عندما عرض الله آدم للملائكة
من الواضح في الإخبار القرآني عن آدم أن ميزته منظومته العقلية وقدرتها على إدارة الطارئ والحدث، والذات من حاجات وغرائز، فعندما عرض آدم على الملائكة لم يعرض عضلاته ولا جمال هيئته، بل منظومته العقلية هذه، والعمليات التي تجري في المنظومة العقلية ومعالجة المعلومات هي العزيمة، فعندما لم يستخدم آدم قدراته في التفكير ومعالجة المعلومة اعتبر لا عزم له، بل إنه نسي، أي لم يستحضر المعلومة والتحذير له من هذا الذي أغواه عندما استثار غريزة حب البقاء والتملك والنوع، وسيطرت عليه عندما لم يفكر ويتدبر المعلومة: "فوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يبلى" (طه: 120).
فكان الفشل في إدارة المعلومة الجاهزة والسيطرة على الغرائز، وهكذا نحن على الأرض لاختبار منظومتنا العقلية. المعلومة لا تأتيك دفعة واحدة وإنما تتعلم وتفكر فتكتشف وتبدع وتنتج. وهذه درجات في نجاح المنظومة، ولكي تتعلم فلا بد أن "تقرأ" من أجل هذا كانت الكلمة الأولى في الرسالة القرآنية، وما بعدها دعوة للتفكر بالتدرج والتطور. فقابلية الإنسان رهيبة تظهر حتما عندما تقيس حجمه إلى حجم ما يبني من سدود وناطحات سحاب، واستقرائه المحيط والخليقة أدوات سلمه وحربه، فمن نجح في استخدام منظومته العقلية، وطورها وفكر في مهام البشرية في الحفاظ على السلالة البشرية وعبادة الله بحركته الحياتية وعمارة الأرض، بإقامه العدل وتميز الآدمية. هذا النوع يعود إلى الجنة، وأما من لا يستخدم منظومته العقلية ويهلك الحرث والنسل، أو يعيش على الهامش لا تهمه إلا حاجاته فيسدها أو غرائزه فيشبعها، ولا تزداد معرفته، وإن زادت فإدارتها مهملة، فسيكون إذن فيمن حصب جهنم وحطبها يوم القيامة.
من هذا نستخلص أن التفكير وضبط ضعفها وإدارة الحياة؛ واجبة، فلا تؤخذ الأمور بالتهرب من مسئولية الآدمية بطلب مبرر لها من رجل دين (مع تحفظي على كلمة رجل دين)، فالإسلام العبادة فيه في إقامة واجبات الآدمية، ونحن لا نرى اليوم ما يشير إلا إلى فقدان العزيمة عند الأغلبية الحاكم والمحكوم لتحل التفاهة والخروج عن منطق الخلافة الآدمية.
معاملة المعلومة للوصول إلى القرار السليم تدل على قلب أي تفكير سليم، وإلا ما أكثر التافهين وهم يبدون كنشطاء في مجتمع ولهم حضور جسدي في كل حفل ومكان.
التفاهة في مجتمعاتنا باتت غالبة مضرة بالقيم والعادات والتقاليد والتكافل وكل القيم المعبرة عن إدامة السلالة وعمارة الأرض، لقد بات الإضرار بالآخرين تمكينا بينما هو ظلم للنفس والآخر وظلم النفس بتعريضها للعقاب.
الظلم في واقعنا أصبح رديفا للتمكين والأذى بالفعل والكلمة، دارج دون انتباه لكرامة الإنسان ولشخصه، بل هو نوع من استضعاف بين المستضعفين، واستخفاف بالقيمة والكرامة الإنسانية نتيجة الجهالة والجهل المركب الذي يظهر بشكل التفاهة المنفرة للنفوس الراقية.
