الجزيرة:
2024-10-04@23:44:18 GMT

غزة الأبيَّة.. تاريخ مئة عام من الصمود والمقاومة

تاريخ النشر: 30th, November 2023 GMT

"أتمنى أن أستيقظ ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر".

إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (1)

في كتابه "سلام الأوهام: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل"، كتب الصحافي المصري "محمد حسنين هيكل" تحليله الخاص لاتفاق "أوسلو" الموقَّع عام 1993، وهو أول اتفاق رسمي بين الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذي اعترفت بموجبه السلطة الفلسطينية تحت رئاسة ياسر عرفات بدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد سنوات طويلة من العمل المُسلَّح.

وقال هيكل إن إسحاق رابين، رئيس وزراء الاحتلال، رغم كونه الفائز الوحيد في تلك الاتفاقية التي حوَّلت تل أبيب إلى شريك في الأرض باعتراف عرفات، لم يكن ليقبل بالجلوس مع الفلسطينيين إلا بسبب عجز جيشه عن التعامل مع المقاومة داخل قطاع غزة، ولذا كان الإسرائيليون في حاجة إلى فصيل فلسطيني يحكم قطاع غزة بما فيه من أعباء ومشكلات، ويتولى عنهم مهمة القضاء على تلك المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، التي فشلت إسرائيل في كسر عظامها جيلا بعد جيل (2).

في بقعة ضيقة مُثقلة بالذكريات المريرة، يشغل قطاع غزة المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، بمساحة لا تزيد على 360 كيلومترا مُربَّعا، لكنها خاضت وحدها سبع حروب مع إسرائيل في أقل من 15 عاما، ونفضت عن الاحتلال تلك الصورة التي رسمها لنفسه أمام الرأي العام العالمي بوصفه جيشا لا يَخضع ولا يُقهر. واليوم، تواجه إسرائيل التي اضطرت عام 2005 إلى إخلاء مستوطناتها هناك والانسحاب كليا من القطاع أسئلة صعبة تتعلق بتقرير المصير، كون غزة هي آخر القلاع الباقية من قضية أوشكت أن تندثر، وتعتبرها إسرائيل رسميا "كيانا مُعاديا"، والتهديد الأساسي الذي يحول دون تحقيق حلم السيطرة الكاملة على كامل أرض فلسطين.

 

غزة.. بوابة فلسطين القوات العثمانية في معركة غزة الثانية في أبريل/نيسان 1917. (مكتبة الكونغرس)

قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، دخل "الحُسين بن علي"، شريف مكة، في مفاوضات سرية مع المندوب السامي البريطاني في مصر هنري ماكماهون، التي عُرفت لاحقا بمراسلات "حسين-ماكماهون". وتحكي الوثائق السرية قصة صفقة قدَّمها الرجل ساهمت في إسقاط الخلافة العثمانية، حيث عرض الأمير العربي أن يقاتل بقواته إلى جانب البريطانيين ضد الأتراك، مقابل الاعتراف باستقلاله عن الدولة العثمانية. وبالفعل هاجمت القوات البريطانية ومعها القوات العربية الشام، وكانت مدينة غزة في قلب تلك المعارك، باعتبارها بوابة فلسطين. وخاض الطرفان ثلاث معارك فاصلة، واستطاعت الدولة العثمانية وحلفاؤها الألمان الانتصار في معركة غزة الأولى والثانية، لكنها خسرت الثالثة رغم استماتة أهلها في الدفاع عنها.

يقول المؤرخ الفرنسي "جان بيير فيليو" في كتابه "تاريخ غزة" إن القوات البريطانية فقدت نصف عتادها أثناء المعركتين الأولى والثانية، ولم تفلح الجيوش في اقتحام المدينة حتى استبدلت بريطانيا بقائد الحملة قائدا آخر أحضر معه كمية كبيرة من المعدات الجديدة، بما في ذلك نحو ستين طائرة. وقد أجرت قوات القائد الجديد اتصالات مع الثوار العرب الموالين للشريف حسين، واستندت خطة الهجوم خاصته إلى قصف مدفعي ضخم، إلى جانب هجمات جوية وقصف بالمدافع البحرية. ورغم ذلك قاومت المدينة بضراوة، حتى تراجعت القوات العثمانية حين يَئسَت من الانتصار. وبسقوط غزة بات الطريق إلى القدس مفتوحا، وأصبح سقوط فلسطين مسألة وقت لا أكثر (3).

