معركة جنين.. حين دحر العراقيون والفلسطينيون العصابات الصهيونية
تاريخ النشر: 2nd, December 2023 GMT
"أكد لي القائد العراقي المقدم الركن عمر علي عندما زرته ببغداد أن قتلى اليهود في هذه المعركة كثيرون، وأنهم سحبوا جثث الكثيرين مِن قتلاهم، ومَن لم يسحبوهم أحصاهم فوجد أنهم ثلاثمئة وخمسون بينهم قائد الحملة وفتاتان".
مؤرخ فلسطين "عارف العارف" أثناء زيارته لقائد القوات العراقية في جنين المقدم "عمر علي"
لا تكاد جِنين تُذكر إلا ويُذكر معها مخيمات اللاجئين من أهالي وسكان قرى الضفة الغربية القريبة منها، التي استولى عليها الصهاينة أثناء النكبة عام 1948، ولا تزال هذه المدينة الباسلة تقف في وجه الاعتداء الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا.
وكان ياقوت قد زارها بعد تحريرها من الصليبيين الذين حصَّنوها بأسوار عالية على يد الأيوبيين بقيادة صلاح الدين، إذ هاجمها صلاح الدين مرتين، الأولى عام 580هـ حين استطاع النقَّابون من جنده فتح ثغرات في أسوارها، وتمكن جيشه من دخولها والاستيلاء عليها وإبادة القوة الصليبية التي كانت متحصِّنة بها، والثانية بعد معركة حطين عام 583هـ حين دخلها المسلمون وأعادوا تعميرها، كما بات السلطان صلاح الدين الأيوبي ليلة بها في شوال سنة 588هـ وهو في طريقه من القُدس إلى دمشق[2].
وقعت المدينة، كشأن فلسطين كلها، فيما بعد في أيدي المماليك ثم العثمانيين، حيث ظلت في أيديهم حتى احتلها الجنرال البريطاني أللنبي في سبتمبر/أيلول 1918م، وعقد فيها مؤتمرا لقادة جيوشه بعدما سيطروا على فلسطين كلها. وقد بقي فيها الاحتلال البريطاني حتى مايو/أيار 1948م، مسهما في تسريع وتيرة هجرة اليهود واستيطانهم وحمايتهم ومدِّهم بالسلاح والعتاد للسيطرة على الأراضي الفلسطينية. وبسبب هذه المظالم الإنجليزية اغتال شاب اسمه "علي أبو الرُّب" من قرية قباطية القريبة منها الحاكم البريطاني للمدينة "موفيت" يوم 24 أغسطس/آب 1938م، وبسبب هذه الحادثة انتقم الإنجليز من المدينة وأهلها بهدم سوقها الرئيسي وكثير من بيوت السكان وإلقاء الأبرياء في السجون، وهو أمر يشبه ما يقوم به الإسرائيليون اليوم في الضفة الغربية[3].
لقد ثبت أن القوات البريطانية كانت قد أعدَّت خطة تسليم المدن الفلسطينية للعصابات الصهيونية قبل الانسحاب بتنسيق وتواطؤ كاملين، وكان شعار عصابات اليهود دبَّ الرعب في قلوب السكان العرب؛ تخويفا لهم حتى يتقاعسوا عن المقاومة، وارتكبوا في سبيل ذلك المذابح المروعة مثل الذي حدث في دير ياسين والقسطل وطبرية ويافا وحيفا وبيسان. وقد أقرَّ الماريشال (المشير) "برنارد مونتغمري"، أحد قادة قوات الحلفاء، بحقيقة وجود تنسيق كامل بين العصابات الصهيونية والحكومة البريطانية آنذاك لتهجير الفلسطينيين بصورة نهائية من أراضيهم، وهي الخطة التي تسعى إليها إسرائيل حتى يومنا هذا، فيقول في مذكراته: "كان المفوّض البريطاني في فلسطين في هذا الوقت السير آلان كانينغام.. وقد اجتمعت بكانينغام يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1946م واستعرضنا الحالة، فأقرَّ كانينغام أن الجيش (البريطاني) لا يمكنه أن يقوم بالمهام المتعلقة به بسبب التضييقات المفروضة عليه بسبب تدخل الجهات العليا والنفوذ الصهيوني المنتشر في لندن، وأن هناك خططا موضوعة بإحكام للقضاء على البقية الباقية من العرب في فلسطين لتصبح فلسطين يهودية"[4].
