المساليت والقبائل العربية.. صراع التاريخ والجغرافيا في غرب دارفور
تاريخ النشر: 1st, December 2023 GMT
مع أن ولاية غرب دارفور السودانية، تعد ضمن أقل ولايات الإقليم تأثرا بالحرب الطاحنة، التي اندلعت في عام 2003 وخلّفت أكثر من ثلاثمئة ألف قتيل، بحسب الأمم المتحدة، إلا إنها تبدو الآن أكثر ولايات السودان تضرراً من الحرب المستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل الماضي.
وأحصت منظمات أممية وحقوقية انتهاكات، وصفتها بالفظيعة في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، وكشفت عن عمليات قتل وتصفية جسدية على أساس عرقي، بما في ذلك منطقة أردمتا التي تضم الحامية الرئيسية للجيش السوداني.
وبحسب بيان للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في منتصف نوفمبر الماضي، فإن تصاعد وتيرة القتال في منطقة أردمتا أدى إلى مقتل أكثر من 800 شخص بنيران قوات الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها.
صراع الجغرافيا والتاريخيُجمع باحثون ومختصون في الشأن السوداني، على أن الصراع في ولاية غرب دارفور، تحوّل من مواجهات مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلى قتال ذي طابع قبلي، تغذيه تقاطعات الجغرافيا والتاريخ، بين القبائل العربية وقبيلة المساليت، فما أصل الصراع الدامي في غرب دارفور؟
بالنسبة للباحث في شأن دارفور، معتصم الزين، فإن "عمليات القتل التي طالت مناطق المساليت، تعود بالأساس إلى صراع تاريخي حول الأرض، حيث يرى المساليت أنهم المُلّاك التاريخيين للمنطقة، وأن القبائل العربية، أو قبائل الرُحّل وفدت إليها حديثاً".
وقال الزين لموقع "الحرة"، إن ذلك أفرز واقعاً عدائياً بين القبائل العربية والقبائل غير العربية، في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، وما حولها من مناطق، وخصوصا في الأرياف".
وتنشط أكثرية قبائل دارفور غير العربية، في عمليات الزراعة، بينما ينخرط معظم أبناء القبائل العربية في الرعي وتربية الماشية، ما يولّد صدامات بسبب المرعى، بحسب مراكز بحوث سودانية ومختصين في شأن دارفور.
ويشير الزين إلى أن ولاية غرب دارفور ارتبطت تاريخياً بقبيلة المساليت، لكنها تضم - في الوقت نفسه - مكونات أخرى مثل القمر، والأرينقا، والفور، والتاما، والزغاوة، والبرقد، بجانب بعض المكونات العربية من الرزيقات والمسيرية وغيرها.
ويمضي الزين إلى أبعد من ذلك ويشير إلى أن السلطان عبد الرحمن بحر الدين زعيم قبيلة المساليت متزوج من ابنة محمود موسى مادبو، ناظر قبيلة الرزيقات، وهي القبيلة التي تُصنّف أكبر الحواضن الاجتماعية لقوات الدعم السريع، فكيف انهار التساكن والسلام المجتمعي؟
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية، المختص في شأن دارفور، البروفسور صلاح الدين الدومة، إن "نظام الإخوان المسلمين الذي حكم السودان لثلاثين عاماً، بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير، انتهج سياسة ضرب النسيج المجتمعي بين مكونات دارفور، بخاصة حينما تمردت بعض المكونات ذات الطابع القبلي على الحكومة المركزية، في العام 2003، اعتراضاً على عدم التقسيم العادل للثروة والسلطة".
الدومة أضاف لموقع "الحرة"، أن "نظام البشير قام بتسليح بعض القبائل العربية في دارفور، لمواجهة الحركات التي حملت السلاح، لأن العناصر الغالب في تلك الحركات من القبائل غير العربية، ما أدى إلى تصاعد حالة الاحتقان، ونشوء صراع ذي طابع عرقي، برعاية وتغذية حكومية".
ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن ذلك أوجد القوة المعروفة سابقاً باسم "الجنجويد"، والتي انبثقت منها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو".
وتتهم منظمات أممية وحقوقية القبائل العربية بالقتال إلى جانب قوات الدعم السريع، وتشير إلى تورطها في عمليات القتل على أساس عرقي، ضد قبيلة المساليت.
وقالت هيئة محامي دارفور "مستقلة" الثلاثاء الماضي، إنها أحصت أكثر من ألف قتيل في "أردمتا"، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على قيادة الجيش في المنطقة، في الرابع من نوفمبر الماضي.
وأعلنت الأمم المتحدة، في منتصف نوفمبر الماضي، أنها تتحقق من التقارير الموثوقة التي تلقتها عن أعمال عنف واسعة النطاق، ضد أفراد من مجتمع المساليت، وبخاصة في منطقة الجنينة، وفق ما نقله موقع "أخبار الأمم المتحدة".
وحذرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من تقارير تفيد بأن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها قتلت مئات المدنيين من مجتمعات المساليت في بلدة أردمتا في نوفمبر الماضي.
دائرة الاتهاماتالاتهامات الموجهة إلى القبائل والمليشيات العربية بالتورط في عمليات القتل على أسس قبلية، لم تتوقف عند المنظمات والهيئات الحقوقية السودانية وحدها، إذْ أشارت منظمة العفو الدولية إلى ضلوع تلك التشكيلات في القتال الذي تزامن مع سقوط حامية الجيش في أردمتا، فكيف بدأت المواجهات العرقية الحالية، في غرب دارفور؟.
يطرح الباحث في شأن دارفور، معتصم الزين، سبباً آخر لتصاعد العنف القبلي، ويشير إلى أن "السلطات قامت بتسليح شباب قبيلة المساليت، بعدما اشتد حصار قوات الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها على مدينة الجنينة".
ويرى الزين أن "ذلك صبّ الزيت على النار المشتعلة أصلاً، محمّلاً السلطات في حكومة ولاية غرب دارفور مسؤولية تصاعد العنف القبلي بالولاية".
لكن القيادي الأهلي في قبيلة المساليت، أرباب عبد الله، نفى هذه الفرضية، وقال لموقع "الحرة"، إن "قبيلتهم تعرضت لمحاولات استئصال ممن أسماهم المستوطنين الجدد، بهدف الاستفراد بالمنطقة"، في إشارة إلى القبائل العربية.
وشدد عبد الله، على أن "القبائل العربية مارست عمليات تطهير عرقي وإبادة جماعية لمكونات المساليت، ما أدى إلى مقتل أكثر من ألفي شخص، مع استيلاء الدعم السريع على حامية الجيش في أردمتا".
وكانت دار مساليت، سلطنة منفصلة بذاتها، وتم ضمها إلى الدولة السودانية بعد اتفاق جرى بين زعيم المساليت السلطان بحر الدين والحكومة الفرنسية والإدارة البريطانية بالسودان، في سبتمبر من عام 1919.
وأعطت الاتفاقية سكان دار مساليت حق الاختيار بين البقاء ضمن إطار السودان أو مغادرته دون اعتراض من أي جهة.
وفي أبريل 2022 لوّح مجلس قبيلة المساليت بالانفصال عن السودان، بناء على هذه الاتفاقية، وذلك عقب توالي هجمات القبائل العربية على مناطق قبيلة المساليت.
ويُطلق على مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب، في الأدبيات السودانية، لقب "دار اندوكا"، في إشارة إلى السلطان بحر الدين زعيم قبيلة المساليت.
من جانبه رفض القيادي الشاب في جبهة العرب الرُحّل، الصادق إبراهيم الاتهامات الموجهة إلى القبائل العربية بممارسة التطهير العرقي، أو القتل على أساس قبلي، لكنه أقرّ – في الوقت ذاته – بحدوث صدامات بين القبائل العربية والمساليت.