أصبحت غزة عام 1917، ومعها باقي فلسطين وبلاد الشام والعراق، مستعمرة بريطانية رسميا، بعدما كانت تخضع للعثمانيين طيلة أربعة قرون تقريبا. ورغم أن لندن وعدت رجال الثورة العربية الكُبرى بإنشاء "مملكة عربية" في الشرق الأوسط خالية من الحكم العثماني، فإن بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى اقتسمتا أراضي الدولة العثمانية بعد سقوطها بموجب اتفاقية "سايكس بيكو". ومن ثمَّ بدأ الاستعمار في تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، تنفيذا لوعد بلفور الذي أطلقته بريطانيا من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي أثناء الاحتلال عملت الحكومة البريطانية على استجلاب اليهود من شتى دول العالم وتنظيمهم وتقديم الدعم لهم لتأسيس دولة إسرائيل.

بعد ثلاثة عقود من الاستعمار البريطاني، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1947، قدَّم ممثل المنظمة الصهيونية العالمية في عصبة الأمم "فيكتور جاكوبسون" خطة تبنَّتها الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية، ولعبت غزة دورا رئيسيا في هذه الخطة، حيث أصبحت وفق القرار القطاع الساحلي الوحيد الذي يبقى تحت السيطرة العربية. وفي المقابل هُجِّر أكثر من 100 ألف فلسطيني إليها مقابل تعويضات مالية، في وقت سُمح فيه للعصابات اليهودية بالقدوم إلى فلسطين، كما كان من المقرر أن يستولي اليهود، الذين بلغ عددهم ثلث سكان فلسطين فقط آنذاك، على أكثر من نصف أراضيها، بما في ذلك الأراضي الخصبة في السهل الساحلي. واعتبر القرار مدينة القدس جسما منفصلا ومنطقة لا تُشكِّل جزءا من أيٍّ من الدولتين، على أن تُدار مباشرة بواسطة الأمم المتحدة استنادا إلى وضع قانوني خاص، ولم يستغرق الأمر طويلا حتى اندلعت حرب عام 1948 بعد رفض العرب قرار التقسيم.

 

غزة مصنع المقاومة

بعد يوم واحد فقط من الاعتراف الدولي بدولة الاحتلال، وصل نحو 10 آلاف جندي مصري، يرافقهم مقاتلون مصريون متطوِّعون، إلى مدينة غزة للاشتباك مع الجيش الإسرائيلي. وبسبب غياب الخرائط، ونقص الدعم العسكري تأخر الجيش المصري عن موعده، ولم يحقق أهدافه، وبقي يقاتل مدافعا داخل الأراضي العربية دون تقدم. ومن المفارقة أن المصريين الذين قاتلوا في فلسطين مثَّلوا أطيافا مختلفة من المجتمع المصري، فكان هناك المتطوعون من جماعة الإخوان المسلمين، كما شارك في الحرب جمال عبد الناصر، الذي أصبح رئيس مصر لاحقا بعد إعلان الجمهورية. وكان عبد الناصر شاهدا على تلك الأحداث، وكانت تجربة مشاركته في القتال داخل غزة، وحصاره مع زملائه في معركة الفالوجة، هي المُحفز الذي شكَّل الخطوط العريضة لخططه عندما عاد إلى القاهرة على رأس تنظيم "الضباط الأحرار" (4).