مقدمات المعركة المتطوعون العراقيون كان لهم إسهام مميز في مساندة الفلسطينين في حرب 1948 (مواقع التواصل)
ولئن خرج الإنجليز وتركوا فلسطين في مايو/أيار 1948م، وضمنوا قرارا من الأمم المتحدة منذ 1947م بتقسيمها دولتين بين الفلسطينيين واليهود، مع إنشاء وطن قومي لليهود؛ فإن هذا القرار كان سببا في إعلان خمسة جيوش عربية الدفاع عن فلسطين بغية تحريرها من العصابات الصهيونية، وهي مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان، الأمر الذي أدى إلى إعلان ترحيب المقاومة العربية من داخل فلسطين بهذه القوات ودعمها.
دخلت قوات الجيوش العربية الخمسة إلى فلسطين، وكان للقوات العراقية التي دخلت فلسطين عبر نهر الأردن في أواخر مايو/أيار 1948م، ورابطت في نابلس وطولكرم وقلقيلية، دور مهم ومحوري في الدفاع عن فلسطين وإنقاذ العديد من المدن في الضفة الغربية، وفي مقدمتها جنين، التي أراد الصهاينة احتلالها كي تكون منطلقا لاحتلال منطقة المثلث وبقية المناطق في الضفة الغربية.
كان اليهود قد تمكنوا من احتلال معظم القرى المحيطة بمدينة جنين، بل والمدن الكبرى في شمال فلسطين وعلى سواحلها عام 1948، وهو ما يثير التساؤلات حول سر صمود هذه المدينة الصغيرة تحديدا. ومما لا شك فيه أن جنين وقعت فيها واحدة من أكبر وأشرس المعارك أثناء الحرب وأكثرها بسالة، حيث شارك فيها المقاومون الفلسطينيون من أهالي الضفة الغربية وكذلك قوات الجيش العراقي التي أسهمت بدور بطولي في الدفاع عن المدينة وعدم سقوطها في أيدي العصابات الإسرائيلية في ذلك الوقت.
لقد أمرت قيادة الاحتلال وحدة تُسمى "كرميلي" لمهاجمة جنين بقيادة مردخاي مكليف، وكان سبب هذا التكليف أن هذه الوحدة الدموية كانت قد نجحت قُبيل معركة جنين في احتلال منطقة خليج حيفا. ومن ثمّ بدأ الصهاينة هجومَهم على جنين في وقت مبكر من صباح يوم الخميس 3 يونيو/حزيران 1948، وكانت قواتهم تتراوح ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف مقاتل، وقد قسَّموا قواتهم إلى أربع فرق، ثلاث منها تقدمت الهجوم والرابعة ظلت في المؤخرة لحماية أظهرهم. وقد جاءوا من منطقة العفولة القريبة، حيث احتلوا قُبيل ذلك قرى زرعين وصندلة وجلمة، أما وضع المقاومة من الداخل فكان ضعيفا، حيث تمركز فيها متطوعون فلسطينيون وأردنيون، على أن السرية الأردنية اضطرت للانسحاب فجأة قبل مجيء القوات العراقية التي غيَّرت من وقع المواجهة بصورة كبيرة[5].
انتصار وافتخار القائد العسكري العراقي "عمر علي البيرقدار"، قائد لواء المشاة الخامس في حرب 1948. (مواقع التواصل)
قطعت العصابات الصهيونية الطريق الواقعة بين نابلس وجنين، وشرعوا في الهجوم على المدينة من ثلاث جهات، وفي أثناء هذا الهجوم كان هناك فصيل عراقي مكون من 37 جنديا قد بلغ منطقة تل الخروبة القريبة يرافقه 50 متطوعا من المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية. وحين أدرك هذا الفصيل أنه لن يستطيع مقاومة أعداد قوات العصابات الصهيونية للفارق الكبير في العدد والعتاد، اضطر للاستنجاد بالقيادة العراقية التي أمدته بسرية من المشاة تتكون من 80 مقاتلا مزودين بأربعة مدافع هاون وأربعة رشاشات وخمس مدرعات وفصيل هندسي، كلها تحت قيادة الضابط العراقي المقدم "نوح عبد الله الجلبي"، ثم جاءت سرية أخرى يقودها الضابط "محسن الأعظمي"، وبهذا المدد الجديد أصبح عدد القوات العراقية في جنين 250 مقاتلا، بالإضافة إلى 50 متطوعا فلسطينيا[6].