إبراهيم قال لموقع "الحرة"، إن الصدام القبلي كان في شهري أبريل ومايو، لكنه توقف، وتحول إلى مواجهات مباشرة بين الجيش والدعم السريع، انتهت بسيطرة الأخيرة على حامية الجيش".
وتمسك الصادق، الذي أبلغ موقع "الحرة" أنه كان ضمن صفوف قوات الدعم السريع قبل أن يغادرها في العام 2020، بأن "أي قتال بين طرفين مسلحين يقع فيه ضحايا من المدنيين، خصوصاً إذا كان القتال بالأسلحة المتوسطة والثقيلة".
وقال إن "قبيلة المساليت لديها مليشيا مسلحة تُعرف محلياً باسم كولومبيا، قتلت عدداً من المدنيين من القبائل العربية، ما أدى إلى تأجيج الصراع الأهلي في بدايات الحرب الحالية".
وبدوره، نفى القيادي الأهلي في قبيلة المساليت، أرباب عبد الله، وجود أي مليشيات تابعة لقبيلة المساليت، مشيراً إلى أن "القتل الممنهج الذي طال مكونات القبيلة، والأعداد الكبيرة للضحايا، تدلل على أنهم عزّل ولا يملكون سلاحاً".
وتابع قائلاً: "أرادوا قتلنا جميعا. لم يسلم منهم الأطفال ولا النساء ولا كبار السن. هدفهم هو إزاحتنا من خارطة دارفور".
وتُقدّر إحصاءات غير رسمية منسوبي قبيلة المساليت، الذين يتحدثون لغة خاصة بهم تعرف محلياً باسم "كامسرا"، بأكثر مليوني نسمة، بينما تقول منصات إعلامية تابعة للقبيلة إن تعدادها يفوق خمسة ملايين نسمة.
وكان مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، تحدث في نوفمبر الماضي، عن تقارير نقلاً عن شهود أفادوا بمقتل ما يزيد على 1000 فرد من المساليت في أردمتا، في هجمات شنتها قوات الدعم السريع وميليشيات تابعة لها.
مخطط استخباراتيوفي حين ألقى الباحث في شأن دارفور، معتصم الزين، اللائمة على السلطات المحلية في ولاية غرب دارفور، واتهمها بتسليح المواطنين، مضى أستاذ العلوم السياسية في الجامعات السودانية، المختص في شأن دارفور، بروفسور صلاح الدين الدومة، إلى وجهة أخرى، محمّلاً المسؤولية إلى الاستخبارات العسكرية للجيش السوداني، ولم يستبعد تورط والي ولاية غرب دارفور القتيل خميس أبكر في عمليات تسليح المدنيين.
الدومة أشار إلى أن "الاستخبارات العسكرية تنشط للوقيعة بين المكونات المجتمعية في دارفور، لإحداث مواجهات قبلية، تقلل من فرص التحاق أبناء القبائل العربية للقتال مع قوات الدعم السريع في الخرطوم".
ولفت إلى أن "ذلك زاد من وتيرة الاقتتال القبلي في دارفور، وبخاصة ولاية غرب دافور، وما جاروها من مناطق".
وأدى القتال في مدينة الجنية إلى مقتل والي ولاية غرب دارفور خميس أبكر في الرابع عشر من يونيو الماضي، وذلك بعد ساعات من انتقادات وجهها إلى قوات الدعم السريع.
وكان أبكر يرأس قوات التحالف السوداني، وهي حركة مسلحة وقّعت اتفاق سلام مع الحكومة السودانية، في أكتوبر 2020، تولى بموجبه منصب والي ولاية غرب دارفور.
وينتسب أبكر إلى قبيلة المساليت، بينما تمثل القبائل غير العربية العنصر الرئيسي في الحركة المسلحة التي كان يقودها. وتتهمه القبائل العربية بتسليح أفراد قبيلته خلال الحرب الحالية، وهو اتهام ينفيه القيادي الأهلي في قبيلة المساليت أرباب عبد الله.
