لجريدة عمان:
2024-07-05@12:03:06 GMT

واستمرت دائرة المأساة في الحياة والفن

تاريخ النشر: 30th, November 2023 GMT

واستمرت دائرة المأساة في الحياة والفن

كان ذلك في الصف الأول، وربما قبل ذلك في محيط بيتنا الخارجي الذي يضم أطفالا في عمر الورد يلعبون بمواد الطبيعة، أو بما تبقى من دمية بقيت بعد عيد مرّ، حين جاد عليهم بعض الأقرباء بقروش، حين صدمت أول مرة بطفل يسطو على طفل آخر، بكلمة أو حركة، أو عبث بما ينشغل به ذلك الطفل من لعب في دائرته الصغيرة البريئة. وكل وما لديه من قصص الطفولة.

لم نكن نعلم أن هذا السلوك يعني اسمه التنمر، لكن ما إن كبرت وكبرنا، حتى بتّ أراه يتجلى لا بين الأطفال، بل الطلبة الأكبر سنا، فبعض المعلمين، وبعض الكبار في القرية، ثم بدأ وعينا على تنمر الاحتلال الصهيوني، كذلك، رحنا نسمع أخبار الحروب من المذياع، وسرعان ما صرنا نراها، لكن في كل ذلك لم تختف صدمتي ولا دهشتي بوجود عالم الشرور.

دخلت إلى قواميس وعينا كلمات الحرب والاحتلال والصراع والنزاع، ودوما كنت أفاجأ، وأقول: هل يعقل أن يحدث هذا؟ وإن حدث كيف يستمر؟

كبرت فلم تذهب قراءتي للتاريخ من جهة، ولأدبيات علم النفس من جهة أخرى شعوري بالصدمة، فهتفت: يا لعار الإنسان، يا للعيب، يا للحماقة!

أعجبني وأنا تحت العشرين ما قرأناه عن المذهب الكلاسيكي في التنفير من الشر، أو اصطلح عليه نقديا بـ «التطهر الكلاسيكي»، الذي واكب كتاباتي في النقد الروائي والمسرحي بشكل خاص. وأذكر أننا تعلمنا في آخر صف مدرسي شيئا عن المذاهب الأدبية: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية، حيث ظننت أن المذاهب أربعة، لكن يبدو أنها هي وما جاء بعدها قد توالدت بعضها من بعض، حتى وإن كانت تمردا عليها، كحال الرومانسية مع الكلاسيكية. ورغم أفول نجم الكلاسيكية، إلا أن «التطهر» وجد أشكالا من التجلي في كتابات تأثرت بمذاهب حديثة ومعاصرة.

في دراسة الأدب، والأدب من الحياة، نجد أمرين، ولعلهما من رسالة الأدب الإنسانية خاصة في ثنائية الخير والشرّ، قديما وحديثا، حتى في ظل الجدل المعاصر على هذا المضمون، والذي لم يختف بالطبع. أما الأمران فهما:

-الأول: ذكر أخبار الأولين سردا قصصيا وروائيا ومسرحيا، بما يحضر من حياة، منها ما يتعلق بهموم الإنسان ومآسيه، أفرادا وجماعات، وهنا يتجلى دور الأدب الإنساني.

-الثاني: ما نقرأه من تناص أدبي، وهو يتجلى في الشعر أكثر، حيث يستحضر المبدع ما حدث من قبل، أي أن هناك أفعال سابقة عاشتها الشعوب تشبه ما نعيشه الآن، والغريب والمؤلم، أن ذلك ظل يستمر.

والتناص هو كتابة نصّ اعتمادا على نص سابق، كأن تكون جملة على أخرى أو بيت شعر على بيت آخر، أو حديث نبوي أو آية قرآنية، أو مثل أو حكمة أو أي شكل كتابي منثور.

وهنا، أكانت المأساة قديمة أعيدت كتابتها، أو حديثة استدعت ما يشبهها، فإن السؤال العميق ليس الأدب بحد ذاته، بل الحياة، فكيف يستمر ذلك؟ كيف يعود؟ ألم يتعظ البشر من كل الدماء والآلام التي ذاقها من قبله؟

وبالرغم من أية مواعظ ونصائح إلا أن المأساة تتكرر، لدرجة أن مفكرا مثل كارل ماركس رأى نفسه ساخرا من تكرار المأساة، جاء ذلك في سياق ما قاله يوما بأن التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة.

وما زالت الأعمال الأدبية والفنية القديمة من قصص ولوحات ومنحوتات ومسرح، وما تلا ذلك من أفلام سينمائية باقية وتجد من يقبل على الاطلاع عليها، بعد أن اكتسبت صفة الخلود.

