجاورة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی القرن وفی عام
إقرأ أيضاً:
حرب السودان والارتدادات الإقليمية.. روسيا وأبعاد جديدة للنفوذ في القرن الإفريقي
حرب السودان والارتدادات الإقليمية.. روسيا وأبعاد جديدة للنفوذ في القرن الإفريقي
فؤاد عثمان عبدالرحمن
المقدمة
في خضم التغيرات المتسارعة التي يشهدها إقليم القرن الافريقي وحوض النيل، تتشكل علاقات وتحالفات جديدة تهدف إلى اعادة صياغة موازين القوى الاقليمية، هذه الديناميات ليست مجرد تفاعلات سياسية، بل تعكس ازمات متشابكة تشمل الأمن والمياه والسيادة الوطنية ، التي باتت تهدد بنية واستقرار النسق الاقليمي بأسره.
في مقدمة هذه التطورات ، يبرز التقارب المصري الصومالي الارتري كعامل محوري ، بجانب اتفاقية الاطار التعاوني لحوض النيل (عنتيبي) التي تتزعمها اثيوبيا. هذا التقارب يسلط الضؤ علي محاولات الدول المعنية لتعزيز نفوذها وتحقيق مصالحها الاستراتيجية ، مما يخلق بيئة مليئة بالتحديات والمخاطر.
تأثير هذه التكتلات الجديدة يمتد بشكل واضح الي الصراع الدائر في السودان ، اذ يعيد هذا المشهد الاقليمي تشكيل توازن القوي ، مما قد يؤدي إلى دعم أو معارضة اطراف معينة في النزاع السوداني.
فمع تصاعد الازمات تسعى الدول المجاورة إلى حماية مصالحها ، مما قد يدفعها إلى التدخل لتحقيق الاستقرار ومنع تدفق الازمات عبر الحدود.
والحادثة الابرز في ذلك السياق كانت انتقاد قائد الدعم السريع حميدتي بعد هزيمته من قبل الجيش في معركة جبل موية الاستراتيجية بوسط السودان ، إذ انتقد علنا في خطاب مصور جمهورية مصر واتهمها بالوقوف لجانب الجيش في تلك المعركة عبر قواتها الجوية ومعارك اخري أيضا ، مما جعل مصر الرسمية تسارع في الرد عليه عبر بيان وزارة خارجيتها نافية تلك التهمة ووصمت تلك القوات بالمليشيا وهو نفس موقف الجيش السوداني الرسمي ، ما عد اصطفافا واضحا من قبل مصر مع الجيش السوداني احد اطراف الصراع الدائر حاليا.
أيضا القضايا المتعلقة بالامن المائي ، خاصة فيما يتعلق بمياه النيل ، تلعب دورا حاسما في تاجيج التوترات ، فالصراع في السودان قد يعقد ادارة هذه الموارد الحيوية ، مما يؤثر بشكل مباشر علي العلاقات بين الدول المعنية ويزيد من مخاطر النزاعات المستقبلية.
علاوة علي ذلك ، قد تسعى الجماعات المحلية والفصائل المختلفة في السودان ، الي تشكيل تحالفات جديدة مع القوى الاقليمية ، مما يزيد من تعقيد الصراع.
إن هذه الديناميات المتغيرة قد تؤدي لتفاقم الاوضاع الانسانية ، حيث يتوقع زيادة اعداد اللاجئين ، مما يضع ضغوطا اضافية علي الدول المجاورة.
بناء علي ماسبق فان التكتلات الاقليمية الناشئة في القرن الافريقي ليست مجرد تطورات سياسية عابرة ، بل تمثل تحديات حقيقية تعكس التداخلات الامنية والجيوسياسية التي تؤثر على مستقبل السودان واستقراره ، ان فهم هذه الديناميات يصبح امرا حيويا لصياغة استراتيجيات فعالة تهدف لتحقيق السلام والاستقرار.
الديناميات الإقليمية وارتداداتها على الحرب السودانية.
