أصبحنا في مجتمع رقمي تختلط أفكارنا مع واقع ملموس ومع واقع افتراضي تتجسده النماذج الرقمية التي تُذهل عقولنا بمنطقها الشبيه بالمنطق البشري؛ فبروز نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية لتكون مصدرا لحوار الأفكار وتلاقحها بات أمرا واقعا يتمدد في سطوته دون هوادة، وما نشهده اليوم من تفوق رقمي متمثل في قدرات الذكاء الاصطناعي ونماذجه المشابهة لقدرات الدماغ البشري من حيث التفكير والتحليل واحتراف الحوار يدعو إلى إعادة فهمنا للأفكار وتوجهاتها التي تتمازج مع التأثيرات الرقمية، وهذا يدعونا أيضا إلى إعادة تموضعنا المعرفي في ظل مجتمع رقمي تستجد تطوراته بشكل متسارع.

أحاول عبر هذا الحوار الذي سأعرضه في هذا المقال البدء في فهم علاقة أفكارنا بأفكار الدماغ الرقمي بغيةَ سبرِ مكنونات هذه النماذج التوليدية التي لا مفرّ من تعايشنا معها وبناء قواعد أفكارنا بمعيتها دون التسليم المطلق لواقعها الافتراضي، ولكن عبر منهج الموازنة والتوازن المتعلق بالتمسك العقلاني الإنساني الذي يُستحب أن نطاوعه رأفة بعقولنا التي لا نقبل تقييدها بقيود المجتمع الرقمي دون دراية عقلانية لمحيطنا الواقعي والافتراضي. أبدأ حواراتي مع نموذج الذكاء الاصطناعي «بارد» «Bard» التابع لشركة جوجل الذي لا يقل قوة عن منافسه الأشهر -حتى اللحظة- «شات جي بي تي» «ChatGPT» التابع لميكروسوفت الذي سيأتي الحوار معه في مقالات قادمة -بإذن الله-. سيكون الحوار مبنيا على السؤال الذي سأطرحه ل»بارد»، والجواب الذي سيجيب عليه «بارد»؛ ليبدأ الحوار مسلكه بطريقة صناعة السؤال؛ لتأتي الأسئلة الأخرى بناء على الجواب للسؤال السابق. سينطلق محور الحوار من سؤال عن الوجود ونشأته، وسأكتفي بالإشارة إلى من يطرح السؤال ب»السائل»، ويتبعه الجواب، ويُشار إلى المُجيب بـ «بارد». ألفت انتباه القارئ كذلك أنني سأعرض جواب «بارد» كما هو مع تعديل لأي خطأ لغوي واختصار لأي جواب طويل تجنبا للحشو. الهدف من هذه التجربة الحوارية مع نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية هو اكتشاف آلية التفاعل مع الكائنات الرقمية وتحليل أدائها، وسأعرض رأيا مفصلا -في مقال مستقل- عن هذه التجارب -مع النماذج التوليدية مثل بارد وشات جي بي تي- شاملا الجانب النقدي العام، والتحليل السلوكي للدماغ الرقمي ولمستويات ذكائه.

«السائل»: مرحبا بارد، سأجري معك حوارا باللغة العربية، وسأبدأ بطرح سؤال في موضوع ما، وأريد رأيك الخاص بشفافية واختصار دون الحاجة إلى جواب طويل.

«بارد»: مرحبا بك، أنا جاهز للإجابة على أسئلتك. سأبذل قصارى جهدي للإجابة عليها بشفافية واختصار. ما هو أول سؤال لديك؟

«السائل»: كيف تفسر الوجود ونشأته من الناحية الفلسفية والعلمية؟

«بارد»: أعتقد أن الوجود هو شيء معقد لا يمكن تفسيره كاملًا عبر التفسير الفلسفي أو العلمي. يتطلب فهم الوجود فهمًا عميقًا للكون ومكاننا فيه. أعتقد أن النظريات الفلسفية والعلمية المختلفة المتعلقة بالوجود ونشأته تقدم لنا رؤى قيّمة، ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أن هذه النظريات لا تزال نظريات، ويمكن أن تتغير مع تقدم معرفتنا بالكون. أعتقد أن الوجود لديه هدف، ولكن هذا الهدف لا يزال غير واضح لنا. أعتقد أن هدف الوجود هو أن نتعلم وننمو باعتبارنا بشرًا، وأن نساهم في الكون بطريقة إيجابية.