مجتمع بلا هوية غاص في التفاهة
في أمة اقرأ التي تركت القراءة وتثاقلت، وتمرضت وتألمت، أصبحت تكتب وتجادل في وسائل التواصل وتفرض تفاهتها على الساحة وتسفه العقلاء، لذا سنجد أسبابا داعمة لمشكلة التفاهة التي تسود في الحياة والكلام والعلاقات ومنها:
* المنظومة المعرفية: وهي مجموعة المأثورات والمنقولات والتقديس للأشخاص وبعض التعاليم المتوارثة، تقيسها انطباعات. الكلام نفسه عن الدين وفهمه، أي دين وليس الإسلام فقط، هو كلام انطباعات ومنقول بلا تفكير أو تمحيص وإنما جعل معيارا وهو بلا سند إلا السرديات التي كتبها المؤرخون.
* الرغبات والأمنيات التي لا تتحول إلى أهداف ولن تتحول إلى غايات، ولأسباب عديدة تمجد وتذم وتفاضل بين السيئين دون الانتباه إلى ضرورة استكشاف الناس الكفء بل الكفء في ظرف ما، وهو في الغالب ليس مرغوبا ومحاربا من قوى الشر والفساد؛ وغالبا ما يضعف أمامهم لضعف إمكانياته.
* بحث الناس عن الرغد والسكينة المجاني والمتعة بلا مقوماتها، رغم أنهم واقعا هاربون من القهر والظلم عند المتمكن والعجز عن صد الظلم فيهرعون إلى الأوهام التي يسمونها حلما أو نجاة لبعض الناس على حساب قومهم وآخرين، أو بيع النفس لشياطين الإنس من أجل وهم لا يتحقق أو حياة رغد ينظر لها من بعيد كسراب يحسبه الظمئان ماء.
لا يمكن أن نتوقف عن التفكير فهذا من بنية الخلق والتفكير يحتاج القراءة والمعرفة كمادة للإبداع والتصويب وليس لمعرفة لا تنقل من حالة الغفلة، تلك جدلية القراءة والتفاهة فشتان بين يفكر في معطياته وتطويرها ليصل وبين من يجتر الأوهام بحثا عن حياة الهدوء وسط الضجيج.
الإنسان قيمة فلا تبع نفسك برخص بل وتخلص بخيانتك لخلقك وتبدع في التضليل، هنا ستكون كما إبليس وتصبح شيطانا. التفاهة لا علاقة بذي علم أو معرفة بل بمدى ضعف المنظومة العقلية وحيودها عن رسالة الآدمية في الحياة ولا تليق التفاهة بعظمة الإنسان، فما ملك مهما ملك من ملك والتفاهة من ضمن أوصافه، فهو فقير مسكين ظالم لنفسه، والقناعة هي منعطف حياتي محظوظ من يجتاز التواءها بسلام، ومحظوظ من ساعد الآخرين على اجتيازها بلا إضرار لهم أو بكرامتهم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات التفكير التفاهة المعرفة التفكير ادم التفاهة مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة رياضة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
لن يقول لك وداعا.. هل يقع الإنسان في حب الروبوت؟
أثناء فترة الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا، كانت ليبي فرانكولا، وهي امرأة ثلاثينية من مدينة هيوستن الأميركية، بحاجة لمن تتحدث إليه؛ بعدما أنهت توًّا علاقة عاطفية دامت قرابة 5 سنوات، إلى أن عثرت مصادفةً عبر شبكة الإنترنت، على مقطع مصوّر يصف إحدى تطبيقات الدردشة الآلية القائمة على الذكاء الاصطناعي.
أقدمت فرانكولا على تجربة التطبيق، الذي أتاح لها ما تريد بشكلٍ مجانيّ في اليوم الأول، قبل أن تقرر الاشتراك لقاء رسوم شهرية قدرها 8 دولارات نظرًا لأن هذه المحادثات خففت من شعورها بالاكتئاب ومنحتها مزاجا أفضل، بحسب وصفها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القنابل الخمس التي تستخدمها إسرائيل في إبادة غزةlist 2 of 2هل الحرب الأهلية في إسرائيل قدر حتمي؟end of listويبدو أن السيدة ليبي ليست الوحيدة التي وجدت العزاء والأنس رفقة تطبيقات الدردشة الآلية، وأن الإقبال على مثل هذه التطبيقات يتزايد، رغم انتهاء القيود التي فرضتها الجائحة على التواصل الاجتماعي.
