هل ينهض فِـيـنـيـقُ السُّـودان مـن رَمَـادِه؟

جمال محمد إبراهيم

(1)

 

في اللغة العربية، ووفق ما ورد في المعجـم الوســيط، ذاع قـولٌ بين الناس، أن الحربَ سِـجَالٌ، أي أنها صراعٌ محتدم ومتواصل بين متنافسين، تكون النصرة بينهما تداولاً وتبادلا. فهل هذه الحرب المحتـدمة حتى السّــاعـة في السّـودان، يا تُرى، حـرب مســاجـلة بيــن طـرفين، كلٌّ منهما يدّعي أنّ الحـقّ معه؟ وأجـيـبـك أنّ الحــربَ هــنـاك، وإنْ كانت سِـجالاً، هي محضُ كـرٍّ وفـرٍّ وتنافـس مُخـزٍ بين طرفين، كلاهما ليسا على حـقٍّ، بل قام صراعهما على باطـلٍ صُراح، أكلا منه سـوياً وتجـشآ سُــمّاً زعـافـا، تجرّعه شعب موعود بهلاكٍ إثر صراعٍ لا ناقة له في فيه ولا جمل.

حربَ السودان في طبيعتها العبثية هي مثل صراعات قبائل الجاهلية الأولى التي حكى عنها التاريخ القديم، مثل حرب داحس والغبـراء أو حرب البسوس، أو حتى في التاريخ الحديث، مثل حــرب الإبادة الجماعية بيــن “التوتسـي” و”الهــوتو” في روانــدا، أو مثل مجــازر الصّرب في يوغسلافيا السابقة. تلك أمثلة مخزية في تاريخ البشرية.

 

(2)

 

حسبنا في غـفـلة مغتفـرة أنّ حرب السودان، في بداياتها الأولى، منافسة بين جنرالين حول كيف تدار البلاد في فترة انتقالية إثر ســقوط نظـــام الإنقـاذ الذي عَـمّـر، أو بالأصحّ، دمّـر البلاد – حقبة امتدت 30 عاماً. لم يهنأ السودان منذ نيله الاستقلال باستقرار دائم، وتقلبت أقداره بين حكم مدني قصير العمر وإدارات عسـكرية شــمولية أطـول عـمرا. ذلـك الاضطراب يعود، في رأي محلليـن سياسيين ســودانيين وغيرهم، إلى طـبيعة التنوّع في المجتمع السوداني، وهو دون بقية سكان الحــزام الســوداني التـاريخي القديم الممتد من سواحل البحر الأحمر شرقاً إلى سواحل المحيط غرباً، الوحيد الذي توزَّع انتماء سـاكنيه بوضوحٍ، بين استعرابٍ ملتبسٍ و”أفـرقـة” أشــدَّ التباسا. من تجليات تلكم الالتباسات التي أحــدّثك عنها انفصال جنوبه الأفريقي عن شــماله المستعرب ليكون السّـودان دولـتيـن.

 

(3)

 

غير أنّ ذلك انفصال، وإن كان بتراً مأســاوياً لجــزءٍ من كُل، لم يكتـب نهــاية لاضطرابات البلاد التي أغرقتها نخبها الحاكمة، من فشلٍ فادح إلى فشلٍ أفدح بيـن حقـبة وأخرى. إنّ مقتلة دارفـور التي وقعت في عام 2003 وتواصلت مــدّا وجــزرا، هـي تتصاعد قتلاً وذبحاً لسـكان دارفور المتحدرين من أصول أفريقية ممّن يصفونهم بالـ”زرقـة”، إشارة إلى لون بشرتهم السوداء. تدير مليشيا الدعم السريع السودانية، ومعها من تـمّ تجـنـيـدهــم من مستعربي السهل والصحراء في غربي القارّة الأفريقية، فصلاً مأساوياً جـديداً هذه المَرَّة يســتهدف تصفـية عنصرية وعرقية بغيضة، طاولت سكان سلطنة “المساليت”، أعـرق الإثنيات المقيمة في أرضها منذ مئـات السنين. وما أن تُستكمل إبادتهم، فإنَّ الدائرة سـتدور حتماً على بقية “الـزُّرقــة” من القبائل الأخرى في دارفور ذوي الأصول الأفريقية. يقترب ذلك السيناريو من الأنموذج القميء الذي تنفّذه هذه الآونة الدولة الصهيونية ضد سكان غزّة من الفلسطينيين، إذ في نظرهم أنّ الفلسطيني الأفضل هو الفلسطيني الميّت.