بعدما وضعت حرب 1948 أوزارها، أصبح الجيش المصري صاحب السيطرة على غزة، التي تحوَّلت إلى بيت لاستقبال اللاجئين الذين هجَّرهم الاحتلال من بيوتهم وأراضيهم. وقد ظلت غزة تابعة إداريا لمصر حتى هزيمة عام 1967، واجتاح الاحتلال غزة وسيناء، ومن ثمَّ فقدت مصر سيطرتها على القطاع. وفي المقابل، اقتطعت إسرائيل مساحات من غزة، وحصرت الفلسطينيين في مناطق ضيقة، وسلَّمت الأراضي المقتطعة إلى يهود متطرفين لإقامة المستوطنات فيها، حتى وصل عدد المستوطنات إلى نحو 20 مستوطنة. وقد عانى السكان في غزة من ويلات الاحتلال على مدار السبعينيات والثمانينيات حتى وقع حادث فارق غيَّر مسار الأحداث.

في ديسمبر/كانون الأول عام 1987، قام جندي إسرائيلي بدعس مجموعة من العمال الفلسطينيين الغزاويين، فاندلعت احتجاجات غاضبة في القطاع امتدت لاحقا إلى الضفة الغربية. وكانت الحجارة هي السلاح الذي استخدمه الفلسطينيون الذين استُشهد منهم 1550 فردا في ذلك الوقت، في حين جُرِح نحو 70 ألفا. وقد شهد العام نفسه الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي تعهَّدت بتأسيس دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين.

يُذكر أن الاستخبارات الإسرائيلية كشفت قبل عامين من إعلان تأسيس الحركة رسميا عن أنها تجمع السلاح سِرًّا، ومن ثمَّ قرر الاحتلال القبض على زعيمها أحمد ياسين. غير أن عالم ما بعد أوسلو قلب الموازين الداخلية، فلم تتأثر حركة حماس باعتقال زعيمها، كما بدأت الحاضنة الشعبية للحركة الوليدة بالاتساع، وهي التي تأسست متبنية خيار المقاومة المُسلَّحة. ولم يكن غريبا أن صارت حماس في غضون بضع سنوات أقوى فصيل مُسلح يحارب الاحتلال في فلسطين (5).

 

أوسلو وما بعدها.. جيل جديد من المقاومة

في يوم 13 سبتمبر/أيلول 1993، وقَّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بالنيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، اتفاق سلام في حديقة البيت الأبيض بواشنطن من أجل تشكيل "سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي"، وهو ما عُرِف بعدئذ بـ"اتفاق أوسلو" الذي مهَّد لمرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية يرتكز إلى حل الدولتَيْن. كانت إحدى نتائج أوسلو هي تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، التي حصلت على سيطرة محدودة في بعض المناطق بالضفة الغربية وقطاع غزة. وقد وُقِّعَت عام 1995 اتفاقية أوسلو الثانية، التي أدت إلى انسحاب إسرائيلي محدود من بعض المدن في الضفة الغربية وتسليم سلطة أمنية منقوصة للفلسطينيين، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الكثير من الفلسطينيين اتفاقية أوسلو ومخرجاتها لأنها أغفلت توضيح مصير عودة اللاجئين الفلسطينيين، كما تجاهلت الإشارة إلى مصير القدس.

ورغم أن اتفاق أوسلو ينص على أن مفاوضات الحل النهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يجب أن تبدأ بعد 5 سنوات من توقيعه، فإن جولات مفاوضات في مواضيع متفرقة تبعته، لكن دون التطرق إلى حل يُنهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وفي حين خضعت الضفة الغربية للتقسيم بموجب الاتفاق، فإن مسألة غزة لم يُتطرَّق إليها. وقد استمرت إسرائيل في السيطرة على حدود غزة والمجال الجوي والبحري التابع لها، ولم يشأ الاحتلال أن يفك قبضته على القطاع الذي بات محور المقاومة (حتى اضطرت إسرائيل مجبرة على الانسحاب من القطاع عام 2005 تحت وطأة ضربات المقاومة).

من جهة أخرى في ذلك الوقت، كان بنيامين نتنياهو من أبرز رافضي الاتفاق من الجانب الإسرائيلي، وهو زعيم المعارضة حينها، ورئيس الوزراء الحالي، إذ اعتبر أوسلو خطأ قاتلا، كونه يسمح لـ"دولة كراهية" على حد وصفه بأن تنمو بجوار دولة الاحتلال، في إشارة إلى المقاومة المتنامية التي تسكن غزة، والفصائل الأخرى في الضفة الغربية. وقد بدأ الإسرائيليون بعدها بالإسراع في مخططات توسيع المستوطنات، خلافا لبنود اتفاقية أوسلو.

