تنوعت العواصم المصرية على مر التاريخ، واختلف موقعها على خريطة الدولة مع اختلاف الحاكم المؤسس لهذه العاصمة أو تلك، فتجدها تارة في أقصى الجنوب، وأخرى في أقصى اليسار، وعواصم في قلب الدلتا، وغيرها قرب الجدود الشرقية، وعلى الرغم من هذا التنوع، والتعدد الكبير في هذه العواصم إلا أن كل منها تركت إرثًا ثقافيًا وحضاريًا كبيرًا منذ فجر التاريخ، وحتى العصور الإسلامية التي تنوعت عواصمها أيضًا واختلفت مسمياتها باختلاف الدولة الحاكمة.

"طيبة، أون، منف، العسكر، القطائع، الأسكندرية، القاهرة"، ليست مجرد أسماء مدن عابرة للذاكرة، ولكنها العواصم التي شهدت على فترات تاريخية شديدة الثراء من عمر الدولة الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، حيث كانت كل مدينة منها مركزا للحكم وإدارة شئون البلاد، وكانت أيضًا شاهدة على تطور مصر كدولة ذات حضارة عظيمة، وعريقة وقادرة على المُضي نحو المستقبل على مر العصور.

 

عواصم مصر تنوعت عبر تاريخها الطويل

"تنوعت عواصم مصر عبر تاريخها الطويل"، هكذا تحدث عالم الآثار الدكتور مصطفى الصغير مدير آثار الأقصر وطريق الكباش، قائلًا: منذ عصر ما قبل الأسرات حتى وقتنا الحالي تتعدد العواصم المصرية، ومن المعروف أنه في ما قبل الأسرات أي قبل توحيد قطري مصر الشمال والجنوب على يد الملك "نارمر" موحد القطرين سنة 3200 ق.م كانت مصر حينها تنقسم لمملكتين عظيمتين، إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، وكانت عاصمة الجنوب مدينة "نخب" وهي الواقعة قرب مدينة إدفو الحالية بمحافظة أسوان أقصى جنوب مصر، وكان يُطلق عليها أيضا "هيراكينوبوليس"، أما عاصمة الشمال كانت "بوتو" وهي قرية "تل الفراعين" الحالية في محافظة كفر الشيخ. ومع بداية التوحيد من الأسرة الأولى حتى الأسرة الثامنة أي عصر الدولة القديمة، وكانت هناك العاصمة مدينة "منف" من "نفر أي" المشهورة باسم الأثر الجميل "إنب حج" أي الجدار الأبيض، وهي المعروفة حالياً باسم "ميت رهينة" وهذا الاسم يرجع للتسمية المصرية القديمة "تا ميت رهنت" أي طريق الكباش، وذلك نظراً لوجود طريق كباش أمام المعبد الرئيسي لمدينة منف. وفي عصر الانتقال الأول "الأسرة التاسعة والعاشرة" كانت العاصمة إهناسيا التي كانت تعرف باسم "نن سو"، ومن هنا جاء اسم إهناسيا، وفي الأسرة الحادية عشر كانت العاصمة طيبة حيث تم حينها توحيد القطرين مرة أخرى بعد عصر الانتقال الأول، وانفصال مصر إلى الشمال والجنوب مرة أخرى، وتم توحيد القطرين للمرة الثانية على يد الملك "منتوحتب الثاني"، وحينها تم اتخاذ طيبة عاصمة لمصر، وكلمة "طيبة" مُشتقة من الكلمة المصرية القديمة "تا إيبت" وتعني أرض الحرم، وفي عصر الأسرة 12 في الدولة الوسطي تم إنشاء عاصمة جديدة إسمها "إيسيت تاوي" وتعني القابضة على الأرضين، وكانت قُرب مدينة اللشت الحالية.

فترة حكم الهكسوس المعروف باسم عصر الانتقال الثاني كانت عاصمة مصر "خاسو خوت" وهي مدينة "سخا" أقصى شمال مصر في دلتا النيل، ومع بداية تأسيس الأسرة 18 عصر الدولة الحديثة، إلى الأسرة 20 تنقّلت العواصم ما بين طيبة مرة أخرى، وهي مدينة الأقصر أقصى جنوب مصر، ومدينة تل العمارنة في المنيا في وسط صعيد مصر، والتي عُرفت باسم "أخت آتون" وتعني أفق آتون، وفي عصر الرعامسة كانت العاصمة مدينة "برعمسيس" بالقرب من محافظة الشرقية، الواقعة شرق مصر بين محافظات الدلتا والقناة.