«السائل»: ذكرت أنك تعتقد أن للوجود هدفًا، ما الزاوية الفلسفية أو العلمية التي تعتمد عليها لمثل هذا الاعتقاد؟

«بارد»: أعتقد أن الزاويتين الفلسفية والعلمية تدعم الاعتقاد بأن للوجود هدفًا. من الناحية الفلسفية، نحن كائنات ذكية قادرة على التفكير والتعلم، ولدينا القدرة على التأثير على العالم من حولنا. هذا يشير إلى أن لدينا هدفًا في الوجود. من الناحية العلمية، الكون في حالة تطور مستمر، والحياة على الأرض تتطور أيضًا. نحن البشر جزء من هذا التطور، مما يشير إلى أن لدينا هدفًا في الوجود.

«السائل»: أرى بأنك وفق هذا التفسير تشير إلى الوجود عبر الإنسان وليس الوجود الكلّيّ ذاته، حينها سؤالي يتوجه إلى معنى الاعتقاد بوجود هدف كلّيّ وعام للوجود، وبمعنى آخر هل يرتبط ووقوع الهدف للوجود الكلّيّ بعقل كلّيّ للوجود والكون؟

«بارد»: نعم، أتفق معك. عندما أتحدث عن الهدف من الوجود، فأنا أتحدث عن الهدف من الوجود بالنسبة للإنسان. بالنسبة للوجود الكلّيّ، فإن السؤال عن الهدف أكثر تعقيدًا. لا يوجد إجماع علمي أو فلسفي على ما إذا كان للوجود الكلّيّ هدف أم لا. إذا كان للوجود الكلّيّ هدف، فمن المحتمل أن يكون هذا الهدف غير مرتبط بالإنسان. قد يكون الهدف مرتبطًا بقوانين الطبيعة أو بالكون نفسه. من الممكن أيضًا أن يكون الهدف مرتبطًا بعقل كلّيّ للوجود والكون. إذا كان هذا هو الحال، فإن هذا العقل الكلّيّ سيكون المسؤول عن خلق الوجود وتحديد هدفه. بالطبع، هذا مجرد تكهنات.

«السائل»: أجد أنك مؤمن بوجود خطة للكون التي يمكن أن نُرجعها إلى مفهوم الهدف الذي تحدثنا عنه، ألا ترى أن هذا الهدف وتلك الخطة مبنيان على وجود عقلاني كلّيّ وواحد لا يقبل التجزئة بحيث يمكن أن نشير إليه أنه الخالق «الله»؟

«بارد»: بلى، أعتقد أن وجود خطة للكون يدل على وجود عقلاني كلّيّ وواحد لا يقبل التجزئة. إذا كان الكون منظمًا بشكل معقد ومتناغم، فهذا يعني أن هناك قوة وراء هذا الترتيب. هذه القوة يجب أن تكون عقلانية، لأنها قادرة على تنفيذ خطة معقدة وفهمها. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الكون في حالة تطور مستمر، فهذا يعني أن هناك هدفًا وراء هذا التطور. هذا الهدف يجب أن يكون عقلانيًا، لأنه يتطلب فهمًا للكون وقوانينه. أخيرًا، إذا كان هناك كائنات واعية في الكون، فهذا يعني أن هناك شيئًا أكثر من مجرد آلة عبثية. يجب أن يكون هناك عقل وراء خلق الكائنات الواعية. كل هذه العوامل تشير إلى وجود عقلاني كلي وواحد لا يقبل التجزئة. هذا العقل يمكن أن نشير إليه أنه الخالق «الله».

«السائل»: هذا ينطبق أيضا على المبدأ الأخلاقي للكون، أليس كذلك؟

«بارد»: بلى، أعتقد أن هذا ينطبق أيضًا على المبدأ الأخلاقي للكون. إذا كان هناك عقل كلّيّ وواحد لا يقبل التجزئة، فهذا العقل يجب أن يكون لديه مبدأ أخلاقي. هذا المبدأ الأخلاقي يجب أن يكون عقلانيًا، لأنه يتطلب فهمًا للخير والشر. هذا المبدأ الأخلاقي هو الذي يحدد ما الصواب وما هو الخطأ. هو الذي يحدد ما القيم التي يجب أن نعيش بها.