ولم يتسن لموقع "الحرة" الحصول على تعليق من الناطق الرسمي للجيش السوداني، لكن القيادي الأهلي في قبيلة المساليت، أرباب عبد الله، نفى هذه الاتهامات، وقال إن "القبائل العربية استقوت بنفوذ قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي، بخاصة عقب سقوط نظام البشير".
وفي أبريل 2019 تمت الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير على وقع احتجاجات شعبية استمرت لشهور، ليتم بعدها تسمية حميدتي نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، ثم نائباً لرئيس مجلس السيادة.
وتوسعت امبراطورية حميدتي العسكرية والمالية، حيث رفع استثماراته في تعدين وتصدير الذهب، عقب الإطاحة بالبشير، بينما تضاعفت أعداد قواته وأضحت ترتكز في مواقع متعدد بالعاصمة السودانية الخرطوم، وفقاً لمنظمات حقوقية.
وفي تقرير حديث صدر، في السادس والعشرين من نوفمبر الماضي، قالت "هيومن رايتس ووتش" إن "قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها، قتلت مئات المدنيين في غرب دارفور".
التقرير لفت إلى تلك القوات "ارتكبت النهب والاعتداءات والاحتجاز غير القانوني بحق العشرات من المساليت في أردمتا".
ودعا البيان الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد" لفرض عقوبات على المتورطين في عمليات القتل الأخيرة في غرب دارفور، كما الولايات المتحدة لفرض عقوبات على حميدتي.
وفي سبتمبر الماضي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع للوزارة، فرض عقوبات على نائب قائد قوات الدعم السريع، عبد الرحيم دقلو، وقائد القوات بغرب دارفور، عبد الرحمن جمعة، لدورهما القيادي في القوات التي شاركت في "أعمال عنف وانتهاكات لحقوق الإنسان".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع ولایة غرب دارفور القبائل العربیة المتحالفة معها الأمم المتحدة مدینة الجنینة نوفمبر الماضی فی غرب دارفور عملیات القتل غیر العربیة فی أردمتا فی عملیات أکثر من أدى إلى إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا توقفت أميركا عن تأييد الدعم السريع؟
في أواخر يوليو/تموز 2024 أبلغ المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيريلو، الحكومة السودانية أنه سيزور السودان في الثامن من شهر أغسطس/آب من نفس العام برفقة مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية السفيرة سامانثا باور، وذلك للتباحث حول سبل إنجاح المبادرة الأميركية الخاصة بإنهاء الحرب في السودان عبر مفاوضات (جنيف) التي حُدد لها يوم الرابع عشر من نفس الشهر.
لكن بيريلو وضع شرطًا غريبًا لإتمام زيارته، وهو أن تتم المباحثات مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان، وتحت حراسة مشددة من قبل فريق حراسة أميركي خاص، مبررًا ذلك بعدم استتباب الأوضاع الأمنية بالبلاد، الأمر الذي رفضته حكومة السودان، مما أدى إلى إلغاء الزيارة.
لكن، وبعد مرور قرابة أربعة أشهر على إلغاء تلك الزيارة، عاد المبعوث الأميركي وطلب زيارة السودان، ووافقت الحكومة السودانية على طلبه غير المشروط هذه المرّة، مما يُعتبر إقرارًا ضمنيًا – بمفهوم المخالفة – بشرعية الحكومة، وبأن الوضع الأمني مستتب وليس هناك ما يدعو للخوف والقلق.
وتمت الزيارة يوم الاثنين الماضي، حيث قابل بيريلو رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان بمكتبه بالعاصمة المؤقتة بورتسودان، كما قابل أيضًا نائب رئيس مجلس السيادة الفريق مالك عقار، وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية السوداني علي يوسف، وقابل السلطان بحر الدين سلطان (دار مساليت)، وهي إحدى إثنيات إقليم دارفور ذات الأصول الأفريقية وحاضرتهم مدينة (الجنينة) التي تقع في أقصى غرب إقليم دارفور ومتاخمة لحدود السودان مع دولة تشاد.