خلود الروائع، كم حاولت تفسير ذلك، وكل ما رشح في الذهن هو أن المأساة ظلت حاضرة، كأنها نذير للإنسان ألا يفعل ذلك من قبله، وأن يفعل ما يجنّب البشرية أهوالها، إلى أن درسنا مادة علم اجتماع اللغة والأدب في السنة الدراسية بكلية آداب طنطا بمصر، حيث قرأت شيئا عن ذلك. لكنني عدت إلى ذلك بعد عقد من السنوات، حين كتبت عن مأساة الغزيين في حرب الاحتلال الإسرائيلي عليها عام 2014، وعما حدث من قتل في خزاعة والشجاعية ورفح. ووقتها دفعتني الصور الفوتوغرافية التي تظهر صرخات المتألمين بأقصى اتساع للفم، للعودة إلى لوحتي جويا الثاني من أيار وجرنيكا لبيكاسو. عدت للمذكرة الجامعية أبحث عما قرأته، كما عدت إلى كتاب جمال قطب عن الحروب والفن.

حين عدت إلى كتاب علم اجتماع اللغة والأدب، وجدت أن من تحدث عن سر خلود الروائع هو كارل ماركس. لقد نحى ماركس في تفسير خلود الروائع منحى وجوديا، رغم تناقضه مع الوجوديين، حين جعل الخلود مصاحبا لعودة الشعور ثانية مع الإنسان الجديد الذي يعيش الحالات الشعورية الموجودة في الروائع. وهناك تتمة لذلك لمن يودّ التعمق في موضوع خلود الروائع. وكان اسم ماركس قد ارتبط بما أسسه من الفكر الاشتراكي والشيوعي.

- التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة.

- لم أتقبل مضمونها تماما قبل عقد من السنوات، حيث كنت مهموما ومهتما بالمآسي التي تصيبنا في فلسطين وبلدان العالم المختلفة.

- والآن؟

- والآن أرى أن كل متأمل، أكان مكتويا بنار المآسي، أو ممن يسمع عنها أو يراها، فإنه سيضع راحته على خده، أو راحتيه على كلا الخدين، وهو يحتسي قهوته الصباحية، سيجد نفسه ساخرا بما كان ويكون. لكنها سخرية عميقة من كل هؤلاء الطغاة والمستبدين، الذين لم يتعلموا من قراءة التاريخ، بل أصروا على الجريمة، بفرق بسيط لكنه أكثر تأثيرا، ألا وهو تكنولوجيا القتل المعاصرة، حين يتم ذلك عن بعد من خلال أزرار في طائرة تقتل المئات دون أن ترأف بهم.

لا زمن فرسان، لا زمن فارس يقاتل فارسا، بل زمن قتلة، فأية سخرية تلك التي نعيشها اليوم في العالم كله؟ والغريب أن ذلك يستمر، ولا يظهر فيما يبدو أنه لن يتكرر في أزمنة وأمكنة أخرى.

تلك هي رسالة الأدب والفن، وما أسماها من رسالة مقدسة إن كان منطلقها الإنسانية.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

جلسة حوارية تناقش القيم الفكرية والأدبية لفلسطين

نظم صالون مداد الثقافي جلسة حوارية بعنوان "فلسطين.. أبعاد فكرية وثقافية" استضاف فيها الدكتورة شفيقة وعيل، والشاعر أحمد العبري والكاتب علوي المشهور، في النادي الثقافي، وأدار الأمسية سالم الرحبي، بحضور عدد من الأدباء والمهتمين.

وأشارت الدكتورة شفيقة وعيل عن دور الأدب في تغذية الذاكرة الجماعية باللغة والكتابة في مواجهة الإبادة، بأن كل النظريات الأدبية تسقط في الظرف الذي نعيشه، ففلسطين هي القضية والعقيدة والإنسانية، ولا يستطيع الأدب أن يخفف عن فلسطين، فالظرف الذي نعيشه اليوم يحتاج قلبا يتجاوز الصدمة، وهذه ليست حربا وإنما إبادة مؤسس لها بسبق الإصرار والترصد.

مبينة أن التحدي الذي يرفع في مثل هذه الأزمات هو تحدي الجمالية وتحدي العقيدة، بأن تكون فلسطين جمالية أدبية وأن تكون عقيدة إنسانية ودينية ووطنية وقومية، وتضيف: أتوقع ألا يسقط الأدب في فخ الابتذال، وأن يرتفع بنفس مستوى فلسطين، لأن القضية كبيرة والوجع الإنساني كبير جدا، وعلى الأدب أن يكون فلسفة، والنظريات التي كانوا يصدرونها لأن نكون مفكرين عصريين، اكتشفنا اليوم أنها بميزانين، وأصبحنا نميز بين قيمنا وقيمهم، فقيمنا هي الحرية والعدالة والإنسانية.

وتطرقت وعيل إلى القضية الفلسطينية داخل الحرم الجامعي فتقول: عندما يكون هناك حراك عالمي فاعل نجد الطلاب في قلبه، وإذا فتحنا موضوع فلسطين في القاعات سنجد النفس باكيا، ونحن نتوجع لما يحصل في غزة، ومع الوقت نحاول أن نقلب الصفحات، ولم نعد أن تحمل أن نراه، والذي فعلته غزة أنها غيرت النموذج المعرفي الذي كان مفروضا علينا، لم يعد الفلاسفة الكبار هم الفلاسفة المعترف بهم، ولم تعد القيم الغربية هي القيم المركزية، الآن صار المركز فلسطين باختصار لما تمثله من هوية قيمية من عروبة في اللغة والتنوع المجتمعي حتى في الدين، وقد اجتمع العالم كله بأن فلسطين هي المركز.

أما الشاعر أحمد العبري فأوضح بأن الرمزية الدينية لفلسطين بالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فالقدسية تأسست قبل الإسلام في جناح هذا المسجد. والقضية لم تبدأ في عام 1948 وإنما بدأت منذ الاحتلال البريطاني بتدنيس المسجد الأقصى واستعمار القدس، وهناك قصيدة الشيخ راشد بن سعيد المعولي فيما يقارب ستين بيتا نشرت في مجلة الشباب بمصر عام 1937، تناولت أهمية هذا المسجد، وتدنيسه من قبل الاستعمار البريطاني، مضيفا بأن فلسطين قضية قدسية وعندما امتدت اليد للتفاوض لم يصلوا لشيء ففلسطين لكل المسلمين ولا يحق لنا أن نفرط بها.

وانتقل العبري للحديث عن قصائد محمود درويش الذي تأثر به الكثير من الطلاب شعريا، والشعراء الكبار تبنوا فلسطين وقدموا الكثير لها، ولكن تتطلب الكتابة ثراء معرفيا وفكريا وسياسيا للكتابة عنها، وفي الوقت الراهن نجد مجموعات الشعراء تجتمع حول قضايا يناقشونها شعريا، بعيدا عن القضايا الأصيلة كالقضية الفلسطينية، فهم يرضون دواخلهم، والبعض ينزوي في السنوات الأخيرة للكتابة عن ذاته ولا يشتغل بهذه القضايا التي أفسدتها السياسة لينأى بنفسه عنها، وهي تعود للوعي لأن فلسطين لو كانت مهمة للشاعر لكتب عنها.

أما الكاتب علوي المشهور فتطرق إلى المركزية السياسية على الصعيد العالمي، حيث القضية الفلسطينية انطلقت من العالم العربي إلى العالم ككل، وتاريخيا، لا يمكن فصل القضية الفلسطينية عن محيطها والأحداث السياسية المجاورة في مصر والعراق وسوريا والأردن في تلك الحقبة، فالكثير من المؤرخين لم يجدوا موقفا واحدا وواضحا وجادا لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية. كما أننا نجد على المستوى الخليجي من الأسباب ما ساهم في تشكل القوميين العرب في الخمسينيات، والطليعة التي تأثرت بالقضية الفلسطينية، وكانت دافعا لتسييس الشعوب، فالقضية الفلسطينية كانت قضية مركزية لكل العرب، فهي تقع في قلب البلدان العربية تربط بين الشرق والغرب، وفي قلب العالم القديم، لذلك كانت دائما مطمعا عالميا.

وعن المستعمرات في تاريخ كل دول العالم يوضح المشهور بأن الواقع يشير إلى وجود حركات مقاومة مسلحة فاعلة وهناك حراكات تقوم بعمليات، إلا أن الأنظمة السياسية تتجاهلها، وينشرون إعلاميا الجانب المشرق للغرب، ونجد ذلك في الرموز كغاندي في الهند ومانديلا في جنوب أفريقيا، وتم استبعاد المسلحين إعلاميا الذين قادوا الحراك والمفاوضات. فهي تحاول أن تفرض نموذجا تصدره ليكون شعورا عاما، ولذلك نجدهم يون بأن ما تقوم به إسرائيل لا يشار له بالعنف على الرغم من كل فظاعته ووحشيته، تحت شعار أنها تحاول الدفاع عن نفسها.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى ميلاده.. يحيى العلمي مخرج الروائع التلفزيونية (فيديو)
  • «الثقافة» تحتفي بتسعينية «حجازي» في بيت الشعر الأحد المقبل
  • في ذكرى ميلاده.. يحيى العلمي مخرج الروائع التلفزيونية
  • مكتبة محمد بن راشد تستضيف أمسية شعرية بعنوان «قصة وقصيدة» 11 يوليو الجاري
  • أمل الثقافة ودورها
  • جلسة حوارية تناقش القيم الفكرية والأدبية لفلسطين
  • 150 كاتباً من 50 دولة يشاركون في مهرجان الأدب الدولي في برلين
  • الأدب والفن والعمارة الإنسانية فى ضيافة اتحاد كتاب مصر
  • التفاعل المُعقَّد بين الأدب والعلم والنظام الرأسمالي
  • تركيا: اتخذنا موقفا مبدئيا منذ البداية ضد المأساة الإنسانية بسوريا