 

لعلّ الغائب عن النظر العميق ســيناريو من الشّــرِّ الشـبيه، يجــري تنفـيذه بسـلاح مليشيات مأجـورة تخطّط لإحلال سـكّاني قادم

(4)

 

وإذ أشير إلى الصراع في دارفور، كونه مقتـلة، فذلـك بسبب شـبهة إبادة جماعـية لآلافٍ البشــر أزهـقـتْ أرواحهــم في دارفــور، منـذ عام 2003 وتواصلت سنوات، وتركت تلـك الأفـاعـيل الشريرة رئيس البلاد وقـتها منبوذاً ومطارداً من المحكمة الجنائية الدولية في لاهـاي، إلى أن أسقطته ثورة السودانيين الشـرفاء في إبريل/ نيسان 2019.

 

لم يهدأ الصّـراع في دارفـور برغم سـقوط نظام الإنقـاذ الذي تسبّب في تلك المقتلة. لكن ها هو الصراع يشتعل من جديد في مشهد الحــرب الدائرة، مليشيا الدعم السريع السودانيين وأصهارهم من مستعـربي قـبـائل السـهل والصحراء في غربي أفريقيا، يقاتلون الجيش الرّسمي للدولة السودانية التي صارت دولة في مهبِّ رياح الصراعات. ذلك صراع ناشب بين طائفتين، “عربٍ وزُرقة”، ويحمل التعبير القـبـلـي، كما هو واضح من كلماته، في مدلولاته شكلاً من الصّـراعات العنصرية البغيضة بين أناسٍ بيض وسود مجازاً.

 

(5)

 

كُتبَ للسودان أن يقترب في تلك الحرب التي أشعلها بنـوهُ بأيديهم في الســودان كلـه من أنْ تتحوَّل في وقائعها الماثلة إلى حربِ دمارٍ شامل للسودان كله، بالرّشاشات وبالمدافع والعربات العسكرية المدرّعة وبالمسيّرات القاتلة، وليسَ بالأسلحة النووية. أمّا في دارفور، فقد أشعلوا حربَ إبادةٍ جمـاعية في غربي البلاد، ينفّـذها بعضُ مستعربي غرب أفريقـيا ومــن بلـدان مثل تشــاد والنيجــر، ممّن عجزوا عن الإدماج والتمازج مع الإثنيات الأفريقية التي يقيمون في أرضها، فجندهم أبناء عمومتهم قادة مليشيات الدعم السريع السودانية، لمؤازرتهم في القتال الدائر في كلا المشـهدين الداميين في السودان حاليا: في العاصمة الخرطوم وفي دارفور، غربي السودان.

 

يتحوّل المشهد في السودان، في مأساته الماثلة بين يومٍ وآخر، إلى صـورة أشـبه بتمرين قاسٍ في الـدّمـار الشــامل

 

يتعـقّـد المشهدُ في دارفور وفي الخرطوم لشبهات تتصل بتوفير أسلحة وذخائر تأتي من أطراف خارجية لها صلاتٌ مع قيادة الدّعم السريع السودانية التي تقايضها بتحقيق بعض ما تطمع تلـك الأطراف في الحصول عليه من ثروات السودان الزراعية والحيوانية، أو في باطن أرضه من معــادن ثمينة، مثل الذّهـب الأصفر وأيضا من الذّهـب الأســود (النفط) وسواهما من الثروات.

(6)

 

وهكذا يتحوّل المشهد في السودان، في مأساته الماثلة بين يومٍ وآخر، إلى صـورة أشـبه بتمرين قاسٍ في الـدّمـار الشــامل كما ذكرنا، وقد شهدتْ أقلام أجنبية أن ذلك التسليح توفره، ويا للأسف، أطراف طامعة قـريبـة من الســودان، فـمـا أمضّ الأذى وأشــدّ إيلامـه حـيـن يجيء مِن ذوي القــربَى. تلك أطرافٌ كانت لها ارتباطات وشراكات تاريخية مع السودان، على مستوى ثنائي مباشر، كما على المستوى الجمــاعي في إطار جامعة الدول العـربيــة. ظلّ تعامل الأشــقاء في الجامعـة مع مأسـاة الســودان، في نظر أكثر السّـودانيين، تعاملاً يتـمّ علـى اســتحياءٍ، وعلى بعض تجـاهـلٍ واستخفافٍ، تمثل في مبادراتٍ ومجاملاتٍ سياسـية لا قيمة لها فعليـاً. غابت عن ذاكرة بعض قيادات المنظمات الإقليمية في المنطقة أنّ السّــودان هو ثامـن الملتحقـيـن عام 1956 بجامعـة الدّول العربية تاريخـيــاً، مثلمــا هـو مِـن المؤسّسين الأوائل لمنظـمـة الوحــدة الأفريقـية التي صــار اســمها الاتحــاد الأفريـقــي منذ تسعينيات القرن الماضي. للسّـودان إن أفاق فـينـيق السودان من رمـاد خـرابه الماثل ومن كبوته المدمّرة، أن ينظر في جــدوى التحاقه بمنظـمـات إقليمــية لم تعـره اهتمـاماً يُذكر أو جـدية تفـيـد. وكأنّ حال السودان وهو يترنح تحت أبصارهم أجمعين، غارقا في دمـاء بنيه، لم يكـفـهِ ذلـك كله، بل يتبعه انشغال المجتمـع الدولي انشغالاً مبـرّراً بالصراع الرّوسي الأوكــراني، وبالجــريمة النكراء التي يمارسـها الكيان الصهيوني لإبادة الفلسطينيين في أرضهم الشرعية في قطاع غزة.

