يقول الأديب توفيق الحكيم إن «الشيخوخة هى تناقص الحيوية». ربما لاعتبارات اجتماعية وثقافية لم يزخر الأدب العربى بكتابات محورها هذا العالم خطّها مسنون تخطّوا عتبة الستين. المنشور فى الغالب يتناول ملمحًا من حياة هذه الفئة فى القصة والرواية.

أخبار متعلقة

حنان سليمان تكتب: أطلس فرنسى لـ«العالم الإسلامى فى القرون الوسطى»

حنان سليمان تكتب: صحفى دولة الاصطفاف يروى «ساعات الأسر» بتوقيت الوردانى

حنان سليمان: «كان نفسي أبقى مراسلة حربية» (فيديو)

إذ يلتقط الكاتب طرفًا واحدًا من الثوب ليؤسس عليه شخصية بطل مسن ضمن أبطال عمله الأدبى، وهكذا لا يصبح البناء السردى أو مدار الحكى حكرًا عليه، فضلا عن أن الكاتب فى أغلب الأحيان لا يكون مسنًا، بل ينتمى لفئة عمرية أصغر مع وجود استثناءات بسيطة.

فى ذاك العمر الذى نتحدث عنه غالبا ينزوى صاحبه إقرارًا بأنه لم يعد فاعلًا فى محيطه على النحو الذى كان مُسلّما الراية إلى غيره، قابلا أن يعيش على هامش الحياة فى انتظار الضيف الثقيل.

ربما قضى المسن فى هذه المرحلة ربع قرن يزيد أو ينقص وهو على وضع الانتظار لا يفعل شيئًا يُذكر، معتبرا أنه أتم رسالته فى هذه الدنيا وأنه بلغ التقاعد عن الحياة بمجرد بلوغ سن التقاعد عن العمل. المجتمع أيضا يزكى هذه النظرة فى المحيط العربى، فهو يفتقد لسبل دمج فئة قضت عمرًا كاملًا فى النشاط والخدمة العامة وفجأة يجد أفرادها أنفسهم فى دور المساعد لا دور البطل.

هذا إن رضى بهم أصلًا، بما يشجعهم على الخمول والتهيؤ للعَجَز وإن صحُّوا. لكل هذا ليس غريبًا أن يكون هناك نقص فى قصِّ حياة المسنين على لسان من يعيشها فى الإنتاج الأدبى العربى، وذلك بعكس الأدب فى الدول المتقدمة، وحتى دول أمريكا اللاتينية مثلا حيث تظهر هذه الفئة بوضوح فى الكتابة الإبداعية وتدور حولها عوالم روائية كاملة بخلاف الكتب.

نذكر على سبيل المثال رواية «إيلينا تعرف» للكاتبة الأرجنتينية كلاوديا بينيرو و«رجل يُدعى أوڤ» للكاتب السويدى فريدريك باكمان. فى كل من النصين برع الكاتبان فى تصوير حياة المسن بشكل يلمس المشاعر ويترك أثرًا فى القارئ لا يُنسى. بخلاف الترجمة للغات عدة، من بينها العربية وذيوع صيتهما، رواية باكمان انتقلت إلى الشاشة من أجل انتشار جماهيرى أكبر وتحولت إلى فيلمين سويدى وآخر أمريكى للفنان الكبير توم هانكس.

لكن إن كان هناك نقص فى الروايات العربية عن المسنين، فإن الكتب الخاصة بنادى الستينيين وما بعد العقد السابع شحيحة للغاية فى المكتبة العربية. فى الشهر الماضى صدر عن المرايا للثقافة والفنون كتاب يعد إضافة ثرية فى هذا السياق، هو كتاب «الحياة بعد الستين»، وفيه يعرض الكاتب د.محمود الشنوانى عبر 17 فصلا فى 155 صفحة مفردات حياة كبار السن فى حكى يلمس الوجدان أحيانًا عبر مواقف إنسانية ويثير الفكر كثيرًا. ما يميز الكتاب أن كاتبه ينتمى للفئة التى يتحدث عنها، والتى نادرا ما نجد فى مجتمعاتنا من يتحدث عنها منها.