وقد تعرضت هذه الإثنية لعمليات إبادة جماعية على أساس عرقي وعمليات تهجير واغتصاب للنساء، ودفن المئات منهم وهم أحياء على أيدي قوات الدعم السريع التي تحتل المدينة منذ قيام الحرب وحتى الآن، وهي مقابلة لم تتجاوز المواساة وإظهار الأسى والأسف بعد فوات الأوان.
وبحسب السفير محمد عبدالله إدريس، سفير السودان لدى واشنطن، فإن مباحثات المبعوث الأميركي للسودان "تطرقت إلى خارطة طريق لإنهاء الحرب، وكيفية إيصال المساعدات الإنسانية، ورتق النسيج الاجتماعي، فضلًا عن العملية السياسية كمخرج نهائي لما بعد الحرب".
ويصف الكثير من المراقبين للشأن السوداني زيارة بيريلو الأخيرة هذه بأنها زيارة "علاقات عامة"، تأتي في سياق المراجعة الأخيرة للملفات في أضابير مكتب الرئيس بايدن قبل رحيله عن المكتب البيضاوي بلا رجعة.
أرادت إدارة بايدن والحزب الديمقراطي أن تترك أثرًا يُحسب لها في ملف السودان الذي لم تتعاطَ معه بجدية، وسايرت فيه قوى إقليمية صغيرة حديثة الولادة كانت هي السبب في تأجيج الأزمة بالدعم المالي واللوجيستي والعسكري والدعائي لقوات الدعم السريع، ولم تتعاطَ مع الملف بصفتها قوة عظمى ينبغي أن تنظر لساحة السياسة الدولية بمنظار كلي يجعل من حفظ الأمن والسلم الدوليين قيمة عليا وغاية سامية تسعى إلى تحقيقها انطلاقًا من كونها تمتلك كل الموارد والإمكانات اللازمة والضرورية لتحقيقها.
كان في مقدور إدارة بايدن إدارة ملف الأزمة في السودان بصورة أكثر نجاعة وأكثر احترافية بما يفضي إلى حل مُرضٍ يكون أنموذجًا يُحتذى إقليميًا على الأقل. لكنها آثرت أن تحرز هدفًا في مرماها في اللحظة الأخيرة، من حيث أرادت تشتيت الكرة بعيدًا عنه. فقد صرّح بيريلو في لقائه بوزير الخارجية السوداني بأنه لا يرى مستقبلًا سياسيًا أو عسكريًا للدعم السريع في السودان.
فهل اكتشفت إدارة بايدن فجأة وهي تلملم أوراقها ومتعلقاتها لمغادرة البيت الأبيض، وبعد مرور 19 شهرًا من الحرب في السودان وما صاحبها من فظائع وانتهاكات جسيمة ومجازر مروعة ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق المدنيين، أن هذه المجموعة المسلحة لا تصلح لأي دور سياسي أو عسكري في مستقبل السودان؟!
ألم تكن إدارة بايدن بما أوتيت من قوة ومن مؤسسات استشارية وأدوات استشعار مبكر وما تملكه من وسائل صنع القرار ومستودعات الفكر التي ترفدها بالمعلومات الموثقة، أن تصل إلى حقيقة ألّا مستقبل للدعم السريع في السودان فلا ترمي بثقلها خلف "الاتفاق الإطاري" الذي كان السبب الأساسي في إشعال نار الحرب؟!
ألم تكن إدارة بايدن عشية 15 أبريل/ نيسان 2023 تدرك أن العواقب ستكون وخيمة، وهي تبارك خطة الدعم السريع وجناحها السياسي (قوى الحرية والتغيير) للاستيلاء على السلطة بالقوة صبيحة اليوم التالي؟!