وفي الأسرة 21 كانت هناك عاصمتين لمصر، طيبة في الجنوب وتانيس في الشمال، وفي الأسرة 22 كانت عاصمة مصر مدينة "بر باست" أو "تل بسطة" وهي المدينة المعروفة حالياً في محافظة الشرقية، وفي الأسرة 24 و26 كانت عاصمة مصر هي "سايس" أو "ساو" وهي مدينة "صا الحجر" حالياً، واستمر ذلك إلى الأسرة 28، وفي الأسرة 25 كانت طيبة هي العاصمة من خلال حكم الملوك النوبيين بداية من الملك "طهارقا" وغيره من ملوك الأسرة 25.

في عصر الأسرة 30، آخر الأسرات المصرية الحاكمة في مصر القديمة، كانت العاصمة "سمنود"، وعند قدوم الإسكندر الأكبر إلي مصر أسس "الإسكندرية" التي أصبحت عاصمة مصر، وظلت العاصمة طوال العصر البطلمي والروماني إلى أن دخل العرب مصر بقيادة عمرو بن العاص، وأسس الفسطاط، وتلاها خلال العصور المختلفة مُدن "العسكر" و"القطائع"، ثم "القاهرة"، والتي بدأت كعاصمة لمصر في عصر الفاطميين وظلّت عاصمة مصر إلى الآن. 

 

تأسيس العواصم في العصر الإسلامي

قامت فكرة تأسيس المدن والعواصم في العصر الإسلامي على مجموعة من المعايير التي جعلت منها مدن متميزة النشأة وفريدة الطابع، وذلك في إطار رؤية تخطيطية للمدينة الإسلامية اهتمت بالجوانب الوظيفية والاجتماعية والسياسية لمجتمع المدينة الإسلامية مما يؤكد أصالة طابع تأسيس المدينة، وعمق الفكر الإسلامي ورؤيته السليمة في تخطيط المدن، وهو الفكر الذي تبلّور واتضح مع تقدّم العصر، مستفيدًا في ذلك بالتجربة. هكذا وصف الباحث في الآثار والتاريخ الإسلامي الدكتور عبد الحميد عبد السلام أبو عليو، طُرق تأسيس العواصم الإسلامية في العصر الإسلامي، قائلًا، الحكام المسلمين اهتموا بالعمارة والعمران وشاركوا في اختيار مواضع المدن، ومتابعة إنشائها، والتاريخ الإسلامي مليء بعديد من الأمثلة المؤكدة لذلك، وقد تَبنّى الحُكام المسلمين في إنشاء المدن والعواصم الجديدة قواعد كانت نقطة انطلاق حكمهم وترسيخ دعائمه. 

الفسطاط جنوب حصن بابليون

الفسطاط "21- 132هـ 642- 750م"، عاصمة مصر الإسلامية العربية الأولى، فبعد دخول العرب إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص اختار الموقع الاستراتيجي والحضاري القائم عند تفرّع النيل إلى الدلتا، وأسس مدينة الفسطاط في الموقع الفسيح إلى الشمال من حصن بابليون وهو موقع له أهميته من الناحية العسكرية والعمرانية، وقد ساعده على اختيار هذا المكان وجود بركة "الحبشة" جنوب حصن بابليون، وظلت الفسطاط تحتل مكان الصدارة في مصر رغم ظهور عواصم أخرى فيما بعد، وظلت الفسطاط العاصمة السياسية لمصر أثناء حكم الخلفاء الراشدين والأمويين، حتى شيد العباسيون قاعدة جديدة لحكمهم في مصر وهي مدينة "العسكر" التي أسسها صالح بن علي العباسي أول والٍ للعباسيين في مصر سنة "133 هـ - 750 م" شمال الفسطاط وانتهى من بنائها بعد عامين.

 

العسكر مدينة على شاطئ النيل

وبعد مائة عام تقريبا من إنشاء مدينة الفسطاط، وبعد سقوط الدولة الأموية ودخول العباسيون مصر، أنشأوا حاضرة جديدة لدولتهم هي مدينة العسكر لتكون العاصمة الثانية لمصر، بموقع على شاطئ النيل عُرف في صدر الإسلام "بالحمراء القصوى"، وكان نهر النيل عندئذ يجري بجانب المرتفع المشيد عليه جامع عمرو بن العاص ثم ابتعد عن مجراه بمرور الزمن، وكان الهدف من إنشاء مدينة العسكر هو انتقال السلطة من الخلفاء الأمويين في دمشق إلى العباسيين في بغداد، حيث أدى الصراع بينهم لإحراق جزء من مدينة الفسطاط، الأمر الذي دفع الوالي صالح بن علي لتأسيس دار الإمارة وثكن للجند بالمدينة الجديدة "العسكر"، وإلى مدينة العسكر قدم الأمير أحمد بن طولون من العراق ونزل بدار الإمارة فيها وظل يسكنها حتى انتهى من بناء قصره في حاضرته الجديدة "القطائع". 

 

القطائع بها أكبر مساجد العالم الإسلامي 

بعد أن تولى أحمد بن طولون حكم مصر سنة "870م" في العصر العباسي، سعى للاستقلال بمصر عن دولة الخلافة، فكوّن جيشًا كبيرًا ضاقت به مدينة العسكر عاصمة مصر آنذاك، فشيّد أحمد بن طولون مدينة القطائع لتكون العاصمة الثالثة لمصر، وبدأ ذلك في الجانب الشمالي لمدينة العسكر، وسُمّيت بذلك لاقتطاع كل فرقة من جنده قطعة للسكنى بها، وتضم كل قطعة منها جماعة من السكان تربط بينهم رابطة الجنس والعمل، ووضعت خطة المدينة لتكون قاعدة كبيرة تليق بحالة البلاد، واتصل البناء بعمارة الفسطاط، واقتطعت كل جماعة من الجند والأتباع منطقة خاصة سميت كل قطعة باسم من يسكنها، وكان من أهم ما شيد في مدينة القطائع الجامع الكبير الذي يتوسط القطائع، وما زال جامع أحمد بن طولون يُعد من أكبر مساجد العالم الإسلامي وأروعها، وعادت الفسطاط مرة أخرى "905 إلى 969م" عاصمة مصر، وظلّت كذلك حتى دخول الفاطميون مصر، وإنشاء العاصمة الرابعة مدينة "القاهرة".

 

القاهرة اتسعت ونمت بشكل ملحوظ

بدأ تاريخ مدينة القاهرة عام 969م، وتُعد رابع عواصم مصر منذ العصر الإسلامي، حينما أرسل المعز لدين الله قائد جُنده جوهر الصقلي لمصر، وبدأ جوهر في تأسيس مدينة القاهرة بأمر من الخليفة المعز لدين الله شمال الفسطاط، واتسعت المدينة ونمت بشكل ملحوظ، وعند قدوم المعز لمصر سنة "972م" أطلق عليها القاهرة المعزية، وانتقلت القاهرة من حياة العصور الوسطى الي الاتصال بالحضارة الأوربية من خلال الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م وكذا البعثات التعليمية، التي أسفرت عن ميلاد وبناء دولة عصرية حديثة بدءً من عام 1805م، حيث شهدت القاهرة مرحلة جديدة في عمارتها وأعيد تخطيطها من جديد لتواكب الحياة الحديثة، ومنذ ذلك الحين حتى الآن أصبحت القاهرة درّة مصر وآخر عواصمها.

 

متحف عواصم مصر

تخليدًا لهذه العواصم المصرية القديمة، أنشأت الدولة المصرية متحفًا للآثار في مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، تحت مُسمى "متحف عواصم مصر" ليكون سجلًا موثقًا لتاريخ العواصم المصرية، وذلك بداية من "منف" إلى "طيبة" مرورا بالإسكندرية خلال العصر اليوناني والروماني، وصولا إلي "الفسطاط" والقاهرة الفاطمية والقاهرة الخديوية.

المتحف الذي أنشيء على مساحة 8500 متر مربع، وُضِعَ سيناريو العرض له بشكل يعتمد على إبراز الهيكل الإداري للدولة المصرية، وذلك بدءً من العاصمة منف وصولًا للعاصمة الإدارية الجديدة، وهذا السيناريو يبرز العواصم المصرية القديمة على مر العصور وأسباب انتقال العاصمة من واحدة لأخرى، والتأكيد على أن تغيّر العاصمة متأصل منذ القدم، وهذا التغير لم يكن يعني بالضرورة إلغاء الدور السيادي للعاصمة السابقة. 