يُعرّف الكاتب نفسه بأنه «جدو محمود»، وأنه طبيب، ابن المدينة، ينتمى للطبقة المتوسطة، ولديه أسرة مستقرة من زوجة وأبناء وأحفاد. هو أيضا له ثلاثة كتب أخرى أحدها ينتمى لأدب الرحلات، والثانى مجموعة قصصية، والثالث سجل فيه ذكرياته الشخصية عبر صداقة ممتدة مع الأديب الكبير نجيب محفوظ فى كتاب بعنوان «ثلاثون عامًا فى صحبة نجيب محفوظ». يقول الشنوانى فى الصفحات الأولى من الكتاب: «أقف أعلى بناء حياتى وفى يدى منظارى أدور به فى الاتجاهات كافة، أستكشف الأبنية الأخرى، راصدا تجارب من يشاركوننى المرحلة العمرية».

غلاف الكتاب

وهكذا يدور الكاتب فى صورة أشبه بالمقالات على جوانب حياة المسن التى تهمه عبر 17 فصلًا، يناقش كلٌ منها محورًا مختلفًا مثل الصحة بين التمرد والانصياع للتعليمات الطبية، والمال وخوف العَوَز المادى أمام تكالب احتياجات المعيشة والعلاج، أُنس الأصدقاء القدامى، العمل وبديله الحياتى بعد أن كان يتطلع للتقاعد رغبة فى الراحة والمتعة والأسفار والترفيه، كيف يملأ الوقت الآن أو يستعيد هوايات قديمة، علاقة الستينى بالدين والسياسة، بالإضافة إلى علاقاته بمحيطه من الشباب والمجتمع وشريك الحياة والأبناء والأحفاد والأبوين والأخوة والأجداد وبعض من الجيران خاتما بفصل عن الموت.

فى الوقت نفسه هو يقر باختلاف حياة الرجال عن النساء فى هذه الفئة العمرية، إذ إن سيدات العقد السابع لهن حياة مختلفة فى بعض الجوانب الاجتماعية. رُغم ذلك، يتسلل للقارئ شعور بالتكتم أحيانًا أو التحفظ فى بعض المواضع فى ظل نأى الكاتب عن الاستطراد فى تفاصيل حياتية كان من الممكن أن تُضفى على الكتاب لمسة أكثر حميمية، وهو يتناول موضوعًا حميميًا بطبعه، وما فعل ذلك إلا رغبة فى الإعلاء من الأثر الفكرى على المشاعرى وحفظًا للخصوصية واحترامها حتى لا تُصبح حياته مشاعا أو حياة من يعرف حتى مع تغيير الأسماء الذى عمد إليه عند ذكر بعض المواقف.

فى رحلة إلى الحياة بعد الستين يأخذنا الشنوانى، وهو فى الأصل طبيب أطفال إلى تساؤلات عن عالم الشيخوخة وحياة الفراغ التى يعيشها الكثيرون بانتظار الوقت أن يمر. ورُغم أنه كتاب يحكى عن كبار السن، إلا أن جميع الفئات العمرية ستجد نفسها فيه فإن لم يكن القارئ مُسنًا، سيكون ابنًا لمسن أو حفيدًا أو صديقًا أو جارًا ترك له الكتاب أثرًا من رائحة حبيب يرغب فى فهمه ولا يدرى السبيل أو رحل عن الدنيا قبل أن يُمهله الوقت لاستيعاب ما يدور بذهنه الشارد وبنظرته للحياة والتكنولوجيا وأمور مُستحدثة كثيرة لم تكن فى قاموس الستينيين فى شبابهم.