ورغم هذا المدد الجديد فإن التفوق في العدد والعتاد وسلاح الطيران الذي امتلكه الصهاينة وقتذاك جعلهم يسيطرون على التلال المحيطة بالمدينة، فاضطرت القوات العراقية والفلسطينية إلى الانسحاب والتمركز في قلعة جنين للتحصين والمدافعة، ودخل معهم عدد كبير من أهل المدينة من الشيوخ والنساء والأطفال ممن لم يخرجوا من المدينة وفضّلوا البقاء فيها. وشرع اليهود في الهجوم بمدافع الهاون والرشاشات على القلعة التي كان يقود المقاومة فيها المقدم العراقي نوح الجبلي، الذي بدأ في الرد على النيران واستمر القتال بين الجانبين طوال الليل، وكان اليهود قد احتلوا معظم أحياء جنين، وبعد هذه المقاومة الباسلة كادت ذخيرة المقاومين في القلعة تنفدُ وتسقط البلدة بكاملها وقلعتها في أيدي الصهاينة، لولا وصول فوج عراقي في الساعة السابعة صباح يوم 3 يونيو/حزيران 1948م، حيث كان له فضل كبير في تغيير شكل المعركة[7].
كان هذا الفوج العراقي بقيادة المقدم عمر علي، وكان مسلحا بخمسمئة بندقية وأربعة مدافع هاون وثمانية رشاشات وغيرها من الأسلحة الأخرى. وقد حاول اليهود صد هجوم هذا الفوج حتى لا يتقدم ويدعم المحاصَرين في قلعة المدينة، لكنه استطاع دحرَ القوات اليهودية عند منطقة قباطية على بُعد ثلاثة كيلومترات من جنين، ثم تقدمَ في محاولة منه لإنقاذ المحاصرين. وقد اقترح المقدم عمر على المقدم نوح أن ينسحب حفاظا على الأرواح، لكن الأخير رفض الاقتراح قائلا: "إنه لن يستطيع فعل ذلك لأنه محاصر أولا، ولو استطاع لما فعل ذلك لأن في القلعة نساء وشيوخا وأطفالا لا بد من التفكير بمصيرهم. ولو انصاع للأمر وانسحب لسقطت جنين وضاعت معالمها"[8].
بعد هذا الرفض، طالبَ المقدم نوح زميله المقدم عمر تصويب مدافعه وقنابله صوب المواضع اليهودية التي حددها له بدقة، ففعل وقام بقصفها بصورة مكثفة. وفي المقابل ألقى الصهاينة حممهم على القوات العراقية التي كانت تتقدم في الشارع الرئيسي بالمدينة، وأمام كثافة النيران والقصف، قررت القوات مع المتطوعين الفلسطينيين الالتفاف خلف اليهود، وتمكنوا من السيطرة على سفوح برقين، مجبرين الصهاينة على الهرب بعد قتال عنيف. وعندما فشل الجناح اليهودي الأيمن تراجعوا إلى منطقة المحطة، وبقي الجناح الأيسر يحاول منع القوات العراقية من استكمال عبور المدينة في الطريق العام نابلس-جنين. ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل بعد مواجهة قوية من الفلسطينيين والعراقيين راح فيها 20 قتيلا من الصهاينة، وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم 3 يونيو/حزيران وصل فوج عراقي آخر بقيادة شليمون ميخائيل[8].
لا تزال مقابر الشهداء في جنين شاهدة على دور العراقيين في الحرب على إسرائيل (مواقع التواصل)التحم فوج ميخائيل بفوج عمر العراقي، وظلوا فيما بقي من النهار في مواجهة محمومة، ولكن عندما حل الليل انضم إليهم 100 من المتطوعين الفلسطينيين الذين جاءوا من وادي برقين، ثم وصلت سرية الفوج الثاني العراقي بقيادة "حسيب علي توفيق"، وأمام هذا الدعم والضرب المتلاحق من الأمام والخلف اضطر اليهود إلى الانسحاب في الساعة 11 صباح يوم الجمعة الموافق 4 يونيو/حزيران، بعدما طُهِّرت مدينة جنين كلها من هذا العدوان الصهيوني الغاشم.
