دماء على قميص كيسنجر.. الإرث المظلم لعراب الدبلوماسية الأميركية
تاريخ النشر: 1st, December 2023 GMT
"هنري كيسنجر هو وزير الخارجية الأكثر تدميرا في العصر الحديث".
(بيرني ساندرز، عضو الكونغرس الأميركي والمنافس السابق على الترشح لانتخابات الرئاسة عن الحزب الديمقراطي (1))
في شتاء عام 1973، وبينما هدأت وتيرة المعارك في سيناء بين الجيش المصري وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وانشغل وزير الخارجية الأميركي "هنري كيسنجر" بمفاوضات وقف إطلاق النار بين الطرفيْن، وبمفاوضات رفع حظر النفط الذي فرضته السعودية ودول الخليج العربية على الدول الغربية؛ جاءته أنباء سعيدة من العاصمة النرويجية أوسلو.
بيد أن نبأ حصول كيسنجر على جائزة نوبل للسلام لعله أثار الدهشة، إن لم يكُن السخرية، في بقاع أخرى من العالم ارتبط فيها الرجل بسياسات هي أبعد ما يكون عن العدل والسلام. فلم تكُن دماء الزعيم الاشتراكي "سلفادور أليندي" قد جفَّت بَعْد في تشيلي بعد أن رعت واشنطن انقلابا عليه قبل أشهر أدى إلى تصفيته في سبتمبر/أيلول 1973 وتأسيس ديكتاتورية عسكرية دموية في البلاد، ولا دماء ثوار بنغلاديش الذين حاربتهم واشنطن بالتحالف مع باكستان قبل أن تُهزَم الأخيرة رغم الدعم الأميركي، ولا دماء المدنيين في كمبوديا الذين قصفهم الجيش الأميركي في خضم المعارك الأخيرة من حرب فيتنام، ولا دماء سكان إقليم تيمور الشرقية الذين دعمت واشنطن الحملة الدموية لنظام سوهارتو الإندونيسي ضدهم.
لقد سالت دماء كثيرة بسبب سياسات كيسنجر التي تُوصف بـ"الواقعية الشديدة"، ورغم تعالي أصوات كُتّاب ومفكرين كُثُر لمراجعة سيرة الرجل، بما في ذلك معارضوه من الأميركيين، فإنه نجح في الحفاظ على منزلة دبلوماسية منيعة حتى وفاته، ولعب دور المستشار لسلسلة طويلة من الرؤساء الأميركيين، كما أنه نال التقدير الرسمي الكافي بعد وفاته. أما ما دون الرسمي، فعلى الأرجح سيستمر السجال حيال سياساته ومدى أخلاقيتها سنوات طويلة.
من "هاينز" إلى "مِستر هنري""وقفت على التل ونظرت إلى الوادي في الأسفل حيث دُفِن جزء من صِباي. قُدنا السيارات ببطء، وتجاوزنا أشباح كل الرجال الذين عاشوا وماتوا في خضم كراهية السنوات الماضية".
(هنري كيسنجر واصفا مشاعره على الجبهة الألمانية وهو يقاتل مع الجيش الأميركي في القرية نفسها التي عاش فيها أجداده (2))
وُلِد "هاينز ألفرِد كيسنجر" عام 1923 لأسرة يهودية ألمانية في بافاريا، قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1938 حين لاح في الأُفُق خطر الهولوكوست. وصل هاينز إلى مدينة نيويورك على متن سفينة من لندن، وسرعان ما واجهت أسرته ظروفا اقتصادية عصيبة جعلته يعمل في صِباه في أحد المصانع. وقد التحق الفتى الألماني بمدرسة ثانوية في نيويورك، وتعلَّم اللغة الإنجليزية وإن احتفظ بلكنة بافارية لم تفارقه طيلة حياته. وفي عام 1943، حصل هنري على الجنسية الأميركية وهو ابن عشرين عاما، وبدأ من فوره خدمة بلده الجديد في خضم الحرب العالمية الثانية (3).