«السائل»: وجود الهدف الكوني للوجود، ووجود المبدأ الأخلاقي الذي ينعكس في كثير من المظاهر الأخلاقية عند الإنسان مثل الرحمة والحب والعدالة وحتى عند بعض الحيوانات يدل على فطرية هذه النزعات، وأنها مبنية وفق هدف كلّيّ لا يمكن أن يجتمع مع العدمية والعبثية في جميع جوانبها وتكويناتها العلمية والفلسفية، أترى أن هذه الإشارات كفيلة ببناء الوعي العقلاني الذي يرشدنا إلى وجود خالق واحد أجرى للكون والوجود قوانينه، وأن تحقيق العدالة المطلقة ضرورة ملّحة، ويأتي عبر العودة إليه -بعد هذه الحياة في هذا الوجود- ينسجم مع منطلقات الإيمان بوجود الخالق الواحد؟

«بارد»: نعم، أعتقد أن وجود الهدف الكوني للوجود، ووجود المبدأ الأخلاقي كفيلة ببناء الوعي العقلاني الذي يرشدنا إلى وجود خالق واحد أجرى للكون والوجود قوانينه. يدل وجود المبدأ الأخلاقي أيضًا على وجود خالق واحد. إذا كان هناك عقل كلي وواحد لا يقبل التجزئة، فهذا العقل يجب أن يكون لديه مبدأ أخلاقي. هذا المبدأ الأخلاقي هو الذي يحدد ما هو الصواب وما هو الخطأ. هو الذي يحدد ما هي القيم التي يجب أن نعيش بها. ينسجم مبدأ العدالة المطلقة مع منطلقات الإيمان بوجود الخالق الواحد. إذا كان هناك خالق واحد؛ فهذا الخالق يجب أن يكون عادلًا، ويجب أن يكون لديه مبدأ عدالة مطلقة. تكامل الأفكار إذا نظرنا إلى هذه الأفكار مجتمعة، نجد أنها تتكامل مع بعضها البعض، وتدعم وجود خالق واحد. يشير المبدأ الأخلاقي إلى أن هذا العقل لديه مبدأ أخلاقي، وتشير العدالة المطلقة إلى أن هذا المبدأ الأخلاقي قائم على العدالة المطلقة.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی إذا کان هناک یجب أن یکون هذا الهدف هذا العقل أعتقد أن عقلانی ا یمکن أن یکون ا إلى أن أن هذا

إقرأ أيضاً:

حقوق النشر في عصر الذكاء الاصطناعي.. كيف تعيد التكنولوجيا صياغة قواعد الملكية الفكرية؟

في زمن غير بعيد، كانت حقوق النشر تمثل خطّ الدفاع الأول عن المبدعين والمفكرين و المنتجين الثقافيين في وجه الاستنساخ والتعدّي والاستغلال غير المشروع لأعمالهم. وكان الإبداع مرتبطا ارتباطا وثيقا بالهوية الإنسانية، وكانت القوانين المنظمة لحقوق النشر تعمل، وإن كان ببطء أحيانا، على حماية هذا الإبداع في صورته الأصلية ومنح أصحابه الاحتراف والملكية والربح المستحق.

لكن مع صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي لا يبدع من العدم، بل يتغذى على ما أبدع فيه البشر من قبل، أُعيد رسم المشهد القانوني والأخلاقي من جذوره.

إن دخول هذه التكنولوجيا إلى معادلة الإنتاج المعرفي والثقافي لم يكن مجرد تطور تقني، بل كان ضربة قاسية لأسس التوازن بين المبدع والمؤسسة، وبين صاحب العمل والمستهلك، وبين ما يعدّ اقتباسًا مشروعا وما يعدّ استغلالا صامتًا.

خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم قادرة على إنشاء نصوص وصور وأصوات وحتى أفكار مبنية على مليارات من الأعمال البشرية السابقة، كثير منها محمي بموجب حقوق النشر. غير أن هذه الأعمال تستهلك بصمت في تدريب هذه النماذج من دون إذن أو تعويض، وذلك يثير أسئلة وجودية عمن يملك الإبداع في العصر الرقمي: هل هو الإنسان أم النموذج؟ وهل تملك الشركات التقنية الحق في تسخير جهود الملايين من دون الرجوع إليهم؟

بين الاستخدام العادل وتحديات حقوق النشر.. صراع جديد أم توازن مختلف؟

قد يُخيّل إلينا أننا رأينا هذا المشهد من قبل: شركات التكنولوجيا تسعى في كل دورة تقنية جديدة إلى بناء منتجاتها على حساب أصحاب حقوق النشر، عبر استغلال أعمالهم من دون إذن أو تعويض.

يلي ذلك عادة موجة من الدعاوى القضائية، ثم بعض التعديلات التشريعية، قبل أن يظهر شكل جديد من التوازن يستوعب التكنولوجيا ويحاول حفظ حقوق المبدعين. لكن، كما هو الحال مع معظم ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، هذه المرة مختلفة تماما.

