خطبتا الجمعة بالحرمين: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ سيفضح الله فيه ما يخفيه الانسان من آثام.. والألم يعقبه أمل
تاريخ النشر: 1st, December 2023 GMT
ألقى الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله -عز وجل- في السر العلن.
وقال فضيلته: إن من الأمور الهائلة التي ستكون يوم القيامة أن يصير السِّرُّ عَلَانِيَة وَالْمَكْنُونُ مَشْهُورًا، كما أخبرنا الله تعالى عن ذلك في كتابه فقال: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ فتُختبر الضمائر وتُكشف الأسرار وتُعْرَف العقائد والنيات الصَّالحة من الفاسدة والسَّليمة من المَعِيْبة وتُكْشَفُ بَواطِنُ الأمور.
وأضاف الشيخ غزاوي: يوم القيامة يَظهر ما كان في القلوب من خيرٍ وشرٍّ على صفحاتِ الوجوه: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوه وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قال ابن القيم -رحمه الله-: “فمَنْ كانت سَرِيرتُه صالحة كان عَمَلُه صالحًا؛ فتبدو سريرتُه على وجهه نورًا وإشراقًا وحسنًا، ومَنْ كانت سريرتُه فاسدة كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظُلمة وشَينًا”.
وأوضح أن الواجب علينا أن نستشعر عظمة ذلك الموقف الجليل الذي نعرض فيه للحساب، وتظهر فيه الخفايا والخبايا ﴿يَومَئذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾. إنه العرض على عالِم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أمورنا، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر.. قَال تَعالى: ﴿هُنالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ﴾، وقال سبحانه ﴿أفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما في القُبُورِ وَحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ﴾. فإلى كل من أيقن أن الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، تدارك أمرك من الآن، واحذر الغفلة والعصيان، واقبل الرشد والنصيحة، واعمل على ترك ما يوجب العار والفضيحة، يوم تكشف السجلات، وتنشر الصحيفات، ولا يبقى فيه شيء مستور، بل يحصل ما في الصدور.
و﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ إنها موعظة بليغة لكل غادر؛ إذ سيُعلم غدًا نتيجة عملِه بظهور سريرته وافتضاح أمره، فقد صح عنه ﷺ أنه قَالَ: “يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِه يُقَالُ: هَذِه غَدْرَة فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ”.
و﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ إنها أعظـم زاجـرٍ وأبلـغ موعظـة لكل من اغتر بسِتر الله وحلمه، ممن أقام على ذنوب الخلوات فاستوجب مقت رب البريات، ولم يستشعر ذلك اليوم الذي تكشف فيه الأسرار، وتهتك الأستار، فيا مَن سترك الله حال الخلوات ولم يفضحك لا تغفل، واحذر عبد الله من استمراء المعاصي بإطلاق بصرِك في مشاهدة القبائح والمنكرات، والاسترسال في الباطل بإصغاء سمعك للمحرمات، وتذكَّر أن سريرتك التي لا يطّلع عليها أحد الآن إلا الله سينكشف الحُجب عنها يومًا ما، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تِهامة بيضًا، فيجعلُها الله -عز وجل- هباءً منثورًا”. قال ثوبان رضي الله عنه: “يا رسولَ الله، صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألا نكونَ منهم ونحن لا نعلم”. قال: “أَمَا إنهم إخوانُكم، ومن جِلْدتِكم، ويَأخُذُون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها”.
و﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ يا لها من موقظة مذكرة، تكشف حال من كان ديدنه الغشَّ والمكرَ والخديعة.. وسوف يظهر عواره يوم الخزي والفضيحة كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: “من غشَّنا فليسَ منَّا، والمَكرُ والخِداعُ في النَّارِ”. فهو تَهْديدٌ ووعيد لِمَن تَمادَى في الغِشِّ، ألا وإن المَكْرَ والخِداعَ من أنْواعِ الغِشِّ يُؤَدِّيانِ بصاحِبِهما إلى النارِ.
و﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ فيا ويح كل منافق ومراءٍ يُظهر خلاف ما يُخفي ويُسِرُّ، فأكبر مصيبة تنزل به وأخطر ما يدهمه حين ينكشف أمره عندما يَلْقَى ربَّه يوم القيامة، وتبلى السرائر: أي تخرُج مخبَّآتُها وتظهر، فلا يستطيع العبد حينها سترَ ما بدا من سيئاته، وما كان يُضمر من خبث نياته.. قال تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّه وَهُو مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾. وكَفى بِهَذِه الآيَة ناعِيَة عَلى النّاسِ ما هم عَلَيْه مِن قِلَّة الحَياءِ والخَشْيَة مِن رَبِّهِمْ أنَّهم في حَضْرَتِه لا سُتْرَة ولا غَفْلَة ولا غَيْبَةَ، ولَيْسَ إلّا الكَشْفُ الصَّرِيحُ والِافْتِضاحُ، وهو سبحانه مُطَّلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم.. ويوم القيامة ستظهر أعمالهم، وتنكشف أسرارهم ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّه مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ أَيْ: ظَاهِرُونَ بَادُونَ كُلُّهُمْ، لَا شَيْءَ يُكِنُّهُمْ وَلَا يُظِلُّهُمْ وَلَا يَسْتُرُهُمْ، وَالْجَمِيعُ فِي عِلْمِ الله عَلَى السَّوَاءِ.
وبيّن الدكتور الغزاوي أن الله أمر عباده بأن يتركوا ما ظهر من الآثام وما استتر كما جاء في قوله عز وجل: ﴿وَذَرُوا۟ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَه إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَیُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُوا۟ یَقۡتَرِفُونَ﴾، ففيه النَّهْي عَنِ الإثْمِ مَعَ بَيانِ أنَّه لا يخرجه من معنى الإثم بِسَبَبِ إخْفائِه وكِتْمانِهِ. والمراد بالإثم في الآية: جميع المعاصي التي تُؤثِّم العبد، أي: توقعه في الإثم والحرج. ومع الأمر الأكيد في ترك جميع المحرمات، والوعيد الشديد لكاسبي الإثم، إلا أن كثيرًا من الناس تَخفى عليه كثير من المعاصي، وخصوصًا معاصي القلب، كالكبر والعُجب والرياء والحسد والغل والحرصِ على الشُّهرة والظُّهور وإرادَة السَّوْءِ لِلْمُسْلِمِينَ، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يُحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة في الدين. ومما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: “أوصيك بتقوى الله تعالى في سِرِّ أمرِك وعلانيته”. وقال بلال بن سعد -رحمه الله-: “لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السريرة”.
وقال فضيلته إن من الناس من يخشى من اطلاع الناس عليه حال المعصية، ويجعل ربه أهون الناظرين إليه، مع أنه سيُحاسب عن كل ما أسرَّه وأخفاه، وما أظهره وأبداه، والله جل جلاله أحقُّ بالخوف والخشية.. قال ابن الأعرابي -رحمه الله-: “أخسرُ الخاسرين مَن أبدى للناسِ صالح أعماله، وبارَز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد”. وقال بعض العلماء: “وقد يُخفي الإنسان ما لا يرضاه الله عز وجل، فيُظهِره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، ويُنطِق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جوابًا لكلِّ ما أخفى من الذنوب؛ وذلك ليَعلم الناس أن هناك مَن يُجازي على الزلل”.
وأردف إمام وخطيب المسجد الحرام يقول: وأما المؤمن فيحرص على إخلاص العمل لله، ومراقبة مولاه، ويخشى من سوء العاقبة.. فعن ابن أبي مليكة -رحمه الله- قال: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلُّهم يخاف النفاق على نفسه”. وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: ما خافه (أي النفاق) إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. وعن عكرمة بن عمار -رحمه الله- قال: جزع محمّد بن المنكدر عند الموت فقيل له: تجزع؟! فقال: أخشى آية من كتاب الله تعالى ﴿وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّه ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسب”.
وهكذا يكون المؤمن، دائم الإجلال والتعظيم لربه المطلع على ضميره وباطنه، القريبِ منه في جميع أحواله، كما قال عز وجل ﴿ونحنُ أقرب إليه من حبل الوريد﴾، فيستحيي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره.