هنري كيسنجر أثناء دراسته في جامعة هارفارد عام 1950 (مواقع التواصل)بوصفه مواطنا أميركيا، جُنِّد كيسنجر في الجيش الأميركي أثناء الحرب، وقاتل على الجبهة الألمانية في بلده الأصلي ضد النظام النازي، وشارك في تحرير مُحتجزين من معسكرات الاعتقال النازية، كما خدم في الوحدات الاستخباراتية حيث لعبت معرفته بالألمانية دورا بارزا، وهي الفترة التي لقَّب نفسه فيها بـ"مِستر هنري"، لأنه اسم أميركي أكثر على حد وصفه. عاد هنري إلى وطنه بعد الحرب من أجل دراسة السياسة، ونجح في الالتحاق بجامعة هارفارد العريقة، ومكث فيها بين عامي 1947-1954 حتى أنهى الدراسة الجامعية والدكتوراه برسالة عن الدبلوماسي النمساوي المعروف "كليمنس فون مِترنيش"، صاحب الدور المُهِم في التسويات السياسية الأوروبية بعد سقوط نابليون في النصف الأول من القرن التاسع عشر (4).
شغل كيسنجر مباشرة مقعدا بين مُدرسي السياسة في الجامعة نفسها، لكن مسيرته الأكاديمية لم تمنعه من الانخراط في صُنع القرار، حيث أصبح في مطلع الستينيات مستشارا في إدارتَيْ الرئيسيْن جون كينيدي وليندون جونسون، ثم ترك المسار الأكاديمي برُمَّته حين عيَّنه الرئيس ريتشارد نيكسون مستشارا للأمن القومي عام 1969 ثم وزيرا للخارجية عام 1973 وحتى عام 1977. وعلى مدار سنواته في الإدارة الأميركية، كان كيسنجر في القلب من المفاوضات بين مصر وإسرائيل، وبين بلاده والنظام الشيوعي في الصين، وكذلك مع النظام الفيتنامي، من أجل إنهاء الصراعات العسكرية والسياسية بشروط مناسبة لواشنطن. لكنه كان حاضرا أيضا في اتخاذ قرارات بقصف المدنيين والإطاحة بحكومات ديمقراطية والقيام بحملات قمعية ضد شعوب كثيرة من أجل مصالح الولايات المتحدة (5).
تمحورت نظريات كيسنجر السياسية حول الواقعية التي تبنّاها منذ سنوات دراسته. وقد اعتقد بأن الولايات المتحدة هي القوة الحُرة الأهم في العالم، ومن ثمَّ عليها أن تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة إلى أقصى مدى ممكن، لما في ذلك من حماية للعالم الحر بحسب رأيه، دون النظر كثيرا إلى الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بحق الشعوب الأخرى في تقرير مصيرها بعيدا عن الهيمنة الأميركية. ولذا كان لزاما على الولايات المتحدة في نظره أن تنتصر في الحرب الباردة وتعزز موقعها الإستراتيجي ومكانتها بوصفها قوة كُبرى في العالم بأي ثمن (6).
شكَّل كيسنجر (يسار) علاقة وطيدة مع أنور السادات، وهو إطار حافظ على الاستقرار والمصالح الأميركية لعقود طويلة. (الفرنسية)اشتهر كيسنجر أثناء توليه المسؤولية في الخارجية الأميركية بالدبلوماسية المكوكية، حيث قام بجولات مُطوَّلة بين عواصم متعددة للتفاوض ونقل الرسائل بين الزعماء حتى يتحقق الهدف المرجو في أسرع وقت ممكن، تماما مثلما فعل أثناء مفاوضات وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر. ولعل ذلك الأسلوب قد قاد كيسنجر إلى النجاح في إنشاء إطار سياسي للشرق الأوسط في السبعينيات، لا سيَّما وقد شكَّل علاقة وطيدة مع الرئيس المصري حينئذ "أنور السادات"، وهو إطار حافظ على الاستقرار والمصالح الأميركية في المنطقة لعقود طويلة حتى اندلاع الثورات العربية عام 2011.
في السنوات الأخيرة قبل وفاته، عانى كيسنجر من مشكلات صحية، فكان يسمع بصعوبة ويرى بعين واحدة، وأجرى عمليات جراحية في قلبه، لكنه ظلَّ يُدلي بآرائه في الشأن العام ويتابع آخر المستجدات، وأشهرها تعليقه على الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة، حيث دعا إلى وقف الحرب وبدء التفاوض والعودة إلى حدود ما قبل فبراير/شباط 2022، ما اعتبره البعض قبولا بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم (7). ولم يكن غريبا هجوم بعض السياسيين الأوكرانيين عليه، وتعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وفاته قائلا: "كان رجلا حكيما وبعيد النظر"، ومُثنيا على دوره في الوصول إلى سياسة الوِفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (8). هذا ونعاه الرئيس الصيني "شي جينبينغ" في برقية إلى نظيره الأميركي، واصفا كيسنجر بأنه صديق طيب وقديم للشعب الصيني لدوره في فتح باب العلاقات بين بكين وواشنطن (9).