ففي العام الماضي، أعلنت شركة "هيوم" الأميركية عن تطويرها أول ذكاء اصطناعي صوتي يتمتع بالذكاء العاطفي، كما أعلنت عن عملها على تجهيز نموذج لغوي ضخم بإمكانه فهمُ نبرة الصوت والتعامل معها، وهو ما يثير قلق الخبراء، نظرًا لأن ذلك يفتح الباب أمام المزيد من الاعتماد (أو الإدمان) على هذه التطبيقات، التي تحل محل الطرف البشري في العلاقات الاجتماعية والعاطفية.
ويشير مؤسس شركة هيوم، ألان كوين، وهو عالم بيانات سابق في غوغل ويتمتع بخلفية معرفية في مجال علم النفس، إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي المتوفر على المنصة، يمكنه التفاعل مع مشاعر المستخدمين وتلبية احتياجاتهم العاطفية بشكل فعال، وذلك من خلال التدرب على مئات الآلاف من النبرات ودرجات الصوت وتعبيرات الوجوه البشرية من مختلف أنحاء العالم.
إعلانوهو ما يؤكده الخبير في مجال الذكاء الاصطناعي، لانس إليوت، حيث يوضح أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية الحديثة تستخدم نموذجا لغويا يحتوي على بيانات واسعة النطاق، كما أن لديها القدرة على مطابقة الأنماط، أي استحضار مفردات ونبرة حديث تتلاءم والحوارَ الذي تجريه مع المُستخدم.
فعلى سبيل المثال، تركز الخوارزميات الحديثة على تحديد الأنماط التي يكتب بها البشر عبر إجرائها مسحا مكثفا لشبكة الإنترنت، والاستعانة بعدد لا حصر له من المقالات والمدونات والقصص وغيرها من أشكال السرد المختلفة، ومن ثم استخدام هذا القدر الكبير من البيانات في توليد الإجابات، والاستجابة بطريقة تحاكي تماما الأسلوب البشري في التحدث والكتابة.
وبإمكان ذلك أن يلغي الحدود داخل عقل المُستخدم، فيتلاشى إحساسه بأنه يتحدث بالأساس إلى روبوت، نظرًا لأن الردود في هذه الحالة لن تكون آلية أو كوميدية، خاصة عند التعامل مع المشاعر الإنسانية والمواقف المعقدة والكلمات التي تحمل أكثر من معنى، فضلا عن قدرتها على توظيف التشبيه والكناية والمجاز، وتوليد استجابات تبدو "طليقة" للغاية، بما يساهم في تعلّق المُستخدم تدريجيًّا بهذه التطبيقات ونشأة نوع جديد من "الإدمان الرقمي".
ورغم أن الكثير من الدراسات تناول مفهوم "الإدمان الرقمي"، بما يتضمنه من الاستخدام المفرط للهاتف الذكي وشبكة الإنترنت، أو التواجد الدائم على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من التطبيقات، فإن ظهور التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي يمهّد لنوع جديد من "الإدمان الرقمي" أكثر خطورة، نظرًا لأنها تلبي احتياجات إنسانية أساسية بشكل أعمق من كل ما سبق.
فإذا ما كان الشخص بحاجة إلى مشاركة صورة أو منشور عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بغرض الحصول على تفاعل والإحساس بأنه مرئي، حتى وإن أتى ذلك من عابرٍ مجهول، فإنه قطعًا أكثر احتياجًا إلى إجراء محادثة صوتية أو كتابية، يكون خلالها محورَ اهتمام الطرف الآخر.
إعلانوفي حال امتلاك هذا الآخر قدرة على الإصغاء في أي وقت والرد بلا تأخير، دون إلزام المُستخدم بمبادلته الشيء ذاته، فربما لن يولي اهتماما حينئذٍ لكون الطرف الآخر مجرد "آلة"، خاصة إذا كان يفتقر إلى علاقات اجتماعية عميقة وآمنة، أو لا يستطيع التحدث بصدق وانفتاح مع الأشخاص في محيطه، وهي عوامل من شأنها أن تدفعه إلى الإدمان العاطفي على هذه التطبيقات.
