ضرر كيسنجر على الداخل الأمريكي
تاريخ النشر: 2nd, December 2023 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
ثمة الكثير الذي يمكن قراءته منذ توفي يوم الأربعاء الماضي هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي السابق للرئيسين ريتشارد نيكسن وجيرالد فورد. لكن ظني أن أفضل ما كتب له من نعي واستعراض هو ما ركز على دوره الهائل في نشر الشقاء الإنساني في أرجاء الكوكب، باسم السياسة الواقعية وما اعتبره «المصالح الوطنية» الأمريكية.
ولنبدأ بإسهام كيسنجر الكامل ـ بوصفه مستشار الأمن الوطني للرئيس نيكسن ـ في قرار التفويض بالقصف السري الشامل لكمبوديا الذي أسقطت فيه الولايات المتحدة أكثر من خمسمئة ألف طن من المتفجرات على ذلك البلد بما أسفر عن مصرع ما يصل إلى مئة وخمسين ألفا من المدنيين. لقد لعب ذلك القصف ـ الذي زعزع كمبوديا ـ دورا في صعود بول بوت والخمير الحمر، الذين مضوا حتى قتلوا ما يقرب من مليوني شخص خلال فترة ولايته التي استمرت لأربع سنوات في السلطة.
كان كيسنجر أيضا مهندس الجهود الأمريكية لتقويض حكومة سلفادور أليندي الاشتراكية المنتخبة ديمقراطيًّا في تشيلي. في غداة انقلاب عام 1973 الذي أتى بالجنرال أوجستو بينوشيه ليرأس نظاما دكتاتوريا عسكريا، دفع كيسنجر الولايات المتحدة أيضا لدعم نظام حكم جديد عمل على قتل وتعذيب وسجن الآلاف من مواطني تشيلي.
ولقد قال كيسنجر لنوابه ـ بحسب ما يرد في محاضر الاجتماعات التي رفعت عنها السرية ـ في الأسابيع التالية للانقلاب «أعتقد أننا يجب أن نفهم سياستنا، وهي أن هذه الحكومة مهما أساءت التصرف هي خير لنا من أليندي». وبعد سنوات قلائل، في عام 1976، سيقول كيسنجر لبينوشيه «إن تقديري هو أنك ضحية للجماعات اليسارية في العالم وأن خطيئتك الكبرى عندها هي أنك أطحت بحكومة كانت ذات نزعة شيوعية».
استشرى عمل كيسنجر القذر حتى تجاوز جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية. فقد دعم ـ إلى جانب نيكسن ـ الجهود الوحشية التي بذلتها حكومة باكستان الغربية السابقة لقمع القوميين البنغال في باكستان الشرقية السابقة التي تعرف اليوم ببنجلاديش. وقد قدَّرت دراسة حديثة عدد القتلى في هذا الصراع بنحو 269 ألف شخص، فضلا عن دفع ملايين اللاجئين إلى الهند المجاورة. كما أعطى كيسنجر الضوء الأخضر لغزو الدكتاتور الإندونيسي سوهارتو لتيمور الشرقية سنة 1975 مشعلا شرارة صراع سوف يسفر في ما بين 1976 و1980 عن مقتل ما لا يقل عن مئة ألف من السكان البالغ عددهم قرابة ستمئة وخمسين ألفا.
وما تلك إلا عينة من أنشطة كيسنجر التي سوف تستمر في العقود التالية لخروجه من الحكومة إذ عمل مستشارا خاصا ومرشدا ـ من نوع ما ـ لفئة كبيرة متنوعة من الساسة وقادة الأعمال. ويشير المؤرخ جريج جراندين في النعي الذي نشرته مجلة ذي نيشن إلى أنه «ما من مستشار سابق للأمن للوطني أو وزير للخارجية قد حظي بمثل ما حظي به كيسنجر من نفوذ بعد تركه السلطة». وهذا النفوذ هو الذي يفسر السبب في أن كيسنجر قد «مات نجما» وعضوا مرموقا ومحترما في المؤسسة الأمريكية ـ حسبما كتب سبنسر أكرمان في رولنج ستون.