ورغم رفض حركة المقاومة الإسلامية حماس وغيرها من الفصائل اتفاق أوسلو الذي لم تعترف به إلى اليوم، فإنها شاركت في العملية السياسية في فلسطين، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على خيار المقاومة. وفي الانتخابات التشريعية عام 2006، فازت حماس بأغلب المقاعد، وشكَّلت الحركة حكومتها برئاسة إسماعيل هنية، لكنها قوبلت برفض إسرائيلي، وعرقلة داخلية انتهت بإحكام حماس سيطرتها على غزة عام 2007، وإقامة حكومة لم تعترف بها السلطة الفلسطينية ولا إسرائيل (6).

بخضوع غزة لسُلطة المقاومة مباشرة، رأت إسرائيل في غزة "كيانا معاديا"، وفرضت عليها حصارا شاملا بحرا وبرا وجوا، واستعدت في العام التالي 2008 لبدء غزو بري كان الهدف منه هو إنهاء حكم حركة حماس في القطاع، والقضاء على المقاومة الفلسطينية ومنعها من قصف إسرائيل بالصواريخ. وقد فشلت إسرائيل في هدفها، وخاضت عدة حروب حتى يومنا هذا دون أن تنجح في استئصال المقاومة، وصولا إلى أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول و"طوفان الأقصى" التي مثلت ذروة التطور النوعي للمقاومة وذروة الإذلال للاحتلال. بقيت غزة أبية إذن رغم ظروفها الصعبة وكونها أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، حيث يعيش فيها أكثر من مليونَيْ شخص اليوم يتمسكون بأرضهم ويرفضون الاستسلام، محافظين على إرث مدينة بُنيت منذ آلاف السنين، ومرَّت عليها نكبات عديدة، لكنها لا تزال صامدة وشامخة.

_________________________________________

المصادر تصريح إسحق رابين. محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الجزء الثالث، ص 398. Jean-Pierre Filiu, Gaza: A History. يوميات جمال عبد الناصر في حرب فلسطين. Blowback: How Israel went from helping create Hamas to bombing it. Netanyahu says those who opposed Oslo peace deal not to blame for Rabin killing.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الضفة الغربیة إسرائیل فی فی فلسطین أکثر من فی ذلک

إقرأ أيضاً:

بداية الحرب العالمية الثالثة ضد الأمة والمقاومة الشعبية كخيار إستراتيجى لها

د. صبرى محمد خليل / أستاذ فلسفة القيم الإسلامية فى جامعة الخرطوم

ملخص المقال : إن تطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد "الإمبريالى- الصهيونى" ، منذ العقد السابع من القرن الماضى، كان مؤشر على بدء الحرب العالمية الثالثة- على الأقل فى منطقتنا العربية- لأن طبيعة مفهوم الحرب العالمية اختلفت فى عصرنا عن العصور السابقة، من ناحية التحديد المكانى والزمانى والمجالى، كما انه مؤشر على بداية المرحلة الأولى من المعركة الفاصلة، بين الآستخلاف الثانى للأمة والإستكبار العالمى الخامس " الإمبريالى- الصهيونى . وقد نجحت القوى التى تقف خلف المشروع فى تعطيل إرادة الأمة على المستوى الرسمى، لكنها فشلت فى الغائها، لان تعطيلها على هذا المستوى، اتاح المجال أمام تفعيلها على المستوى الشعبى . وأخذ هذا التفعيل شكل المقاومة الشعبية " السلمية فى مجالات، والمسلحة فى مجالات أخرى"، ضد مظاهر وأدوات ومراحل تطبيق هذا المشروع ، ونجاح المقاومة الشعبية فى الافشال التام لأهداف هذا المشروع، وبالتالى الانتصار فى هذه المرحلة من مراحل هذه الحرب، وهذه المعركة الفاصلة، يتوقف على. الإنتقال من مرحلة التفعيل التلقائي " اى رد الفعل : العفوى ، العاطفى ، الموقت"، إلى مرحلة التفعيل القصدى " أى الفعل: المخطط، العقلانى، المستمر ".
.........
المتن التفصيلى للمقال :