إن الحرب في السودان لم تعد مجرد صراع داخلي بين أطراف سودانية، بل تحولت إلى أزمة إقليمية ودولية ذات أبعاد جيوسياسية معقدة. ويعكس هذا الصراع التفاعلات المعقدة التي تشهدها منطقة شرق أفريقيا بشكل عام، التي تتداخل فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية، وتتحول الحرب السودانية إلى ساحة للتنافس الجيوسياسي بين عدة أطراف. هذه الحرب تفتح المجال لتساؤلات عميقة حول كيفية تأثير الديناميات الإقليمية، سواء على المستوى العسكري أو الدبلوماسي، على مسار الأحداث في السودان والمنطقة بأسرها.
السودان: ساحة لتوازنات إقليمية معقدة
منذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تأثرت الديناميكيات الإقليمية بشكل ملحوظ. أصبح السودان نقطة تماس رئيسية في خريطة النفوذ الإقليمي، حيث تتداخل مصالح العديد من القوى الإقليمية والدولية. ففيما يتصاعد النزاع الداخلي، تُظهر التحولات السياسية على الساحة الإقليمية قدرة بعض الأطراف على استثمار الوضع لصالحها، سواء عبر الدعم المباشر لأحد الأطراف المتحاربة أو من خلال تفعيل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي.
في هذا السياق، يتجسد دور القوى الإقليمية الكبرى، مثل مصر والسعودية والإمارات، في دعم طرف من الأطراف السودانية لتحقيق مصالحها الخاصة. فمصر، على سبيل المثال، تعتبر السودان جزءًا حيويًا في استراتيجيتها الأمنية والسياسية، ولا سيما فيما يتعلق بمياه النيل. بالمقابل ، وفي سياق التصعيد المستمر للحرب وتوسع انتشار الدعم السريع في مناطق واسعة من السودان ، وجه الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة ، اتهامات وانتقادات حادة وغليظة لدولة الامارات بتقديمها لدعم عسكري ولوجستي للدعم السريع من خلال قنوات امداد سرية ومعقدة ، واشار أيضا للجارة تشاد في استقبالها لذلك الامداد وتوصيله للدعم السريع ، وكررت تلك الاتهامات خطابات ممثل السودان لدي الامم المتحدة ، عبر سفيرها الحارث ادريس خلال اجتماعات الجمعية العامة ، واشار لتاكيد تلك الاتهامات الي تقارير غير منشورة اضافة لكتابات كتاب غربيين بمجلات ودوريات بارزة، بان الامارات قد قدمت دعما لوجستيا وعسكريا عبر شبكات غير رسمية ، مايثير تساؤلات واسعة حول أبعاد هذا الدعم وتاثيراته علي الوضع الاقليمي والدولي ، هؤلاء الكتاب والمحللون ربطو تلك الانشطة بتوجهات سياسية واستراتيجية للامارات في المنطقة مما سيعقد الاوضاع جدا. بينما تنكر الامارات تلك الاتهامات ووصفت خطابات العطا والحارث ادريس بالتهرب من تحمل مسؤولية حماية السودانيين ورعاية مصالحهم.
عودة النفوذ الروسي في شرق أفريقيا: تحديات وتفاعلات مع الغرب
في المقابل، تكشف الحرب السودانية عن تحول مهم في خريطة النفوذ في شرق أفريقيا، خاصة مع عودة روسيا القوية إلى الساحة، مستغلة الفراغ الذي تركته بعض القوى الغربية في المنطقة. تتجلى هذه العودة في محاولات روسيا للتوسع العسكري على سواحل البحر الأحمر، التي تعد ممرًا استراتيجيًا حيويًا للتجارة العالمية وللتنافس الإقليمي والدولي. ويعتبر ميناء بورتسودان، الذي يُعد أحد الموانئ الرئيسية على البحر الأحمر، نقطة محورية في هذه الاستراتيجية الروسية.