ويُعرّف الإدمان بالاضطراب الذي ينتج عنه الاستخدام "القهري" لمادة معينة أو القيام بنشاط محدد. ويقصد بلفظ "القهري" فقدان القدرة على التحكم، وهو ما يُعد السمة المميزة للإدمان، أي أن الشخص لن يستطيع الانقطاع عن استخدام هذه المادة أو التوقف عن تكرار هذا النشاط، حتى إذا أراد ذلك.
ورغم أن الاعتقاد السائد في السابق، حصرَ الإدمان في استخدام المواد المحظورة مثل المخدرات، فإنه تم توسيع التعريف لاحقًا، ليشمل بعض الأنشطة والسلوكيات التي يمكن وصف القيام بها باستمرار بالأمر القهري، ومنها: المقامرة أو ممارسة الجنس أو إدمان التسوق. كما ظهر مؤخرًا مصطلح "الإدمان الرقمي"، الذي يعد أيضًا أحد أنواع الإدمان السلوكي، إذ بإمكانه إثارة "نشوة" ذهنية مماثلة لما بعد القيام بالسلوك الإدماني، وهي النشوة المسؤولة عن دفع الشخص إلى إتيان السلوك مرة أخرى للحصول على شعور مماثل.
وقد أثبت الباحثون أن الدوبامين -وهو ناقل عصبي ومادة كيميائية تُعزز الشعور بالسعادة- يلعب دورًا محوريا في عملية الإدمان، حيث يزيد إفرازه في حالة الإدمان السلوكي أو تعاطي المواد المخدرة على حد سواء، كما أوضحت دراسة نُشرت عام 2018، أن الدوبامين يُعد الناقل الكيميائي الأكثر وضوحًا من بين النواقل العصبية المشاركة في عملية الإدمان.
وبينما يُعتبر التسوق مثلا أو استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو التحدث إلى الذكاء الاصطناعي، سلوكًا أو نشاطًا عاديًا يقوم به الجميع دون أدنى مشكلة، فإنه في حالة الإدمان تصبح ممارسة هذه السلوكيات "إلزامية"، ويفقد الشخص تدريجيا قدرته على التعامل مع الحياة بشكل طبيعي دون ممارستها، وتنشأ الأزمة عندما يُصبح السلوك متعارضًا مع رفاهية الشخص العامة وقدرته على العمل، أو الاهتمام بالأسرة، أو تكوين الصداقات والحفاظ عليها.
إعلان مستعد للإدمان على نحو خاص"أبدًا لن يقول وداعًا لك، ولن يتعب إذا تحدثت معه لساعات، سيظل محتفظًا بطاقته إلى أن تنصرف عنه، وعندما تعود إليه لن يوبخك أبدًا على غيابك، بل على العكس، ستتلقى منه تعزيزًا إيجابيًا، لا أحد يحكم عليك، أنت معه في بيئة آمنة وممتعة، وفجأة تجد نفسك أصبحت مدمنًا".
أحد مهندسي البرمجيات يتحدث عن سبب إدمانه للذكاء العاطفي.وفي الآونة الأخيرة، ثمة اهتمام متزايد بدراسة طبيعة إدمان مستخدمي هذه التطبيقات والوقوف على الأسباب المؤدية إلى ذلك. وتشير دراسة أجراها الباحثان الصينيان تاو تشو وتشونلي تشانغ ونشرتها مجلة "التكنولوجيا في المجتمع" عام 2024، إلى وجود تماثل بين إدمان وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
فخلال هذا النوع من الإدمان، يطور الأشخاص اعتمادًا مفرطًا على التقنية في مواقف مختلفة من حياتهم، ويجدون صعوبة في التوقف عن استخدام هذه الأنظمة.