مشروع الشرق الأوسط الجديد " الصهيونى- الإمبريالى " : هو مشروع يتم تطبيقه فى المنطقة العربية، منذ العقد السابع من القرن الماضى ، ويهدف الى الإرتداد بالنظام الرسمى العربى ، من مرحلة التجزئة على أساس شعوبى " إتفاقية سيكس - بيكو ١٩١٦"، إلى مرحلة التفتيت على أساس طائفى - قبلى " محاولة إقامة دويلات طائفية - قبلية، على انقاض الدولة الوطنية العربية، مع ضمان بقاء الكيان الصهيونى كحارس لهذا التفتيت، كما كان فى المرحلة السابقة حارس للتجزئة ". بما يضمن نهب ثروات الأمة الإقتصادية والطبيعية.

مؤشر على بداية الحرب العالمية الثالثة : وتطبيق هذا المشروع مؤشر على بداية الحرب العالمية الثالثة - على الأقل فى منطقتنا العربية - منذ بداية تطبيق هذا المشروع . ذلك ان طبيعة مفهوم الحرب العالمية ، إختلفت فى عصرنا عن العصور السابقه ، من ناحية التحديد المكانى والزمانى والموضوعى " المجالات "،وبالتالى اصبحت اى حرب فى عصرنا حرب عالمية، من نواحي تجاوز تأثيرها مكان حدوثها ، وتداخل بدايتها - وكذا نهايتها - وتعدد مجالاتها، بمعنى عدم إقتصارها على المجال العسكرى فقط.

مؤشر على بداية المرحلة الأولى من المعركة الفاصلة بين الإستخلاف الثانى والإستكبار العالمى الخامس " الإمبريالى - الصهيونى " : كما أن تطبيق هذا المشروع هو مؤشر على بداية المرحلة الأولى من هذه المعركة الفاصلة، والتى هى إمتداد لمعارك فاصلة سابقة "اليرموك،حطين،عين جالوت،رد العدوان الثلاثى بالسويس ٥٦"، بين أشكال متعددة من إستخلاف الأمة ، وأشكال متعددة للإستكبار العالمى "الفا سى ، الرومانى ، المغولى ، الصليبي، الأستعمار القديم والجديد ".

نموذج السودان : "مخطط للتفتيت والسيطرة على النيل وليس حرب" : وطبقا لهذه القراءة فإننا نفهم أن الصراع المسلح الحالى فى السودان، ليس مجرد حرب بالمفهوم العسكرى البحت ، بل مرحلة جديدة من مراحل تطبيق هذا المشروع ، تهدف الى تفتيت السودان،إلى دويلات قبلية - طائفية ، على انقاض الدولة الوطنية السودانية . ويشمل ذلك تفكيك عمودها الفقرى - المؤسسة العسكرية السودانية - و تطبيق مرحله جديدة من مراحل السيطره على النيل ، بدأت بفصل جنوب السودان، وإنشاء سدود مائية فى اثيوبيا، دون إتفاق مع دولتى المصب' السودان ومصر' ... ويشمل هذا المخطط التهجير القسرى للسكان، واحداث تغيير فى التركيبة السكانية' الديموغرافيه' - خاصة فى المناطق النيلية-

نموذج غزة : تصفية القضية الفلسطينية بالابادة الجماعية والتهجير القسرى وليست حرب: كما أنه طبقا لهذه القراءه فاننا نفهم ان ما يحدث فى غزه ليست حرب،بل مرحلة جديده من مراحل تنفيذ ذات المشروع، تهدف الى التصفية النهائية للقضية الفلسطينية( القضية المركزية للأمة)، بإبادة الشعب الفلسطينى ، أو تهجيرة قسريا ، تنفيذا للمقولة الصهيونية " ارض بلا شعب ، لشعب بلا أرض "، والقضاء النهائي على المقاومة الشعبية الفلسطينية ، مستغلة دعم القوى العالمية " الغربية / الراسمالية / الإستعمارية "، وتخاذل النظام الرسمى العربى.