تأتي وفاة كيسنجر في وقت يتصاعد فيه القلق على مستقبل الديمقراطية الأمريكية. فثمة تخوف كبير من قيام دونالد ترامب ـ في حال حصوله على ولاية ثانية في البيت الأبيض ـ بتفكيك نظام حكمنا الذاتي الدستوري لصالح نوع من الأوتقراطية. فيجدر بنا إذن أن نفكر لا في تأثير كيسنجر فقط على السياسة الخارجية الأمريكية وإنما في تأثيره أيضا على الديمقراطية الأمريكية. ويمكنكم إيجاز ذلك في الازدراء الذي عبر عنه للديمقراطية التشيلية حينما قال إنه ما من سبب لدى الولايات المتحدة «للاكتفاء بالمشاهدة بينما تتجه تشيلي إلى الشيوعية من جراء محض انعدام المسؤولية لدى شعبها».
لم يظهر كيسنجر ـ شأن راعيه نيكسن ـ غير الازدراء للمحاسبة أو الرأي العام أو سيادة القانون. فقد كتب المؤرخ جاري جيه باس لمجلة ذي أطلنطيك يقول إن كيسنجر تجاهل حظر الكونجرس الصريح المفروض على إرسال أسلحة إلى باكستان.
وأعرض عن تحذيرات مساعدين في البيت الأبيض ومحامين في وزارة الخارجية والبنتاجون من عدم شرعية نقل الأسلحة إلى باكستان. وفي عام 1971 وجَّه نيكسن ـ في حضور النائب العام جون ميتشل ـ سؤالا إلى كيسنجر فقال: «هل الأمر بالفعل خارج كثيرا على القانون؟» فاعترف كيسنجر بأنه كذلك. ودونما مبالاة بوضع إطار قانوني للسلطة التنفيذية، مضى نيكسن وكيسنجر قدما وفعلا ما أرادا على أي حال. وقال نيكسن «إلى الجحيم بكل هذا، لقد فعلنا ما هو أسوأ».
وسوف نشهد خيانة كيسنجر وازدواجيته الجامحتين ـ وإيمانه الواضح بعدم أحقية الشعب في معرفة سلوك حكومته في الخارج ـ إذ يتردد صداهما في السياسة الأمريكية على المدار العقود التالية لخروجه من البيت الأبيض. فمن الصعب أن ننظر إلى أفعال بيت ريجان الأبيض في قضية إيران كونترا، على سبيل المثال، دون أن نرى المساعي كيسنجرية الطابع للتحايل على الشعب وممثليه بهدف ممارسة السلطة دونما محاسبة ديمقراطية.
ومثل ذلك يسري على برنامج التعذيب غير الشرعي الذي انتهجه الرئيس جورج بوش الابن. فالروح الكيسنجرية ـ في واقع الأمر ـ هي الاعتقاد بأن للرئيس أن يفعل ما يشاء، في أي مكان من العالم، دونما تداول ديمقراطي أو محاسبة شعبية. وهذه رؤية تعامل الديمقراطية إما بوصفها واجهة أو بوصفها ـ وهذا هو الحال في أكثر الأحيان ـ مصدر إزعاج يجدر اجتنابه كلما أمكن ذلك.
ولم يكن كيسنجر يبالي قط بالطموحات الديمقراطية لأغلب شعوب هذا الكوكب، والأمريكيون منهم لا أكثر ولا أقل.
كاتب المقال مراسل سياسي سابق لمجلة سليت، وكاتب رأي في نيويورك تايمز منذ 2019
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
افتعال تعارض بين العمل في الداخل والعمل في الخارج (14 – 15)
صديق الزيلعي
أشعلت الحرب الحالية عددا من الاشكالات والتناقضات، بعضها حقيقي ومرتبط بالواقع السياسي، وبعضها الآخر مصنوع، وغير حقيقي. فإعلام الاسلامويين لعب دورا كبيرا في قلب كل الحقائق. فالحرب هي نتاج للاتفاق الاطاري، والقوي المدنية هي التي تسببت في الحرب، وان حربهم الخاسرة هي حرب الكرامة، ويريدون من الشعب السوداني ان يحارب نيابة عنهم. وواكب ذلك تكثيف خطاب الكراهية الاثني والمناطقي بهدف اشعال الحرب الأهلية الشاملة حيث يحارب الكل ضد الكل. وأيضا محاولة افتعال تناقض مزعوم ما بين العمل لإيقاف الحرب في الخارج، والعمل داخل السودان. ما يهمنا في هذا المقال هو هذا الجزء المتعلق بين العمل في الخارج والعمل في الداخل.
