أثار البيان الذي وقعه الفيلسوف وعالم الاجتماع والسياسة الألماني (يورغن هابرماس)، بمعية آخرين، تعقيبًا على مجريات الحرب، جدلاً واسعًا في العالم العربي والغربي، إذ صدرت العديد من التعليقات والمقالات التي تلته في الفضاءات الرقمية والإعلامية؛ نظرًا لمكانة (هابرماس) الثقافية والعلمية في عالمنا المعاصر، إذ رآه كثيرون بيانًا متحيزًا بشكل صرف للجانب الإسرائيلي، متجاهلاً الفلسطينيين.

كما وُصف البيان بـ«الإخفاق الأخلاقي»، فيما عقب عليه جمع من المفكّرين والفلاسفة الغربيين ببيان ينتقده بحدّة.
تضامن لأبعد حد!
جاء بيان (هابرماس)، الذي ترجمه المترجم السعودي حمزة المزيني، بعنوان «مبادئ التضامن» بعد البيانات والاحتجاجات الأخلاقية والسياسية إزاء «الفظائع المتطرفة التي ارتكبتها حماس ورد فعل إسرائيل»، حسب تعبير البيان، مبينًا أن موقفه والموقعين نابع من مبادئ «لا خلاف عليها»، تتمثل في «التضامن مع إسرائيل واليهود في ألمانيا المشروع تسويغه إلى أبعد حد»، ثم يسهب البيان: «دفعت المذبحة التي ارتكبتها حماس مع نيتها المعلنة للقضاء على الحياة اليهودية بشكل عام إسرائيل للرد. أما مسألة الكيفية التي ينفذ بها هذا الثأر، المسوغ من حيث المبدأ، فموضع نقاش مثير للجد، إذ يجب أن تكون مبادئ التناسب، والحيلولة دون وقوع ضحايا مدنيين، وشن الحرب مع التطلع لإحلال السلام مستقبلاً، المبادئ الموجهة. ونحن نجد، بالرغم من القلق الواسع على مصير السكان الفلسطينيين، أن معايير الحكم المعهودة كلها لا تنطبق على وصف تصرفات إسرائيل بأنها نابعة من القصد لارتكاب (إبادة جماعية)».
ثم يعرج البيان على مسألة معاداة السامية، مشيرًا إلى أن تصرفات إسرائيل لا تسوغ «بأي حال، ردود الفعل المعادية للسامية، لا سيما في ألمانيا»، مؤكدًا عدم قبوله تعريض اليهود إلى أي تهديد، وأي خوف من التعرض للعنف، ليؤكد «ترتبط الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، المفطورة على الالتزام باحترام الكرامة الإنسانية، بثقافة سياسية تعد الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة في ضوء الجرائم الجماعية التي ارتكبت خلال العهد النازي». ليتابع الحديث عن الحقوق، واستبطان المشاعر والقناعات المعادية للسامية، والحث على رفضها.
ووقع على البيان، إلى جانب (هابرماس)، أستاذة العلوم السياسية (نيكول ديتيلهوف)، والفيلسوف الألماني (راينر فورست)، والفقيه الحقوقي (كاي غونتر).
جدّية النقاش في وقوع «الإبادة»
إزاء هذا البيان الذي تجاهل الجانب الفلسيطيني، صدر بيان من فلاسفة ومفكرين غربيين، أبدى فيه الموقعون قلقهم البالغ من بيان (هابرماس)، مؤكدين في البدء تضامنهم مع إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين واحتجازهم، كما أكدوا تضامنهم «على الحاجة الماسة لحماية الحياة اليهودية في ألمانيا في مواجهة عداء السامية المتزايد»، بيد أنهم أعربوا عن قلقهم البالغ «إزاء الحدود الواضحة للتضامن التي عبر عنها موقعوا البيان (هابرماس والآخرين). ذلك أن اهتمام البيان بالكرامة الإنسانية لا يشمل بشكلٍ كافٍ المدنيين الفلسطينيين في غزة الذين يواجهون الموت والدمار. ولا ينطبق أو يوسع ليشمل المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من تزايد الكراهية للإسلام. ويعني التضامن أن مبدأ الكرامة الإنسانية يجب أن يطبق على الناس جميعًا. ويتطلب هذا أن نعترف بمعاناة المتضررين من النزاع المسلح جميعهم ونعالجها».
كما تضمن البيان ردًا على قول (هابرماس) ومن معه إن المعايير لا تنطبق على توصيف تصرفات إسرائيل بأنها نابعة من قصدية «الإبادة الجماعية»، إذ بيّن بيان الرد أن «هناك نقاشًا جاريًا الآن بين الباحثين في مجال الإبادة الجماعية والخبراء القانونيين عن إن كان المعيار القانوني للإبادة الجماعية ينطبق. فقد رفعت بعض جماعات حقوق الإنسان دعاوى قضائية تزعم حدوث إبادة جماعية أمام المحكمة الجنائية الدولية وإحدى المحاكم الاتحادية في الولايات المتحدة».
ويتابع البيان التأكيد على أن الواقع على الفلسطينيين في غزة، وإن لم ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية، جدالاً، فهذا لا يمنع النقاش في احتمالية وقوعها، إذ يؤكد البيان على وجوب التحذير من حدوث أمر كهذا «إبداء التضامن واحترام كرامة الإنسان يوجب علينا أن نصغي إلى هذا التحذير وألا نغلق مجال النقاش والتفكير عن إمكانية حدوث إبادة جماعية». كما يذكر البيان أن الموقعين لا يعتقدون بالإجماع «أن المعايير القانونية للإبادة الجماعية تنطبق. مع ذلك، يتفقون جميعًا على أن هذه مسألة نقاش مشروع».
كما علق البيان على مبادئ العمل العسكري التي ذكرها بيان (هابرماس) ومن معه، وهي: التناسب، والحيلولة دون وقوع ضحايا من المدنيين، وشن الحرب مع التطلع للسلام مستقبلاً، ليشير بيان الرد إلى القلق من عدم تضمين بيان (هابرماس) «أي ذكر لدعم القانون الدولي، الذي يحظر أيضًا جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية كالعقاب الجماعي، والاضطهاد، وتدمير البنية التحتية المدنية بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة. ويفرض الاسترشاد بمبادئ المعايير القانونية الدولية والتضامن والكرامة الإنسانية علينا إلزام جميع المشاركين في النزاع بهذا المعيار الأعلى. ولا يمكن أن نسمح للفظائع أن تجبرنا على التخلي عن هذا المبادئ».
ووقع هذا البيان المؤرخ البريطاني (آدم توز)، والمؤرخ الأمريكي (صموئيل موين)، والفيلسوفة المولودة في البحرين (آميا سرينيفاسان)، والفيلسوفة الأمريكية المتأثرة بـ (هابرماس) (نانسي فريزر)، بالإضافة للفيلسوفة الأمريكية (أليس كراري)، والمؤلفة الأمريكية (ليندا زريلي)، والمفكرة الهندية (شاندرا موهانتي)، والناقد الألماني (ديدريش ديدريكسن)، والفيلسوفة الألمانية (بيت روسلر)، والمؤرخ الكندي (كوين سلوبوديان)، والمؤلفة (سيسيل مالاسبينا).

انحياز يناقض مبادئ «هابرماس»
ربما لم يثر بيان لمفكر غربي ما أثاره بيان (هابرماس) من تفاعل وتعليق، إذ كتب الفيلسوف الموريتاني (السيد ولد اباه) أن «(هابرماس) عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية، حيث تشكل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأن الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تم في العمق الأوروبي»، مضيفًا: «الغريب أن (هابرماس) المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبثة بعلاقنية المجال التواصلي خارج أي تداخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرفة، حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشددة مع الأحزاب العنصرية الفاشية».
وكتبت أستاذة الفلسفة المغربية نزهة بوعزة مقالاً تنتقد فيه ما جاء في بيان (هابرماس)، مؤكدةً أنه لم ينتقد طيلة مسيرته الفكرية التوجهات السياسية لإسرائيل، «ما يجعلنا نقف عند موقفين من أعماله ورؤاه النظرية: موقف هابرماس المنظر الأخلاقي لفلسفة التواصل، مقابل هابرماس المواطن الألماني المُعبّر عن رؤيته المحدودة بسقف الأثر الذي أنتجته تبعات (الهولوكوست) على ذهنية الألماني، لذلك فالتاريخ الثقافي، سواء كان شرقيًا أو غربيًا، لا يُناصر دومًا القضية العادلة»، مبينةً أن موقف (هابرماس) ومن معه «لا يُمثّل التوجّه الأوحد والوحيد أيضًا، إذ القضية الفلسطينية قد ناصرها على مدى التاريخ العديد من الفلاسفة مثل سارتر، برتراند راسل، حنا أرندت وجيل دولوز».
إخفاق «هابرماس» المنطقي والأخلاقي!
بدوره، اعتبر الناقد السعودي حمزة المزيني بيان (هابرماس) إخفاقًا منطقيًا وأخلاقيًا، مؤكدًا «لا خلاف على أن لـ(هابرماس) وشركائه الحق في أن يقوم موقفهم على عقدة الشعور بالذنب المتأصل عما يقال عن (المحرقة) التي نفذها الألمان ضد اليهود في ألمانيا النازية. ولا خلاف على موقفهم في الدعوة إلى الوقوف في وجه ما يسمى (معاداة السامية) ضد اليهود في ألمانيا، وهو - بالمناسبة - وصف مقصور على اليهود من بين من يدعى بأنهم ساميون!».
أما المشكلة التي يراها المزيني في بيان (هابرماس) ومن معه أن عقدة الذنب موسعة لتشمل «دولة إسرائيل»، إذ يعني هذا الدفاع «عن إسرائيل بغضّ النظر عما ترتكبه من جرائم لشعورهم بالذنب. بل يتعدى (هابرماس) وشركائه إلزام أنفسهم بالدفاع عن إسرائيل إلى الإيحاء بأن هذا الموقف (أخلاقي) و(كلي) ويجب أن يلتزم به الجميع، الألمان وغير الألمان!»، ليخلص المزيني إلى أن موقف (هابرماس) ومن معه «يعاني من العوار الأخلاقي إضافة إلى العوار المنطقي الذي يوسع القضايا إلى أحياز خارج حيزها المنطقي».
فيما كتب الناقد العراقي علي الفواز أن «دفاع هابرماس عن الوجود الإسرائيلي، وعن سياساته، وعن أنموذجه العصابي، يأتي في سياق الوعي المتعالي لنزعة (الأوروبة) الغربية، التي جعل (إسرائيل) مثالاً لسياقها كـ(نتاج حضارة أوروبية، كما وصفها في محاضرته في قاعة المحاضرات في الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في القدس عام 2012). وهذا ما يجعل (بيانه الجديد) الفاضح تتمةً لتلك المواقف السابقة التي تصبّ في تأييد الصناعة المثيولوجية لـ(الدولة العبرية) بمرجعيات خطابها الديني الذي يناقض في جوهره أفكار هابرماس التنويرية والأخلاقية والنقدية، حتى أطروحاته حول الدولة المدنية والتعايش العمومي في فضائها الإنساني».
الناقد السعودي محمد العباس استذكر رفض (هابرماس) لـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب» قبل أعوام، بداعي إخلاصه لقيمه التنويرية، في الوقت الذي يصدر بيانًا يكشف عواره الأخلاقي فيما يتعلق بغزة! إذ كتب العباس على منصفة (X) واصفًا إيّاه بـ«الوعي المنشق على نفسه»، مبينًا أن صاحب مفهوم (الفضاء العمومي) الذي يمثل حلبة النقاش الذي تدور فيه الحوارات وتتشكل بموجبه مجمل الآراء حول القضايا العامة المجسّدة لاهتمامات الناس «كأنه يغلق الفضاء العمومي الذي ابتنى جانبًا مهمًا من سمعته الفكرية على فضائه، ويمنع الجمهور من تنفس الديمقراطية التي تشكل جوهر الفضاء العمومي، وبذلك ألغى أي إمكانية لمساءلة الهمجية الإسرائيلية».