النجاح :

تعطيل إرادة الأمة - على المستوى الرسمى - " : وقد نجح هذا المشروع فى تعطيل إرادة الأمة على المستوى الرسمى .

التعطيل الإرتدادى لإرادة الأمة على المستوى الرسمى : فقد تزامن تطبيق هذا المشروع ،مع مرحلة التعطيل الإرتدادى لإرادة الأمة على المستوى الرسمى ، التى إرتدت فيها بالنظام الرسمى العربى ، عن الخطوات التى إتخذتها مرحلة التحرر الوطنى والقومى من الإستعمار، بأشكال المتعددة " القديم والإستيطانى ' الصهيونى ' والجديد ' الإمبريالى ' " ، التى استمرت طوال العقدين الخامس والسادس من القرن الماضى ، تجاه اهداف الإرادة الشعبية للأمة، فى الحريه والعداله الإجتماعيه والوحده - رغم ما شابتها من سلبيات - فإنتقلت من الدفاع عن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى وحقوقه ، إلى التخلى عن الواجب " الوطنى والقومى والدينى والانسانى تجاه القضيه والشعب الفلسطينى" ، والتطبيع مع الكيان الصهيونى .وإنتقلت من مقاومة الاستعمار، الى التبعية للغرب " الاستعمارى"، والخضوع للسياسات الإمبريالية فى المنطقه . ومن محاوله تحقيق العداله الاجتماعيه وإقامة تنمية مستقلة، إلى محاوله تطبيق النظام الرأسمالى تحت شعارات مثل : الإنفتاح / الأصلاح/ التحرير : الاقتصادى ، الخصخصه ، رفع - او ترشيد - الدعم .... .

شعار " السلام كخيار إستراتيجى " :
وقد رفعت هذه المرحلة شعار " السلام كخيار استراتيجى " ، متجاهلة انه لا سلام مع حقوق مغتصبة ، وهو حينها يكون إستسلام وليس سلام. كما دعمته بشعار فرعى " آخر الحروب " تعنى حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣ او حرب العبور "، وما حدث أنها كانت آخر حرب خارجية للأمة ، اى ضد قوى الإستعمار الخارجى. لكنها كانت فاتحه سلسلة من الحروب والصراعات الداخلية ، التى أدت إلى التفتيت الطائفى- القبلى للأمة.

الفشل:

الفشل فى التحكم فى التعطيل الإرتدادى وإفرازاته السالبة : ورغم أن المشروع نجح فى الإرتداد بالنظام الرسمى العربى، تجاه مزيد من التفتيت ، الإ انه فشل فى التحكم فى هذا الإرتداد وافرازاته السالبة ، والتى تشمل:

أولا : مشكله الإرهاب : فقدساهمت القوى التى تقف خلف المشروع فى إنشاء تنظيمات الإرهاب- وعلى أقل تقدير تغاضت عن نشوءها، ودعمتها سرا، بهدف إستخدامها فى تحقيق أهداف المشروع فى التفتيت الطائفى - القبلى للأمة - سواء كانت هذه التنظيمات واعية بذلك ام غير واعية - لكن تأثيرها على هذه التنظيمات بدأ فى الاضمحلال عندما قويت شوكة هذه التنظيمات ، بل وضرب هذه القوى فى العمق، واصبحت تشكل تهديدا لمصالحها ، مما اضطرها إلى ضربها عسكريا - وهو ما كلفها اقتصاديا - بهدف تحجيمها - وليس القضاء النهائى لها ، لضمان إمكانية اعاده استخدامها لاحقا لتحقيق أهداف أخرى.

ثانيا : اللاجئين : تدفق اللاجئين على الدول الغربية ، وتكلفته الاقتصاديه ، مما ادى الى تنامىالأحزاب العنصرية و المناهضه للأجانب.

ثالثا : الفوضى السياسية :عدم الإستقرار السياسى الذى أدى إلى فشل القوى التى تقف خلف المشروع على فرض ارادتها السياسية، على أجزاء كتيره من النظام الرسمى العربى .