تحول العالم، بفعل التطور، الى قرية صغيرة، تتفاعل مع بعضها البعض. وارتبطت بلادنا بالعالم، بشكل وثيق، منذ ان ألحقها الاستعمار البريطاني، بالسوق الرأسمالي العالمي. وجب ان نذكر بان لا فكاك لنا من العالم، ولا فكاك للعالم من بلادنا. فقضايا التخلف، والحروب، وحقوق الانسان، والهجرة عابرة القارات، والإرهاب، هي قضايا ترغم المجتمع الدولي الاهتمام باستقرار بلادنا. كما ان موارد بلادنا تجعل بلاده مهتمة بالتعاون والاستثمار في السودان. كما اننا وفي ظل احتياجنا للاستثمار، والتكنولوجي، وإعادة الاعمار، ومواجهة الكوارث والاوبئة تحتاج للمجتمع الدولي.
ظهر خطاب غريب، أخيرا، يخلق تناقضا مختلقا بين العمل المناهض للحرب في الخارج، والاتصال بالمجتمع الدولي من منظمات ودول لدعم قضية بلادنا. وبين حشد القوى المدنية والسياسية في داخل بلادنا لتوحيد صفوفها، والعمل لإيقاف الحرب. الدعوة لرفض العمل الخارجي لا يصب الا في مصلحة المتحاربين الذين يحلمون بالهروب من آثار جرائمهم ضد الشعب السوداني.
هناك مقولة صارت تردد كثيرا بان المجتمع الدولي يسعى لنهب ثوراتنا. وهي تتميز بتبسيط الأشياء، كأنما المجتمع الدولي يجهز في سفنه وطائراته لشحن كل موارد السودان وببلاش. ولكن التاريخ يقول ان الأنظمة العسكرية، هي التي فرطت في سيادة بلادنا، وسمحت للأجنبي ان يسرح ويمرح فيها. ولنبدأ بحكومة عبود وقضية المعونة الامريكية وقتل لوممبا، والسد العالي وتعويضات أهالي حلفا، بعد اغراقها. اما نظام نميري فقد واصل المسلسل بدخوله في الاحلاف التي يرعاها الامريكان في المنطقة، وتأييده لرحلة السادات، ثم ترحيل الفلاشا، ودور شركة لونرو في النهب. أما نظام الاسلامويين فقد فاقهم، فرغم الادعاءات الجوفاء عن المجتمع الدولي، فقد تعاملوا معه وقبلوا فصل الجنوب، ودخول قوات دولية لدار فور، وبيع كارلوس وبن لادن، والاجتماعات العديدة والمفاوضات، التي لم تنته حتى تبدأ مرة أخري، وتحنيس البشير المذل لبوتين. كل ذلك تم تحت رعاية دولية. لذلك التبعية تأتي في ظل الأنظمة العسكرية الضعيفة والمعزولة عن شعبها. أما في ظل الديمقراطية، حيث البرلمان يراقب، والأحزاب تتحرك بحرية وتنظم الحملات، والصحافة تكشف الحقائق، فلا مجال للنهب، بالشكل المبسط الذي يتكلمون عنه. ولكن هناك الفوائد المتبادلة بيننا وبين دول العالم. ولن يتحقق ذلك الا بعد ان نمتلك قرارنا في ظل حكومة ديمقراطية قوية ومدعومة من شعبها.