والتجربة تثبت أن هذه الكتابات تلقى القبول لدى أصحاب أواسط العمر مثلما كان الحال مع كتاب «ثورة الشباب» للكاتب والفيلسوف توفيق الحكيم، الذى كتبه وهو فى عقده الثامن. يبدو الكتاب من عنوانه وكأنه موجه للشباب، لكنه فى الأصل موجه للأجيال القديمة لحثهم على فهم الأجيال الجديدة وتقبل أهداف أبنائهم وأحفادهم. تدور فصوله حول العلاقة بين الأجيال وقوفًا على مظاهر للتنوع والانفصال والتصادم والتجاهل بخلاف صناعة الأجيال. وعلى الرغم من صدور الكتاب فى ثمانينيات القرن الماضى، إلا أنه كان مصدر إلهام لبعض الناشطين الشباب المنخرطين فى حركات سياسية إبان ثورة يناير، كما ذكروا فى تصريحات صحفية.

فى «الحياة بعد الستين» يقول الشنوانى وهو فى الخامسة والستين من العمر: «منذ طفولتى وأحوال المسنين تشغل بالى بدرجة أظنها غريبة فى ذلك العمر المبكر الذى صار بعيدا». كان يتساءل عما يفعلونه وما يشعرون به عندما يخلون إلى أنفسهم، لافتا إلى أنه غالبا ما عجز عن الوصول إلى إجابة شافية. نقرأ فى ص 20: «على مدار العمر يبدو هذا الرقم (60) فى الأفق. أفق يبدو بعيدا، ثم يبدأ فى الاقتراب مع مرور السنين، يلوح كجرس له صوت مدو، إعلانا بانتهاء المرحلة الأساسية من الحياة».

يدلف الكاتب إلى شريك الحياة ويقول إن المعدن الحقيقى للعلاقة الزوجية يظهر بعد عتبة الستين مع خلو البيت من الأبناء بالزواج أو السفر، ومع تقاعد الزوج عن العمل ليجد الشريكان نفسيهما فى «مرحلة جديدة من علاقة قديمة تحتاج للكثير من النضج النفسى والعقلى حتى تصبح مرحلة إيجابية التأثير لطرفيها، فليس سهلا أن تكتب عقد شراكة ببنود جديدة بين شركاء قدامى فى شركة قديمة». فى ذلك الوقت أيضا تظهر هواجس رحيل رفيق الحياة.

تتشابه مرحلتا الشيخوخة والمراهقة برأى الكاتب حين «تتكاثر التساؤلات وتصبح أكثر حدة وتفور المشاعر بانفعالات متضاربة.. وتختلف معانى الأشياء.. ويجاهد الإنسان لتكون له مساحته الشخصية التى لا يقتحمها أحد». وإذا تأملنا حال الإنسان مع زحف الشيخوخة المتقدم عليه، والذى وصفه الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز بـ«أرذل العمر» فسنجد أنه كثيرا ما يرتد إلى حال الطفولة لكى لا يعلم بعد علم شيئا. يعود حينها طفلا بحاجة إلى تعلم الأشياء حتى الأساسى منها. وقد قيل فى تعريف أرذل العمر إنه الخامسة والسبعون، وقيل الثمانون، وقيل التسعون.

لكن، كيف يبدو المسنون فى الروايات؟ يتناول بعض الكتاب جانبا من حياة فئة كبار السن عبر شخصية بطل من أبطال عملهم الأدبى، مثلما نجد فى شخصية الجد برواية الأديب نجيب محفوظ «يوم قُتل الزعيم» التى كتبها وهو فى العقد الثامن. «محتشمى زايد» هو نموذج للعابد التقى الطاعن فى السن الذى يقضى وقته بين العبادة والطعام والترفيه المتاح لمن فى مثل سنه من أفلام وأغانٍ بعد رحلة إيمان مضطربة. وفى روايات الكتاب المعاصرين نجد أن الملمح الأكثر حضورا فى بطلهم المسن يتراوح بين الصحة والحب والحنين والوحدة. الذاكرة مثلا هى مدار الحكى عن الجد الذى لا نعرف له اسمًا فى رواية «تلال الأكاسيا» لهشام الخشن (مكتبة الدار العربية للكتاب 2016)، وهى محور الحكى عن «الجدّة هدى» فى رواية «لبيروت.. الورق الأصفر» لخميلة الجندى (دار نهضة مصر 2022)، التى يصور غلافها فتاة تتآكل كما ذاكرتها.