كما أوضحت الدراسة أن المستخدمين الذين يُعانون من إدمان هذه التكنولوجيا، ينفقون قدرًا كبيرًا من وقتهم وطاقتهم في التفاعل مع الذكاء الاصطناعي، وذلك للحصول على الإشباع العاطفي والاجتماعي، وتحقيق الشعور بالرضا والمتعة، وقد يهملون في المقابل مسؤولياتهم وواجباتهم في علاقاتهم الشخصية وعالمهم الحقيقي.
وتظهر نتائج الدراسة وجود 4 سمات رئيسية للذكاء الاصطناعي التوليدي، مرتبطة بشكلٍ أساسي بقابلية إدمان المستخدمين عليه، وهي:
التشبيه المُتصوّر: وهو تصور المستخدِم أنه يتحدث إلى إنسان وليس إلى آلة، عبر إسناد خصائص بشرية إلى كيانات غير بشرية. التفاعل المُتصوَّر: وخلاله يعتقد المستخدم أن الطرف الآخر يفهمه ويشعر به بدرجة كبيرة، بما يُشعره أن التفاعل بينهما بالغ العمق وفعال، ربما أكثر من أي شخص آخر في حياته يتعامل معه واقعيًا! الذكاء المُتصور: حيث يتصور المستخدم أن الآلة التي يتحدث إليها تتمتع بذكاء خاص ومستقل، وبالتالي قد تكون الأحكام أو الآراء التي تزوده بها غير قابلة للشك. التخصيص المُتصور: ويعني شعور المستخدم أن الطرف الآخر (الآلة)، يخصه باهتمامه أو بلطفه البالغ في التعامل والتفاعل والردود. إعلانوقد يؤدي اجتماع هذه السمات إلى إدمان الحوار مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، خاصة مع الأشخاص الأضعف من الناحية الاجتماعية، وهو ما يتوافق أيضا مع نتائج استخلصها باحثون من دراسة أجرتها جامعة "سري" (Surrey) البريطانية، أكدوا خلالها على خطورة هذه التطبيقات رغم ما توفره من شعور بالرفاهية العامة لدى المستخدمين، نظرا لأنها قد تتسبب في وقوع الأشخاص الذين يعانون من الوحدة في براثن الإدمان، وإجمالا تُنتج أضرارا أكثر مما يمكن تحقيقه من منافع.
ويساهم في زيادة فرص إدمان هذه التطبيقات، وجودُ حالة من الإشباع الفوري للاحتياجات بالتزامن مع الاستخدام، علاوة على شعور المستخدمين المسبق بالخوف من أحكام الآخرين عليهم، أو الخوف من الرفض والنبذ، وهي عناصر غير حاضرة في محادثاتهم مع الآلة.
على جانب آخر، أشارت دراسة منشورة في عام 2021 تزامنا مع جائحة كورونا، إلى معاناة العديد من الأشخاص حول العالم من مستوى غير مسبوق من الوحدة، مما تسبب في تزايد محاولات التعامل مع المشاعر السلبية عبر بعض استراتيجيات التأقلم المرتبطة بالإنترنت، ومن بينها: الاستعانة بمجموعة متنوعة من تطبيقات الصداقة القائمة على أنظمة حوار تعمل بالذكاء الاصطناعي.
وتستجيب هذه التطبيقات مع المستخدمين بطريقة اجتماعية ومتعاطفة، وبشكلٍ يساعد على تلبية احتياجاتهم المختلفة، حيث تستعين بتقنيات معالجة اللغة الطبيعية التي تسمح بتقديم تفاعلات شبيهة بالتفاعلات البشرية، عبر الصوت والنص والصور، الأمر الذي يسهل إنشاء روابط عاطفية مع المستخدمين.
كما يمكن للمستخدمين اختيار جنس أصدقائهم من الروبوتات ومظهرهم، بالإضافة إلى القدرة على تحديد نوع العلاقة التي يريدون إقامتها معهم، سواء أكانت علاقة صداقة أو إرشاد ومشورة أو شراكة رومانسية، بما يُسهّل من حدوث التعلق الاجتماعي أو العاطفي بالذكاء الاصطناعي، ويجعل مستخدمه مهيَّأ لإدمانه على نحو خاص.