من تشيلي إلى بنغلاديش.. كيسنجر في مواجهة الشعوب"هناك قضايا أهم بكثير من أن تُترَك للناخب التشيلي كي يُقررها بنفسه".
(هنري كيسنجر قُبيَل فوز المرشح اليساري أليندي بانتخابات تشيلي عام 1970 (10))
هنري كيسنجر (يمين) مع الرئيس نيكسون (وكالات)بحسب الكاتبة الكندية "ناعومي كلاين"، بدأت واشنطن تتململ من انتشار حركات اليسار في أميركا الجنوبية منذ خمسينيات القرن العشرين، ولذا قررت الإدارات الأميركية المتعاقبة أن تسلك سياسة براغماتية دون أي اعتبار لحق الشعوب اللاتينية في تقرير مصيرها. وقد تبنَّى كيسنجر موقفا واضحا من اليسار اللاتيني بدعم الانقلابات العسكرية الدموية لحماية المصالح الأميركية (11). وفي اجتماع سري قبل الانتخابات الديمقراطية في تشيلي عام 1970، التي فاز بها المناضل اليساري "سلفادور أليندي"، قال كيسنجر صراحة إنه لا يفهم سبب وقوف الولايات المتحدة موقف المتفرج أمام دولة في جوارها وهي تتحوَّل إلى الشيوعية نتيجة عدم وعي شعبها (12).
وقد كشفت وثائق الأرشيف الوطني الأميركي فيما بعد عن الضغط الذي قام به كيسنجر على رئيس الولايات المتحدة آنذاك ريتشارد نيكسون كي يُطيح برئيس تشيلي اليساري المُنتخب ديمقراطيا، وتقديمه المساعدة عبر وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لتنفيذ انقلاب عسكري عليه عام 1973. ولعب كيسنجر دورا مركزيا كذلك في دعم الديكتاتور العسكري "أوغستو بينوشيه" في تشيلي، الذي صُنِّف فيما بعد بأنه واحد من أكثر الحُكام دموية في القرن العشرين (13).
وقد أورد الصحافي "كريستوفر هيتشنز" في كتابه "محاكمة هنري كيسنجر" شهادات ودلائل تشير إلى أن كيسنجر جهَّز لمُخطَّط الانقلاب، الذي لم يكن قائما على الدعم المادي للجماعات اليمينية وضباط الجيش من كارهي أليندي فحسب، وإنما تضمَّن أيضا التخطيط لعمليات اختطاف وإثارة أحداث عنف في تشيلي (14). وبعد 5 أيام من انقلاب بينوشيه كانت هناك محادثة بين كيسنجر ونيكسون اندهش فيها الأول من أن الصحف ترثي الحكومة اليسارية المُطاح بها في تشيلي، بدلا من التعامل معه هو ونيكسون باعتبارهما بطلين. وجدير بالذكر أن نتائج هذا الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة ووزير خارجيتها ومخابراتها، إذا ما اختصرناها، كانت آلاف القتلى والمُعتقلين والمنفيين من شعب تشيلي، ورغم كل العواقب التي تلت الانقلاب، كتب عنه كيسنجر فيما بعد قائلا إن الجيش التشيلي أنقذ البلد من نظام شمولي، وفي الوقت نفسه أنقذ الولايات المتحدة من عدو محتمل (15).