أيضا فى رواية «الديناصور» لعمرو حسين (دار دوّن 2021) نلمس حنين «الجد مصطفى» للذكريات والزمن البعيد المفتقد وهو يعيش وحيدا لا يعرف التأقلم رغم أن لديه أبناء وأحفاد، خاصة مع بدء ذاكرته فى التلاشى. أما فى رواية «يكفى أننا معا» لعزت القمحاوى (الدار المصرية اللبنانية 2017) فيدخل البطل جمال فى علاقة مع فتاة صغيرة فى السن مع ما يحمله ذلك من تحديات.

الأكثر شمولا فى الروايات لحياة المسن من جوانب سياسية وعاطفية ومخاوفه من الوحدة وفقدان الذاكرة وغيرها ظهر فى رواية «جيد بما يكفى» (الدار المصرية اللبنانية 2022) لحاتم حافظ الذى أجاد التداعى الحر للأفكار داخل نفس الراوى، وهو بطله المسن البالغ من العمر مائة عام، الذى منحه المسرح كله ليؤدى وحده فى سردية تنتمى لتيار الوعى الذى يتناول أكثر من زمن. ومع ذلك، فكل هؤلاء الكُتاب لا ينتمون إلى نادى المسنين بعد. هم يصورون العالم الذى قد ينتظرهم أو عالم من حولهم.

ربما الاستثناء الوحيد هو رواية «العجوزان» لجار النبى الحلو (دار الهلال 2016)، والذى كتبها وهو فى نهاية العقد السابع وتتناول حياة الصديقين فايز ورفيق منذ الطفولة وحتى الشيخوخة وشهودهما لثورة يناير.

ثقافة سور الأزبكية الحياة بعد الستين

المصدر: المصري اليوم

كلمات دلالية: شكاوى المواطنين ثقافة

إقرأ أيضاً:

استجابة لمطالب المواطنين.. إصلاح ماسورة مياه بجسر السويس

كلف رئيس حي منطقة عين شمس، المهندسة حنان عبده، بإصلاح ماسورة مياه في جسر السويس، شارع أحمد عصمت، بعدما تكررت منها شكاوى المواطنين.

وذلك بحضور رئيس حى عين شمس المهندسة حنان عبده، ومدير الإشغالات أحمد السيد، ومباحث مرافق الحى.

مقالات مشابهة

  • وفاة الكاتب والمترجم الجزائري بوداود عميّر
  • علي الحاج طلعت حنان حسن أفضل منه رؤيةً ووضوحاً
  • حنان تطلب الخلع.. زوجي بيسرق ملابس بنت خالتي من الحمام
  • إحالات كبيرة على التقاعد في وزارة التربية / أسماء
  • رشحتها جريدة "إندبندنت" لجائزة أفضل رواية!
  • استجابة لمطالب المواطنين.. إصلاح ماسورة مياه بجسر السويس
  • في ذكرى رحيله الستين.. “إيسيسكو” تحتفي بالمفكر المصري عباس العقاد
  • في ذكرى رحيله الستين.. إيسيسكو تحتفي بالمفكر المصري عباس العقاد
  • إنقاذ حياة مسن يعانى من ضعف شديد بعضلة القلب بمستشفى أبو المنجا المركزي
  • إيسيسكو تحتفي بالمفكر المصري عباس العقاد بذكرى رحيله الستين