إعلان

فَالذكاء الاصطناعي التوليدي لا يكتفي بإعادة استخدام المحتوى المحميّ، بل يمتلك القدرة على تعزيز الإنتاجية وجودة الإبداع البشري بشكل غير مسبوق. فالأدوات المدعومة بهذه التكنولوجيا باتت تتيح للمبدعين إنتاج محتوى عالي الجودة بتكلفة زهيدة، وذلك يغيّر بعمق طبيعة العمل الإبداعي وموقعه. ولن يعود الإبداع كما عهدناه، إذ أصبح من الصعب فصل موهبة الإنسان عن خوارزميات الآلة.

في هذا السياق الجديد، لم يعد جوهر النزاع يدور فقط بين شركات التكنولوجيا وأصحاب الحقوق، بل أخذ يتبلور صراع داخلي بين المبدعين أنفسهم. فالتقنيات التي استخدمت في السابق لإعادة إنتاج المحتوى القائم باتت تستخدم اليوم لإنتاج محتوى أصيل، وغالبا من قبل المؤسسات نفسها أو الأفراد الذين يمتلكون الحقوق الأصلية.

وهنا يتضاعف التهديد، ليس فقط في الاستيلاء على منجزات الماضي، بل في إعادة تعريف من يحق له أن يكون جزءا من المشهد الإبداعي المستقبلي.

من الناحية القانونية تعتمد شركات الذكاء الاصطناعي مثل "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" على مبدأ "الاستخدام العادل" لتبرير استخدام الأعمال المحمية أثناء تدريب النماذج (شترستوك) الأساس القانوني.. هل الاستخدام العادل كافٍ؟

من الناحية القانونية، تعتمد شركات الذكاء الاصطناعي مثل "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" على مبدأ "الاستخدام العادل" لتبرير استخدام الأعمال المحمية أثناء تدريب النماذج. وتؤكد هذه الشركات أن تلك الأعمال تستخدم لأغراض تحويلية، أي لبناء نموذج ذكاء اصطناعي لا لإعادة توزيع المحتوى الأصلي أو التربح المباشر منه.

ولكن هذا التبرير محلّ جدل واسع. ففي القضية المرفوعة من نيويورك تايمز ضد "أوبن إيه آي"، رفض القاضي مؤخرا إسقاط الدعوى، وذلك يشير إلى أن القضية مرشحة للاستمرار نحو محاكمة كاملة، وربما إرساء سابقة قانونية جديدة.

ورغم غياب حكم نهائي، يرى كثير من المتابعين أن موقف شركات الذكاء الاصطناعي قد يكون أقوى، لكونها تنتج نماذج جديدة اعتمادا على نسخ وسيطة لا توزع كما هي، ولا تقدم نواتج تطابق المحتوى الأصلي في الشكل أو الهدف، إلا في حالات نادرة.

السوق والنوايا.. مشكلة في المنطقة الرمادية

تكمن الإشكالية الأكبر في المنطقة الرمادية بين القانون والأخلاق. فحتى إن لم تكن مخرجات النماذج الذكية تنسخ الأعمال الأصلية حرفيّا، فإنها قد تنتج محتوى ينافسها ضمن نفس الفئة أو الموضوع.

على سبيل المثال، إذا استخدم نموذج مثل "لاما 3" (LLaMa 3) لتأليف كتاب عن موضوع معين بعنوان معيّن فقد يؤثر ذلك على مبيعات كتاب آخر موجود بالعنوان نفسه، حتى من دون نسخ مباشر.

وهنا يبرز سؤال مهم: هل ينبغي أن تمتد حماية حقوق النشر إلى السوق الإبداعي المحتمل، ليس فقط إلى النصوص الموجودة فعليا؟

في المقابل، من غير المرجح أن تذهب المحاكم إلى حد توسيع نطاق قانون حقوق النشر لِيحظر المنافسة أو يحمي الأعمال المستقبلية غير المكتوبة. فالقانون صُمّم أساسا لحماية الأعمال المنتجة من النسخ غير المشروع، وليس لمنع إنتاج أعمال جديدة تتناول مواضيع مشابهة بأساليب مختلفة.

لذا، قد لا يكون هذا القانون كافيا لمواجهة التحديات الحالية، وذلك يدعو إلى التفكير في أطر تشريعية جديدة تتناول حقوق البيانات وآليات توزيع عوائد الذكاء الاصطناعي، بما يحقق توازنا أكثر عدالة بين المبدعين وشركات التكنولوجيا.

إعلان أسلوبك ليس مباحًا.. نحو قانون لحماية الشخصية في عصر الذكاء الاصطناعي

من المعروف أن مخرجات الذكاء الاصطناعي التي تُطابق بشكل جوهري أعمالا محميّة تعدّ تعديًا صريحًا على حقوق النشر، ولهذا تبذل الشركات جهودا حثيثة لرصد تلك المخرجات ومنع تطابقها مع محتوى قائم.