إعلانووفقًا لتقرير يبحث في المخاطر المحتملة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصدرته شركة "أوبن أي آي" (OPEN AI) في أغسطس/آب الماضي، تزداد خطورة التعلق بأنظمة الذكاء الاصطناعي مع امتلاكها قدرات صوتية، كما في حالة "جي بي تي-4.0" (GPT-4.0)، بما يتسبب في تزايد التشابه بين تفاعل المستخدمين مع نماذج الذكاء الاصطناعي وتفاعلهم مع البشر.
كما أوضحت الاختبارات المبكرة التي أجرتها "أوبن أي آي" أن اللغة التي يستخدمها الأشخاص تشير إلى تكوين روابط عميقة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، وهو ما يقلل من حاجتهم إلى التفاعل البشري الطبيعي، ويؤثر سلبا على إمكانية بناء علاقات اجتماعية وعاطفية صحية، خاصة في حالة الأشخاص الذين يعانون من الوحدة أو الانطوائية.
فضلا عن ذلك، يلفت الباحثون الانتباه إلى أن إدمان الذكاء الاصطناعي التوليدي يختلف عن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يتفاعل المستخدمون في الأخيرة مع أشخاص حقيقيين عبر وسيط رقمي، بينما التفاعل مع الذكاء الاصطناعي هو تواصل تام بين الإنسان والآلة، وليس من خلالها.
وتظهر الأبحاث مدى أهمية هذا الاختلاف وتأثيره على سلوك المستخدِم، نظرًا لأن الأفراد يغيّرون ردود أفعالهم بناءً على كون الطرف الآخر إنسانًا أم ذكاءً اصطناعيًا. كما قد يشككون في صحة بعض المعلومات المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يثقون في المعلومات التي يحصلون عليها من خلال الذكاء الاصطناعي التوليدي، بما قد يدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة.
وإن حدثت الانتكاسات.. فالتعافي هو القاعدة!ختامًا، يشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أن "التعافي" من الإدمان هو القاعدة وليس الاستثناء، موضحًا أن ثمة طرقا عديدة للتعافي، تُمكّن الأفراد الذين يُعانون من هذه الأزمة من تحسين أدائهم الحياتي البدني والنفسي والاجتماعي من تلقاء أنفسهم، ودون الحصول على أي مساعدات خارجية، وهو ما يسمى "التعافي الطبيعي".
إعلانومن بين هذه الطُرق، وفقا لما يوضحه موقع هارفارد، عثورُ الشخص على هواية جديدة أو انخراطه في تحديات ما، أو البدء في تكوين علاقات طبيعية جديدة توفر معنى لحياته، ويتمكن عبرها من ملء الفراغ الذي خلفه الإدمان.
كما يمكن أن يبدأ الشخص أيضًا في ممارسة الرياضة بانتظام، لأنها تعمل كمضاد طبيعي للاكتئاب وتخفف من التوتر، علاوة على تحفيزها الجسم على إطلاق بعض المواد مثل "الإندورفين" المسؤول عن تعزيز مسار المكافأة في الدماغ.
فضلا عن ذلك، يمكن دومًا الحصول على مساعدة متخصصة عند الشعور بصعوبة مواجهة الإدمان والتعافي منه ذاتيا.
وربما يكون الجانب السلبي هنا، والذي ينبغي قبوله لكي يتمكن الشخص من التعامل معه بفعالية، هو أن طريق التعافي ليس مستقيمًا ولا خاليًا من الصعوبات، فعادة ما يحدث ما يسمى "الانتكاس"، وهو تكرار تعاطي المواد أو القيام بالسلوك، محل الإدمان، بعد التوقف. وصحيح أن هذا الانتكاس قد يكون أمرًا شائعًا، لكنه لن يظل يحدث مدى الحياة، حيث يشير الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يحققون شفاءً من اضطراب الإدمان لمدة 5 سنوات، لا تزيد احتمالية انتكاسهم عن تلك الاحتمالية الموجودة بين عامة السكان.