السابع من أكتوبر «ذو الغزة» وحتمية المراجعات الكبرى
تاريخ النشر: 2nd, December 2023 GMT
يصعب على المرء أن يهرول لاستنتاجات متسرعة وغير متبصرة حول تاريخية السابع من أكتوبر «ذو الغزة»، ومفصليته في المشهد العربي سياسيًا، وارتداداته على الساحة الأوروبية والأمريكية، وإشعاله لانتفاضة أخلاقية وإنسانية عالمية، أعادت القضية لتتصدر السجالات السياسية والأخلاقية والإنسانية على الصعيد العالمي نسبيًا.
وقبل تحليل من خسر «المعركة» وانتصر في «الحرب» ومن يملك «الوقت» ومن يمتلك «الساعة»، ومن اختزل المسافة إلى «الصفر»، هناك من الصور والمشاهد التي لا تنسى في هذا الصراع منها لقطة وصول رئيس الوزراء البريطاني «ريتشي سوناك» إلى إسرائيل مع بداية الأزمة في طائرة شحن عسكرية محملة بالعتاد دعمًا للكيان في حرب الإبادة، وهو في حقيقة الأمر امتداد متفهم لمسلك استعماري شكل تعامل «بريطانيا العظمى» مع دول المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر، وهنا لا يسع المرء سوى تذكر إفادة «تشرشل» في شـــهادته أمام لجنة بييل التي ترأسها اللورد روبرت بييل (Robert Peel) الذي عينته الحكومة البريطانية عام 1936 على رأس مجموعة لتقصي أسباب تزايد القلاقل والسخط بين الفلسطينيين واليهود آنذاك، حيث لم يتردد في التعبير عن رؤيته للوضع القائم بأبشع الصياغات العنصرية الاستعلائية والإقصائية ضد الشعوب وبالأخص فلسطين قائلًا في معرض شهادته «إنني لا أتفق أن كلبًا قضى وقتًا طويلًا في المذود (المكان الذي يُوضع فيه علف الدواب)، يمتلك الحق النهائي في ذلك المذود، حتى وإن كان قد استقر فيه طوال الوقت. إنني لا أعترف بذلك الحق. بل ولا أرى أن الهنود الحمر في أمريكا قد تعرضوا لمظلومية شنيعة، ولا حتى السكان الأصليين السود في أستراليا. ولا أقر أن أخطاء ارتكبت ضد هؤلاء البشر بحجة أن عرقًا أقوى، أو عرقًا أعلى منزلة، أو بأي مقياس أو منزلة من المنازل، أو عرقًا حكيمًا بشؤون العالم إن وضعناها على هذا النحو، قد جاء واستولى على مكانهم».
على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، لم يختلف الموقف الأمريكي كثيرًا في تعاطيه مع العالم العربي، حيث لم يتوقف عن شن حروبه وعملياته العسكرية ضد دول عربية منذ العام (1801) ضد ليبيا! وتوالت بعدها الحروب والعمليات العسكرية الأمريكية ضد دول المنطقة في العصر الحديث منذ عام 1958، وامتدت إلى معظم الدول العربية من لبنان واليمن ولغاية ليبيا والعراق وسوريا التي تعرضت لأشرس موجات العنف والتدمير والتهجير والتقسيم والعقوبات، بل ودخلت على الخط تسليط منظمات دموية كالقاعدة وداعش نقلت الفظائع البشرية إلى مستويات جديدة يندى لها الجبين. ويكفي أن تستمع لمناظرة المترشحين المتنافسين عن الحزب الجمهوري مؤخرًا لندرك قراءة الآخر حينما سُئِلُوا عن نصيحتهم للحكومة الإسرائيلية في التعامل مع حماس حيث أجمعوا كلهم على ضرورة إبادة حماس دون رحمة أو تراجع!
أما على المستوى العربي نفسه، فإنه تاريخ مشوب بصفحات من العار كذلك، والأمثلة عديدة على خيانة بعض العرب لدول عربية أخرى لا يتفقون مع قيادتها وتآمرهم عليها مع الأجنبي والمحتل مذكرًا ببيت الرصافي: (لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن)، ولعل السياق غير ملائم للتوسع في هذا الجانب، ولكن لا يستطيع المرء تجاهل بعض المواقف العربية التي بدا وكأنها مع الإسرائيليين في خندق واحد، حيث لم يسمح لمواطني دول عربية حتى بإظهار أي شكل من أشكال التعاطف مع الفلسطينيين، فيما شهدنا بالمقابل، مئات الآلاف من المتظاهرين الأجانب من شتى المشارب والديانات والمعتقدات من نيويورك ولندن وإسبانيا وإيطاليا إلى عموم أوروبا وروسيا، يهتفون ضد إسرائيل في مشهد «محرج» تاريخيًا و«مخز» أخلاقيا لبعض العرب.
والآن وبعد أن انكشفت الوجوه والنوايا، وبعيدًا عن لغة اليأس أو التخوين، ومع الإقرار بمعطيات الواقع وتعقيده وقيوده، يحق للمرء أن يتساءل مهما بدا السؤال موجعًا وحزينًا، فإذا كانت القضية الفلسطينية وهي المشترك الأكبر والأهم عروبيًا وإسلاميًا، التي نشهد الآن عامها الخامس والسبعين بمجازر وحرب إبادة أيقظت شرفاء العالم، ولم تحرك ساكنًا عند البعض، وفي خضم كل هذا النفاق السياسي والكيل بمكيالين حيث تصبح الخيانة «وجهة نظر» بحسب غسان كنفاني، فكيف ستكون مواقف هذه الدول إزاء صراعات أو أزمات أخرى قد تمسنا، لا سمح الله، أليس حريًا بنا إذا، بل أوليس من الضرورة التاريخية القيام «بمراجعات» كبرى للمصالح واستحقاقات المستقبل وإعادة توجيه «بوصلة» المسار وخارطة الطريق، فالفطن لم يعد يتعجب أن «قبلاتهم عربية من ذا رأى، فيما رأى قبلا لها أنياب».. ورحم الله نزار قباني.
ما أحوجنا الآن إلى خريطة طريق مختلفة تضع المصالح الاستراتيجية في مسارها الأصوب، تحدد بجلاء من هو الصديق من العدو، ومن الذي لن يفتقد بدره في الليلة الظلماء، وإن بدا ذلك شبه مستحيل في زمن عالق في المنتصف، فالصديق نصف عدو، والعدو أشبه بصديق، والحليف لا تعلم أين يخفي خنجره!
في معترك كهذا، ملغمٌ بصراعات المصالح والخطابات المزدوجة وحتى المتعددة والمتناقضة أحيانًا، علينا أن لا ننسى أن المنعة والسؤدد واستقلالية القرار، تقتضي أن نفتح جبهات واسعة وجديدة وجريئة بلا كلل، على صعيد الاقتصاد والعلم وتمكين البشر وإطلاق طاقاتهم وقدراتهم لبناء المستقبل، ولنا في التاريخ العماني معين لا ينضب من الحكمة والإرادة والصلابة والثقل.
يحيى بن سليمان العوفي كاتب ومترجم عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
"تفكك الغرب".. هدية ترامب الكبرى لبكين
هل يُعدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أسوأ كابوس للصين أم أنه بمثابة حلم تحقق لها؟
الهدف الاستراتيجي لشي هو جعل الصين عظيمة مرة أخرى
الحقيقة أن ترامب يجمع بين الأمرين، ولكن ليس بالتساوي، فعلى المدى القصير ستشكل سياساته التجارية القائمة على فرض الرسوم الجمركية، تحديات كبيرة لبكين، لكن في المقابل، ألحق ترامب خلال أسابيع قليلة ضرراً بالغاً بالنظام الدولي الليبرالي، ووحدة الغرب الديمقراطي، ومكانة الولايات المتحدة عالمياً، أكثر مما تمكنت أي جهود مجتمعة طوال الحرب الباردة، وهو إنجاز يتجاوز حتى أكثر أحلام القادة الصينيين طموحاً.
وكتب ستيف تسانغ في صحيفة "غارديان" البريطانية، أن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب تشكل تهديداً حقيقياً للصين، ولا يمكن لبكين سوى اعتبارها مؤشراً على المزيد من التحديات المقبلة، كما يبدو ترامب هذه المرة مستعداً لتنفيذ كل تهديداته.
وفي وقت يُظهر فيه الاقتصاد الصيني مؤشرات تباطؤ، فإن الدخول في حرب تجارية مكثفة سيكون آخر ما تريده بكين، رغم التصريحات المتشددة لدبلوماسييها.
ومع ذلك، فإن هذه الضغوط التجارية، حتى لو تحولت إلى حرب اقتصادية شاملة، تبقى تحديات قصيرة إلى متوسطة الأمد. إذ من المتوقع أن يأمر الرئيس الصيني شي جين بينغ بلاده بالصمود، وهو ما ستفعله بكين، رغم التكلفة الباهظة التي ستدفعها، لكن هذه الخسائر ستتلاشى على المدى البعيد أمام المكاسب التي يقدمها ترامب، دون قصد، للصين.