يملك شعبنا تجارب، ثرة، في النضال ضد الدكتاتوريات العسكرية من داخل وخارج الوطن، في تنسيق وتناغم. الامر الأهم ان هذه الحرب، وبكل دمارها، وشراسة من يخضونها، وجرائهم ضد الأبرياء، لا يمكن ان تتوقف الا بدعم مباشر وقوى من المجتمع الدولي ومؤسساته. كما ان إعادة الاعمار سيحتاج لإمكانات هائلة لا تتوفي لنا في الوقت الحاضر. ومن يتخوف من فرض شروط خارجية علينا عليه الدعوة لتوحيد الصف المدني، وتوحيد الصوت المدني في مخاطبة المجتمع الدولي. كما ان كل المناقشات والقرارات الدولية تنص على انهاء الحرب وإقامة نظام حكم ديمقراطي يقوده المدنيون.
للحزب الشيوعي ارث طويل في العمل الخارجي، فقد تم تهريب عضو السكرتارية المركزية التجاني الطيب، ليقود عمل الحزب بالخارج، داخل مؤسسات التجمع الوطني الديمقراطي. ولقد صدرت عدة بيانات تدعم العمل الخارجي ولا ترى وجود تناقض بينه والعمل بالداخل. وهذه مجرد امثلة:
جاء في بيان للحزب بتاريخ 6 مارس 1999 ما يلي:
" اننا نرحب باي جهد مخلص وحقيقي، داخلي أو خارجي، للبحث عن حلول سلمية لمشاكل بلادنا. فلسنا دعاة حرب او دمار والجبهة الإسلامية هي التي سدت كل السبل السلمية امام شعبنا للتعبير عن ارادته بالوسائل الديمقراطية. وانطلاقا من هذا نؤكد ترحيبنا بمسعى القيادة الليبية لإيجاد مخرج سلمي لازمة بلادنا. غير ان الحد الأدنى المطلوب لتحقيق تسوية سلمية عادلة في السودان، والذي توحدت حوله كافة فصائل التجمع بالإجماع
قالت مذكرة من الحزب الشيوعي الي قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، في عام 1995:
" لقد تصدى مؤتمر اسمرا عام 1995 لمهمة استكمال بناء وتوحيد أخطر واوسع تحالف سياسي عرفه شعبنا، فصادق وأمن على ميثاق التجمع باعتباره الأساس السياسي والفكري المتين لذلك التحالف، وصاغ برنامجا شاملا، لا يقتصر على تقديم خطة وآلية لإسقاط نظام الجبهة الباغي واجتثاث آثاره وجذوره فحسب، وانما أيضا يتصدى للخروج من الازمة المزمنة التي لازمتنا منذ الاستقلال، واغلاق الطريق امام العوامل التي تعيد انتاجها"
طرحت نفس المذكرة تصور الحزب للهيكلة:
ثانيا: تقوم علاقة مؤسسية بين تنظيمي التجمع في الخارج والداخل. وتؤسس الهيئة القائدة بالخارج جهازا خاصا للاتصال مع جهاز مماثل في الداخل. ويتمتع كل من التنظيمين باستقلال ذاتي كامل في إطار التعاون والتنسيق والتكامل بينهما."
كما قدم الحزب مذكرة لاجتماع هيئة القيادة الذي انعقد في كمبالا في 1999، جاء فيها:
" مرة أخرى نجدد ترحيبنا، مع أطراف التجمع، بكافة المبادرات الإقليمية والدولية الجادة، والتي ترمى لتحقيق السلام والوحدة والاستقرار والديمقراطية في السودان. لكن من الضروري ان نوضح للأطراف الإقليمية والدولية ان الحلول التي يطرحها المجتمع الدولي والإقليمي ويضغط لقبولها، تبقي حلولا جزئية وهشة ومشحونة بقنابل زمنية، رغم حسن النوايا، ما لم تفتح الطريق لتصفية النظام الشمولي القمعي"
أعتقد ان ما ورد في هذه البيانات وغيرها، يوضح، بجلاء لا لبس فيه، عدم التعارض بين العمل في الداخل والعمل الخارجي. وقد اكتسب ذلك أهمية مضاعفة بعد الحرب، وتناقص هامش العمل في الداخل، في كلا المنطقتين تحت سيطرة المتحاربين.
siddigelzailaee@gmail.com