القاعة الرئيسية للمتحف تضم تمثالًا مهيبًا للملك رمسيس الثاني، والقاعة الرئيسية تعرض آثار 9 عواصم، على اليمين "منف وطيبة وتل العمارنة والإسكندرية"، وعلى اليسار "الفسطاط والقاهرة الفاطمية ومصر الحديثة والقاهرة الخديوية"، وخلف التمثال تقّبع قاعة العاصمة الإدارية، والتي تتضمن معروضات ومقتنيات مختلفة عن أنماط الحياة في كل حقبة تاريخية خاصة بكل عاصمة على حدة، مثل أدوات الزينة وأدوات الحرب والقتال ونظام الحكم والمكاتبات المختلفة وغيرها.

WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.33.21 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.33.24 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.33.26 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.33.51 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.33.58 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.34.11 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.34.39 PM WhatsApp Image 2023-02-06 at 2.34.40 PM

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: العواصم المصرية القاهرة الإسكندرية العسكر منف المصریة القدیمة العصر الإسلامی کانت العاصمة وفی الأسرة عاصمة مصر وهی مدینة مرة أخرى فی العصر فی عصر فی مصر

إقرأ أيضاً:

ما اتفقت قناتا الجزيرة والحدث على أمر .. إلّا والطائفية كانت معهما !!

بقلم: فالح حسون الدراجي ..

لا أعرف لماذا أضع يدي على قلبي خوفاً على أهلي وأبناء وطني، وتحسباً لأمر جلل سيحدث، كلما رأيت قناتَي الجزيرة والحدث تتفقان على تغطية حدث ما، بلغة واحدة، ونفس إعلامي وسياسي واحد.. وسيزيد خوفي كلما كان في الجو دخان (طائفي)، أو رائحة لعفوية طائفية قريبة منا.. وقد أثبتت لي التجارب التي تنبهت لها مبكراً صواب شكي، ذلك الشك الذي أصبح يقيناً عندي منذ أن تأكد لي أن خلف أي اتفاق بين هاتين القناتين مصيبة تكمن… واليوم حين يرى المشاهد ( العادي ) هذا التشابه الغريب بين القناتين في تغطيتيهما وخطابيهما تجاه ما يحدث في الساحل السوري، فإنه ومن غير شك سيصاب بالدهشة، خاصة وأن أيّ متابع يعرف جيداً التاريخ المضطرب بين هاتين القناتين، ويعرف العلاقة المتوترة بينهما منذ تأسيسهما، حتى يقال إن تأسيس قناة الحدث جاء أصلاً لمنع تمدد قناة الجزيرة وانفرادها بالمشهد السياسي العربي.. وهكذا سارت قناة الحدث التابعة للملكة العربية السعودية، -تمويلاً وانتساباً وسياسة- في خط إعلامي وسياسي يتقاطع ويختلف ويتخالف مع خط قناة الجزيرة المملوكة لحكومة قطر .

وطبعاً فإن هناك أمثلة ووقائع عديدة تؤكد هذا التقاطع والإختلاف.. فهما مختلفتان في سياستيهما وتغطيتيهما للأحداث السياسية في ليبيا ومصر، وتونس، وفي ما حدث ويحدث في تركيا وايران ولبنان واليمن وغير ذلك.. وكي لا نذهب بعيداً، فإني أدعو القارئ الكريم للعودة الى ما حدث في 7 أكتوبر، وما تلى هذا الحدث التاريخي. فقناة الجزيرة تبنت موقفاً إعلامياً مؤيداً تماماً لحماس ومحور المقاومة ووحدة الساحات، فهي مثلاً تسمي هجوم حماس بطوفان الأقصى، وكانت تطبل وتزمر لهذا الهجوم، وتصفه بأوصاف عظيمة.. بينما قناة الحدث تبنت موقفاً مشابهاً لموقف أمريكا والدول الأوربية، وبعض البلدان العربية كمصر والإمارات والأردن والبحرين وحكومة لبنان، وكثيراً ما تبنت قناة الحدث وجهة نظر تل أبيب في الكثير من القضايا المتعلقة بالحرب

وقد ظهر ذلك من خلال الشخصيات السياسية والعسكرية والأكاديمية التي استضافتها لتغطية معارك غزة ولبنان، فكان هناك أكثر من سبعة محللين صهاينة يتحدثون يومياً لشاشة قناة الحدث ومعهم عشرات المحللين العرب الذين يتحدثون بشكل مباشر أو غير مباشر عن معارضتهم لحماس ودول الممانعة، ولا يجدون حرجاً في إعلان تأييدهم للكيان الصهيوني بحجج مختلفة.