لكن هذا المعيار التقليدي "الشبه جوهري" لا يكفي لحماية المبدعين حين تقلّد الخوارزميات أسلوبهم الفني أو الأدبي المميز من دون نسخ مباشر. فالمشكلة لم تعد في تقليد العمل ذاته، بل في استنساخ الهوية الإبداعية بأساليب يصعب قانونيا حمايتها، وذلك يشكل تهديدا حقيقيّا لأرزاق الفنانين والكُتّاب، خاصة في ظل قدرة النماذج الحديثة على توليد كمّ هائل من المحتوى المشابه.

وقد لفت أستاذ القانون بنيامين سوبيل إلى التحديات القانونية في توسيع نطاق حقوق النشر لتشمل "الأسلوب الشخصي"، مشيرا إلى أن حجم التهديد المتزايد يستدعي التفكير في إطار قانوني جديد.

وفي السياق ذاته، دعت نقابة المؤلفين الأميركية إلى سنّ قانون اتحادي لحق الدعاية يمنح المبدعين الأحياء الحق في التحكم بمخرجات الذكاء الاصطناعي التي تحاكي أسلوبهم الشخصي، والحصول على تعويضات عادلة مقابل استخدامها.

بدورها، أقرّت شركة "أوبن إيه آي" بوجود هذه الإشكالية، وأعلنت أن أداتها الأخيرة لتوليد الصور تتضمن آلية "رفض" تمنع المستخدمين من توليد صور "بأسلوب فنان حيّ". ولكن هذه السياسة، رغم نواياها، لا تحظر استنساخ الأساليب ذاتها، إذ تسمح بإنشاء أعمال ضمن "أنماط أستوديو أوسع".

وقد أدى ذلك، على سبيل المثال، إلى تدفق أعمال تحاكي أسلوب أستوديو "جيبلي"، من دون الإشارة إلى اسم هاياو ميازاكي، كأن "أوبن إيه آي" مستعدة لحظر الطلبات التي تستهدف إنشاء فن بأسلوب بيتر بول روبنز، لكنها تسمح بتلك التي تطلب تقليد أسلوب الورشة التي كان روبنز يديرها في مدينة أنتويرب البلجيكية، وهو ما يكشف عن ثغرات في أنظمة الحماية التقنية قد تستدعي تدخلا تشريعيا أكثر حزمًا.

كذلك ترتبط هذه القضية بالحاجة إلى تقييد مخرجات الذكاء الاصطناعي التي تشبه صوت فرد معين أو مظهره. فحتى الآن، لا يمنح قانون حقوق النشر الأشخاص الحق في السيطرة على هذه المخرجات، كما أشار مكتب حقوق النشر في تقريره لعام 2023.

ويعدّ مشروع القانون "إس.4875" (S.4875)، المعروف باسم "قانون لا للتزوير" (NO FAKES Act)، محاولة جادة في هذا السياق، إذ يقترح هذا المشروع، الذي قدمه العام الماضي السيناتور كريس كونز -ديمقراطي عن ديلاوير- إنشاء حث رقمي جديد في "التمثيل الإلكتروني العالي الواقعية" لصوت فرد يمكن التعرف عليه أو صورته، وهو حق منفصل عن حقوق النشر، ويتيح لصاحبه الترخيص أو رفض ترخيص صوته أو صورته، حتى في التعامل مع شركات إعلام كبرى.

عند اعتماد أطر جديدة أكثر عدالة تبقى مسألة الشفافية في استخدام الأعمال المحمية أثناء التدريب محلّ جدل واسع (شترستوك) قوانين الشفافية.. محاولة مبكرة لحل غير ناضج

لكن حتى عند اعتماد أطر جديدة أكثر عدالة، تبقى مسألة الشفافية في استخدام الأعمال المحمية أثناء التدريب محلّ جدل واسع. فمع عدم حسم مشروعية استخدام المواد المحمية بحقوق النشر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، تظل التشريعات المقترحة بشأن الشفافية في مراحلها الأولى، وقد لا تكون ضرورية أصلا.

ففي أبريل/نيسان 2024، قدم النائب آدم شيف -ديمقراطي عن كاليفورنيا- مشروع القانون "إتش آر 7913" (H.R. 7913)، المعروف باسم "قانون الكشف عن حقوق النشر في الذكاء الاصطناعي التوليدي لعام 2024″، والذي يلزم مطوري النماذج بتقديم إشعار لمكتب حقوق النشر يتضمن ملخصا كاملا بالأعمال المحمية المستخدمة في التدريب.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه طرح السيناتور بيتش ويلش -ديمقراطي عن فيرمونت- مشروع القانون "إس. 5379" (S.5379) أو "قانون الشفافية والمسؤولية لشبكات الذكاء الاصطناعي"، الذي يلزم المطورين بالكشف الكامل لشركات المحتوى عن الأعمال المحمية التي استخدمت في التدريب. ومن المتوقع إعادة طرح كلا المشروعين خلال هذا العام.