دعم كيسنجر الرئيس الباكستاني يحيى خان ونظامه في حملته القمعية على ما أسمته حركة التمرد عام 1971 (مواقع التواصل)أما في بنغلاديش (شرق باكستان حينئذ)، فبعدما فازت رابطة "عوامي" البنغالية بالأغلبية في انتخابات عام 1970، رفض الرئيس الباكستاني يحيى خان والنخبة العسكرية في البلاد السماح للفائزين بتشكيل الحكومة خوفا من أن تطبق برنامجا يهدف إلى انفصال باكستان الشرقية وتحويلها إلى دولة بنغلاديش. وقد دعم كيسنجر الحكومة الباكستانية في حملتها القمعية على ما سمّته حركة التمرد عام 1971، حتى تدخَّلت الهند عسكريا لصالح البِنغال وحصلت بنغلاديش على استقلالها. وقد شملت الحملة الباكستانية آنذاك انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، واستهدفت المثقفين والطلاب وأساتذة الجامعات والكُتّاب ذوي النزعة البنغالية، بدعم كامل من واشنطن وكيسنجر بالتحديد، الذي حمل كراهية شديدة لرئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي بسبب تحالفها الوثيق مع الاتحاد السوفيتي (16) (17).
وتُظهر الوثائق أن كيسنجر كان على علم بالممارسات ضد البنغال في شرق باكستان، ومع ذلك واصل دعمه للنخبة العسكرية في البلاج، حيث رأى فيها سدًّا منيعا في مواجهة التمدُّد الشيوعي الذي شكَّل الهاجس الأساسي للسياسة الأميركية حتى نهاية الثمانينيات. كما قاوم كسينجر أيَّ دعوة للتوقف عن مدِّ باكستان بالأسلحة الأميركية أثناء حملتها، وبذل جهده كي يُقنِع البيت الأبيض ألا يضغط على يحيى خان ونظامه. هذا وسحب كيسنجر القنصل العام الأميركي في مدينة دكا عاصمة بنغلاديش بسبب اعتراضه على السياسة الأميركية آنذاك (18) (19).
علاوة على ذلك، أعطى كيسنجر العسكريين في الأرجنتين الضوء الأخضر لشن حملة قمع واسعة ضد اليساريين عام 1976، مُطمئنا إياهم بأن الولايات المتحدة لن تمارس حملات ضغط من أجل حقوق الإنسان إذا نفَّذوا سياساتهم القمعية (20). وقد أدت الحملة إلى مقتل نحو 30 ألف شخص، وعُرفت فيما بعد باسم "الحرب القذرة" (Dirty War)، وعكف كيسنجر على تزويد النظام الأرجنتيني بالمساعدات الأمنية حينذاك (21).
كمبوديا وتيمور الشرقية.. دماء تلاحق كيسنجر"ما هو غير قانوني، ننفذه فورا، أما غير الدستوري فيأخذ وقتا أطول."
(هنري كيسنجر (22))
بعد مكالمة من الرئيس نيكسون، أشرف كيسنجر على ضرب كمبوديا، بالتزامن مع بدء المفاوضات التي حصل بفضلها على جائزة نوبل للسلام. (مواقع التواصل)واحدة من أشهر البقاع التي سالت فيها الدماء بسبب سياسات كيسنجر هي كمبوديا، إذ كان الرجل هو العقل المدبر لخطة قصف أهداف عشوائية في مناطق مأهولة بالسكان هناك بغية تحسين الموقف الإستراتيجي للولايات المتحدة في التفاوض مع النظام الفيتنامي قبل الانسحاب، وذلك بحرمان النظام الفيتنامي من الملاذات الآمنة وخطوط الإمداد التي تمتَّع بها في كمبوديا (23). وبعد مكالمة من الرئيس نيكسون طلب فيها حملة تضرب كل شيء يتحرك على الأرض، أشرف كيسنجر على ضرب كمبوديا، بالتزامن مع بدء المفاوضات التي حصل الرجل بفضلها للمفارقة على جائزة نوبل للسلام. وقد أعطى كيسنجر الموافقة على غارات جوية فاق عددها 3000 غارة عامي 1969 و1970، وبلغ ضحاياها نحو 600 ألف مدني في كمبوديا و300 ألف مدني في لاوس، بحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش" (24) (25).
تشير مذكرات القادة في الولايات المتحدة آنذاك إلى انخراط كيسنجر في العملية، فقد تولَّى مهمة إبعاد الأخبار الحقيقية القادمة من أرض المعركة عن الصحافة الأميركية، وكانت هيئة الأركان تقدم له الأهداف التي ستضربها وتأخذ الموافقة منه (26) (27). وفي هذا الصدد يذكر كتاب "محاكمة هنري كيسنجر" أنه أدار العملية إدارة دقيقة، وهو ما يؤكده في مذكراته أيضا. وفي تحقيق موسع لموقع "ذا إنترسِبت" نُشر في مايو/أيار 2023، كشفت الوثائق أن سياسات الإدارة الأميركية شملت إحراق القرى وقتل المدنيين وتشويههم في كمبوديا (28) (29).