وقد كانت الحدث على سبيل المثال تسمي طوفان الاقصى (هجوم 7 أكتوبر)، وتسمي شهداء الحرب الفلسطينيين واللبنانيين بـ (القتلى)..!

بينما تسميهم قناة الجزيرة ب (الشهداء،) !وهذا الحال ينطبق على عشرات المسميات والتسميات التي تختلف بها القناتان فيما بينهما.

وقطعاً فإن هذا الاختلاف بين القناتين ليس اختلافاً فنياً ولا مزاجياً ولا تنافسياً على تقديم الأفضل، او من أجل كسب المشاهدين وزيادة عدد المشاهدات، إنما هو اختلاف جوهري وبنيوي، مرتبط بالاختلاف بين نظام الحكم في قطر وسياسته التابعة لسياسة الإخوان المسلمين، ونظام الحكم في السعودية الذي يتبع منظومة من التوجهات والاحكام والقوانين والاشتراطات الوهابية المتشددة، تلك المنظومة التي تتعرض اليوم إلى هزة عنيفة، والى قضم متواصل لقوانينها وقيمها على يد ولي العهد السعودي الشاب محمد بن سلمان، متمنياً أن ينجح الرجل في خططه الرامية للتخلص من هذه المنظومة الرثة والقمعية، رغم شكوكي بنجاحه، وسبب شكوكي يعود إلى أن اليد الواحدة لا تصفق في السعودية، وإن ثمة عقولاً متحجرة، وأشخاصاً لهم تأثير وسطوة وعقيدة دينية ومرجعية ومصالح نافذة يقفون بقوة ضد أية محاولة جادة للتغيير وتحديث الحياة السعودية، بدليل ما نراه اليوم من تقارب بين ربيب القاعدة وداعش، الإرهابي احمد الجولاني – الشرع – وبين نظام الحكم في السعودية، رغم العداوة التاريخية المعمدة بالدم بين تنظيم الأخوان المسلمين – الذي ينتمي له الشرع وحكم آل سعود تلك العداوة التي لم تنطفئ نارها منذ ساعة عبد العزيز آل سعود إلى هذه الساعة.
إن محاولات بن سلمان التحديثية لتهشيم المنظومة الوهابية هي حتماً محاولات حميدة، وهي لعمري تستحق الدعم والتأييد منا قبل غيرنا، فالعراقيون أكثر شعوب الأرض عانوا من ويلات وكوارث وجرائم الوهابية، عندما كان انتحاريو القاعدة السعوديون قبل سنوات، ومن ثم انتحاريو داعش يأتون من مختلف المدن السعودية محملين بكل قاذورات الاحقاد الوهابية ومدججين بالأحزمة الناسفة، فينفجرون مع أحزمتهم وأحقادهم في أسواق العراق ومدارسه وملاعبه مخلفين آلاف القتلى المدنيين الأبرياء . لذا فإن ما يحدث اليوم في الساحل السوري من جرائم طائفية بشعة ترتكب ضد مواطنين مدنيين أبرياء من الطائفة العلوية، وكذلك الدرزية، وبعض الفئات المسيحية أيضاً، لهو أمر يثير الغضب والأسى لما يرتكبه أتباع الجولاني الذين يشبهون إلى حد ما أتباع القاعدة وداعش .. حتى أن وزارة الداخلية السورية نفسها أعلنت حسب ما نقلته عنها وكالة الأنباء الرسمية “سانا” قائلة، أن ” حشوداً شعبية وعسكرية توجهت بأعداد كبيرة غير منظمة إلى الساحل، مما أدى لبعض الانتهاكات الفردية، ونحن نعمل على إيقاف هذه التجاوزات التي لا تمثل عموم الشعب السوري”..!

وإذا كانت وزارة الداخلية التابعة لحكومة الشرع ذاتها تعترف بتوجه (حشود) عسكرية ومدنية مسلحة(يعني مقاتلين من النصرة أو تحرير الشام) بأعداد كبيرة إلى الساحل السوري لتقتل المدنيين العلويين وتذبحهم، وهم الذين يسمون العلويين (أعداء الله)، فماذا نتوقع ونتخيل عن أعداد الجثث المرمية في الشوارع والأزقة من المدنيين؟!..