China can live with Trump’s tariffs – his bullish foreign policy will help Beijing in the long term | Op-ed by Steve Tsang (#SOAS) for The Guardianhttps://t.co/DGIYpI6TC4
— SOAS China Institute (@SOAS_CI) March 12, 2025 تفكك الغربفمثلاً يأتي اقتراح ترامب لحل الأزمة الأوكرانية متوافقاً إلى حد كبير مع شروط روسيا، كما أن طموحاته الصادمة بشأن كندا وغرينلاند تخدم الصين بشكل غير مباشر.
وأدى نهجه العدائي إلى تدمير علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها في أمريكا الشمالية وأوروبا، كما أشار بوضوح إلى أن بلاده لم تعد مهتمة بالمشاركة في المشاريع الدولية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومنظمة الصحة العالمية.
ويتساءل الكاتب لماذا يُعدّ هذا مكسباً للصين؟ مجيباً أن أن بكين وضعت استراتيجية عالمية تقوم على "فكر شي جين بينغ"، وتهدف إلى تحقيق "حلم الصين" بإعادة إحياء عظمتها بحلول عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد جعل ترامب هذا الحلم أقرب إلى التحقق.
The U.S. will emerge stronger with Trump's tariffs as China struggles to counter with meaningful economic boosts. Xi will prioritize industry over domestic demand. Tariffs shield American businesses from China’s overproduction and price-slashing, while Beijing’s reluctance to… pic.twitter.com/EDnZHQtukW
— JThomasLaw (@JasonTLaw) March 4, 2025 نظام عالمي جديد.. يتمحور حول بكينالهدف الاستراتيجي للرئيس شي هو "إعادة الصين إلى عظمتها"، وفق شروطها الخاصة. ويسعى إلى "استعادة" المكانة العالمية التي يعتقد أن الصين تمتعت بها عبر التاريخ، عندما كانت أكثر تقدماً وثراءً وابتكاراً.
ويمر تحقيق هذا الطموح عبر ما يسميه شي "دمقرطة العلاقات الدولية"، بحيث تصبح الصين القوة المهيمنة في تشكيل مستقبل العالم، مسترشدة بثلاث مبادرات رئيسية: التنمية، الأمن، والحضارة.
لكن الأمر لا يتعلق بإنشاء نظام عالمي جديد كلياً ليحل محل النظام الليبرالي، الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل بتحويل النظام القائم ليتمحور حول الصين، مدعوماً بدول الجنوب العالمي. أي ضمان منح الأمم المتحدة الأولوية لمصالح هذه الدول، ممثلة في زعيمتها الصين، على حساب مصالح الغرب.
وفي حين أن هذا الطرح يلقى قبولاً في دول الجنوب العالمي، إلا أنه يواجه صعوبة في اختراق الديمقراطيات الغنية. فقد حافظت هذه الدول على ولائها للولايات المتحدة، رغم الأزمات التي مرت بها العلاقات عبر العقود.
حتى الآن، كانت جهود الصين لإقناع دول الجنوب العالمي بتبني رؤيتها لتعديل النظام الدولي تسير ببطء. لكن ترامب سرّع هذه العملية، من دون قصد.
ترامب بلا ضغوط انتخابية.. كيف سيُغير أمريكا؟ - موقع 24ساهم جيل الألفية في الثقافة المعاصرة بمصطلح "تأقلم"، الذي يصفه الصحافي جنان غانيش بأنه محاولة للتخفيف من قسوة الواقع وجعله يبدو أقل بؤساً مما هو عليه، ويتجلى هذا المفهوم في العديد من العبارات المنتشرة اليوم، مثل: "على الأقل سيكون دونالد ترامب جيداً للاقتصاد"، أو "إذا كان ...فمع تراجع المساعدات الإنسانية الأمريكية، بدأت الدول الأضعف في الجنوب العالمي تشعر بوطأة هذا القرار، ما عزز الدعوات الصينية لـ"دمقرطة العلاقات الدولية". ولم يكن أحد ليخدم المشروع الصيني بهذه الفعالية كما فعل ترامب، إذ ساعد، من خلال سياساته الانعزالية، على منح الصين فرصة ذهبية لتعزيز نفوذها عالمياً.
الصين تحقق قفزة كبرىوبسياسة "أمريكا أولاً"، قدّم ترامب للصين ما لم يتمكن شي من تحقيقه بنفسه. صحيح أن "حلم الصين" لم يتحقق بالكامل بعد، لكنه قطع خطوات هائلة بفضل ترامب، الذي وفر له دفعاً غير مسبوق.