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا فی ألمانیا ألمانیا ا ومن معه

إقرأ أيضاً:

التلاعب في نتائج 17 مباراة بالدوري الألماني

 
برلين (د ب أ)

أخبار ذات صلة أليكس مورجان تصل إلى نهاية الرحلة تير شتيجن سعيد بـ«بلسم الروح»!


ذكرت تقارير صحفية أن هناك شكوكاً بشأن التلاعب في نتائج 17 مباراة كرة قدم في ألمانيا.
ووفقاً لصحيفة «هامبورج مورجنبوست» الألمانية، فقد تم التلاعب بنتائج مباريات في الدرجات الثالثة والرابعة والخامسة بالدوري الألماني خلال العامين الماضيين بغرض الاحتيال في عمليات المراهنات.
وذكرت الصحيفة أن الاتحاد الألماني لكرة القدم على علم بتلك الادعاءات، موضحة أنه يأخذ الأمر «بجدية بالغة».
في بعض المباريات المذكورة، كانت هناك مزاعم بوجود أخطاء واضحة من قبل الحكام وأخطاء خطيرة ارتكبها حراس المرمى والمدافعون.
وتم نشر معلومات حول النتائج المتوقعة للمباريات الـ17 على الشبكة المظلمة، والتي ربما سمحت بتحقيق أرباح طائلة من المراهنات، فيما كشفت تقارير إخبارية أن سجلات الدردشة المقابلة أثبتت الصفقات الإجرامية. ومع ذلك، يشكك اتحاد الكرة الألماني في إمكانية الوصول لنتائج دقيقة للتحقيقات في الاتهامات المتعلقة بالتلاعب بنتائج مباريات كرة القدم.
ولم يتم كشف النقاب عن المباريات التي جرت خلالها عملية التلاعب على وجه الدقة، حيث لم يتم إعلان التفاصيل بسبب التحقيقات الجارية حالياً.

مقالات مشابهة

  • أستاذ علوم سياسية: إسرائيل السبب الرئيسي للأزمات التي تشهدها المنطقة (فيديو)
  • مقتل عربي بالرصاص في جنوب إسرائيل
  • البيان الرسمي لفعالية مليونية عشال في زنجبار (وثيقة)
  • تدابير سير من قرنايل وصولاً إلى كفر سلوان.. إليكم هذا البيان
  • التاريخ اليهودي وسياسية إسرائيل.. هذه الدورات التي تلقاها يحيى السنوار
  • التلاعب في نتائج 17 مباراة بالدوري الألماني
  • وزير الدفاع الألماني: تسليم 4 وحدات من أنظمة الدفاع الجوي «IRIS-T» لأوكرانيا
  • ألمانيا تطالب إسرائيل بوقف المشاريع الاستيطانية
  • وزيرة خارجية ألمانيا: إسرائيل ستدفع ثمنا باهظا في صفقة تبادل المحتجزين مع حماس
  • الإعلان عن أول إنجاز نووي في بلد عربي