* وفي المدينة المنورة أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي المسلمين بتقوى الله -عز وجل.- وقال فضيلته: خلق الله الإنسان متقلب الأطوار، ينبض بالإحساس، ويفيض بالمشاعر، يتألم ويسكن، ويضعف ويعجز، ويخاف ويأمن، تعصف به مراحل الحياة في جراحاته وآلامه، وفي مواقف القهر والظلم، والخسارة والحرمان، والفقد والوجد؛ إنها سنة الله في خلقه، وطلب العيش بلا ألم طلب محال كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنسان فِي كَبَدٍ}، وهو سبحانه من يقدر الضر والنفع، وما يصيب المرء من الآلام الحسية فيها والنفسية، بل العضوية، دليل على أن هذه الدنيا دار ابتلاء؛ قال تعالى {وَتِلْكَ الْأيام نُدَاولهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
وبين الشيخ الثبيتي أن الألم يوقظ من الغفلة، ويعرف بالنعمة، ويرشد الحيران، رحمة من الله قد تغيب عنا حكمتها؛ فكم من ألم مرض عضال غيّر مجرى الحياة، وكم من ألم نبه وأرشد إلى مرض صامت ينخر في الجسم وصاحبه لا يدري. مرارة الألم تذيقك حلاوة الصحة وطعم الراحة وأنس العافية؛ فالألم نعمة تستحق الشكر، ومهما امتد فإنه زائل، ومهما طال فإنه ماض، ومهما اشتدت حرارته فإنه إلى أفول، ويعقبه فرج وخير وتمكين. يوسف عليه السلام تآمر إخوته عليه، وألقوه في الجب، وراودته امرأة العزيز، وكادت له النسوة، ودخل السجن، ثم أعقب سنين المعاناة نصرًا وتمكينًا وعزًا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكر به الماكرون في كل خطوة من خطوات حياته، وكاد له الكائدون في كل مرحلة من مراحل سيرته؛ حتى قال: “أوذيت في الله وما يؤذى أحد”، فماذا كان بعد؟ لقد ذهب المكر وأهله، والكيد وجنده، إلى مزبلة التاريخ، وتلاشى، وبقيت دعوته ورسالته وأمته يزهو بريقها، ويمتد إشعاعها، ويتعاظم أثرها، وتشتد جذورها.
وأوضح أن المسلم يعلم يقينًا أن الألم يعقبه أمل، وفي ردهاته غنيمة، وعاقبته حميدة، والخير الآجل لا يبصره المرء في حينه، والصبر على لأوائه يفجّر سيلاً من الحسنات.. كم من الهموم والغموم التي تخيّم على حياتنا ثم تنقشع بفجر صادق ويوم مشرق. وهناك عاقبة متحققة في دار خلودها دائم، ونعيمها قائم، هي عزاء لكل متألم، وعوض لكل مغبون؛ حتى إنه ليغمس في الجنة غمسة واحدة فيقال له: “هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط”.
وبيّن فضيلته أن الناس مع الألم أصناف يتفاوتون على قدر إيمانهم ويقينهم وعزمهم وقوة إرادتهم؛ فمنهم من يفقد توازنه، وتهتز قواه، وتخور عزيمته، وتسلب إرادته، ويتسلط عليه الوهم والخوف، ويغدو يائسًا بائسًا.. ومن الناس من تمده عقيدته بالثبات، ويغذيه إيمانه بالصبر، فيجعل من الألم أملاً، ومن الحزن فرحًا، ومن الضعف قوة.. ومع كل ذلك؛ فإن المسلم المهتدي يفقه وجوب مدافعة الألم ورفعه بالوقاية أولاً من أسبابه، وبتحصين نفسه من مباشرة الفتن الموجعة، ومقاربة الأخطار المحدقة، وذلك بالذكر والدعاء والتضرع إلى الله، والتداوي وفعل الخير والإحسان.
وأشار فضيلته إلى أن في حياة المسلم ألمًا محمودًا يدفع إلى العمل، ويهذب السلوك، ويقوّم السير.. ومن الألم المحمود ما يورثه الغضب لله تعالى حين تمتهن شعائر الله، ويستهان بحرمات الله. موضحًا أن الشأن في المسلم أنه يشعر بآلام الموجوعين؛ فيشاطر المرضى آلامهم بزيارتهم ومواساهم، وتسلية المتوجع، وإدخال السرور عليهم، وتذكيرهم بالأجر والصبر.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: نشيد هنا بالحملة المباركة التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- بالتبرع لدعم المحتاجين في غزة عبر القنوات الرسمية، والتجاوب الكبير من أبناء وطن معطاء، يبذل بسخاء، وقد أتت أكلها، ووصلت إلى مستحقيها، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية صلى الله علیه وسلم یوم القیامة ت ب ل ى الس رحمه الله قال تعالى عز وجل ن الله
إقرأ أيضاً:
لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها.. خطيب المسجد الحرام: اغتنموا أعماركم
قال الشيخ الدكتور ياسر بن راشد الدوسري، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إن الدنيا لا يدومُ نعيمُها، ولا تُؤمنُ فجائعُها، غرورٌ حائل، وسِنادٌ مائل، فاغتنموا أعماركُم في صالحِ الأعمالِ، فما أسرعَ ما تمضي الليالي والأيامُ.
لا تؤمن فجائعهاوأوضح “الدوسري” خلال خطبة اخر جمعة في رمضان من المسجد الحرام بمكة المكرمة ، أنه ما أعجلَ ما تتصرمُ الشهورُ والأعوامُ، والفرصُ تفوتُ، والأجلُ موقوتٌ، والإقامةُ محدودةٌ، والأيامُ معدودةٌ، وكلُّ شيءٍ بأجلٍ مسمَّى، وتزودوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى.
وأضاف أن الله تعالى شرعَ لنا صيامَ شهرِ رمضان، وجعلَهُ موسمًا لنزولِ الرحماتِ والغفران، ويُدعى أهلُ الصيامِ يومَ القيامةِ منْ بابِ الرَّيان، خيرُ مَنِ اعتكف وقامَ وصامَ- صلى الله وسلم وبارك عليه- وعلى آلهِ وأصحابهِ البررةِ الكرامِ، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ.
ونبه إلى أن شهر رمضانُ شارف على الارتحالِ، وقَرُبَ منَ الزوالِ، وأذِنَ بساعةِ الانتقالِ؛ فما أسرعَ خُطاه، وما أقصرَ مداه، بالأمسِ استقبلناه بفرحٍ واشتياقٍ، وها نحنُ نودعُه بدموعٍ تملأ المَآقِ، فيا منْ كنتم في سِباقٍ قد دنا موعدُ الفِراقِ.
وتابع: فمنْ كان محسنًا فيما مضى، فليُحسنْ فيما بقي، ومنْ كان مقصّرًا فالتوبةُ بابُها مفتوحٌ، وفضلُ الله على عبادهِ ممنوحٌ، وليُسارعْ إلى الطاعاتِ، وليُسابقْ إلى القُرباتِ، فالأعمالُ بالخواتيم، والعبرةُ بكمالِ النهاياتِ، لا بنقصِ البداياتِ.
قبل أن يغلق البابوأشار إلى أن السعيدُ مَنْ كتبَهُ اللهُ في عدادِ المقبولين، قبلَ أنْ يُغلقَ البابُ، ويُرفعَ الكتابُ، فتصيبَهُ نفحةٌ منْ تلكَ النفحاتِ، وينجو منَ النارِ وما فيها منَ اللفحات، فيا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، فإن لِلَّهِ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.
وأردف: فما أشدَّ الحسرةَ على منْ أدركَ رمضانَ ولم يُغفرْ له، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ”.
واستطرد: فراقبُوا قلوبَكُم وتفقدوهَا في ختامِ رمضان، فإنْ وجدْتُم فيها حنينًا للطاعةِ فاحمدوا اللهَ، فإنها علامةُ القَبولِ، وإنْ وجدْتُم فيها فتورًا وغفلةً، فاحزنوا على أنفسِكُم وابكوا عليها، وحاسِبُوا أنفسَكُم قبلَ أنْ تحاسبوا، منوهًا بأن منْ أماراتِ قَبولِ العملِ الصالحِ إيقاعَ الحسنةِ بعد الحسنةِ.
وواصل: والمداومةَ على الطاعةِ، فإنَّ الثباتَ على العبادةِ منْ سماتِ الأوابين، وصفاتِ المُنيبين، فإذا أذنَ الموسمُ بالرحيلِ، وباتَ يَعُدُّ أيامَهُ، ويقوِّضُ خيامَهُ، ثبتوا على العهدِ، ووَفَوا بالوعدِ.
حال المؤمنوأبان بأن هذا هو حالُ المؤمنِ كلما فرغَ منْ عبادةٍ أعقبَها بأخرى، امتثالًا لأمرِ ربهِ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، فالعبدُ ليس له منتَهى منْ صالحِ العمَلِ إلا بحلولِ الأجلِ، فالثباتَ الثباتَ تبلغُوا، والعمرُ قصيرٌ، والموعدُ قريبٌ.
وأفاد أن السعيدُ منِ اغتنمَ الحياةَ قبلَ المماتِ، فأحسنوا الخِتامَ، واجعلوا ما بقِيَ منه مطيّةً إلى الرضوان، واستحِثُّوا النفوسَ في المسرَى لتبلُغَ الجِنان، مشيرًا إلى أنَّ منْ توفيقِ اللهِ تعالى للعبدِ أنْ يخرجَ منْ رمضان بحالٍ أفضلَ مما دخلَ فيهِ.
وأكمل: فيودعهُ وقد خلصَ توحيدهُ، وزادَ إيمانهُ، وقوي يقينهُ، وزكتْ نفسهُ، واستقامتْ حالهُ، وصلحتْ أعمالهُ، وتهذبتْ أخلاقه، وكان َممنِ اتقى اللهَ حقَّ تقاته، مشيراً أنَّه منْ أجلِ الطاعاتِ، وأعظمِ القُرباتِ في ختامِ شهرِ رمضان؛ الدعاءَ، فهو ديدنُ المؤمنِ في السراءِ والضراءِ.
ولفت إلى أن الدعاءَ في ختامِ الأعمالِ سببٌ للقَبولِ، وهو سلاحُ المؤمنِ، وحبلٌ بين العبدِ وربهِ موصولٌ، والله كريمٌ جوادٌ وهو خيرُ مسؤول، وحث على التوبة، وحسن الظن بالله تعالى، والحمد على بلوغِ الختامِ، وسؤاله تعالى قَبولَ الصيامِ والقيامِ، والعزم على المُحافظةِ على الطاعاتِ ما بَقِيتُم، والبعدِ عنِ المعاصِي ماحييتم.
من تمام التوفيقوأكد أنَّ منْ تمامِ التوفيقِ والشكرِ، ومنْ أعظمِ ما يُختم به هذا الشهر؛ أداءَ زكاةِ الفطرِ، التي جعلَهَا اللهُ طُهرةً للصائمين، وطُعمةً للمساكين، وقُربةً لربِّ العالمين، فعنِ ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ المُسْلِمِينَ.
وبين أنها واجِبةٌ على القادرِ عن نفسِه وعمنْ يعُولُ، ويبدأُ وقتُها منْ غروبِ شمسِ آخِر يومٍ منْ رمضان، وينتهِي بصلاةِ العيدِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَات، كما يجوزُ إخراجُهَا قبلَ ذلكَ بيومٍ أو يومين.
وأوضح أن مِقدارُها: صاعٌ من طعامٍ منْ غالبِ قُوتِ البلد؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ"، فطيبوا بها نفسًا، وأخرجوهَا كاملةً غيرَ منقوصةٍ، واختارُوا أطيبَها وأنفَسَها وأنفعَها للفقراءِ.
ونوه بأنه يشرعُ التكبيرُ ليلةَ العيدِ وصَبيحَتَهُ، تعظيماً للهِ سبحانهُ وتعالى، وشكرًا لهُ على هدايتهِ وتوفيقهِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، مبينًا أنَّ صلاةَ العيدِ منْ شعائرِ الدِّين، فأدُّوها مع المُسلمين، واخرجوا إليها متطيِّبينَ متجمِّلين، ولأولادِكُم ونسائِكم مُصطحبينَ.
ويُسنُّ الأكلُ يومَ الفطرِ قبلَ الخروجِ لصلاةِ العيدِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا، وأتبعوا رمضانَ بصوم ستٍ من شوالٍ، فذلكَ صيامُ الدهرِ، كما أخبرَ سيدُ الأنامِ، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ".
ودعا إلى الالتزام بطريقَ الاستقامةِ، فلستُمْ بدارِ إقامةٍ، واعلموا أنَّهُ بهذا العمرِ اليسيرِ يُشترَى الخلودُ في الجنانِ، والبقاءُ الذي لا ينقطعُ بوعدِ الرحمن، ومَنْ فرَّطَ في حياتِهِ باءَ بالخسران، فعلى العاقلِ أنْ يعرفَ قدرَ عمرهِ، وأنْ ينظرَ لنفسهِ في أمرهِ، فالسعيدُ مَنْ عمرَ وقتَهُ باستصلاحِ آخرتِهِ.