في الوقت الذي يقال فيه إن أكثر من 340 مدنياً (علوياً) قتلوا منذ يوم الخميس حتى مساء يوم الجمعة، وقد ازدادات اعداد القتلى بكثرة خلال يوم أمس السبت حتماً..

هذا وقد أفاد سكان من الساحل، ومنظمات مدنية بحصول انتهاكات إنسانية خطيرة خلال عمليات نفذتها قوات الأمن، ومعها عصابات مسلحة، تشمل تنفيذ إعدامات ميدانية، وقتل على الهوية، وحوادث خطف، كانت تضعها السلطات قبل أيام في إطار “حوادث فردية” وكانت تتعهد بملاحقة المسؤولين عنها، رغم أنها لم تحقق في هذه الحوادث الفردية ولم تعلن يوماً عن محاسبة ولو شكلية لمرتكبي هذه (الحوادث الفردية)، أما اليوم فقد بات القتل في الساحل السوري جماعياً كارثياً وليس فردياً، خاصة سواء في أعداد الضحايا !

وعودة لثيمة المقال، فإني أدعو إلى متابعة قناتي الجزيرة والحدث المختلفتين سابقاً في كل شيء، ومشاهدة شاشتيهما اليوم، لمعرفة تغطيتيهما الموحدتين، و (السبتايتلات) المتشابهة، وكي تروا كيف تقف هاتان القناتان هذه الأيام وقفة واحدة خلف طائفية ودموية أحمد الشرع و أتباعه، وكيف تحول وتصور هاتان القناتان -بلا حياء- ضحايا الساحل السوري، كمجرمين وقتلة، بينما تصور المجرمين والقتلة الحقيقيين أبرياء وضحايا ومظلومين، يدافعون عن الوطن والدين والناس..!!

إنها الطائفية اللعينة ليس إلا، وما مسؤولو هاتين القناتين والعاملون على سياستيهما، إلا بعض من المصابين بهذا المرض الخبيث، مرض الطائفية الذي لن يتخلصوا منه كما يبدو ، مهما كانت الظروف والإدعاءات، والمعالجات فـ( الجَرَب الطائفي) أبدي، ولن يشفى منه صاحبه أبداً..!

ختاماً أقول بضرس قاطع: إننا لاندافع عن العلويين الذين طغوا وتجبروا في عهد الأسد، ولا ندافع عن أزلام البعث القتلة، سواء أكانوا علويين او درزيين أو غيرهم، إنما ندافع عن المدنيين الأبرياء الذين يذبحون اليوم على الهوية على يد عصابات ارهابية سورية، وأخرى قدمت من بلدان ودول أجنبية.. كما نريد أيضاً من هاتين القناتين الواسعتين، تغطية إعلامية عادلة ونزيهة تفضح فيها جرائم القتلة والمجرمين مهما كانت هويتهم وطائفتهم، وتدافع بنفس القوة عن الضحايا الأبرياء مهما كانت طوائفهم أيضا، لا أن تنظر بعين عوراء إلى ( الساحات )، وتكيل بمكيالين!!

فالح حسون الدراجي

مقالات مشابهة

  • هل التاريخ يُعيد نفسه؟
  • مستشار بالأكاديمية العسكرية: حرب أكتوبر كانت ثمرة سنوات من الكفاح العسكري والعلمي
  • كانت 50 وأصبحت 5.. أحمد عمر هاشم يكشف أسرار فرض الصلاة على المسملين
  • ما اتفقت قناتا الجزيرة والحدث على أمر .. إلّا والطائفية كانت معهما !!
  • رابطة الأندية تكشف عن مكافآت كأس عاصمة مصر
  • القاهرة الإخبارية: قوات الأمن العام السورية تفرض سيطرتها على مدينة جبلة
  • محمد صلاح يواصل كتابة التاريخ مع ليفربول
  • محمد صلاح ثالث هدافي ليفربول عبر التاريخ
  • منظمة "أنقذوا الأطفال": أكثر من 375 ألف طفل عرضة للتجنيد في شرق الكونغو
  • إدارة الأمن العام تصادر أكثر من 200 آلية كانت قد سرقت من مدينة جبلة