هل من أحد يمكن أن يصدق أن الدولة العظمى (الوحيدة) كانت ترى الأمور من نفس الزاوية الضيقة التي كانت تنظر منها قوات الدعم السريع وجناحها السياسي المهيض "قحت/تقدم"، على أن الأمر مجرد نزهة، وأن العملية لن تستغرق سوى ساعة من نهار؟! أم أنها كانت تدرك فداحة العواقب، وأنها مغامرة غير محسوبة، لكنها أرادت ذلك رعايةً لمصالح بعض صغار أصدقائها الإقليميين فأعطت الضوء الأخضر لإنفاذها ترضية لهم؟
لا أحد يستطيع الجزم بحقيقة المرامي والأهداف التي جعلت إدارة بايدن تنساق خلف أحلام وأوهام مجموعة مسلحة همجية، وأحلام أغرار دخلوا مضمار السياسة بلا دراية ولا خبرة ولا رؤية، يظنون أن الديمقراطية يمكن أن تُجلب عبر صناديق الذخيرة، لا عن طريق صناديق الاقتراع.
تقف خلفهم قوى تعاني متلازمة تضخم الذات ومصابة بجنون العظمة، وتؤمن بأن المال يمكن أن يحول المستحيل إلى واقع، والحلم إلى حقيقة، وأن البندقية هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المصالح، وأن علاقات التعاون وحسن الجوار واحترام سيادة الدول ما هي إلا أساطير الأولين اكتتبتها الأمم المتحدة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
أضاعت إدارة بايدن فرصة ظلت سانحة ومتاحة لها طيلة أشهر الحرب في السودان بأن تقود عربة الأزمة للخروج بها بسلام إلى بر الأمان بلا كلفة كبيرة، ومن ثم تكتب في لوحها هذا الإنجاز أنها حقنت الدماء وجنبت السودانيين تلك المجازر المروعة والتشريد والتهجير والنزوح واللجوء، وفوق ذلك السخط عليها وتحميلها جزءًا كبيرًا من المسؤولية جنبًا إلى جنب مع مليشيا الدعم السريع.
لكنها اختارت أن تكون (مجرورة) بعربة المليشيا وجناحها السياسي، فكان حصادها الفشل. إنها العربة التي قادت الأحصنة!
ورغم أنه من المبكر الآن تحديد الاتجاه الذي سيسلكه الرئيس المنتخب دونالد ترامب بشأن الملف السوداني بعد تنصيبه رسميًا رئيسًا للولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني من العام القادم، فإنه يمكن القول إجمالًا إنه لن يسير على ذات الطريق الخطأ الذي سلكه سلفه، وأفضى به إلى الفشل.
والراجح أن إدارة ترامب القادمة ستسلك طريقًا آخر أقل كلفة وأقصر مسافة، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أن الجمهوريين عُرف عنهم البراغماتية في السياسة الخارجية وليس الأيديولوجية. فالأولى واقعية والثانية قد تلامس الخيال في أحيان كثيرة.
كذلك فإن علاقة ترامب بروسيا جيدة، والسودان يحتفظ بعلاقات ممتازة مع روسيا، آخر شواهدها كان بالأمس، حيث استخدمت روسيا الفيتو بمجلس الأمن الدولي لصالح السودان ضد المشروع البريطاني الذي يدعو إلى "وقف فوري للأعمال العدائية بالسودان وحماية المدنيين".
وهو مشروع يرفضه السودان ويرى أنه مفخخ ويفتح الباب لتدخل قوات أممية في السودان، مما يعد انتقاصًا من سيادة الدولة وشرعية الحكومة، وإعادة مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي إلى المشهد مرة أخرى.
وقد وجد الفيتو الروسي ترحيبًا كبيرًا لدى الحكومة السودانية والرأي العام السوداني. لذلك فإن تعاطي ترامب مع الملف السوداني سيكون بتفاهم ناعم ومحسوب مع روسيا كغيره من الملفات التي فيها تقاطعات أميركية روسية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية