بروفيل لـ هنري كيسنجر.. رجل سلام أم مجرم حرب
تاريخ النشر: 30th, November 2023 GMT
على مدار ما يقرب من عقد من الزمان، ترك هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي، الذي توفي عن عمر يناهز المائة عام، بصمة لا تمحى على الدبلوماسية الدولية.
ولد هاينز ألفريد كيسنجر في مدينة فورث البافارية في 27 مايو 1923، وكانت رحلته من لاجئ في زمن الحرب إلى واحد من أكثر الشخصيات نفوذا في السياسة العالمية شهادة على تعقيدات وتناقضات السياسة الواقعية.
الحياة المبكرة والأكاديمية
هربًا من صعود نظام هتلر عام 1938، لجأت عائلة كيسنجر إلى أمريكا، حيث أصبح هاينز الشاب هنري، محتفظًا إلى الأبد بلهجته الألمانية الثقيلة. بعد الخدمة في الجيش الأمريكي والمساهمة في إعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تابع كيسنجر دراسته الأكاديمية في جامعة هارفارد. أنذرت أطروحته للدكتوراه عام 1954 بمسيرة مهنية غارقة في الحنكة السياسية لشخصيات مثل كاسلريه ومترنيخ.
الصعود إلى الصدارة السياسية
جذبت براعة كيسنجر الفكرية الانتباه، مما دفعه إلى تقديم المشورة لسياسيين مثل نيلسون روكفلر. وقد دفعه كتابه الذي صدر عام 1957 بعنوان "الأسلحة النووية والسياسة الخارجية" إلى أنظار الجمهور. ومع ذلك، كان تعاونه مع الرئيس ريتشارد نيكسون هو الذي حدد إرثه السياسي.
دبلوماسية السياسة الواقعية
بصفته مستشارًا للأمن القومي ثم وزيرًا للخارجية في عهد نيكسون وجيرالد فورد من عام 1969 إلى عام 1977، دافع كيسنجر عن دبلوماسية السياسة الواقعية. ومن خلال موازنة ديناميكيات القوة خلال ذروة الحرب الباردة، تناول القضايا المعقدة في آسيا والاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط.
إنجازات مثيرة للجدل
ومع ذلك، فإن إرث كيسنجر يتسم بالإشادة والجدل. وكان تقاربه الرائد مع الصين في عام 1972 يتناقض بشكل حاد مع القصف السري لكمبوديا خلال حرب فيتنام. ولا تزال جائزة نوبل للسلام التي مُنحت عام 1973 لدوره في مفاوضات فيتنام موضع نقاش.
المناورات الجيوسياسية
كان كيسنجر، المعروف ب"دبلوماسيته المكوكية" بعد حرب أكتوبر واتفاقيات الحد من الأسلحة النووية مع الاتحاد السوفييتي، يسعى إلى استغلال الانقسام الصيني السوفييتي. وأثار دوره في الانقلاب العسكري الوحشي في تشيلي عام 1973 واللامبالاة بقضايا حقوق الإنسان انتقادات.
نيكسون-كيسنجر
كانت الشراكة مع الرئيس نيكسون مفيدة في تشكيل نجاحات كيسنجر وإخفاقاته. لقد خلقت تجربة نيكسون السياسية، إلى جانب فطنة كيسنجر الفكرية، تآزرًا فعالاً، حيث كان كلا الرجلين مدفوعين بالطموح والتقدير المشترك للسلطة.
مهنة ما بعد الحكومة
بعد ترك الحكومة، ظل كيسنجر شخصية معروفة عالميًا. أسس كيسنجر أسوشيتس في عام 1982، وقدم الاستشارات للشركات المتعددة الجنسيات وحافظ على علاقات وثيقة مع رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين. وكانت قائمة عملاء شركته الاستشارية، مثل دبلوماسيته، تتم بشكل سري.
الإرث
وباعتباره واقعيًا، فهم كيسنجر الفروق الدقيقة في التنازلات والتسويات في حماية المصالح الوطنية. شملت حياته وأوقاته عالماً متغيراً حيث احتلت قضايا مثل حقوق الإنسان وتغير المناخ مركز الصدارة، مما يشكل تحدياً للمبادئ التقليدية للسياسة الواقعية.
برحيل هنري كيسنجر، يتأمل العالم رجل دولة غامضاً ترك، في سعيه إلى السياسة الواقعية، تأثيراً دائماً على الجغرافيا السياسية العالمية.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
العراق وسوريا.. فرقت بينهما السياسة وجمع بينهما الفن والثقافة
آخر تحديث: 30 أبريل 2025 - 10:04 صبقلم:علي قاسم- كاتب سوري الانفتاح العراقي على سوريا شكّل مفاجأة للأوساط السياسية في المنطقة، ويجب أن نعترف أن ما حدث لم يكن متوقعا، حتى من أكثر المحللين تفاؤلا.الاعتقاد السائد في الأوساط السياسية أن رحيل بشار الأسد، حليف إيران، وصعود نظام جديد لا يخفي انتقاده للحكومة الإيرانية، التي يعتبرها شريكا لنظام الأسد في قمع الشعب السوري، سيعمّق الهوة بين سوريا والعراق، الحليف القوي لإيران. لكن، هذا ما يبدو على السطح، فالعلاقة بين العراق وسوريا أعمق من ذلك بكثير. وسقوط الأسد وحزب الله وضعف الموقف الإيراني من الأمور التي أزالت الحواجز وخلقت الظرف المناسب لعودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها. للمراقب عن بعد، تبدو العلاقة بين سوريا والعراق مليئة بالخلافات. هذه هي الصورة من الخارج. أما من الداخل، فإن التقارب بينهما لم تستطع سنوات حكم البعث في البلدين أن تخفيه، ولم تستطع عبارة “كل دول العالم ما عدا إسرائيل والعراق،” التي كانت تُختم على جواز السفر السوري، أن تفرّق بين مواطني الدولتين. تسلّلت إيران إلى العراق وسوريا من خلال حزب البعث مرتين؛ مرة عن طريق معاداته والدخول في حرب مدمرة معه في العراق، ومرة من خلال تأمين الحماية له وتثبيت نفوذه في سوريا. في سبعينات القرن الماضي، كنت طالبا أدرس الرسم في كلية الفنون الجميلة بدمشق. كانت جلساتنا الطلابية، حتى داخل مراسم الكلية، لا تخلو من الاستماع إلى الأغاني العراقية، مثل: “لا خبر” لفاضل عواد، وأيقونة الغناء العراقي “يا طيور الطايرة” لسعدون الجابر، وياس خضر الذي كان يسحرنا بأغانيه، “الهدلة” و”المحطة”. بالطبع، لن أنسى حسين نعمة وأغانيه الريفية العراقية، وأنوار عبدالوهاب، ورياض أحمد، وسيد المقامات العراقية دون منازع ناظم الغزالي. كطلاب، ندرس الفنون الجميلة، كنا نحرص على متابعة أخبار الفنانين العراقيين الذين تسيّدوا تلك المرحلة، والتعلم من تجاربهم، مثل: جواد سليم، صاحب جدارية نصب الحرية في بغداد، التي بقيت شاهدة على تاريخ العراق الحديث، وشاكر حسن آل سعيد، المفكر الفنان الذي ساهم في تطوير الفن الحديث في العراق والعالم العربي، ورائد الفن التعبيري في العراق إسماعيل الشيخلي، والنحات محمد غني حكمت، وعلاء بشير، الفنان الطبيب، وخالد الجادر، التشكيلي والأكاديمي الذي كان له دور كبير في نشر الفن العراقي على مستوى العالم. استطاع حافظ الأسد أن يختم جواز السفر السوري بعبارة تمنع زيارة السوريين للعراق، لكن العراق بقي في عقولنا وقلوبنا يحتل الصدارة، ولم تستطع أيّ قوة على الأرض أن تزحزحه. في قمة الخلافات بين النظامين عام 1979، عملت في شمال شرق سوريا، قريبا من الحدود العراقية. أتاحت لي تلك التجربة القصيرة فرصة التلمّس عن قرب لعمق العلاقات التي تربط سوريا بالعراق، التي تجاوزت الجغرافيا، لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية. عامل التفرقة الوحيد كان حزب البعث الذي حكم البلدين. بدأت القصة عام 1963، عندما وصل الحزب إلى السلطة في سوريا والعراق عبر انقلابين عسكريين، لكن سرعان ما بدأت الخلافات بين القيادات في البلدين، وانتهت بانقلاب شهدته سوريا عام 1966، أدى إلى انقسام البعث إلى جناحين، أحدهما في دمشق والآخر في بغداد. في عام 1978، جرت محاولة للصلح برعاية الرئيس العراقي أحمد حسن البكر والرئيس السوري حافظ الأسد عبر ميثاق العمل القومي المشترك، سرعان ما أُجهضت بوصول صدام حسين إلى السلطة في العراق عام 1979، وإعدام عدد من القيادات البعثية العراقية التي دعّمت الوحدة، فيما عُرف بـ”مجزرة الرفاق”. بعد عام، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، حيث دعّم خلالها نظام الأسد إيران ضد العراق، وهو ما أدى إلى قطيعة تامة بين البلدين. وذهبت حكومة الأسد أبعد من ذلك خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، ووقفت إلى جانب التحالف الدولي ضد العراق، مما زاد من حدة الخلافات. سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وفقدان حزب البعث العراقي للسلطة، لم ينهِ الخلافات، بل بقيت العلاقات بين سوريا والعراق متوترة حتى السنوات الأخيرة، حيث لعبت الأوضاع الأمنية والتدخلات الإقليمية دورا في تحديد طبيعة العلاقة بين البلدين. رغم الخلافات السياسية والأمنية بين البلدين، فإنها لم تلغِ حقيقة التقارب بين الشعبين، والأهم من ذلك الفرصة التي قد يمنحها التقارب لكلا البلدين. بزوال البعث، وضعف الموقف الإيراني، والتحولات الحاصلة على المستوى الدولي، باتت كل الظروف ممهدة لهذا التقارب. لم يكن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يغامر بمنصبه لرعاية هذا التقارب، أو يخشى غضب حكام طهران بعد أن نزعت أنيابهم ومخالبهم، وهو الذي يعلم بحكم التجربة والخبرة أن ما يجمع بين سوريا والعراق أقوى وأمتن بكثير مما يفرق بينهما. تريدون دليلا أكبر على العلاقة القوية التي تربط الشعب السوري بالشعب العراقي؟ إليكم واحدة: إنها قصة حب جمعت شاعر الغزل “الأموي” نزار قباني و”العباسية” بلقيس الراوي، عندما التقاها الشاعر عام 1962 لأول مرة في بغداد خلال مهرجان شعري، ليقع في الحب من النظرة الأولى. حاول التقدم لخطبتها، لكن والدها رفض بسبب سمعته كشاعر يتغزل بالنساء. رغم ذلك، استمر نزار في مراسلتها سرا لسنوات، حتى تدخل الرئيس العراقي أحمد حسن البكر عام 1969 لإقناع والدها بالموافقة على الزواج. عاشا معا 13 عاما إلى عام 1981، ليخطفها الموت في تفجير السفارة العراقية ببيروت، وهو الحدث الذي ترك أثرا عميقا في نفس نزار، ودفعه لكتابة واحدة من أجمل قصائده بعنوان “بلقيس”، قال فيها: “بلقيسُ.. كانتْ أجملَ الملكاتِ في تاريخِ بابلْ. بلقيسُ.. كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرضِ العراقْ. كانتْ إذا تمشي.. ترافقُها طواويسٌ.. وتتبعُها السحابْ..” وإذا نسي العالم كل ما كُتب من شعر في الغزل، فلن ينسى شطرا من الشعر يقول فيه نزار مخاطبا بلقيس: “أشهد أن لا امرأة إلا أنتِ.” ستون عاما من الخلافات السياسية بين العراق وسوريا لم تنجح يوما في زرع الفرقة والخلاف بين شعبين ارتبطا برباط الثقافة والحب.