من هنا، يبرز تساؤل كبير حول مدى قدرة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على إيقاف تقدم روسيا في هذا الإقليم. يُحتمل أن تكون الولايات المتحدة قد تفكر في استخدام مجموعة من الأدوات السياسية والعسكرية لثني السودان عن المضي قدمًا في هذه الصفقة مع روسيا. ومن بين هذه الأدوات، يمكن أن تلجأ واشنطن إلى دعم الجيش السوداني بقيادة البرهان، شريطة أن يتم التراجع عن الاتفاق مع موسكو. كما قد تركز على تعزيز الدعم لقوات الدعم السريع، وهي خطوة تهدف إلى تقويض موقف البرهان في مقابل تنامي النفوذ الروسي.
الموقع البديل: مسعى روسي عبر إريتريا
وفي إطار سعيها لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، تبقى إريتريا أحد البدائل المحتملة لروسيا في حالة فشل الاتفاق في السودان. ورغم عدم الإعلان الرسمي عن تفاصيل هذا التعاون، تشير التقارير إلى أن هناك تنسيقًا روسيًا إريتريًا على مستوى المناورات البحرية، مما يعكس رغبة روسيا في تأمين موقع استراتيجي على البحر الأحمر. لكن هذه الخطوة ليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض، إذ من المتوقع أن تثار مقاومة من القوى الغربية، التي قد تسعى إلى فرض ضغوط سياسية واقتصادية على الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لإفشال هذه الخطط. قد يتضمن هذا الضغط محاولة إشعال نزاع حدودي بين إريتريا وأثيوبيا، وهي مسألة شائكة ومعقدة بالنظر إلى العلاقات المتوترة بين البلدين.
التحولات الإقليمية: الصومال ومصر
بينما يسعى الغرب إلى مواجهة النفوذ الروسي في شرق أفريقيا، تزداد الديناميكيات الإقليمية تعقيدًا. فالعلاقات بين الصومال وإثيوبيا شهدت توترًا غير مسبوق، حيث تم توقيع اتفاقية بين إثيوبيا وصومالي لاند حول استخدام الأراضي الاستراتيجية على البحر الأحمر لأغراض عسكرية ومدنية. وهو ما قوبل بمعارضة شديدة من الصومال التي طالبت إثيوبيا بسحب قواتها من بعثة حفظ السلام في الصومال. في المقابل، تستثمر مصر هذا التوتر لتقوية علاقتها بالصومال، مستبدلة الوجود الإثيوبي في المنطقة بوجود عسكري مصري، في خطوة تهدف إلى تعميق تحالفها الاستراتيجي مع الصومال.
أزمة المياه والنيل: بعد جديد في الصراع الإقليمي
تجدر الإشارة إلى أن النزاع السوداني يظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالصراع الإقليمي حول مياه النيل، حيث دخلت اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ، ما أدى إلى توترات جديدة بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى. هذا التوتر يتفاقم مع قضية سد النهضة الإثيوبي، الذي بنته إثيوبيا دون التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان حول كيفية إدارة عملية الملء والتشغيل. هذه المسألة قد تشكل نقطة ضغط أخرى على السودان، في ظل التهديدات المستمرة التي تواجهها الحكومة السودانية من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.يجدر الاشارة الي انه وبعد اجتياح الروس لاوكرانيا ، تحدثت تقارير بأن حوجة المصريين ازدادت انطلاقا من سعيهم لتنمية القطاع الزراعي في إطار الجهود التي يبذلونها للتعويض عن خسارتهم لواردات القمح من اوكرانيا.
الختام: نحو تسوية سياسية أو استمرار الصراع؟
إن الحرب السودانية تشكل نموذجًا معقدًا لتفاعل الديناميات الإقليمية والدولية في منطقة استراتيجية ذات أهمية حيوية. ورغم أن الأطراف المحلية في السودان قد تجد نفسها عالقة في دوامة من الصراع الدموي، فإن التفاعلات الإقليمية والدولية، سواء عبر الضغط على الأطراف المتحاربة أو من خلال محاولة فرض تسوية سياسية، ستكون حاسمة في تحديد مصير المنطقة. ومن غير المستبعد أن تستمر هذه الحرب لفترة أطول، حيث يبقى الوضع في السودان مرهونًا بتوازنات إقليمية ودولية قد تغير شكل المنطقة في السنوات القادمة.
الوسومافريقيا السودان روسيا مصر