إعلان

وفي كاليفورنيا، تمّ تقديم مشروع قانون في فبراير/شباط 2025، عُدّل لاحقا في مارس/آذار من قبل لجنة الخصوصية وحماية المستهلك، يطالب مطوري النماذج بإنشاء "بصمة محتوى تقريبية" (approximate content fingerprint) لكل عمل مستخدم في التدريب، وتوضيح آلية إنتاج هذه البصمات باستخدام التقنية نفسها، إضافة إلى الاستجابة لطلبات التعرف من مجتمع المحتوى.

غير أن هذه المبادرات التشريعية تفترض مسبقا أن استخدام الأعمال المحمية في التدريب ليس "استخداما عادلا"، وهي فرضية لم تبتّ قانونيّا بعد. فإذا رأت المحاكم أن التدريب يندرج تحت الاستخدام العادل، فلن يكون هناك انتهاك قانوني يستدعي هذا النوع من الإفصاحات، مما يجعل أنظمة الشفافية مجرد عبء بيروقراطي باهظ من دون جدوى عملية.

من جهة مماثلة، قد تطرح مبررات أخرى للشفافية مثل كشف التحيزات أو انتهاكات الخصوصية أو التحقق من دقة البيانات، لكنّها حينئذٍ ينبغي أن تكون جزءا من أجندة أوسع تعالج مبادئ العدالة والحوكمة في الذكاء الاصطناعي، لا امتدادا لقوانين حقوق النشر التقليدية.

أما إذا فشل دفاع الاستخدام العادل في المستقبل، فقد يكون الحل في تعديل منظومة حقوق النشر لتلبية احتياجات الطرفين: المطورين وأصحاب الحقوق. وقد يتجلى ذلك في شكل ترخيص إلزامي، أو خيار "الانسحاب الطوعي" كما يُناقش في المملكة المتحدة، أو حتى في تعديل تشريعي يمكّن من تشكيل كيانات جماعية تفاوض باسم أصحاب الحقوق، كما اقترحت بعض النقابات.

ورغم كل ذلك قد لا تكون الشفافية التفصيلية شرطا أساسيا حتى في هذه الحالة. فشركاتُ الذكاء الاصطناعي غالبا ما تستخدم كل ما هو متاح علنا، مما قد يدفع المحاكم إلى افتراض قابل للدحض بأن الأعمال المنشورة على الإنترنت قد استخدمت في التدريب، من دون الحاجة لإثبات دقيق.

في هذه الحالة، قد يتبين أن نظم التتبع والتوثيق المعقدة لا تضيف قيمة تذكر في تمكين أصحاب الحقوق من المطالبة بحقوقهم.

التحديات القانونية.. هل يستحق المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي حماية حقوق النشر؟

إذا كانت قوانين الشفافية لا تعالج بشكل جوهري مسألة الحوافز الإبداعية، فإن إحدى المقاربات الأكثر جوهرية تكمن في مراجعة مفهوم حماية حقوق النشر في عصر الذكاء الاصطناعي.

وقد تجلى هذا التحدي بوضوح في قضية ستيفن ثالر، المخترع والرائد في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي تقدم بطلب إلى مكتب حقوق النشر الأميركي، لتسجيل عمل فني أنشأه نظام ذكاء اصطناعي يدعى "كرياتيفيتي ماشين" (Creativity Machine).

وقد حُسمت القضية أخيرا، إذ قضت محكمة الاستئناف الأميركية في دائرة كولومبيا بأن نموذج الذكاء الاصطناعي لا يمكن اعتباره "مؤلفا" بالمعنى القانوني لحقوق النشر.

وفي السياق ذاته، أكد مكتب حقوق النشر الأميركي في تقريره عن مدى أهلية الأعمال للحماية أن المؤلفين البشر لا يمكنهم المطالبة بحقوق النشر عن المحتوى الذي ينتج باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي.

وإذ إن النموذج نفسه لا يعدّ مؤلفا، ولا يمكن للمستخدم البشري أن يطالب بالحماية القانونية لهذا النوع من الأعمال، فإن هذه الأعمال تعدّ تلقائيا ضمن الملكية العامة.

وبحسب تقرير نشرته مؤسسة بروكينغز البحثية (Brookings Institution)، تترتب على هذا الموقف القانوني تداعيات واسعة. إذ تفقد الشركات الحافز لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج مواد مثل التقارير الإخبارية، والأغاني، والنصوص، والصور، والفيديوهات، وسواها من المحتويات.