إلى الجنوب من فيتنام قليلا، حيث انشغل النظام في إندونيسيا بقيادة سوهارتو بمحاربة إقليم تيمور الشرقية، أشرف كيسنجر مرة أخرى على حملة الجيش الإندونيسي ضد الإقليم عام 1975 خوفا من الحكومة اليسارية الموجودة فيه. وقد طلب الرجل من رجال النظام هناك أن ينتظروا عودته مع الرئيس فورد إلى الولايات المتحدة من زيارة إلى جاكارتا قبل أن يبدأوا في العملية، كي يتجنَّبوا إظهار الأمر وكأنه يحظى بمباركة أميركية رسمية. وقد أسفرت حملة الجيش هناك عن مقتل أكثر من 100 ألف من سكان الإقليم. كان كيسنجر على دراية كاملة بالانتهاكات التي ارتكبها سوهارتو في تيمور الشرقية باستخدام السلاح الأميركي (30).
على مدار عقود، رفض كيسنجر التعليق بجدية على الاتهامات المنسوبة إليه بأنه مجرم حرب، وبعد أن بلغ عامه المئة قبل أشهر من وفاته، بدا الرجل مُصِرًّا على أن ما فعله أثناء توليه ملف السياسة الخارجية في الإدارة الأميركية كان صائبا، حيث قال إن الإجراءات التي أشرف عليها كانت ضرورية في هذا التوقيت أثناء الحرب الباردة، وإن كل الإدارات الأميركية من قبله تعاملت مع خصوم الولايات المتحدة المحتملين بالشكل نفسه، ومن ثم فهو لا يشعر بالندم على ما فعل (31).
رغم الجدل الدائر والاتهامات التي تلاحقه منذ سبعينيات القرن الماضي، نجح كيسنجر في الاحتفاظ بمكانة كبيرة باعتباره الدبلوماسي الأهم والأثقل في تاريخ الولايات المتحدة. فقد ظل يُكرَّم في مناسبات عدة من الإدارات المتعاقبة، وآخرها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. ولا شك أن سيرة الرجل الدبلوماسية من منظور الدولة الأميركية ومصالحها الوطنية والعالمية سيرة برَّاقة، حيث لعب دورا محوريا في خروج بلاده منتصرة من الحرب الباردة، وفي حماية مصالحها في مناطق عديدة حول العالم. بيد أن التصوُّر الواقعي الرائج بين السياسيين وصناع القرار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الذي اعتنقه كيسنجر نفسه، يظل جزءا من التقدير الذي يحظى به الرجل حتى عند بعض خصومه. أما المفكرون الأكثر مثالية، والحريصون على البُعد الأخلاقي في السياسة، فما زال كيسنجر بالنسبة لهم رجلا كان جديرا بأن يُحاكم على جرائم الحرب التي ارتُكِبَت تحت ناظريه.
للمفارقة، كانت تلك هي الحالة الجدلية نفسها التي أحاطت بـ"أوبنهايمر" بعد عرض الفيلم الأخير عن دور الرجل في صناعة القنبلة النووية الأميركية، بين مَن أشادوا بدور الرجل الوطني وقالوا إن المهمة التي تصدَّر لها كان ليقبلها غيره في أي بلد آخر، ومَن قالوا إن البُعد غير الأخلاقي لمآلات ما صنعه تظل حُجة عليه. في حالة كيسنجر بالطبع لا يقتصر الأمر على عالم أو موظف أنتج اختراعا أو صنع قنبلة، فهو رجل عرف السياسة بكل أوجهها لاجئا وجنديا وأستاذا وسياسيا.