التفعيل الشعبى : فالقوى التى تقف خلف المشروع نحجت فى تعطيل إراده الامة - على المستوى الرسمى - الا انها فشلت إلغائها، لأن تعطيلها على مستوى الرسمى، أتاح المجال أمام تفعيلها ، على المستوى الشعبي.

نشوء المقاومة الشعبية العربية " السلمية والمسلحة " : وقد أخذ هذا التفعيل الشعبى شكل المقاومة الشعبية - السلمية فى ميادين والمسلحة فى ميادين أخرى- ضد مظاهر و ادوات و مراحل تطبيق هذا المشروع التخريبى . وقد نجحت - فى هذا الإطار- فى تحقيق العديد من الانتصارات ، بدون أن يمثلها نظام رسمى عربى معين ، ومنها :

* مقاومة الاحتلال الصهيونى للبنان ، والتى إنتهت بدحر الجيش الصهيونى بداية القرن .
* مقاومة الاحتلال الامريكى للعراق، التى احدثت خسائر فادحة فى جيش الاحتلال الأمريكى ، قبل أن تعمل أمريكا وحلفائها، على القضاء على المقاومة الوطنية العراقيهة، من خلال خلق صراع طائفى " شيعى - سنى ." بين التنظيمات السنية كداعش ، والمليشيات الشعبية ".
* إستمرار المقاومة الشعبية المسلحة الفلسطينية . رغم المحاولات المستمرة للقضاء عليها.
* النصرة الشعبية للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى ، رغم تخلى النظام الرسمى العربى عن واجبه " الوطنى والقومى والدينى والانسانى " تجاههما.
* المناهضه الشعبية للكيان الصهيونى ، الذى أحال التطبيع الرسمى معه قرار معزول مجتمعيا.
* استمرار تمسك الشعب الفلسطينى بأرضه وحقوقه، رغم الاباده الجماعيه والتهجير القسرى الممارس ضده ،على مدى سبعه عقود .
* المقاطعة الشعبية للمنتجات والبضائع والسلع الأمريكية.
* تمسك الأمة - على المستوى الجماهيرى - بثوابتها الوطنية والقومية والدينية والحضارية ، رغم انتشار التغريب بين النخب المتعلمة والحضرية.
* استمرار تحقق الوحدة العربية والإسلامية الشعبية ، ممثلة فى إستمرار الروابط الموضوعية ' اللغويه ، الدينية ، الجغرافية ، التاريخيه ، الحضارية ...' فى الربط بين شعوب الأمة ، رغم التفتيت الرسمى.

ثورة الشباب العربى بين المسارين الأصلى' السلمى' والمصطنع' الفوضوى' : وقد نجحت المقاومة الشعبية فى الإسقاط السلمى، للعديد من الانظمة التابعة أو الفاسدة أو الفاشله... قبل أن تنجح القوى التى تقف خلف هذا المشروع ، فى تحويلها من مسارها الأصلى "الطبيعى " الجماهير ى - السلمى " ، إلى مسار آخر مصطنع " عنيف أو فوضوى ، أو تابع للخارج ..."، وذلك باستخدام عده أساليب " أهمها الإسقاط العنيف - خاصة فى الموجه الأولى منها - والهبوط الناعم - خاصة فى الموجة الثانية منها - مستغلة أنها إندلعت بصوره تلقائية غير منظمة.

ضروره إرتقاء المقاومة الشعبية من التفعيل التلقائي إلى التفعيل القصدى :
ونجاح المقاومة الشعبية العربية - السلمية منها والمسلحة - فى إفشال كل أهداف هذا المشروع التخريبى - وبالتالى الإنتصار فى معركة بداية الحرب العالمية الثالثة ، والتى هى ذات بداية المرحلة الاولى من المعركة الفاصلة ، بين الإستخلاف الثانى للأمة و الإستكبار العالمى الخامس " الإمبريالى. - الصهيونى " - يتوقف على إرتقاء الإرادة الشعبية للأمة، من مرحلة التفعيل التلقائي" اى رد الفعل العفوى ، العاطفى، المؤقت " ،إلى مرحلة التفعيل القصدى " أى الفعل المخطط، العقلانى ، المستمر ' المؤسسى'.