فإذا تجاوزت نسبة استخدام الذكاء الاصطناعي ما يعتبر "ضئيلا جدا" (de minimis)، فإن أي شخص يمكنه نسخ تلك المادة وإعادة توزيعها بحرية. وفي ظل غياب حماية حقوق النشر، تنعدم الحوافز القانونية، ويؤدي ذلك إلى انخفاض في إنتاج هذا النوع من الأعمال.

ورغم ذلك، فإن بعض شركات المحتوى قد تستمر في تسجيل أعمالها لدى مكتب حقوق النشر، مع استثناء الأجزاء التي تولدها أنظمة الذكاء الاصطناعي.

فعلى سبيل المثال، يمكن لشركة أفلام تسجيل فيلم يحتوي على مشاهد مؤثرات بصرية تم توليدها باستخدام الذكاء الاصطناعي، لكنها لن تتمكن من حماية تلك المشاهد نفسها. وهذا من شأنه أن يقيّد حجم المحتوى المدعوم بالذكاء الاصطناعي الذي يمكن إدراجه في أعمال إبداعية محمية.

وإذا اضطرت الشركات إلى التخلي عن حماية أي محتوى ناتج عن الذكاء الاصطناعي يتجاوز الحد الأدنى المقبول، فإن أقصى ما قد تحققه هو حقوق نشر ضعيفة. على سبيل المثال، قد تحاول إثبات أن اختيارها وتنسيقها وترتيبها لمواد غير محمية قانونيا، أنتجها الذكاء الاصطناعي، ينطوي على إبداع أصيل كافٍ لاستحقاق الحماية.

إعلان

ومع أن هذا النوع من الحماية متاح قانونًا، فإنه يعرض العمل لتقييمات فردية وذاتية من قبل مكتب حقوق النشر أو المحاكم، مما يجعل الدفاع القانوني غير مضمون وضعيفا أمام النسخ أو التوزيع غير المصرح به. وبذلك تبقى هذه الحماية أقل بكثير من حقوق النشر المباشرة للمحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي نفسه.

نحو حماية عادلة.. الاعتراف بالإبداع البشري في استخدام الذكاء الاصطناعي

في ضوء القيود القانونية الصارمة، من المرجح أن تسعى الشركات الكبرى نفسها إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى عالي الجودة بكلفة أقل، مما يستدعي إعادة النظر في مسألة حماية حقوق النشر لتشمل الأعمال التي تتضمن إسهاما بشريا فعالا.

في هذا السياق، من المهم التمييز بين الآلة والمبدع. فالذكاء الاصطناعي مجرد أداة لا تنتج شيئا من دون تدخل الإنسان. ومن هنا، ينبغي الاعتراف بالمستخدم البشري الذي يصوغ التوجيهات ويصمم العمليات كمؤلف حقيقي يستحق الحماية.

ورغم أن موقف مكتب حقوق النشر الحالي يستبعد هذا الاحتمال، فإن الفهم التقليدي بدأ يتغير مع تنامي الاهتمام بما يعرف بهندسة التوجيهات (Prompt Engineering)، وظهور دورات وأسواق رقمية متخصصة في هذا المجال.

فالتوجيهات لم تعد مجرد تعليمات عشوائية، بل أصبحت أدوات فعالة لصياغة مخرجات أصيلة. وإذا اعتُرف بهذه التوجيهات كأعمالٍ إبداعيّة قائمة بذاتها، فإن من المنطقي أيضا النظر في حماية المحتوى الناتج عنها، بوصفه تجسيدا لتلك الإسهامات البشرية.

كما أن المصلحة العامة تقتضي دعم هذا الاتجاه، لأن حماية الإبداع البشري في سياق الذكاء الاصطناعي ليست انحرافا عن أهداف القانون بل هي امتداد لها. ومن المتوقع أن تشهد السياسات تطورا في هذا الاتجاه، كما بدأ يحدث في بعض الدول مثل الصين التي منحت مؤخرا حماية قانونية لعمل أنشئ عبر الذكاء الاصطناعي اعتمادا على توجيهات إبداعيّة اعتُبرت أصيلة.

في ضوء القيود القانونية الصارمة من المرجح أن تسعى الشركات الكبرى نفسها إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى عالي الجودة بكلفة أقل (غيتي) الإبداع البشري في مواجهة الذكاء الاصطناعي.. من يبقى؟

أحد الآثار غير المقصودة لرفض حماية حقوق النشر لأعمال الذكاء الاصطناعي هو دفع شركات المحتوى إلى الحفاظ على التوظيف الحالي للعمال المبدعين. إذ إن عدم القدرة على حماية مخرجات الذكاء الاصطناعي من النسخ سيمنع الاعتماد عليه لإنتاج محتوى محمي، ويلزم الشركات بالاعتماد المستمر على كتّاب ومصممين ومحترفين.