لطالما رأى كيسنجر أن الولايات المتحدة ومصالحها مظلة للعالم الحر، الذي قرَّر الانتماء له في صباه رغما عنه بعد أن فرَّ من بلاده. ليس غريبا أن عددا ممن فروا من النظام النازي في الثلاثينيات والأربعينيات وانتقلوا إلى الولايات المتحدة قد أثَّروا في النظرية الواقعية الكلاسيكية للعلاقات الدولية، التي رجَّحت أهمية موازين القوة على المُثُل والمبادئ. لقد رسَّخت التجربة الألمانية في هؤلاء تقليلا من أهمية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، على خلفية انجرار الشعب الألماني خلف هِتلر نتيجة التأثُّر بالدعاية النازية، وكذلك رسَّخت تقديرا مُبالغا فيه للقوة الأميركية ودورها في حماية الشعوب من النظم الشيوعية، التي رأوا فيها شبح الديكتاتورية الشمولية. غير أن هنري كيسنجر أخذ خطوة أبعد من رفاقه المفكرين القادمين من ألمانيا، وتبوَّأ موقعا سياسيا صنع منه قرارات أسالت الدماء في بلاد يصعُب اليوم أن يرى شعوبها في واشنطن مظلة للعالم الحر.
_______________________
المصادر
صاحب رؤية سياسية أم داعية حرب؟ هنري كيسنجر يدخل قرنَه الثاني. Walter Isaacson. Kissinger: A Biography. Henry Kissinger. Walter Isaacson. Kissinger: A Biography. The Obama administration is honoring Henry Kissinger today. It shouldn’t be. The Legacy of Henry Kissinger. Kissinger Calls for Negotiated Peace in Ukraine, Kyiv Dismisses Proposal. Russia’s Putin praises Henry Kissinger as wise and pragmatic statesman. Xi sends condolences to Biden over Kissinger’s death. Henry Kissinger, the Hypocrite. نعومي كلاين، كتاب عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث. Henry Kissinger Is a Disgusting War Criminal. And the Rot Goes Deeper Than Him. صاحب رؤية سياسية أم داعية حرب؟ هنري كيسنجر يدخل قرنَه الثاني. Christopher Hitchens. The Trial of Henry Kissinger. Arrest Kissinger! Henry Kissinger: Good or Evil? Is Henry Kissinger a War Criminal? المصدر السابق. The Obama administration is honoring Henry Kissinger today. It shouldn’t be. المصدر السابق. Does Henry Kissinger Have a Conscience? Henry Kissinger Is Dead at 100; Shaped the Nation’s Cold War History. The Obama administration is honoring Henry Kissinger today. It shouldn’t be. Is Henry Kissinger a War Criminal? Blood on His Hands. Is Henry Kissinger a War Criminal? Henry Kissinger at 100. Christopher Hitchens. The Trial of Henry Kissinger. Blood on His Hands. Ford, Kissinger, and the Indonesian Invasion, 1975-76. Henry Kissinger at 100.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: على جائزة نوبل للسلام الولایات المتحدة الجیش الأمیرکی الأمیرکی فی هنری کیسنجر فی کمبودیا کیسنجر على کیسنجر فی فیما بعد فی تشیلی ل کیسنجر التی ت من أجل
إقرأ أيضاً:
أستاذ علوم سياسية: على العالم التدخل لإنقاذ حالة التجويع التي تشهدها غزة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور عماد البشتاوي أستاذ العلوم السياسية، إن الأوضاع المأساوية في قطاع غزة تتفاقم بشكل كبير، مؤكداً أن المسؤولية تقع على عاتق الجميع.
وأوضح أن "كلما طال الوقت، زادت إسرائيل من إجراءات الحصار والتجويع"، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري وعدم ترك الأمور تحت سيطرة إسرائيل التي تتحكم في دخول الماء والغذاء والدواء للشعب الفلسطيني.
وأضاف البشتاوي، خلال مداخلة هاتفية على فضائية "القاهرة الإخبارية"، أن قطاع غزة يمر بحالة تجويع غير مسبوقة في التاريخ، مشيراً إلى أن إسرائيل تشن حرباً على شعب أعزل لا يمتلك حتى قوت يومه، مما يجعلها تتهرب من كافة التزاماتها القانونية والسياسية والأخلاقية.
وشدد البشتاوي على ضرورة تحرك المجتمع الدولي قائلاً: "من المؤسف أن يقف العالم متفرجاً وصامتاً أمام ما يحدث من تجويع وتدمير ممنهج في غزة".
وأكد أن الأمم المتحدة والدول الكبرى، خاصة الإقليمية والولايات المتحدة، عليها دور كبير في التدخل. كما أشار إلى أنه لا يوجد أي مبرر يمنع الولايات المتحدة من التحرك الإنساني لوقف القتل والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.