زار مؤرخ فلسطين عارف العارف فيما بعد العراق والتقى بالمقدم الركن عمر علي والمقدم الركن نوح الجلبي، اللذينِ روَيا له تفاصيل مهمة عن بطولة القوات العراقية في قلعة ومدينة جنين وخسائر العدو الصهيوني فيها، التي يقول عنها: "أكد لي القائد العراقي المقدم الركن عمر علي عندما زرته ببغداد أن قتلى اليهود في هذه المعركة كثيرون، وأنهم سحبوا جثث الكثيرين مِن قتلاهم، ومَن لم يسحبوهم أحصاهم فوجد أنهم ثلاثمئة وخمسون.. وأما الجرحى فأكثر من ذلك، إذ أكد لي سكان جنين أنهم رأوا عن بُعد ثلاثين سيارة من السيارات اليهودية المُصفَّحة الكبرى وهي تنقل القتلى والجرحى، وأما قتلى العرب فإنهم أقل من المئة"[9].
لا تزال مدينة جنين تحتضن رُفات الشهداء العراقيين وعددهم 56 شهيدا، وكذلك استُشهد في هذه المعركة 20 من الشهداء الفلسطينيين المقاتلين و46 من المدنيين، وقد أدى الضباط والجنود العراقيون في هذه المعركة دورا كبيرا في الانتصار، لا سيما القائدين نوح الجلبي وهو من مدينة الموصل، والمقدم عمر علي المولود في مدينة كركوك؛ إذ بفضل ثباتهم وشجاعة جنودهم احتفظ الفلسطينيون بمدينة جنين التي لا تزال إلى يومنا هذا تُقف صُلبة أمام المحاولات الإسرائيلية للقضاء على مخيماتها وإنهاء مقاومتها.
——————————————————–
المصادر[1] معجم البلدان 2/202.
[2] مصطفى الدباغ: بلادنا فلسطين 2/35.
[3] مصطفى الدباغ: بلادنا فلسطين 2/48.
[4] مذكرات الماريشال مونتجمري ص302.
[5] معركة جنين.. العراقيون يفتدون فلسطين.
[6] عارف العارف: نكبة فلسطين والفردوس المفقود 3/524.
[7] عارف العارف: السابق 3/526.
[8] عارف العارف: السابق نفسه.
[9] عارف العارف: السابق 3/526، 527.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العصابات الصهیونیة فی الضفة الغربیة القوات العراقیة فی هذه المعرکة العراقیة التی یونیو حزیران مدینة جنین عمر علی لا تزال
إقرأ أيضاً:
سورة البقرة.. المرأة في الإسلام بعد سجن الجاهلية وتطرف اليهود
تناول الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، تفسير الآية 222 من سورة البقرة، موضحًا أن الإسلام جاء ليصحح المفاهيم المغلوطة التي ارتبطت بالمرأة في بعض الثقافات السابقة، وأبرز أن هذه الآية الكريمة نزلت في سياق تحرير المرأة من قيود الجاهلية التي كانت تعزلها وتعتبرها ناقصة أو نجسة بسبب طبيعتها البشرية.
المرأة في الفكر اليهودي القديمأوضح جمعة أن اليهود كانوا ينظرون إلى المرأة خلال فترة الحيض على أنها نجسة في ذاتها، كانوا يعتزلونها تمامًا، ولا يأكلون من يدها، معتقدين أن مجرد الاتصال بها يؤثر سلبيًا على عبادتهم، كما وصفوا المرأة بأنها السبب وراء خروج آدم من الجنة، وهو تصور رسخته ثقافة تنتقص من قيمتها الإنسانية.
رؤية الإسلام لتكامل الأدواروأكد جمعة أن الإسلام أقرّ مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة بدلاً من التساوي المطلق. أوضح أن الله تعالى خلق لكل منهما خصائص ووظائف تتكامل ولا تتناقض، وهو ما يُبرز الحكمة الإلهية في توزيع الأدوار بما يحقق العدالة ويضمن الاستقرار.
تيسير الإسلام على المرأةوفي تفسير الآية الكريمة: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ)، أشار جمعة إلى أن الإسلام حدد العلاقة بين الزوجين أثناء الحيض وفقًا لمقتضيات الصحة الجسدية والنفسية، مع تخفيف التكاليف الشرعية عن المرأة خلال هذه الفترة. فالله أسقط عنها الصلاة وألزمها بقضاء الصوم فقط، مكافئًا إياها على صبرها وعبادتها رغم التخفيف.
الإسلام ومنظومة القيماختتم جمعة حديثه بالتأكيد على أن الإسلام أنصف المرأة من خلال منهج قويم يجعلها شريكًا للرجل في بناء الحضارة، ويرفع عنها القيود الظالمة التي فرضتها بعض الثقافات السابقة، ليكون منهجًا يجمع بين الرحمة والعدالة.