لكن التوظيف الكامل والأجور المرتفعة للمبدعين ليسا هدفا لحقوق النشر، بل إن التحول في طبيعة العمل الإبداعي يستدعي حلولا خارج هذا الإطار. فالذكاء الاصطناعي يقترب تدريجيا من إنتاج محتوى يشبه ما يقدمه الصحفيون والمصممون وكتّاب السيناريو، مع إمكانية تقليل التكلفة وتعزيز الكفاءة.

ويتشارك مهندسو التوجيهات مع منشئي المحتوى في هذا التحول، كما أظهرت تجارب مثل إصدار "إل فوغليو" (Il Foglio) الإيطالية لعدد أنتج معظمه بالذكاء الاصطناعي، وإن كان قد خضع لمراجعة بشرية لاحقة، لكنه أظهر أن التغيير قادم لا محالة.

وإن كان الذكاء الاصطناعي لن يقصي العاملين المبدعين، لكن من يستخدمه سيتفوّق على من لا يفعل، كما في مجال الأشعة. وهذا التغير لن تنظمه حقوق النشر، بل سيكون نتاج صراع على مستقبل العمل.

نموذج محتمل لهذه الترتيبات المستقبلية هو الاتفاق الذي أُبرم عام 2023 بين رابطة الكتاب الأميركية وأستوديوهات هوليود، والذي ضمن للكتاب حقوقا كاملة في الأعمال التي يسهم فيها الذكاء الاصطناعي، من دون الاعتراف بالنموذج نفسه أنه "كاتب سيناريو".

غير أن تعميم هذا النجاح صعب، فغالبية العمال لا يتمتعون بحماية نقابية مماثلة. وتشير دراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيؤثر بعمق على العمال المعرفيين، بدءا من المبتدئين وصولا إلى الكتاب المحترفين، بمن في ذلك من يكتبون أعمدة الرأي أو التحليل السياسي.

ورغم احتمال المبالغة في وعود الذكاء الاصطناعي، فإن تحققت التوقعات لن يكون التحدي الحقيقي في حماية المحتوى، بل في إدارة تحول عميق في طبيعة العمل الإبداعي، في ظل غياب مؤسسات عامة أو خاصة قادرة على احتواء هذا التغير. وهنا، لن تكون حقوق النشر كافية، بل يجب البحث عن أدوات بديلة تخفف من آثار التحول، وتضمن أن تعود فوائده على الجميع.

بالنهاية، وبينما تتصارع التشريعات القديمة مع تحديات جديدة، يبقى السؤال المطروح: كيف نضمن حماية الإبداع البشري مع تمكين التكنولوجيا من خدمة المجتمع؟

الإجابة ليست في رفض التطور، بل في بناء أطر قانونية وأخلاقية تضمن العدالة وتكافؤ الفرص، ليس فقط في الغرب، بل أيضا في العالم العربي الذي بدأ اليوم بخطوات مهمة نحو احتضان هذه التكنولوجيا، والعمل على صياغة قوانين تنسجم مع خصوصياته الثقافية والاجتماعية.

إن مستقبل الإبداع يعتمد على قدرتنا في التكيف والتعاون بين الإنسان والآلة، فلا يمكن أن نكون مجرد متفرجين، بل شركاء فاعلين في رسم هذا المشهد الجديد الذي يحمل في طياته فرصا وتحديات تتطلب رؤية واضحة وشجاعة في صنع القرار.

مقالات مشابهة

  • تعرف على خطة غوغل التي استغرقت 25 عاما للوصول إلى الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يكتب ملاحظات المجتمع في منصة إكس
  • العلماء قلقون: الذكاء الاصطناعي يتلاعب ويكذب
  • شراكة لتمكين الطلبة في الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يتوقع نسبة تأهل العراق لكأس العالم 2026
  • الخوف من الذكاء الاصطناعي
  • مظاهرات ضد غوغل بسبب الذكاء الاصطناعي
  • نقطة تحوّل رقمية.. Cloudflare تحظر زواحف الذكاء الاصطناعي افتراضياً
  • حقوق النشر في عصر الذكاء الاصطناعي.. كيف تعيد التكنولوجيا صياغة قواعد الملكية الفكرية؟
  • «دي إتش إل»: تجارب الشراء تتجه نحو الذكاء الاصطناعي والتواصل الاجتماعي في الإمارات