 

(7)

 

لعلّ الغائب عن النظر العميق ســيناريو من الشّــرِّ الشـبيه، يجــري تنفـيذه بسـلاح مليشيات مأجـورة تخطّط لإحلال سـكّاني قادم قد تتعرض له أرض وسكان ولايات السودان الغربيـة من إبادة وتصفية عرقية، بل وإحلالٍ قادم، يحتلّ فيه مستعـربو السّـهل والصّحراء الأفريقـيـة أراضي المجموعات السـكانية ذات الأصول الأفريقية التاريخية في السودان. ذلك سـيناريو يكاد يطــابق السيناريو الصهـيوني الـذي يجـري في حــرب إســرائيـل ضــدّ الفلسطينيين، ويستهدف اقتلاعهم وإبادتهم تماماً في أرضهـم. إنه خيار صفري لإعدام شعب بدمٍ بارد، هو في نظر الصهاينة ومن شـايعهم من أقوياء العالم حل يلغـي إلى الأبد التفكـير في خيــار الدولتيـن كحلٍ للقضية الفلسطينية.

 

أما السّــودان الآيل إلى التشظي والانهيار والإحلال، فمن يلتفت إلى جراحاته النازفة الآن؟

 

جمال محمد إبراهيم

كاتب سوداني وسفير سابق

الوسومالجيش الحرب الدعم السريع السودان رماد فينيف

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجيش الحرب الدعم السريع السودان رماد

إقرأ أيضاً:

الحديث ان حرب الدعم السريع هي ضد المواطن وليس ضد الجيش امر لايمكن مغالطته

الحسم العسكري
والتفاوض
طريقان لايقاف الحرب في السودان
اما ان ينتهي الجيش من الدعم السريع تماما يقضي عليه ، واما ان يحدث العكس
وهذ الحسم يجب ان يحدث في عموم السودان
وهذه نقطة مهمة لكنها ليست مهمة لكل الناس
تعتمد على فكرة ابن تضع قدميك ؟! ، كيف ترى السودان نفسه ؟ هل حدوده حدود بيتك ومنطقتك ام هو سودان السودانيين جميعهم ؟، فلسفتك للحرب وابعادها واثارها ومابعدها ونتائجها النهائية ؟!
وفي الحالين
ماحدث من تقدم للجيش في اليومين السابقين ينبغي ان ينظر اليه اي شخص في السودان بشكل ايجابي ما عدا شخص يرى الخلاص في حسم هذه المعركة لمصلحة الدعم السريع وهم ليسو قلة
اذا كان هناك من سبيل ان يحسم الجيش بكل تعقيداته التي لاتهم كل الناس المعركة فهذا اصلح للسودان والسودانيين من غير انصار الدعم السريع صراحة وعلانية ، بعدها ناتي ونحاول حل مشاكلنا معه وهنا لا اعني الذين يمنحون الجيش شيكا على بياض فهؤلاء منطلقاتهم مختلفة .
ان لم يكن من الممكن حسم المعركة عسكريا في عموم السودان ، لتوازنات القوى مثلا ، او حتى توازنات الضعف ، او التوازنات الاثنية والقبلية على امتداد السودان ونريد ان نحتفظ بوطن واحد غير منقسم بعد الانقسام السابق
فتقدم الجيش يجب ان يفرح به الجميع ايضا واولهم القوى المدنية باحزابها ومنظماتها وافرادها الباحثين عن ايقاف الحرب
لأنه يجعل الجيش في موقف تفاوضي افضل وهذا امر شديد الاهمية ، خصوصا بعد الاحداث في مناطق سنار والتي كانت مقلقة وتضع الحرب في خدمة هذا المسار العجيب
لأنه في لحظات من عمر البلاد وبعد تقدم الدعم السريع في محاور قتال مختلفة ظن الناس ان استمرار وتيرة الحرب بهذا المنوال ستكون لمصلحة الحسم العسكري له وهذه كارثة حقيقية
ما الذي يجعلها كارثة ؟!
ليست الانحيازات السابقة للجيش او الدعم او الوقوف بشكل مستقل من ذلك
بل الطريقة التي ادار بها الدعم السريع هذه الحرب
ان الحديث ان حرب الدعم السريع هي ضد المواطن وليس ضد الجيش امر لايمكن مغالطته واللجلجة فيه
لقد مرغت قوات الدعم السريع كرامه السودانيين في الارض وهذا امر ليس مهما ان نستدعيه في هذا البوست لان هذه الانتهاكات حدثت لافراد واسر وقرى باكملها ، ولانني كتبت عن هذه الانتهاكات مرارا وتكرارا وموجودة في هذا المكان كما كتبت ايضا عن انتهاكات الجيش التي غض الطرف عنها العديد من المهتمين والمتابعين .
وليس من نظريات بقاء الدولة ، والاستبقاء على جيش رسمي يجب اصلاحه اتى تحرك الناس وفرحهم بعد دخول الجيش الى الحلفايا وسيطرته على الوضع هناك مثلا ، او حتى امنياتهم بتحرير الجيش للمصفى التي اثبتت الاخبار عدم صحتها ” كنت احد الاشخاص الذين انتظروا بتروي الحقيقة خصوصا في حالة الهياج العام واكاذيب السوشال ميديا فيما يخص المصفى ولكني تمنيت فعلا ان يتم تخليصها ”
اعتقد ان فرح الناس قادم من تجربتهم مع الدعم السريع وارتكابها للفظاعات والانتهاكات حين سيطرتها على مكان
وهناك مظاهر فرح في اماكن عديدة حين دخول الجيش
ومظاهر فزع ونزوح حال دخول الدعم السريع
لماذا اكتب اماكن ولم اقل في اي مكان ؟!
لانني لا اود سرقة حكايات الاخرين وتجربتهم
ذلك ان تاريخ المؤسسة العسكرية يجب ان تتم مراجعته ، ويجب الاعتراف اننا ليس شعب واحد وان دمنا ليس واحد وان تجربتنا مع المؤسسة العسكرية منذ ١٩٥٦ وحتى الان ليست تجربة واحدة ، وهذا حديث يجب تفكيكه وفتح جروحه بعد الحرب ، كما انني واع جدا ان الدعم السريع حتى في المناطق ذات الذاكرة القاتمة مع المؤسسة العسكرية لم يكن نبيا وانما زاد القتامة ولعب دور مخلب القط في اوقات عديدة
ولكن الواضح الان في هذه الحقبة من تاريخ السودان
ان الدعم السريع حينما يتم دحره ترتفع الزغاريد
ويخرج الناس الى الشوارع بشكل عفوي
وان قواته متربصة بالسودان والسودانيين
وانه ادار هذه الحرب بالانتهاك واللصوصية والتذاكي والاعلام الكاذب
وانه فعل ذلك في جسد المواطن واملاكه ولذلك بح صوته وهو يحاول اقناع الناس بان مهمته جلب الديمقراطية بينما راى الناس بام اعينهم انه جلب الموت والانتهاك والسرقة والاغتصاب حتى فرح بدحره على الارض عدد عظيم من الشعب على اختلافاتهم الظاهرة حول المؤسسة العسكرية بشكلها الحالي .

عمر عشاري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • السودان: المنسقية العامة للنازحين واللاجئين تحذر من تفاقم الكارثة الإنسانية في دارفور
  • الجيش يقصف مواقع الدعم السريع بالخرطوم ويخوض معارك بالجنينة والفاشر
  • توصيات ملتقى دارفور
  • القوات المسلحة والقوة المشتركة تصد هجومًا لمليشيا الدعم السريع على مدينة كلبس بغرب دارفور وتكبدها خسائر فادحة
  • الحديث ان حرب الدعم السريع هي ضد المواطن وليس ضد الجيش امر لايمكن مغالطته
  • مني أركو مناوي: سقوط ولايات دارفور إهانة وطنية وعيب على الدولة
  • حاكم إقليم دارفور: جهات دولية دفعت الدعم السريع للسعي لامتلاك السودان بالقوة
  • الحرب والفيضانات والأوبئة.. ثالوث ينهش جسد السودان
  • الحرب والفيضانات والأوبئة.. ثالوث ينهش جسد السودان (تقرير)
  • تجمع تحرير السودان: مؤامرة دولية إقليمية محلية لتقسيم السودان