الآليات : وهو ما يتحقق من خلال الآليات الآتية:
. إعتبار أن المقاومة الشعبية خيار استراتيجى للأمة.
. تقديم الدعم المادى والمعنوى للمقاومة الشعبية.
.عدم ربط المقاومة الشعبية باى فصيل أو مذهب أو حزب أو طائفة او اشخاص... معينين ، لضمان تعبيرها عن إراده الامة ككل .
.إنشاء أو تفعيل مبادرات شعبية منظمة ' مؤسسية '، تعبر عن إراده الأمة فى كافه المجالات.
. تفعيل تيار فكرى شامل،يؤسس ' نظريا ' للتوافق على ثوابت الأمة
.التأكيد على أن هدف المقاومه الشعبية المسلحة هو الدفاع عن النفس كحق مشروع قررته كل المواثيق القانونيه والدولية والاخلاقية والدينية.
. وبالتالى العمل على عدم احداث اى تناقض أو تعارض بين المقاومة الشعبية المسلحة لاى عدوان خارجى ، والمؤسسات العسكرية الوطنية ، بما يضمن عدم تحولها إلى مليشيا طائفية او قبلية.
.وفى ذات الوقت يجب عدم ربط المقاومة الشعبية باى نظام سياسى ، والمطلوب من الانظمة السياسية هو دعمها، أو على أقل تقدير عدم تحولها لأدوات بيد القوى التى تقف خلف هذا المشروع للقضاء عليها.
.الوعى بأن الأمة إنتصرت فى كل معاركها الفاصلة ضد الأشكال السابقة للإستكبار العالمى بفضل إسناد المقاومة الشعبية للجيوش ، لكن الفارق بين هذه المعارك والمعركة الحالية ، أن للمقاومة الشعبية دور اساسى - وليس اسنادى فقط - فى مرحلتها الاولى .
.الوعى بأن المستهدف فى هذه المرحلة هو شعوب الأمة ، ومقاومتها الشعبية لهذا المشروع، لأنه نجح فى اخضاع النظام الرسمى العربى، خلال الفتره السابقة.
.وبالتالى الوعى بأن المعركة فى هذه المرحله ،تحولت الى معركة وجود ومصير. وبالتالى يجب التسامى على الخلافات الحزبية والمذهبية والطائفية، ومحاربه كل أشكال التعصب الحزبى والمذهبى والطائفى، لأنه اهم أسلحة القوى التى تقف خلف المشروع.
..........
للإطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبرى محمد خليل:

*الموقع الرسمى للدكتور صبرى محمد خليل : دراسات ومقالات (google)
*صفحه دكتور صبرى محمد خليل فى الفيسبوك (sabri khalil khairi).
*القناه الرسميه للدكتور صبرى محمد خليل فى اليوتيوب.  

مقالات مشابهة

  • 29 شهيدا في غزة والمقاومة تطلق وابلا من الصواريخ على إسرائيل
  • بدران يدعو جماهير الضفة للاستجابة الواسعة في جمعة رفع العدوان عن فلسطين ولبنان
  • فلسطين.. اندلاع مواجهات عنيفة بين المقاومة وقوات الاحتلال خلال اقتحام نابلس
  • ما الذي قاله قائد أنصار الله عبد الملك الحوثي عن الضربة الصاروخية الإيرانية التي أرعبت “إسرائيل”؟
  • “الوعد الصادق 2”: لحظة فارقة في تاريخ المقاومة أمام الاحتلال
  • هجوم للحوثيين والمقاومة العراقية.. والاحتلال يعلن اعتراض مسيرة قرب حدود مصر
  • بداية الحرب العالمية الثالثة ضد الأمة والمقاومة الشعبية كخيار إستراتيجى لها
  • حماس تدعو للمشاركة الواسعة في جمعة وقف العدوان على فلسطين ولبنان
  • من فلسطين إلى لبنان: ملحمة الدم والمقاومة مستمرة
  • نبارك الرد الإيراني الذي طال بضربة قاصِمة على رؤوس الاحتلال المُجرم